دراسات سياسية

المداخل النظرية لدراسة التنمية السياسية

المداخل النظرية لدراسة التنمية السياسية :

إن اختيار المدخل النظري المناسب، كفيل بتحديد نتائج الدراسة و بلورة وجهة نظر الباحث إتجاه القضايا التي هو بصدد دراستها ،كما أن المدخل النظري هو أسلوب المعالجة و الفهم الذي يكسب الدراسة طابعها الخاص.
و منه فإن من أهم المداخل النظرية لدراسة التنمية السياسية هو المدخل القانوني و المدخل المركسي و كذلك المدخل البنائي الوظيفي .
أولا : المدخل القانوني :
أصبح المدخل القانوني في دراسات التنمية السياسية ،من المداخل الكلاسيكية التقليدية، حيث عزف الباحثين عنه و أصبحوا لا يعتمدون عليه في الدراسات المعاصرة المتعلقة و المرتبطة بقضية التنمية، و لكن و مع هذا يجب التوقف عنده لمعرفة مضمون اهتمام فقهاء القانون بالتنمية السياسية.
إن جوهر التنمية السياسية في رأي فقهاء القانون يشمل بشكل أساسي في قيام (الدولة القانونية( تلك التي تخضع الهيآت الحاكمة فيها و السياسية خاصة للقانون.
كما يخضع فيها الحاكم و المحكوم لقواعد قانونية معروفة مسبقا و بالتالي تتحد مراكزهم القانونية على نحو واضح. 22
و يتطلب قيام دولة القانون وجود دستور أو وثيقة قانونية ،تحدد السلطات العامة و تحدد دور وصلاحيات كل منها و علاقتها ببعضها البعض كما تعين الوثيقة القانونية حقوق و واجبات الأفراد و الجماعات لتحقيق العدالة و المساواة بين الجميع.
إن وجود دستور بالنسبة للدولة القانونية، ضمانة أساسية لخضوع جهاز الدولة لسلطات القانون و بالتالي ينبغي على كل سلطة إحترام اختصاصها و لاتتعدّى حدودها ،لتحقيق مبدأ الفصل بين السلطات عضويا و شكليا.
و عليه فإن المدخل القانوني، يستوجب ضرورة وجود ضوابط قانونية مصدرها الدولة لا غير لتحقيق التنمية السياسية، و أن كل ما هو خارج إطار الدولة لا يمكن أن يحقق أو يساعد في تحقيق التنمية السياسية، رغم أن ما لا حضناه سابقا هو أن التنمية السياسية تتحقق بتظافر مجهودات جميع عناصر المجتمع سواء داخل أطر قانونية أو سياسية أو مدنية ،لأن القانون أو القاعدة القانونية لا تأتي من فراغ فهي تعبر عن استجابة عملية أو عن توجهات ايديولوجية أو انعكاسا لمصالح اجتماعية فئوية أو طائفية أو طبقية ،23 و بالتالي تظهر الذاتية ممّا يؤدي إلى طغيان مصالح فئة على أخرى.
و هذا معناه أن هناك قصور القانون في كثير من الأحيان على تحقيق التنمية السياسية و منه لا يمكن الاعتماد عليه كمدخل وحيد لدراسة التنمية السياسية.
ثانيا : المدخل الماركسي :
إن التحليل الماركسي، ينظر إلى النظام السياسي باعتباره بناء يعكس الأوضاع الاقتصادية و العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع و يعتبر النظام السياسي منظور في حين تعكس مصالح الطبقة العاملة (البروليتاريا) و سيطرتها على وسائل الإنتاج، و الحيلولة دون حدوث الاستغلال في المجتمع، و على هذا فإن جوهر التنمية السياسية في التحليل الماركسي يتمثل في إنتقال السلطة السياسية إلى الطبقة العاملة، و زوال الطبقات المستغلة لإقامة المجتمع الاشتراكي و بعده الشيوعي ،و أن إنتاج الوسائل المادية اللاّزمة للمعيشة تكون جماعية و ليس فردية ،لأن العمل ذو طابع إجتماعي و لأن الأفراد في التحليل الماركسي ينتجون فقط حينما يتعاونون و يدخلون في روابط إجتماعية ،و نتيجة لذلك تتطور مؤسسات الدولة و التصورات القانونية و حتى الآراء العقدية (العقائدية) للناس لأنهم يديرون شئون حياتهم الإقتصادية و السياسية و الثقافية و هذا في حد ذاته جوهر التنمية السياسية و المعيار الحقيقي للتطور السياسي في الفكر الماركسي24، و قد تعّرض الفكر الماركسي أو المدخل الماركسي لمجموعة من الانتقادات نذكر نقدين إثنين منها و هما :
1- المساواة الاجتماعية و السياسية ما هي إلا تصور غير واقعي لأن المساواة الاجتماعية أمر طبيعي و دائم.
2- أن العامل الاقتصادي هو أساس التمايز و الترتيب الطبقي ،وهذا تصوّر ضيّق لأن الترتيب الطبقي يخضع لعوامل كثيرة و ليس للعامل الاقتصادي فقط.
و رغم هذا يبقى المدخل الماركسي ،مدخل مهّم لدراسة التنمية السياسية خاصة مع ظهور مدارس جديدة تابعة له كمدرسة التبعية التي تعتمد على فساد أنظمة دول العالم الثالث و عدم عقلانياتها و عدم استخدام مواردها الاقتصادية بصفة تضمن لها التطور و التقدم.
ثالثا : المدخل البنائي الوظيفي :
من أهم من طوّر هذا المدخل تالكوت بارسونز وديفيد إستيون و جبرائيل ألموند حيث أضافوا الكثير على التحليلات البنائية الوظيفية من أبعاد ومفاهيم جديدة ،حيث وفرّت إمكانيات واسعة لدراسة النظام السياسي.
إن مفاد هذا التحليل ،أن النظام السياسي هو جزء من النظام الاجتماعي ككل و أنه ينقسم بدوره إلى أجزاء أو أنساق كل جزء له دور و نشاط و وظيفة خاصة به، وبالتالي فهو نظام من التفاعلات تتجسد في هيئة وحدات بنائية تؤدي كل منها أدوار و أنشطة معينة ،فإنها أي هذه الوحدات لا توجد بمعماوال عن بعضها و لا تمارس أدوارها دون ارتباط أو تأثير متبادل بينها، فإن ظهور الأحزاب أو تطور وسائل الاتصال الجماهيري و المشاركة السياسية، أو اتساع قاعدة الديموقراطية مثلا سيؤدي عادة إلى تغير أسلوب أداء كافة بني النظام و يؤثر في قدرة النظام على التعامل مع بيئتة الداخلية و الخارجية.25
و بما أن النظام السياسي لا يعمل في فراغ بل داخل نظام إجتماعي موسع ،فإنه يعمل داخل هذا الإطار لكن يفصله حدود عن غيره من النظم الاجتماعية الأخرى، و كما يقول جبرائيل ألموند “أن تمّة نقاط محددة تنتهي عندها النظم الاجتماعية الأخرى و يبدأ منها النظام السياسي، و أنه هو النظام الاجتماعي الوحيد الذي يمكنه استخدام التهديد و الاكراه المادي المشروع”.
و عليه فإن جوهر التنمية السياسية في التحليل البنائي الوظيفي ،يتمثل في قدرة النظام السياسي على الاستجابة و التكيّف مع بيئته الداخلية وعلى نحو أقل مع بيئته الخارجية، و كذلك بإستعمال النظام لقدراته سواء الاستخراجية أو التوزيعية أو الرمزية أو التنظيمية أو الاستجابية مع بيئته، و التعامل مع المداخلات التي تدخل إليه من طرف بقية الأنساق الاجتماعية الأخرى بشكل عقلاني، يضمن تحقيق المساواة و العدالة و اتساع نطاق الديموقراطية في المجتمع .
بالإضافة إلى المدخل الليبرالي الذي يعتمد على متغير حقوق الإنسان و التعددية السياسية و الحربية و حرية الأفراد في التعبير عن آراءهم و تكوين التنظيمات و الجمعيات ذات الطابع غير الحكومي.
سادسا : التنمية السياسية و علاقتها بالتنمية الاقتصادية
هناك علاقة ترابط و تداخل بين السياسة و الاقتصاد و لا يمكن الفصل بينهما ،و منه فإن تحقيق التنمية الاقتصادية من رفاه و ارتفاع مستوى المعيشة و دخل الفرد و توفير السلع الاستهلاكية و بناء قاعدة صناعية متطورة و كذلك في المجال الزراعي و الاستثماري، يتطلب توفير الظروف الملائمة لذلك و هي الظروف السياسية التي تتطلب هي الأخرى وجود تنمية سياسية لتوفير الاستقرار السياسي داخل الدولة و المجتمع للتمكين من تحقيق التنمية الشاملة.
إن التنمية السياسية تضمن ترشيد القرار السياسي ممّا يؤدي إلى تسيير كفؤ و عقلاني للموارد الطبيعية (المادية) و البشرية ،و كذلك رسم سياسات و استراتجيات تنموية إقتصادية، و القيام بمشاريع و الإشراف على تنفيذها و متابعتها.
كما أن التنمية السياسية تؤدي إلى القضاء على الفساد و الرشوة، و سوء توزيع الثروة في بلد معين و كذلك تقلّص من نسبة الاختلاس و سرقة المال العام مثلما يحدت في كل الدول المتخلفة و منها الجزائر، مّما ينهك اقتصادياتها حتى و إن كان سعر برميل النفط 200 دولار ، فلا تستطيع بناء إقتصاد قوي نتيجة ضعف التخطيط، وعدم وجود الرقابة التى تحافظ على موراد المجتمع و ماله و ثروته وهذا ما التمسناه حتى في الدول المتقدمة من خلال الأزمة المالية العالمية الحالية 2008، عندما فقدت الدولة وسيلة الرقابة على المال العام و الخاص و ترك الحرية و المجال مفتوح أمام الأفراد و المؤسسات الاستثمارية دون رقابة الدولة أو النظام السياسي، و دون تصحيح للمسار بوضع خطط و برامج و استرتيحيات فعالة و عقلانية .
إن اللاستقرار في المجال السياسي يضرب و يضعف أي اقتصاد مهما كانت قوته، و بالتالي فإن تدبدب أو تدهور الأوضاع السياسية لها تأثير مباشر على الأوضاع الاقتصادية، و منه إفشال التنمية الاقتصادية و البرامج والخطط التنموية ممّا يتسبب في كوارث إقتصادية ،كتدني مستوى المعيشية أو الديون أو حتى المجاعة.
بالاضافة إلى هذا فإن التنمية السياسية ،و التي تقوم بتنشئة الأفراد سياسيا عن طريق الاتصال الجماهيري و خلق مجتمع مدني واعي بما يدور حوله، تجعل من الفرد قادر على المطالبة بمحاسبة و مراقبة النظام السياسي و المطالبة بتحسين ظروف معيشته و تحقيق رفاهيته عن طريق النقابات العمالية أو الجمعيات للحفاظ على المستهلك و غيرها، و لا تترك المجال مفتوح أمام النظام السياسي لـيعبث بأموال الأمة و الشعب، لكن و رغم كل ما سبق من دور التنمية السياسية في تحقيق التنمية الاقتصادية فإن هذه الأخيرة تساعد على استقلال القرار السياسي عن الضغوطات الخارجية لأي دولة فهي الذرع الواقي للسيادة و تفتح مكانة متقدمة في النظام الدولي لأن أكبر الدول المتقدمة و الكبرى هي الدول المتقدمة و المتطورة اقتصاديا كما أنها تمنح الثقة على المستوى الداخلي بين الشعب و الجماهير و نظامهم السياسي مما يؤثر إيجابا على استقرار الدولة و أمنها.
خاتمة :
إن التنمية السياسية ،لم تصبح خيار بل هي ضرورة لا بد منها و خاصة بالنسبة للدول النامية التي تجدر بها الأخد بعين الاعتبار هذه المسألة بصفة جدية و فتح المجال الفعلي و الحقيقي للديموقراطية و حقوق الإنسان و فتح الأبواب أمام الجماهير للتعبير عن أرائها ،و بالتالي يجب تظافر كل الجهود الرسمية و غير الرسمية (الشعبية) في هاته الدول لتحقيق تنمية شاملة تسمح بإستقلالية الدول المتخلّفة أو دول )المحيط( حسب التعبير الماركسي عن دول المركز)المتقدمة( ،كما يضمن لها الاستقرار الداخلي على جميع المستويات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية).
الهوامش:
1- علي خليفة الكواري، حقيقة التنمية النفطية : حالة أقطار الجزيرة العربية، “المستقبل العربي” العدد 27، ماي 1981، ص 34، 37
2- أحمد مصطفى خاطر، التنمية الاجتماعية المفهومات الاساسية نماذج ممارسة، الاسكندرية : المكتب الجامعي الحديث، 2002، ص 20
3- نفس المرجع السابق، ص 15
4- النمو يتحقق من ضمن دورة الحياة الاقتصادية و التكنولوجية القائمة و من ضمن المؤسسات و المعطيات الاجتماعية و الثقافية القائمة، إلا أن التنمية لا يمكن أن تتحقق إلا بفضل تبدلات إيجابية واسعة، نوعية لا كمية فحسب، في هذه المعطيات و المؤسسات جميعها.
5- علي خليفة الكواري، مرجع سبق ذكره، ص 37
6- أحمد مصطفى خاطر، مرجع سبق ذكره ص 13
7- محمد نصر مهنا، النظرية السياسية و العالم الثالث الاسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، 1998، ص 181
8- رفعت الحجوب، الاقتصاد السياسي، القاهرة : دار الهضة العربية، 1968 ص 227
9- نظريات التنمية الاقتصادية www.wikipedia.org-10/092008
10- أحمد مصطفى خاطر، مرجع سابق ذكره ص 34
11- محمد الرضواني، التنمية السياسية www.elbayane.org -13/08/2008
12- السيد عبد الحليم الزيات، التنمية السياسية : دراسة في الاجتماع السياسي الاسكندرية : دار المعرفة الجامعية ، 2002 ص 37
13- أحمد وهبان، التخلف السياسي و غايات التنمية السياسية الاسكندرية، الدار الجامعية، 2003 ص 100
14- يقول (جونار ميردال : أن أغلب ما كتب عن الدول المتخلفة هو أقرب إلى الدعاية منه إلى العمل العلمي، و أن معظم الدراسات حول التنمية السياسية تقع حسب (تكر) في دائرة جمع المعلومات اللازمة لأجهزة الأمن و صانعي السياسة و لا تتصل بدائرة البحث العلمي أو الاهتمام الاكاديمي.
15- محمد الرضواني، مرجع سبق ذكره.
16- أحمد وهبان، مرجع سبق ذكره ص 110.
17- السيد عبد الحليم الزيات،مرجع سبق ذكره، ص 143، 144 .
18- أحمد وهبان، مرجع سبق ذكره ص 140، 141 .
19- السيد عبد الحليم الزيان، مرجع سبق ذكره ص 19.
20- سمير محمد حسين، الإعلام و الاتصال بالجماهير و الرأي العام، القاهرة : جامعة القاهرة، 1996، ص 3.
21- السيد عبد الحليم الزيات، مرجع سبق ذكره ص 153.
22- انظر السيد محمد بدوي، القانون و الجريمة و العقوبة في التفكير الاجتماعي الفرنسي ص 3.
23- انظر :,p233 afnasyev :marxist philosophy
24– انظرG.a.alomond,G.b.powell,comparativepolitics developmental approach.pp195-201.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى