دراسات سياسية

القطبيّة الأمريكية والمتغيّرات الراهنة

على امتداد التاريخ البشري شهدت مختلف الإمبراطوريات الكبرى، انحداراً وتراجعاً أحياناً وانهياراً أحياناً أخرى، بعد فترة من الرقي والازدهار، نتيجة لعوامل داخلية أو خارجية.
وضمن هذا السياق، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة وما نتج عنه من غياب منافس قوي وعنيد، خلا الجو للولايات المتحدة لتبسط هيمنتها على الشؤون العالمية، واعلنت قيادتها وزعامتها لهذا العالم المتحوّل.
عرف مفهوم القوة في حقل العلاقات الدولية تطورا كبيرا، بالموازاة مع مختلف التحولات والتطورات التي شهدها العالم، فبعد أن ظلّ يقتصر على العوامل العسكرية والجغرافية والبشرية، ثم الاقتصادية في مرحلة لاحقة، انضافت إليه عوامل أخرى أكثر حيوية وأهمية من قبيل اعتماد التكنولوجيا الحديثة واكتساب المعلومات، والحضور الدبلوماسي الدولي، وفعالية المؤسسات السياسية.
والظاهر أن هناك إمكانات ومقومات فريدة، عسكرية وسياسية وثقافية واقتصادية مدعمة بقدرات تكنولوجية هائلة وإمكانيات بشرية مدربة ومتطورة، مستندة إلى مؤسسات سياسية وقانونية داخلية قوية وفعالة، بالإضافة إلى إمكانات إعلامية واسعة ومؤثرة، اجتمعت لدى الولايات المتحدة بشكل استثنائي، ما أسهم بشكل جلي في تثبيت حضورها الدولي الوازن والفاعل واستفرادها بتدبير الشؤون الدولية في تجلياتها المختلفة.
وضمن هذا السياق، وباستحضار العامل العسكري، تخصص هذه الدولة ميزانية سنوية كبيرة لاستثمارها في هذا المجال، وقد استطاعت بذلك أن تراكم ترسانة عسكرية ضخمة كمّا ونوعا، بدءا بالأسلحة التقليدية ثم النووية، وصولاً إلى الأنظمة الدفاعية المتطورة، ما أهلها لتكون أكبر قوة عسكرية في العالم.
ومعلوم أن أهمية العنصر العسكري كمقوم للزعامة وبسط الهيمنة، لا يتأتى عبر امتلاك هذه الإمكانيات فقط، ولكن من خلال القدرة على توظيف هذه القدرات العسكرية في ادارة قضايا وأزمات دولية وإقليمية بشكل مباشر أو غير مباشر (عبر سياسة الردع) خدمة للمصالح الوطنية و«القومية»، وهو ما تنفرد به الولايات المتحدة لحد الآن.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فهذه الدولة التي تملك إمكانات فلاحية وصناعية وخدماتية كبيرة، توظف شركاتها العملاقة، وتستثمر بعض المؤسسات الاقتصادية العالمية التي تسيطر عليها كمنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في تدعيم وتفعيل مواقفها وسياساتها على الصعيد الدولي.
وعلى مستوى الحضور الدبلوماسي والسياسي على امتداد مناطق مختلفة من العالم، فهو حضور فعال منذ نهاية الحرب الباردة.
وقد أسهم الغياب الملحوظ لمنافسين أقوياء، في تزايد تكريس هذه الزعامة ميدانياً، فاليابان التي لم تستطع التخلص بعد من مشاكلها الاقتصادية والمالية المتنامية، وتفتقد إلى تصور أو استراتيجية تدعم حضورها كقطب دولي وازن، فيما يلاحظ أن الصين لا زالت منشغلة بقضايا داخلية واستراتيجية أكثر أهمية وأولوية من فرض قطبيتها حالياً. أما الاتحاد الأوروبي وعلى الرغم من إنجازاته الكبرى، فما زال يعاني من بعض المشاكل الداخلية، ولم يتمكن بعد من بلورة سياسة خارجية موحدة إزاء قضايا دولية وجهوية عديدة..
رغم توافر مجموعة من المؤهلات التي تمنح للولايات المتحدة مكانة متميزة ورائدة في المجتمع الدولي، فإن هناك العديد من التحديات التي تواجهها بشكل جدي.
فعلى الصعيد الداخلي، بدأت تعتري الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأخيرة صعوبات عدة من بينها الركود، بالإضافة إلى الخطر الذي يفرضه تحدي نضوب مصادر الطاقة بهذا البلد، كما تراجعت نسبة ما قدمته هذه الدولة من معارف وتكنولوجيا جديدة في العالم..
أما على الصعيد الخارجي، فقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن هناك سعياً حثيثاً لبعض الدول لتأكيد حضورها الدولي، فالصين تعرف تطورا اقتصاديا مهما تشهد عليه معدلات النمو القياسية التي فاقت كل التوقعات، فيما بدأت روسيا تتعافى من مشاكلها الداخلية، وأصبحت تسعى من حين لآخر إلى لعب أدوار متزايدة على الصعيدين الإقليمي (منطقة شرق أوروبا) والدولي (الأزمة السورية).
وعلى الجانب العسكري، تزايدت التحديات أيضا، فهناك العديد من الدول التي تمتلك ترسانة عسكرية مهمة ومتطورة، فيما تمكنت العديد من الدول من اختراق النادي النووي كالهند وباكستان وكوريا الشمالية، وعموماً فالترسانة العسكرية الضخمة التي تمتلكها الولايات المتحدة، لم تكن في يوم ما كفيلة بحماية الدول والإمبراطوريات من مخاطر الانهيار وضامنة لبقائها، ولنا في النموذج السوفييتي دليلاً قوياً على ذلك.
وعلى الصعيد السياسي والدبلوماسي، فإن إقدام هذه الدولة على ممارسة بعض التدخلات في مناطق مختلفة، واستثمار مجلس الأمن بشكل ملحوظ، في سبيل تحقيق أهداف ومصالح خاصة، وعدم التوقيع على العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية المرتبطة بمجالات مهمة، (نذكر ضمن هذا السياق، عدم التوقيع على بروتوكول «كيوتو»، معارضة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة وكذا الانسحاب من مؤتمر «دوربان» حول التمييز العنصري..)، كلها تشكل عوامل تؤجج الرفض الدولي لهذه الزعامة.
إدريس لكريتي
صحيفة الخليج

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى