من عادة التاريخ أن يقوم المنتصر بإعادة ترتيب الجغرافيا. من هذه العادة تغيرت خارطة العالم عبر معاهدة فرساي عقب الحرب العالمية الأولى. وتم تقاسم أوروبا والعالم عقب الحرب العالمية الثانية. وعليه فإن الطموح الأميركي لتغيير الجغرافيا ،وتحديداً في منطقتنا، هو طموح ينسجم مع المنطق التاريخي. وهو كان قد بدأ مع سقوط جدار برلين وتعامل معه العالم ( اوروبا وتنازلاتها السياسةي والإقتصادية في حرب كوسوفو وغيرها) ودول المنطقة بصورة براغماتية واقعية ومن مظاهر واقعية دول المنطقة نذكر:
– المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام.
2- المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ المتعلق بالإرهاب.
3- المشاركة في الحرب الأميركية لتحرير الكويت.
4- التغاضي عن إتفاقية أوسلو.
وإستمر هذا التعامل لغاية إصرار جورج ووكر بوش على تحويل أميركا إلى دولة تحصل على ما تريده بالقوة وليس بالطلب. مما يعني تحويل الحلفاء الأميركيين الى مجرد زوائد إستراتيجية. وهو امر ينطبق على كافة الحلفاء بدءاً بأوروبا وصولاً الى أصدقاء أميركا من العرب. ووصلت فلسفة القوة البوشية الى قمتها عبر الحرب على العراق التي تذكر بالمقولة الصينية المذكورة أعلاه.
أميركا من الليبيرالية الى الفاشية الجديدة
هنالك مسافة من المنطق لايمكن تجاوزها بين وضعية الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد وبين تحولها الى الفاشية الجديدة. فهذا التجاوز يشكل مخالفة صريحة ومتعددة الوجوه للمنطق. ومن وجوه المخالفة المنطقية للسياسة الأميركية الراهنة نذكر:
1. أن أميركا إنتصرت في حرب باردة طالت الجوانب الثقافية والإيديولوجية والإقتصادية دون أن تكون عسكرية بحال من الأحوال. ولو قبل الإتحاد السوفياتي التحول الى فاشية شبيهة لكانت لديه قوة عسكرية كافية للإستمرار وإن كانت غير كافية للنصر. وعليه فإنه من الخطورة بمكان أن تبدأ الحروب العسكرية الأميركية بعد الإنتصار الفكري النظري الخالص.
2. تناقض المنطلقات السياسية الأميركية الراهنة مع جملة ثوابت إستراتيجية أميركية سابقة. حتى يمكن القول بوجود إنقلاب على هذه الثوابت يقوم به صقور إدارة بوش. ولعل في مقدمة هذه الثوابت الرفض الأميركي لخوض الحروب مفتوحة النهايات. فلا حرب أفغانستان إنتهت ولا الحرب العراقية تنبيء بنهاية قريبة.
3. تحول الفكر السياسي الأميركي من الليبرالية والواقعية المطلقة الى مبدأ الكرامة الصوفية. ومحور الصوفية البوشية الإعتقاد بحتمية النصر الأميركي مهما كانت الظروف. ومن مظاهر هذه الصوفية طروحات النهايات: التاريخ والإيديولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرها من النهايات. وهذه الصوفية السياسية هي محرك الحرب على العراق. وهي حرب إحتاجت الى التفاؤل الصوفي المتطرف لخوضها.
4. إن سوابق القوة الأميركية لا تدعم بحال هذا التفاؤل الصوفي. فقد فشلت هذه القوة في كوريا وفيتنام وغيرهما. وهي حملت وزر قنبلتين نوويتين في اليابان بثمن تحريك المارد الصيني.
5. إن المراجعة التاريخية لمحاولات تغيير الجغرافيا غير مشجعة. فالعديد من حروب القرن العشرين إنطلقت من ظلم معاهدة فرساي. بما في ذلك الحرب العالمية الثانية والحروب العربية الإسرائيلية…الخ.
6. أن معارضة الأمركة المتحولة الى الفاشية هي معارضة عالمية. بدليل إضطرار بوش لخوض حرب العراق بدون موافقة مجلس الأمن الدولي وحتى حلف الأطلسي.
7. الإعلان الأميركي الصريح عن رفض هيكلية الأمم المتحدة. وذلك عبر تجاوزها والدعوة لإعادة هيكليتها. مع تحويلها الى وظيفة كاتب العقود على غرار إستصدار القرار 1559 كتكريس لعقد أميركي – فرنسي بعودة فرنسا الى الساحة اللبنانية.
8. الخطأ القاتل بتحويل دلالة الشرق الأوسط الى الشرق المسلم عبر إعلان الصدام مع الإسلام (هنتنغتون وغيره) وإستخدام مصطلح الحرب الصليبية. والأهم بطرح الشرق الوسط الكبير بشعوب إسلامية وشراكة يهودية.
9. أن العسكريتاريا والفاشية تحتاج الى مساندة شعوب مستعدة للتضحية بأبنائها ورخائها. وهي تضحيات يستحيل طلبها من الشعب الاميركي مهما بلغت درجة تخويفه.
المعارضة العالمية للأمركة
معارضة الأمركة وصلت متأخرة الى منطقتنا الموجودة في وضعية إحتواء مزدوج عبر الصراع العربي – الإسرائيلي. حيث لم تنخرط منطقتنا في هذه المعارضة إلا بعد حرب العراق. فقبل تلك الحرب كانت المنطقة في وضعية الإحتجاج على الإنحياز الأميركي لإسرائيل. أما على الصعيد العالمي فإن هذه المعارضة بدأت مباشرة عقب سقوط جدار برلين وقادتها فرنسا. حيث نسجل السعي الفرنسي للحفاظ على عالمية اللغة الفرنسية – مطلع التسعينيات) ومعارضة حرب العراق الأولى ( لغاية نشوبها واستقالة الوزير جان بيار دو شوفانمان- ( 1991). ثم مؤتمر أوتاوا لتقويم مسار العولمة في كندا (1994) والإصرار الفرنسي على التفجير النووي (1995) ثم عمل فرنسا على إخراج أميركا من اللجنة العالمية لحقوق الإنسان حين خسرت مقعدها في تلك اللجنة (حصلت أميركا نتيجة التصويت على 29 صوتاً من أصل 53 صوتاً فخسرت الإنتخابات). وأخيراً المعارضة الفرنسية للحرب على العراق. وبعدها الدخول الفرنسي الى المنطقة من البوابة اللبنانية عبر القرار 1559 الذي يعتبر تراجعاً أميركياً محدوداً عن التفرد في المنطقة.
وإذا كانت فرنسا تمثل المعارضة الأوروبية للعولمة فإن لهذه المعارضة وجودها في روسيا والصين والشرق الأقصى عموماً كما في أميركا اللاتينية وأيضاً نادي الدول المتصررة من العولمة/ الأمركة. في حين إنضمت منطقة الشرق الأوسط مؤخراً الى هذه المعارضة.
وهكذا فإن عالمية هذه المعارضة ،وتصاعدها مع التحول الأميركي الى ممارسة القوة، توحي بأن أميركا يجب ألا تنساق وراء الكرامات الصوفية لصقورها.
الأمركة والفوضى الإستراتيجية العالمية
بداية فإن سياسات بوش تنبيء بقدوم زمن الفوضى الأميركي. وملامحه أزمة إقتصادية عارمة (فضائح إفلاس الشركات وضعف الدولار وإنخفاض التدفق المالي الى الأسواق الأميركية وعجز في الميزانية يبلغ حدود ال 455 مليار دولار.) وميليشيات نازية (أوكلاهوما 1995) وشغب عنصري (سينسيناتي 2001) وأقليات مضطهدة وحريات مقلصة ومنتهكة (وزارة بوش للمخابرات) ومخالفات بحق القانون الدولي (رفض توقيع اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية) ومؤسساته (مخالفة مجلس الأمن في قرار حرب العراق) كما بحق الإنسان. والأهم من كل ذلك الإنقلاب على الثوابت الإستراتيجية الأميركية. الذي أفقد أميركا أصدقاءها وحلفاءها إذ لم يبقى منهم في حرب العراق سوى بريطانيا وإسرائيل. وهذا الإنقلاب يهدد بفقدان الرؤية الإستراتيجية والنحول الى التعاطي مع الأزمات الأميركية كل حالة على حدة (Case by Case). وهذا ما نراه في فارق التعاطي مع كوريا بالمقارنة مع بقية دول محور الشر الأميركي. وفي ذلك ثغرة خطيرة لأن الكلّ يختلف عن مجموعة الأجزاء.
أما على الصعيد العالمي فتنعكس هذه الفوضى الأميركية بتغييرات جذرية في دور المنظمات العالمية والإقليمية. حيث تكاد منظمة الأمم المتحدة تفقد مصداقيتها كمؤسسة وبخاصة بعد الهجوم الأميركي على شخص أمينها العام.
الشرق الأوسط الكبير
عندما يطرح الأميركيون الإسلام كعدو حضاري فإن الجمهور الغربي يفسر هذا الطرح عبر دلالاته الخاصة إذ يعتبر هذا الجمهور أن كل دولة إسلامية هي دولة عربية. بما يعادل القول بأن صدام الحضارة الغربية سيكون صداماً مع قوميات دينية (العرب والصينين). بهذا يحتفظ هذا الطرح بعضوية كافة دول الشرق الأوسط في نادي العداء لأميركا (باستثناء إسرائيل اليهودية) وللغرب عموماً. وهكذا فإن عضوية النادي تضم بالإضافة للدول العربية (بما فيها فلسطين – حماس) كلاً من تركيا – وإيران وأفغانستان وباكستان وصولاً إلى حدود الصين. دون إهمال الحزام الأوراسي المسلم (جهموريات سوفياتية مسلمة سابقة). وهكذا فإن مقولة الصدام مع الإسلام تنعكس أول ما تنعكس بتغيير الدلالة الديموغرافية لمصطلح الشرق الأوسط لتحوله إلى دلالة الشرق المسلم. بما في ذلك من توسيع لرقعته الجغرافية. وهو توسيع يجد تبريره في تغيير جغرافية المصالح الإستراتيجية لدول المنطقة في فترة ما بعد الحرب الباردة. حيث نلاحظ رغبة كل دولة في تأمين مصالحها الإستراتيجية في هذا الفراغ ونعدد:
1- تركيا: التي تحاول ملء الفراغ في جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصول التركية ولدى الأقلّيات التركية في دول أوروبا الشرقية ومنها ألبانيا المسلمة.
2- ايران : التي احتوت أعداد كبيرة من الأذربيجانيين هاجرت إليها عقب قيام الدولة الشيوعية. والتي تجد لنفسها حقوقاً في كافة جمهوريات آسيا الوسط المتاخمة لحدودها. كما في أفغانستان والدول التي تحوي أقلّيات شيعية.
3- اسرائيل: التي تطالب بحصتها في ثروات آسيا الوسطى وتتخذ من تحالفها مع تركيا مدخلاً لتأمين هذه المصالح لكلا البلدين.
4- الدول العربية : الباحثة عن تحالفات جديدة لِحماية ثرواتها من الاستنـزاف وهكذا فإن حدود الشرق الأوسط الجغرافية تشهد توسعاً لا يمكن للتسمية أن تستوعبه. كما تشهد المنطقة احتمالات تصادم المصالح في ما بينها لدرجة يمكنها أن تصل إلى حدود التفجير. ولو كانت فرضية “صدام الحضارات” قابلة للاعتماد والتصديق لكانت قارب نجاة لِهذه الدول وحماية لَها من تفجر صراعاتِها الخارجية والداخلية على حد سواء. ولا نستثني إسرائيل كونَها أكثر دول المنطقة استفادة من هذه المقولة.
وهذه الوقائع تدفعنا للتساؤل عما إذا كان من الممكن احتواء صراعات المنطقة والحؤول دون تفجرها لنجد أنفسنا في شرق أوسط مُمتد ومتجاوز لِحدوده الجغرافية؟.
أم أن الصراعات ستفجر هذه المنطقة لتحدث فيها تغييرات جذرية يصعب تحديدها بدقة؟ وهنا نجد أمامنا احتمالات متعددة :
أ- أن تتابع الولايات المتحدة إثارة مشاكل الأقليات في المنطقة فتقضي بذلك على توازنها الديموغرافي الراهن. بِما ينْزع عن المنطقة طابعها الإسلامي أو العربي المهيمن. فتصبح قادرة على استيعاب الحاقات جيوسياسية تمهد الطريق أمام شرق أوسطية ممتدة وغير قادرة على رفض عضوية إسرائيل ؟. وهو حل يتيح للولايات المتحدة تجاوز المناطق الشرق أوسطية العصية على مشروعها.
ب- أن تركز الولايات المتحدة على مصالحها في آسيا الوسطى (حيث بلغت استثماراتها حدود الـ 200 مليار دولار) فتعمد إلى إلْهاء الدول المتاخمة لآسيا الوسطى بجملة مشاكل داخلية تجعلها عاجزة عن تَهديد هذه المصالح ؟. وبذلك تمتنع عن استمرارية الشراكة مع إسرائيل. مقابل ضمان أمنها بتسوية مع العرب أو بالحفاظ على تفوق عسكري يبقيها في إطار حرب باردة معهم. وهو يتيح للولايات المتحدة سيطرة غير مباشرة وبدون تورط على النفط العربي.
ج- أن تسعى الولايات المتحدة لاستغلال القبول السياسي الذي لم يسبق لَها و أن تمتعت به في دول المنطقة لتحول كامل المنطقة إلى حزام أمني في مواجهة الخطر الأصفر سواء كان صينياً أو يابانياً أو روسياً أو حنى أوروبياً ؟. مع ما يتيحه ذلك من استفادتها من ثروات المنطقة ؟ مع تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة عولمة – أمركة نموذجية؟. وهو الطرح المثالي الصوفي الكامن وراء طرح الشرق الأوسط الكبير. إلا أنه تعثر في محطته الأولى وهي العراق.
ومهما يكن فإن غموض مستقبل المنطقة مرتبط بغموض الإستراتيجية الأميركية. فلو نحن تحرينا أوضاع المنطقة ما بعد حرب “عاصفة الصحراء” لوجدنا أنّها شديدة السوء بالمقارنة بفترة ما قبلها. وهذا يشكل إدانة جماعية، من أطراف متناقضة، للسياسة الخارجية الأميركية. فعداك عن الخسائر الخليجية الفادحة والانْهيار العراقي فإنك تجد أن الانعكاسات الاقتصادية لِهذه الحرب تؤثر على دول الجوار الجغرافي وعلى دول العمالة البعيدة عن المنطقة. دون تجاهل العواقب التفككية لِهذه الحرب. حيث أدت لوضع مشاكل دول الشرق الأوسط الداخلية على نار متقدة . حتى بتنا نلاحظ علائم التفكك وكأنّها تنتظر الفرص حتى تنفجر. ويكفي أن نذكر في هذا المجال الأزمات التالية :
أ- احتمالات تقسيم العراق والتي تولد انقسامات عنقودية في أرجاء المنطقة في حال حدوثها.
ب- أزمة الأقلية الشيعية في الخليج (البحرين والعراق خصوصاً).
ج- أزمة الجزر الثلاث بين الإمارات وإيران.
د- أزمة المياه مع تركيا.
ه- توجه المعارضة الداخلية باتجاه لعب دور السلطة الموازية وليس البديلة.
هذا دون أن نذكر الإزمات المزمنة للمنطقة والتي عادت للظهور . أما إسرائيل فقد تضررت بدورها من عاصفة الصحراء ثم من حرب العراق. فهي وأن حققت فائدة اقتصادية منهما فإنّها قد أفقدتْها دور الناطق باسم الولايات المتحدة والمدافع عن حقوقها في المنطقة. وهو دور طالما أحسنت إسرائيل استغلاله. وتلازم فقدان هذا الدور مع الحد من صلاحيات إسرائيل وتعرضها لضغوطات أميركية لم تتعرض لِمثلها منذ مشاركتها بالعدوان الثلاثي عام 1956. وانعكس ذلك في داخل إسرائيل بتصاعد تأثير الأصولية اليهودية واغتيالِها لرابين وإتيانِها بنتنياهو الذي صرح أن هنالك 4 إسرائيلات وليس إسرائيل واحدة في إشارة له إلى تفجر التناقضات الإسرائيلية – الداخلية. ثم عاد باراك بإرادة أميركية ليكمل دور رابين وليتعرض لعدة محاولات اغتيال لم يعلن عنها. ومن بعده شارون الذي يستعد اليوم لموقف شبيه على الرغم من مواقفه الرافضة لأية تسوية سلمية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل السلام بالنسبة لأميركا هو مسألة استراتيجية أم مجرد صيغة تكتيكية ؟ وبالتالي هل هو سلام ؟ أم تسوية ؟ أم حرب باردة جديدة ؟.
والواقع أنه ومنذ سقوط جدار برلين ظهرت حماسة أميركية ملفتة لتجميع دول المنطقة في حلف يتخطى حدوده الجغرافية. فقد إستعجلت أميركا عقد مؤتمر جينيف ثم شجعت الحلف التركي – الإسرائيلي ودعمته وأمنته من المعارضات العربية والإسلامية. كما عملت على ترسيخه بتهيئة بعض الدول العربية للإنضمام إليه. وهذا ما أعلنته كونداليزا رايس فور تسلمها منصبها في ادارة بوش الأولى (2001). وبعدها بدأت لولايات المتحدة باستخدام الأزمات الاقتصادية لدول المنطقة لتضغط عليها باتجاه الدخول في هذا الحلف. وبطبيعة الحال فإن هذا الحلف لا بد له من أن يتسع لعضوية الأعماق الإستراتيجية لدول المنطقة. وخصوصاً جمهوريات القوقاز والإسلام الشمال أفريقي والشرق أوروبي. وهذا الحلف هو نواة مشروع الشرق الأوسط الكبير. وتتدعم هذه الصورة الوردية للحلف الشرق أوسطي بإنْهاء حالة العداء العربي – الإسرائيلي عبر معاهدة تسوية معجلة.
إن مثل هذا السيناريو ينتمي إلى الطوباوية أكثر منه إلى البراغماتية الأميركية. فهو يحول الشرق الأوسط إلى جنة متكفلة برعاية المصالح الأميركية. لكن هذه الكفالة لا تلغي قائمة من الأسئلة المصيرية بالنسبة لمستقبل المصالح الأميركية في المنطقة وفي طليعتها :
أ – ما هي الفائدة الأميركية من إجبار أغنياء المنطقة على تبني فقرائها والدخول معهم في حلف استراتيجي ؟.
ب- أن هذا الحلف يجمع بين مالكي الثروات ومالكي التقنيات العسكرية وبالتالي فإنه يشكل خطراً على المستقبل الأميركي في المنطقة.
ج- أن التناقضات بين دول هذا الحلف تجعله قابلاً للانفجار في أية أزمة مفصلية. خصوصاً وأنها تجمع بين التناقض العرقي والديني والمذهبي والثقافي واللغوي. وقبل هذه الأسباب، وكثيرة غيرها ، فإن البراغماتية الأميركية لا تؤمن أساساً بالأحلام الوردية فهي سياسة مصالح تحسن تحديد غاياتها وهي تحدد أهدافها في المنطقة على النحو الآتي :
1- الدول النفطية : وتضم دول الخليج العربي والعراق وإيران.
2- التخلص من أعباء المعونات المقدمة لإسرائيل والتي لَم تعد مبررة استراتيجياً. وتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي هي أكثر الحلول وجاهة بهذا الصدد.
3- التحكم في تناقضات المنطقة وملكية خيوطها التي تسمح بقلب الطاولة على أي نظام أو توازن يهدد المصالح الأميركية في المنطقة.
وهذه الأهداف باتت بحكم المضمونة التحقيق بعد حرب العراق وهي لا تحتاج سوى لبعض اللمسات التجميلية الأخيرة لإخراجها. ومن هذه اللمسات نذكر أهمها :
1- إخراج تسوية سلام مقبولة من جميع الأطراف أو التأسيس لحرب باردة عربية – إسرائيلية.
2- إيجاد منافذ لتأمين الانفتاح الإيراني على الحلف الأميركي.
3- تعويض مشاعر الخسارة الناجمة عن الحرب على العراق .
4- تأمين مخرج مقبول للأزمة العراقية حيث يرجح تشجيع مخرج عربي لَها وذلك على غرار مخرج الأزمة الليبية.
والسؤال هنا لا يطرح حول القدرة الأميركية على تأمين ضبط الحلول بل هو يطرح حول قبول إسرائيل بتهميش دورها الإستراتيجي على هذا النحو. حيث الإغراء الاقتصادي ضعيف في هذا السيناريو لأن إسرائيل محاطة بفقراء العرب. ولأن أغنياءهم لا يحتاجون للأسلحة في ظل تحالفهم مع الولايات المتحدة. فإذا ما لاحظنا أن متوسط دخل الفرد الإسرائيلي الحالي هو في حدود الستة عشر ألف دولار سنوياً فإننا ندرك خطورة هذا التهميش على إسرائيل، فاليهودي يفضل الشتات على تدني المدخول المادي. وهو سيترك أرض ميعاده إذا ما تراجع دخله. ولكن هل يصل الخلاف الأميركي – الإسرائيلي إلى حدود التصادم ؟
لقد وصل هذا الخلاف لغاية الآن إلى حدود تضارب المصالح والصراع الخفي. أما أن يتحول إلى صدام فهذا أمر مستبعد تماماً. فاليهود أحسنوا، عبر تاريخهم المتقطع، تجنب مصادمة الأقوياء. كما أحسنوا الهروب من أية مواجهة من هذا النوع. لكنهم أتقنوا في المقابل التخطيط طويل الأمد لإحتواء أعدائهم وتأجيج صراعهم مع الغير. ويبدو أن محاولات احتواء اليهود للولايات المتحدة قد بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة. ومن علائم هذا الاحتواء نذكر:
أ- الحضور السياسي اليهودي وأثره على الحكومة الفيديرالية. ومُمارسة هذا التأثير بصورة استعراضية – استفزازية (تعكس جنون العظمة اليهودية). هذه الصورة التي كانت سبباً لردود فعل تاريخية سببت لليهود محاولات جادة لتصفيتهم. أما عن ردود الفعل الراهنة فتمثلها داخل أميركا مجموعات من الآريين المتطرفين (الميليشيات الأميركية البيضاء التي تضع الخلاص من اليهود في مقدمة أهدافها).
ب- التدخل اليهودي المباشر في الأسرار الأميركية الإستراتيجية. سواء عن طريق تجنيد عملاء للموساد داخل المخابرات الأميركية أو عن طريق اليهود الذين تتيح لَهم وظائفهم الإطلاع على هذه الأسرار.
ج- الخيانة الإستراتيجية : حيث تورد تحقيقات وزارة الدفاع الأميركية ما يشير إلى أن إسرائيل قد حصلت على أسرار القنبلة النوترونية من مخترعها اليهودي الأميركي صمؤيل كوهين. وذلك قبل إطلاع الرئيس نيكسون عليها. كما تشير هذه التقارير إلى أن إسرائيل باعت هذه الأسرار للصين لقاء مبالغ طائلة وهذا النوع من الخيانة لا يخضع عادة لاعتبارات الصفح والغفران.
د- إن اعتماد الإدارة الأميركية مبدأ “حقوق الأقليات” وترجمته إلى قانون يعكسان السيطرة اليهودية على العقل السياسي الأميركي. ذلك أن أثارة الفوضى الديموغرافية في أي مكان من العالم هي فلسفة يهودية بحتة. فاليهود عملوا عبر تاريخهم على استغلال مثل هذه الفوضى بعد إثارتها. وفي خضم الفوضى الإستراتيجية الأميركية الراهنة فقد تحولت هذه الفوضى إلى بديل استراتيجي ورط الولايات المتحدة في حروب صغيرة ذات منحى ديموغرافي. وصحيح أن هذه الحروب قد عادت على الولايات المتحدة بفوائد اقتصادية لكنها في الوقت ذاته ورطت الولايات المتحدة في صراعات من شأنِها تعميق العداء لأميركا وتشعيبه. بحيث يتحول إلى تهديد مستقبلي جاد للمصالح الأميركية. مثال ذلك التورط الأميركي في يوغسلافيا وما يستتبعه من تورط بلقاني مستقبلي. والتورط في القضية الكردية (خصوصاً بعد اعتقال أوجلان) وغيرها من التدخلات المعلنة وغير المعلنة.
ه- إن اليهود الأميركيون يهددون التوازن الاجتماعي داخل الولايات المتحدة بما يمهد لتنامي مشاعر الاضطهاد لدى الأميركيين غير اليهود إذ يبلغ متوسط دخل الفرد الأميركي حدود السبعة وثلاثين ألف دولار سنوياً في حين يبلغ مثيله لليهودي الأميركي خمسة وأربعون ألف دولار أميركي. مع ملاحظة إنكار أو كتمان عدد كبير من يهود أميركا ليهوديتهم.
ولعله من المنطقي بعد كل ذلك التأكيد على أن أية محاولة لإعادة ترتيب المصالح الأميركية، ووضعها في إطار استراتيجي، ستكون مضطرة لأن تأخذ هذه الأضرار اليهودية في حسبانها.
الفشل الأميركي في العراق
بعيداً عن الصوفية السياسية القائلة بهزيمة أميركية في العراق فإن فشلاً أميركياً ذريعاً يستمر في العراق. وهذا الفشل يتجلى في الوجوه التالية:
1- فشل الرهان الأميركي على المعارضة العراقية التي أثبتت بطلان فعاليتها.
2- فشل الولايات المتحدة في إخضاع بعض المناطق العراقية وإقرار الأمن فيه.
3- تسليم الحكم للعشائر ( الرئيس غازي الياور) ولبعثي سابق ( أياد علاوي) بما يشكل خطوة الى الوراء على طريق عراق ديمقراطي كان صدام يحكمه عبر حزب علماني.
4- الفشل الأميركي في دفع الأمم المتحدة لتشريع الوجود العسكري الأميركي في العراق.
5- إستمرار أطراف فاعلة في حلف الأطلسي (فرنسا والمانيا) وحول العالم بمعارضة السياسة الأميركية في العراق.
6- البداية المتعثرة لمشروع الشرق الأوسط الكبير من االبوابة العراقية.
7- الإضطرار للتكتم على تعداد الضحايا العراقيين والأميركيين. بما يؤكد تجاوز الأعداد للحدود المتوقعة والمقبولة.
والآن كيف لنا أن نتوجه في ظل هذه الفوضى الإستراتيجية المصطنعة وغير القابلة للتراجع؟. فالعرب قبل إحتلال العراق هم غيرهم بعد الإحتلال. وما يتبدى لنا من إشكاليات راهنة هو مجرد قمة جبل الجليد. مما يطرح ضرورة إتخاذ جملة خطوات حاسمة أهمها برأينا التالية:
1. الإصلاح بأيدينا: تجنباً للخضوع الى المشاريع الأميركية للإصلاح وتولية قادة المجتمع من نوع قرضاي على شعوبنا. مما يقتضي العمل على تأسيس المنظمة العربية للإصلاح وإلحاقها بالجامعة العربية.
2. إدخال التعديلات المناسبة على ميثاق الجامعة. والإستفادة من كل الفرص المتاحة لتطوير هذه الجامعة.
3. تعزيز ودعم قيام مؤسسات إقليمية جديدة تنطلق من الواقع الاستراتيجي الجديد للمنطقة. مثال ذلك تجمع دول الجوار العراقي في منظمة إقليمية جديدة تهدف للحد من أضرار فوضى إحتلال العراق على هذه الدول.
4. تشجيع المصالحات والحوار الداخلي في كل دول المنطقة.
5. التصنيف الحاسم للمعارضات العربية في فئتين رئيستين: فئة تقبل مصير العراق لبلدها وفئة ترفض هذا المصير.
6. التواصل مع المثقفين الأميركيين ومحاولة الإتصال الإعلامي مع الجمهور الأميركي في حملة تسويق إعلامي للرؤية الإقليمية لسياسات أميركا في المنطقة. بما فيها توضيح خصوصيات المنطقة ومخاطر أمركتها وخطورة أسلمتها وتهويدها.
7. هنا يجب استقطاب الاقليات المسيحية العربية الى خروجها من التصور الاميركي لمستقبل المنطقة. وعليه فانها يجب ان تتجنب الرهان على هذا التصور.
د. محمد أحمد النابلسي
رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية