المعجزة الصينية: هل بدأ القرن الصيني؟

    أ/ كـــردالــــواد مـصـطـــفى

كلية الحقوق والعلوم السياسية    – جامعة سطيف 2-

     منذ عشر سنوات عقد الكاتب الأمريكي توماس فريدمان Thomas Friedman مقارنة بين الولايات المتحدة والصين، بمناسبة زيارته للصين من أجل حضور دورة الألعاب الأولمبية في بكين سنة 2008،  فكتب فريدمان في هذا الشأن ما يلي: « وأنا جالس على مقعدي في ملعب بكين الوطني أشاهد آلاف الراقصين الصينيين وقارعي الطبول والمغنين والعارضين، يقفزون على ركائز يؤدون ألعابهم السحرية في حفل الختام، لم يسعني سوى التفكير في كيف قضت كل من الصين وأمريكا السنوات السبع الأخيرة [2000-2007]، فكانت الصين تُجهّز للأولمبياد، بينما كنا نُجهّز لتنظيم القاعدة. كان الصينيون يشيدون ملاعب مترو الأنفاق، ومطارات وطرق وحدائق، وكنا نبني نحن أجهزة كشف المعادن وعربات الهامر المدرعة وطائرات دون طيار. ولكي يبدأ اتضاح الفارق، فكل ما عليك هو عقد مقارنة عند الوصول إلى مبنى وصول الركاب بحالته المزرية في مطار (لاغوارديا) في نيويورك، وقيادة السيارة عبر مرافق البنية التحتية المتهالكة في منهاتن، أما عند الوصول إلى مطار شنغهاي المُمهّد وركوب القطار المغناطيسي المعلق بسرعة 220 ميلاً في الساعة، والذي يستخدم خاصية الدفع الكهرومغناطيسي بدلاً من عجلات وقضبان من الصلب، للوصول إلى أي مكان في لمح البصر. ثم أسأل نفسك: من يعيش في دولة من دول العالم الثالث؟، ويضيف فريدمان بأن المدن الصينية الكبرى أكثر تطوراً من نظيراتها الأمريكية، والمباني مثيرة بصورة أكبر، والشبكات اللاسلكية أكثر تطوراً…».

     حقيقة بأن، تأملات فريدمان حول نهضة الصين، تحمل في طياتها عدة أسئلة ملحة عن الأسرار الكامنة وراء المعجزة الصينية، وهي الأسئلة التي تشغل حيزا هاما في فكر ومخيلة الكثير من الأكاديميين والمحللين الاقتصاديين والعسكريين؛ على غرار كبير الواقعيين جون ميرشايمرJohn Mearsheimer  الذي اهتم في أبحاثه بتوجهات تنامي القوة الصينية، وهل أن صعودها هو صعود سلمي أم هو غير ذلك؟، كما نجد أيضا إسهامات والتر روسيل ميد Walter Russell Mead الذي يشتغل في أعماله على عودة الجيوبوليتيك، وتحولات القوة في نظريات العلاقات الدولية، حيث صنّف الصين ضمن القوى التعديلية الصاعدة، التي تهدف إلى تغيير النظام العالمي الذي يسود منذ نهاية فترة الحرب الباردة.

    وعلى هذا الأساس تُصاغ إشكالية هذه الورقة كما يلي: هل تمكنت الصين من امتلاك عناصر القوة بأبعادها الديموغرافية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، التي تؤهلها لمنافسة أو حتى تجاوز الولايات المتحدة باعتبارها القوة العالمية الأولى المنفردة بالقيادة العالمية منذ نهاية الحرب الباردة؟.

الصيـن: مجـد إمبراطـوري عريـق

أن تحقق مئة نصر في مئة معركة ليس قمة المهارة. أن تخضع عدوك دون قتال فتلك هي قمة المهارة

(SunTzu)

    تؤكـد الشواهد التاريخية بأن الصين كانت إحدى مواطن الإنسان الأول، ففي أزمنة جد مبكرة من التاريخ البشري، عاش أسلاف الشعب الصيني في تلك المناطق، وكشفت الحفريات عن آثارهم في بكين ومقاطعات شنشي ويوننان وخنان وشانشي وقويتشو، واعتمد أفراد المجتمع البدائي في هذه المناطق على قطف الثمار وقنص الحيوانات، ثم تلاه قيام المجتمع العبودي على يد الأسر المالكة، الذين اعتمدوا على الزراعة والرعي وتربية الحيوانات، كما استخدموا بعض تقنيات الري لمواجهة الجفاف والفياضانات.

    وازدهرت الحضارة الصينية القديمة على ضفاف حوض النهر الأصفر الخصب المتدفق عبر سهل الشمال، وبلغت أوج قوتها حوالي سنة 221 (ق.م)، حتى سميت بإمبراطورية الوسط، وتمكنت من فرض سيطرتها على الأقاليم المجاورة، التي كانت تدفع لها الإتاوات، وتؤدي مراسيم الولاء للإمبراطور الصيني، كما أخضعت المحيطات والبحار المحيطة لسلطانها من خلال أسطولها البحري الذي تكوّن آنذاك من 317 سفينة شراعية.

  وتتفق المصادر التاريخية في القول بأن الأمـة الصينيـة اليوم هي وريثـة حضـارة الصيـن بروحها الكونفوشوسيـة، التي اخترعت مادة البارود وتمكنت من صناعة الورق، وتفننت في صنع الخزف، وبناء الأساطيل البحريـة الضخمة. فهذه الحضارة التي سادت كإمبراطورية عالمية لفترات طويلة من التاريخ البشري، قام نظام الحكم فيها على مدار حوالي 6000 سنة على حكم السلالات، الذي جسّد نظام الحكم الملكي الوراثي، فقد بدأ هذا النظام بسلالة شيا حوالي 2000 ق.م، وانتهى بسلالة تشينغ سنة 1911، تاريخ إقامة الكوميتانغ Kuomintang والحزب القومي الصيني لجمهورية الصين، لكن الصين شهدت بعدها عدة اضطرابات وتدخلات أجنبية وثورات فاشلة.

    وقبل هذا التاريخ انكمش سلطان المجد الإمبراطوري الصيني خلال القرنين 18 و19 ميلادي، حينما تعرضت الصين للاحتلال الأوروبي، بما يعرف بحرب الأفيون الأولى (1839-1842م) والثانية (1856-1860م) مع بريطانيا، ثم تعرضها أي الصين للاحتلال الياباني، فيما يعرف عند الصينيين بقرن الإذلالShame Century.

   ثم عاودت اليابان احتلال الصين في سنة 1937، وجدد القوميون والشيوعيون تحالفهم بتشجيع من القوى الجمهورية ومن الكوميتانغ  Kuomintangللدفاع عن  البلاد. لكن بعد عام واحد من انسحاب اليابان، دخل الصينيون في حرب أهلية أخرى ، حسمها جيش التحرير الشعبي في سنة 1949 بهزيمة قوات تشانغ كاي تشيك والقوميين، وأصبح ماو تسي تونغ Mao Zedong رئيس الحزب الشيوعي الصيني ورئيس جمهورية الصين الشعبية الوليدة، ورئيس اللجنة العسكرية التي تقود جيش التحرير الشعبي.

الاقتصاد الصيني: من الشيوعية إلى نموذج رأسمالية الدولة

تحتاج الصين إلى نصف قرن لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية                                                           (Deng Xiaoping)

    بعـد نجاح الثورة الشيوعية Chinese Revolution، أعلن زعيم حرب التحرير ماوتسي تونغ Mao Zedong في 01 أكتوبر من سنة 1949 عن تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وطوّر ماو Mao مفهومه الجديد للشيوعية، يسمى بــالماوية Maoism؛ وهو عبارة عن مزيج من شيوعية ماركس ولينين. تحالف ماو في بداية الأمر مع الاتحاد السوڤيتي، وعمل على تحويل الصين إلى أمة عصرية وبدأ بالتعليم والصحة والتصنيع والزراعة، وأطلق مشروع القفزة الكبرى إلى الأمام Great Leap Forward والثورة الثقافية  Cultural Revolution سنة 1966.

   لكن السياسة الصينية فيما بعد، أخذت تبتعد شيئا فشيئا عن البعد الإيديولوجي في بناء علاقاتها مع دول العالم؛ خاصة بعد قطيعتها التاريخية مع الاتحاد السوفياتي. فاطلاقها لسلسلة من الاصلاحات وبرامج التحديث الكبرى، جعلها تركز بصفة أكبر على البعد المصلحي في علاقاتها مع الدول المصنعة والدول المصدرة للموارد الأولية والنفط.

    فبعـد وفاة الزعيم الصيني ماوتسي تونغ Mao Zedong، تولى دينج شياوبنج Deng Xiaoping سدة الحكم في الصين سنة 1978، وبادر بحزمة من سياسات الاصلاح والتحرر الاقتصادي، معتمدا على نخبة من التقنوقراط الشباب في تجسيد رؤيته الاشتراكية السوق؛ بمعنى نظام اقتصادي تكون فيه وسائل الانتاج ذات ملكية عامة، تعمل من أجل تحقيق الربح في إطار اقتصاد السوق؛ فهذه الاشتراكية ذات الخصائص الصينية البحتة، سار القادة الصينيون على نهجها بعد دينج Deng، نقلت الصين بشكل مذهل من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي في أقل من ثلاثة عقود، مما جعلها اليوم تنافس الولايات المتحدة الأمريكية وربما تتجاوزها في بعض المجالات .

    شهدت فترة مابعد الحرب الباردة تحولات كبرى سرّعت من وتيرة تيار العولمة في تشبيك العلاقات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية بين دول وشعوب المعمورة. تكيّـفت الصين بسرعة وهدوء ومرونة كبيرة مع هذه المتغيرات الدولية الجديدة التي فرضتها العولمة، حتى وصفها البعض بزعيمة العولمة، فطورت علاقاتها مع عدة بلدان في أمريكا اللاتينية، القارة الإفريقية، المنطقة العربية. وتمكنت الصين من التغلغل في هذه المناطق الحيوية من العالم دون صدام مع الولايات المتحدة القوة العالمية الأولى منذ زوال الاتحاد السوفياتي.

   فحسب الاحصائيات الاقتصادية أصبحت الصين فعليا ثاني أكبر اقتصاد في العالم منذ سنة 1996، فقد تضاعف ناتجها المحلي الإجمالي بـ18 ضعفاً منذ سنة 1979. وتتأكد مكانة الصين كثاني أكبر اقتصاد في العالم، عند حساب ناتجها المحلي الإجمالي بالدولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي للدولار، وعند حسابه أيضا -الناتج المحلي الإجمالي- وفقاً لنظرية تعادل القوة الشرائية. كما تمتلك الصين 103 شركة مصنفة من بين أهم وأكبر 500 شركة عالمية، وفي مجال صناعة التكنولوجيات الحديثة فوفقا لتقرير ماركت واتشMarket Watch تعتبر الصين موطن لـ9 شركات من ضمن قائمة أكبر 20 شركة تقنية ناشطة في العالم، وبقيمة سوقية تقدر بـ 469 مليون دولار. وعلى صعيد التنمية البشرية تشير الاحصائيات إلى أن الصين حققت نجاحا معتبرا منذ سنة 1980 إلى غاية اليوم، عندما تمكنت من انتشال حوالي 500 مليون نسمة من مواطينها من تحت عتبة الفقر.

    وفي الميدان العسكري كان جيش التحرير الشعبي الصيني، وإلى وقت قريب يُوصف بأنه نمر من ورق، بعد خروجه من حربه مع فيتنام سنة 1979؛ غير أن الأمور تغيرت اليوم رأسا على عقب، فالصين تمتلك إلى جانب الأسلحة التقليدية ترسانة نووية ضخمة، وجيشها الموضوع في الخدمة هو الأكبر من نوعه، مع ثاني أكبر ميزانية دفاع في العالم، وحسب تصنيف غلوبال فاير باور Global FirePower لسنة 2018 والذي شمل 136 دولة، حلت الصين كقوة عسكرية في المرتبة الثالثة بعد كل من روسيا في المرتبة الثانية والولايات المتحدة في المرتبة الأولى.

    وتمتلك الصين برنامج جد متطور في مجال الفضاء والفضاء الخارجي، وأهمية هذا المجال باعتباره مجالا للمنافسة الاستراتيجية بين الدول، أكد عليه التقرير الحكومي لسنة 2015 حول استراتيجية العسكرية الصينية، واستثمرت الصين من أجل حماية الأمن الفضائي Space Security، موارد هائلة لتطوير عدة أنواع من الأقمار الاصطناعية ذات الأغراض العسكرية على غرار الاستخبارات وأنظمة التموضع والاستطلاع والاتصالات والملاحة والتوقيت. وتركز عدة منشورات للجيش الشعبي الصيني في السنوات الأخيرة على أهمية امتلاك القدرات في الفضاء، التي تعتبرها عناصر رئيسية في العمليات المشتركة الجديدة في المستقبل؛ من أجل تنفيذ مهام الإنذار المبكر، الاستطلاع الاستراتيجي بفعالية عالية، تحسين قدرات دعم المعلومات المتعلقة بالفضاء، الدفاع المعلوماتي، إلى جانب تعزيز قدرات المضادة للهجوم والتدخل  والتدمير بهدف احتواء وردع العدو في الفضاء.

    وفي مجال الذكاء الصناعي Artificial Intelligence تعتقد القيادة الصينية بأن تطبيقات هذا المجال الحيوي، ستغير من أنماط الصراعات المستقبلية، ويشمل هذا الميدان تكنولوجيا الروبوتات، أسراب الطائرات المسيرة، أنظمة المعدات، الأساليب العملياتية للجيوش، المناورات الحربية، ممارسة وتدريبات المحاكاة…وغيرها. لذلك تراقب الصين تطور الولايات المتحدة في مجال الذكاء الصناعي مراقبة دقيقة، سعيا منها إلى تجاوزها وربما تكون قد اقتربت من ذلك كما ذكرت مجلة فورين أفارز Foreign Affairs؛ وتبرز الصين باعتبارها قوة متقدمة في مجال الذكاء الصناعي من خلال الدعم الهائل الذي تلقاه أبحاث الذكاء الصناعي، وعدد طلبات براءات الاختراع في هذا المجال الدقيق، وكل ذلك يتم في إطار خطة طموحة وضعتها بكين لتطوير جيل جديد من الذكاء الصناعي بآفاق سنة 2030.

   إلى جانب استراتيجية الصين لامتلاك عناصر القوة الصلبة Hard Power بأبعادها الاقتصادية والعسكرية كما سبق بيانه، تقوم استراتيجيتها للهيمنة على امتلاك عناصر القوة الناعمة Soft Power، حيث تسعى الصين إلى بناء حوالي 100 مركز للكنفوشيوسية وتعليم اللغة الصينية في العديد من بلدان العالم، وتعمل هذه المراكز على طريقة المركز الثقافي البريطاني British Council ومركز غوته Goethe Institute لنشر الثقافة واللغة الألمانية، إضافة إلى سعيها لتحويل محطة الصين التلفازية الدولية-القناة الصينية التاسعة -CCTV9 كمحطة دولية للأنباء منافسة لــــــ CNN الأمريكية، كما ترعى برامج التعاون الثقافي مع العديد من دول وشعوب المعمورة، وتقيم برامج للتبادل العلمي مع كبرى الجامعات الأوربية والأمريكية، حيث ترسل وتستقبل البعثات العلمية من هذه الجامعات وأخرى.

مبادرة الحزام وطريق الحرير: الصين تغير خريطة التجارة العالمية

تعمل الصين بكل طاقاتها على تحقيق الهدفين المئويين وبناء دولة إشتراكية حديثة غنية وقوية وديموقراطية ومتحضرة ومتناغمة وتحقيق الحلم الصيني للنهضة العظيمة للأمة الصينية

(وثيقة سياسة الصين اتجاه الدول العربية)

    يرجع تاريخ طريق الحرير القديم Old Silk Road إلى القرن الثاني قبل الميلاد، حيث كان يربط الصين بكل من آسيا الوسطى، بلاد الفرس، العرب، أوروبا. واتخذ هذا الطريق شكل عدة طرق برية مترابطة مع بعضها البعض، فكانت تعبره القوافل المُحمّلة بمختلف البضائع من بلاد الصين كالحرير، الأحجار الكريمة، التوابل والعطور، العقاقير الطبية، الخزف المُنمّق، الزجاج. بالموازاة مع هذا الطريق البري أنشأ طريق بحري آخر، اتخذ شكل عدة طرق بحرية، تربط الصين بدول إفريقيا وآسيا، وتجوب هذه الطرق من وإلى بلاد الصين سفن تجارية مُحمّلة بالمنسوجات والمعادن والتوابل والعقاقير.

     جدير بالذكر بأن طريق الحرير القديم لم يقتصر دوره على التبادل التجاري فقط، بل كان البعد الثقافي حاضرا إلى جانب بعده التجاري، فالطريق كان بمثابة جسر للتواصل الثقافي بين الحضارة الصينية القديمة والحضارات الشعوب الأخرى في آسيا، إفريقيا، شبه الجزيرة العربية وأوروبا.

   وأعادت الصين إحياء طريق الحريرSilk Road  في القرن 21 ميلادي، بمناسبة طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ  Xi Jinpingاستراتيجية تطوير الاقتصاد سنة 2013 تحت شعار “حزام واحد طريق واحد” One Belt One Road، ويتخذ هذا الحزام من الناحية القانونية شكل معاهدة تبرم مع الدول التي يمر عليها الطريق وتقام عليها مختلف منشآت بنيته التحتية على غرار الطرق البرية، خطوط السكة الحديدية، موانئ الشحن البري والبحري والجوي، الممرات العابرة للحدود الخاصة بالطاقة الكهربائية، كابلات وشبكات الاتصال الخاصة بالمعلوماتية أو ما يسمى بطريق الحرير للمعلوماتية. ومن الناحية التقنية يتم تجسيد هذه البُنى التحتية للحزام الاقتصادي في شكل ثلاثة خطوط أساسية، يربط الخط الأول الصين بأوروبا مرورا بآسيا الوسطى وروسيا، ويصل الخط الثاني الصين بمنطقة الخليج العربي ومنطقة البحر المتوسط مرورا بآسيا الوسطى وغربي آسيا، ويبدأ الخط الثالث من الصين مرورا بجنوب شرقي الصين وجنوب آسيا والمحيط الهندي.

    ويهدف هذا الطريق من الناحية الاقتصادية إلى تسهيل التجارة والاستثمار والتبادل بما يعزز التنمية والاقتصاد العالمي، حيث من المنتظر أن يمر هذا الطريق على أراضي أكثر من 100 دولة، ويمس 63 ٪ من سكان العالم، و29 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

    كما ترمي هذه المبادرة في شقها المتعلق بالتنمية المستدامة أو ما يسمى بطريق الحرير الأخضر إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي ومكافحة التغير المناخي من خلال التعاون على تطوير الطاقات المتجددة واستخدامات الطاقة النظيفة.

محددات صعود التنين الصيني

سيكون القرن 21 ميلادي قرنا صينيا

     تحدث البروفيسور تشانغ وي وي في كتابه بعنوان “الزلزال الصيني: نهضة دول متحضرة”، عن السبب الرئيسي للنهضة الصينية المعاصرة، والذي أرجعه إلى التزام الصين بنموذجها التنموي الخاص، كما أن اعتمادها على نقاط قوتها، وتعلّمها من تجارب الدول الأخرى، مكّنها من التفوق على النموذج الغربي، بشكل أبدعت من خلاله في الدمج بين أطول حضارة مستمرة في العالم وأضخم دولة في شكلها الحديث.

    غير أن نهضة العملاق الصيني لا تتم في سياق منعزل، بل تتم في سياقات داخلية وإقليمية ودولية تفرض مجموعة من المحددات لبروز هذا العملاق على المسرح العالمي، وهذه المحددات يمكن تفصيلها كما يلي:

أولا/ المحددات الداخلية: تواجه الصين مجموعة من المحددات الداخلية ذات طبيعة متنوعة، تعتبر محك حقيقي في طريقها لامتلاك العناصر اللازمة لظهورها كقوة عالمية، ونورد هذه المحددات في النقاط التالية:

1- تصاعد النزعة القومية الصينية والدور المتنامي للجيش الصيني .

2- غياب الديموقراطية نتيجة سيطرة الحزب الشيوعي على الحكم .

3- تملك الصين سجل سيئ في مجال حقوق الإنسان والتضييق على حرية التعبير والإنترنيت .

4- انتشار الفساد في صفوف الدولة والحزب الشيوعي الصيني، ومحاربة هذه الظاهرة التي تنخر الدولة، يعتبرها قادة الحزب بمثابة العمل السياسي العاجل.

5- تعتبر الصين من أكبر ملوثي البيئة في العالم، نتيجة اعتماد اقتصادها على الطاقات التقليدية الملوثة للبيئة.

6- حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائيUNDP لسنة 2014، انضمت الصين إلى مجموعة الدول ذات المستوى العالي فى التنمية البشرية  IDH، حيث جاءت في المرتبة 90 من أصل 188 دولة شملها مؤشر قياس التقرير لسنة 2014. والملاحظ بأنه رغم تحسن ترتيب الصين على مستوى مؤشر تنمية بشرية في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك لا يتوافق مع ترتيبها كثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.

7- عدم التوازن في التنمية الاقتصادية بين أقاليم الصين، حيث يعاني الوسط الصيني من مظاهر الفقر والتخلف بالمقارنة مع الجنوب الذي تنتشر به الاستثمارات والموانئ الكبرى.

ثانيا/ المحددات الإقليمية والدولية: فرضت الحتميات الجيوسياسية مجموعة من المحددات تعمل على كبح جماح نمو التنين الصيني، بعض هذه المحددات ثابت مرتبط بطبيعة جغرافيا وتاريخ منطقة آسيا، أما بعضها الآخر فيرتبط بعوامل ومتغيرات موازين القوى على الساحة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة وبروز العولمة، ونلخص هذه المحددات الإقليمية والدولية في العناصر التالية:

1- تواجد الصين في رقعة جغرافية تجاور إمبرطوريات تاريخية كبرى على غرار الهند اليابان، وتجاور الإمبرطوريات الثلاث- الصين، الهند، اليابان- هي حالة فريدة من نوعها، تطرح عدة تحديات بالنسبة للصين حسب البروفيسور برتراند بادي  Bertrand Badie.

2– وجود قضايا خلافية بين الصين وجيرانها حول عدد من الملفات أبرزها قضية تايوان التي تعتبرها الصين كجزء لا يتجزأ من إقليمها، كما تبرز قضية بحر الصين الشرقي الذي نشرت به الصين سنة 2013 أنظمة جديدة للدفاع الجوي تشمل حتى الجزر المتنازع عليها مع اليابان، دون إغفال التوتر السائد بين الصين وكل من فيتنام والفلبين حول الثروات النفطية والغازية في بحر الصين الجنوبي.

3- مجاورة الصين لتخوم الرقعة الجيبوليتية الأوراسية التي تحظى باهتمام دائم من طرف القوى العظمى، ومعلوم بأن هذه الرقعة تنال نصيبا وافرا في دراسات وكتابات مفكري الجيبوليتيك منذ ماكيندر Halford Mackinder وسبيكمان  Nicholas Spykman.

4– اندلاع أكبر حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين في تاريخ العلاقات بين البلدين، التي انطلقت شرارتها في شهر جويلية الماضي من سنة 2018، عندما فرضت واشنطن حزمة من الضرائب والرسوم على البضائع الصينية.

5- يـوجّه الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة واليابان انتقادات لاذعة للصين، من حيث كونها تتبع سياسات تدخلية في مجال التجارة الخارجية تضر بمبدأ حرية التجارة، ولا تحترم حقوق الملكية الفكرية، كما أنها تصدر بضائع رخيصة الثمن وغير آمنة تضر بالصحة البشرية.

6- الصراعات الجيوسياسية بين القوى الدولية حول مصادر الطاقة والموارد خاصة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، فهذه الصراعات تطرح تحديات كبيرة على الاقتصاد الصيني، باعتباره أكبر مستهلك للطاقة في العالم.

     وفي هذا السياق توالت الأدبيات الأمريكية في العقود الأخيرة، التي تحذر من توجهات الاستراتيجية الصينية التي تهدف حسبها إلى بسط سيطرتها على العالم، واقترح بعضها على الولايات المتحدة، ضرورة مواجهة التوجهات الصينية من خلال جملة من الاجراءات، من بينها تعزيز التحالفات السياسية والعسكرية الأمريكية في المنطقة، وإقامة دفاعات مضادة للصواريخ لضمان أمن حلفائها وسلامة الأراضي الأمريكية، وكذا العمل على منع تحكم الصين، ووصولها إلى التكنولوجيا العسكرية المتطورة.

    وتعكس عدد من التقارير قلق متزايد لدى الصين بشأن التطورات الجديدة التي تشهدها منطقة آسيا- المحيط الهندي، خاصة اتجاه ما يعرف باستراتيجية الانعطاف نحو آسيا التي تبنتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما من أجل إعادة التوازن إلى آسيا، حيث ترمي هذه الاستراتيجية إلى نشر 60٪ من القوات البحرية الأمريكية في منطقة المحيط الهادي، بالإضافة إلى قلق الصين من توجاهات اليابان الجديدة لاصلاح سياساتها العسكرية والأمنية، وتصنف الصين هذه المعطيات الجديدة كتدخل خارجي في النزاعات البحرية الإقليمية.

     وفي ختام هذه الورقة، يمكن القول بأنه مهما كان حجم وطبيعة المحددات المذكورة أعلاه، والعقبات التي تلقيها في طريق الصين لاعتلاء القمة العالمية، إلا أنها أي الصين قد تمكنت من امتلاك العناصر الأساسية لظهورها كقوة إقليمية وعالمية منافسة للولايات المتحدة في المجالات الديموغرافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. ضف إلى ذلك أن الصين تتواجد كعضو دائم في مجلس الأمن للأمم المتحدة، كما أنها تمتلك العضوية في عدد من المنظمات الإقليمية والدولية مثل منظمة التجارة العالميةWTO ، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة العشرين G20، ودول مجموعة البريكس؛ وتعتبر الصين أيضا طرفا في العديد من الاتفاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية والمتعددة الأطراف مع عدة دول ومنظمات في أرجاء العالم الأربعة.

   وعليه فإذا استمرت الصين على نفس وتيرة النمو المتسارعة حاليا، فإنها ستلعب قريبا دور القوة العظمى المنافسة والمؤثرة في العلاقات الدولية في القرن 21 م، حتى أن الصينيون أنفسهم يتنبؤون بإمكانية بلوغهم مرحلة القوة المهيمنة منتصف القرن الحالي، ويعزز الكثير من المحللين والمراكز البحثية هذا الرؤية المستقبلية للعالم في القرن21م؛ فقد توقع مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي National Intelligence Council في تقرير له بعنوان: ” اتجاهات كونية 2025″Global Trends ، أن يصبح النظام الدولي مع آفاق 2025 نظاما متعدد الأقطاب، بسبب صعود قوى جديدة وعولمة الاقتصاد، والانتقال التاريخي للثروة والقوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق.

المراجـع:

– مارك ليونارد، فيما تفكر الصين؟، ترجمة هبة عكام، تصوير أحمد ياسين، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2010.

     – تاريخ الصين القديم، مجلة بناء الصين ، ج 1، سلسلة كتب سور الصين العظيم، بكين، 1986.

–  تشانغ وي وي، الزلزال الصيني: نهضة دول متحضرة، ترجمة: محمود مكاوي وماجد شبانة؛ مراجعة أحمد السعيد، القاهرة، المجموعة الدولية للنشر والتوزيع، سما للنشر، 2016، عرض: محمد صالح محمد، كتب وقراءات، مركز دراسات الوحدة العربية.

http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/Moustaqbal_%20Arabi_450%20alzinzal_alsini.pdf

  • نهلة محمد أحمد جبر، طريق الحرير…استراتيجية القوة الناعمة، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، شؤون عربية، القاهرة.

http://www.arabaffairsonline.org/admin/uploads/14-171.pdf

  • د صباح نعاس شنافه، القوة الصينية تحدي الصيرورة التاريخية والموقع في مدار القوى العالمية، مجلة العلوم السياسية، ع 46.
  • فاليري نيكويت، القدرة الصينية في مائة سؤال، تالاندير، عرض: أحمد صلاح، التنين الصيني يحدد مستقبل العالم، الشرق الأوسط، ع 14310، 01 فيفري 2018.
  • منصور فالح إسماعيل الحيصه، الفرص والتحديات للنمو الصيني كقوة عظمى، مذكرة ماجستير، جامعة مؤتة، الأدرن، 2009.

     – وثيقة سياسة الصين اتجاه الدول العربية، يناير 2016.

https://www.fmprc.gov.cn/web/ziliao.pdf

     – برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصين تتمتع بمستوى عال من التنمية البشرية، 2016.

  • هيلاري كلينتون، مذكرات هيلاري كلينتون: خيارات صعبة، ترجمة ميراي يونس، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، ط 1، بيروت، 2015.
  • علاء عبد الحفيظ محمد، تأثيرات الصعود الروسي والصيني في هيكل النظام الدولي في إطار نظرية تحول القوة.

 www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/3laa_3bd_alhafeez_mhmd.pdf

  • مايكل إس تشايس، آرثر تشان، نهج الصين المتطور إزاء الردع الاستراتيجي المتكامل، مؤسسة RAND ، 2016.
  • د أحمد قنديل، التنافس المنضبط: الصعود الصيني وسيناريوهات تحدي القطب الأمريكي، Platform Almanhal
  • الذكاء الصناعي والقوة الصينية، الجزيرة نت.

http://www.aljazeera.net/news/presstour/2017/12/6

  • الصين موطن 9 من أكبر 20 شركة تقنية في العالم، البيان.

www.albayan.ae

  • ترتيب الجيش الصيني 2016 عالميا من حيث القوة، ترتيب جيش الصين على مستوى العالم.

www.elmstba.com

  • ماو تسي تونغ، المعرفة. marefa.org
  • Global FirePower, 2018 Military Strength Ranking.

      www.globalfirepower.com

    – Bertrand Badie, La Chine : créateur et acteur d’un nouveau monde,

Colloque “La Chine Hors de Chine”, la Fondation Prospective et Innovation au Futuroscope, 2016.

www.youtube.com/watch?v=fNY3rqz_Bj0

  • John Mearsheimer :Can China Rise Peacefully?.

     www.youtube.com/watch?v=6lKHMgTO4Ds

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button