المنظمات غير الحكومية وانعكاسها على الواقع الاقتصادي والاجتماعي – لبنان نموذجا

المنظمات غير الحكومية وانعكاسها على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

إعداد: العقيد الركن حسن جوني

ضابط مدّرب في كليّة فؤاد شهاب للقيادة والأركان

المقدمة

ثمة طفرة تجتاح دول العالم الثالث منذ النصف الثاني من الثمانينيات تتمثل في الحديث عن المؤسسات غير الحكومية أو ما يطلق عليها اختصارًا (NGOs). ويصاحب هذه الطفرة تدخلاً سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا يبرز في المحافل والمؤتمرات الدولية التي تعقدها من أجل مواجهة بعض المشاكل التي تواجه البشرية, باعتبار أن هذه المنظمات ممثلةٌ لحقوق الإنسان والشعوب ورقيبٌ على الحكومات في هذه الدول. ومن هذه المؤتمرات: قمة الأرض التي عقدت في كوبنهاغن, ومؤتمر المرأة في بكين, ومنتدى المنظمات الأهلية, بالإضافة إلى اجتماعات المجلس الاقتصادي-الاجتماعي في الأمم المتحدة.

إذا كانت هذه صورة المنظمات غير الحكومية في العالم اليوم, فما هي صورتها في لبنان؟ وما هي انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية؟ خصوصًا أنها تحتل موقعًا أساسيًا في المجتمع واضطلعت بدورٍ مؤثرٍ خلال مرحلتين أساسيتين في تاريخ لبنان, المرحلة الأولى كانت مطلع القرن التاسع عشر, مع إنتشار الإرساليات الأجنبية التي نشرت ثقافة الغرب ودعمت روابطه السياسية مع فئات اجتماعية في لبنان. والمرحلة الثانية كانت خلال الحرب الأهلية 1975-1990, عندما انهارت مؤسسات الدولة وقامت الجمعيات الأهلية بسد الفراغ من خلال دورها في تقديم الخدمات الاغاثية والصحية والاجتماعية.

تكمن أهمِّية البحث من كونه يقارب مسألةً بالغة الأهمية بالنسبة للمجتمع اللبناني, هذا المجتمع الذي لايزال يسعى لتحصين نفسه وتمتين أواصره بعد أن تمكنت الحرب الاهلية إلى حد بعيد من التأثير على وحدته وتماسكه, ذلك أن المنظمات غير الحكومية بدأت تتغلغل في مختلف شرائح هذا المجتمع تحمل معها بالإضافة إلى تقديماتها الإنسانية مفاهيم اجتماعية وأحيانًا سياسية جديدة تقضي الضرورة الوطنية بأن يسلط الضوء عليها.

يلقي هذا البحث الضوء على منظومةٍ ضخمة من المؤسسات والهيئات منها الوطنية ومنها التابعة لمؤسسات عالمية تعمل على الساحة اللبنانية في مختلف المناطق, في المدن والأرياف, حيث يصل تأثيرها إلى أبعد قرى على الحدود. هذه المنظومة غير منظورة بشكل واضح وكافٍ ولاسيما مسألة تمويلها وصرف هذا التمويل, وطريقة إعداد المشاريع الانمائية وتنفيذها وتكاملها مع حاجات المجتمع, والأهم من ذلك كله مدى التزام المنظمات غير الحكومية بمبدأ العطاء البريء وإشكالية هذا العطاء إذا كان مشروطًا أو مرتبطًا بالمصالح السياسية للجهات المانحة وذلك ما يطرح إشكالية التمويل وشروطه.

إن مقاربة المنظمات غير الحكومية ودورها وتأثيرها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان تستوجب البحث في تاريخ هذه المنظمات وظروف انطلاقها وبروزها كمؤسسات بديلة عن مؤسسات الدولة, كما تتطلب بحثًا دقيقًا في تأثيرها الاجتماعي والاقتصادي على ضوء وظيفتها وأدائها. كل ذلك يجب ان يأتي في معرض الإجابة عن التساؤلات الآتية:

أ- نشأة المنظمات غير الحكومية.

ب- طبيعة دور المنظمات غير الحكومية المحلية والعالمية.

ج- تأثير هذا الدور على الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

د- علاقة هذه المنظمات مع الدولة.

هـ- إشكالية تمويل هذه المنظمات واشكالية العطاء البريء.

الفصل الأول: المنظمات غير الحكومية, النشأة والدور

إن روح التعاون والمساعدة, وجدت منذ وجود البشرية, فالإنسان اجتماعي بالفطرة, والعمل الاجتماعي كان يتم عبر التاريخ في أشكال مختلفة, فردية أو جماعية, إلا أن دور المنظمات غير الحكومية أخذ يتبلور مع بروز دور الحكومات وتحديد مهامها, أي في البيئة الأوروبية الصناعية خلال القرن التاسع عشر, كما أن اندلاع الحروب وما ولدته من ويلات ومآس, كل ذلك شجع على تأسيس الجمعيات الطوعية وتأدية دور لا تمارسه الحكومات, كتنفيذ أعمال إنسانية بخاصةٍ في فترات الحروب, تهدف بشكل مباشر إلى تخفيف المآسي عن بني البشر.

لقد حكم هذا النوع من العمل في سياقه الزمني ثقافتان مختلفتان, الأولى تعتمد على الإغاثة والاحسان والثانية على التضامن والتعاون, وفي ظل التطورات السياسية المتلاحقة في العالم, أخذت روحية التضامن والإنماء تحل مكان العمل الاحساني.

إن تعاظم دور المنظمات غير الحكومية وازدياد نشاطها وحضورها على الصعيد العالمي جعلها تنال اعتراف منظمة الامم المتحدة كشريك أساس وفعّال في تقرير مصير البشرية ومستقبلها وفي الدفاع عن حقوق الإنسان وحمايته, حيث باتت هذه المنظمات تعتبر السلطة الثالثة في العالم بعد الحكومات والأحزاب السياسية.

لمحة تاريخية

يعود تاريخ المنظمات غير الحكومية إلى القرن التاسع عشر, حين تأسست في العام 1832 الجمعية البريطانية لمحاربة العبودية. وجاءت هذه المبادرة كنتيجة لانتشار الليبرالية وأفكارها, ولقد ترافق إنشاء هذه الجمعيات مع عمل الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية خصوصًا في أفريقيا وآسيا في المجالين الصحي والتربوي, ولاتزال المؤسسات ذات الطابع الديني تحتل مركزًا مهمًا ضمن عمل الجمعيات.

في العام 1943 أنشأت المنظمات غير الحكومية في الولايات المتحدة الاميركية اتحادًا لهذه الهيئات يدعى المجلس الأميركي للمؤسسات الأهلية للإغاثة ولقد قامت هذه الجمعيات في الأعوام الأولى بعد الحرب العالمية الثانية بنشاط كبير من أجل تأمين المساعدات للشعوب الاوروبية (توزيع أدوية, مواد غذائية, وألبسة….إلخ) بخاصة للاجئين والمهجرين. وتأسست في الفترة نفسها في المملكة المتحدة لجنة أوكسفورد لمكافحة المجاعة في العام 1942 من أجل مساعدة الشعب اليوناني الذي عانى من المجاعة خلال الاحتلال النازي, ولقد تحوّلت هذه اللجنة في ما بعد إلى إحدى أهم الجمعيات البريطانية وهي (أوكسفام).

قام بعد ذلك العديد من الهيئات غير الحكومية الطوعية التي أنشئت في أوروبا وأميركا, خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية, بتوجيه نشاطها نحو دول العالم الثالث (إما بإيعاز من دولها أو بشكل مستقل عنها) إذ أن الدول الصناعية كانت تستعمر معظم هذه البلدان قبل أن تنال استقلالها.

ماهية المنظمات غير الحكومية

تُعرف المنظمة على أنها مجموعة من الأفراد لهم هدف معيّن, يستخدمون طريقًا أو أكثر للوصول إليه. والمنظمة هي شخصية اعتبارية لها كيانها المستقل عن الأفراد المكوّنين لها, وتُدار بواسطة مجلس إدارة منتخب بواسطة الجمعية العامة للأعضاء.

تنقسم المنظمات الحكومية إلى منظمات حكومية وطنية, وهي تلك المؤسسات التي تنشئها الدولة, وتقوم على إدارتها ودعمها من أجل القيام بمهمات محددة, وإلى منظمات دولية حكومية, تنشئها الدول باتفاقية دولية في ما بينها, وأعضاؤها دول وتتمتّع بالشخصية القانونية الدولية وتشارك في وضع قواعد القانون الدولي فهي إما عالمية عامة كالأمم المتحدة, أو عالمية متخصّصة كمنظمة الصحة العالمية والزراعة والأغذية والأنيسكو وغيرها. وإما إقليمية عامة: كجامعة الدول العربية, والاتحاد الأوربي, ومنظمة الوحدة الأفريقية, ومنظمة المؤتمر الإسلامي, ومجلس التعاون الخليجي, أو إقليمية متخصصة كمنظمة الأوبك.

اما المنظمات غير الحكومية فهي مجموعات طوعية, لا تستهدف الربح, ينظّمها مواطنون على أساس محلي أو قطري أو دولي. عندما تكون عضوية المنظمة أو نشاطها مقصوران على بلد معين, تعتبر منظمة غير حكومية وطنية, أما إذا تجاوزت أنشطتها حدود البلد المعني, فتصبح منظمة غير حكومية دولية. ومن بين المنظمات غير الحكومية الدولية المعروفة “أطباء بلا حدود”, و”هيئة العفو الدولية”, و”منظمة رصد حقوق الإنسان”, و”أوكسفام” إلخ[1].

إن المنظمات غير الحكومية “تنظيمات للأفراد, وليست من أشخاص القانون الدولي, وإنما تخضع للقوانين الداخلية للدول, وهي تنشأ في ظل القانون الداخلي لدولة ما ويحكمها ذلك القانون في سلوكها وتصرّفاتها فيضفي عليها الشخصية القانونية الداخلية, وقد يتيح لها القانون الداخلي الانضمام إلى مثيلاتها في الدول الأخرى لتكوين اتحاد عالمي كاتحاد المحامين العرب أو اتحاد الأطباء العرب أو ما شابه, أو يضيق عليها الخناق إذا كانت لا تروق له كمنظمات حقوق الإنسان المحلية في بعض البلدان القمعية.

تضطلع المنظمات غير الحكومية بدورٍ بارزٍ في مؤتمرات الأمم المتحدة, وتعرض آراء الجهات التابعة لها بشأن مسائل تتراوح بين حقوق المرأة إلى الأمن الغذائي. وقد ساعدت هذه المنظمات على اعتماد اتفاقية العام 1997 لحظر الألغام الأرضية, وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية للعام 1998 للنظر في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وتعمل المنظمات غير الحكومية جنبًا إلى جنب مع الأمم المتحدة, لمساعدة الشعوب المحتاجة في أشد البلدان فقرًا.

وهناك من يرى أن بعض المنظمات مثل “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” لها طبيعة هجينة. فبصفتها جمعية خاصة تشكلت وفق القانون المدني السويسري, لم يكن وجودها نتيجة تفويض من حكومة. ومع ذلك فإن وظائفها وأنشطتها (توفير الحماية والمساعدة لضحايا النزاع) حدّدت بتكليف من المجموعة الدولية وهي مبنية على القانون الدولي وتحديدًا اتفاقية جنيف التي تعّد من أكثر المعاهدات تصديقًا في العالم.

وقد ابتكرت الأمم المتحدة مفهوم المنظمة غير الحكومية كمنظمة مستقلّة عن الدولة وتتوافر فيها المعايير الآتية[2].

1- هيكلية شبيهة بهيكلية منظمة تحظى بنظام تأسيسي وشكل قانوني.

2- مؤسسة على يد أفراد أو منظمات مستقلّون عن الدولة.

3- هيئات اتخاذ القرارات فيها مستقلّة عن سلطات الحكومة.

4- أهدافها موجّهة للمصلحة العامة لا للربح, وتتخطّى مصالح أعضائها.

إنّها إذًا منظمة تأسست بموجب مبادرة خاصّة بهدف تحقيق أهداف ذات مصلحة عامة. يمكن أن تحظى المنظمات غير الحكومية بأشكال قانونية متعدّدة غير أنّ معظمها تتّخذ شكل جمعيات أو مؤسسات لا تستهدف الربح.

نشأتها وأسباب تطورها

من الناحية التاريخية, يمكن إرجاع هذا الشكل من التضامن الدولي إلى القرون الوسطى, أي إلى الروابط التجارية القائمة آنذاك بين المدن الكبرى في ذلك العصر. وإن ما هو “خاص” قد سبق في أغلب الأحيان ما هو “عام” في ميدان النشاط الدولي. إن الجيل الأول من المنظمات غير الحكومية يتطابق مع أعمال البعثات التي نشأت في العصر الاستعماري, ولقد حقّقت البعثات الكاثوليكية والبروتستانتية في أفريقيا وآسيا عملاً أساسيًا في ميادين التعليم والصحة.

أما الجيل الثاني من المنظمات غير الحكومية, فقد نشأ انطلاقًا من العام 1960, نتيجةً لتأثير النزعة المتعاطفة مع العالم الثالث التي عزّزها النضال ضد الإستعمار والدفاع عن حقوق الإنسان. وظهر الجيل الثالث إنطلاقًا من ثمانينيات القرن العشرين, حيث كان حقل عملها دعم القطاع الزراعي والتدخّل في ميدان التنشئة والتربية والصحة. وتوسّعت أنشطتها حاليًا لتشمل ميادين الإقتصاد والبيئة والطوارئ[3].

إن الدول الراعية قد أظهرت محدودية فعاليتها في بلدان العالم الثالث وتراجعت عن إلتزاماتها واتسمت سياساتها بالتأجيل والإنتظار, وهما ميزتان تجاوزتهما التنظيمات غير الحكومية من حيث السرعة والمثالية في نشاطها مشكلةً هيئات وسيطة تخلَّصت من ماكينات الدولة الواسعة لتكون مباشرة في خدمة الأفراد. كما أن الديموقراطية الدولية القائمة على اللامركزية, قد تأسست على قاعدة مشاركة المواطنين كأفراد أو كجماعات في هذا المجتمع المدني.

وظائف المنظمات غير الحكومية على الصعيد الدولي

أ- الوظيفة الخدماتية

تلتقي جميع المنظمات غير الحكومية في مساعدة العالم الثالث حيث تساهم كل منظمة حسب وسائلها ومجال إختصاصها, وغالبًا ما تبدأ الأعمال في الأزمات (إنفجار عنيف – إعصار – هزة أرضية) لكنها تتواصل على المدى الطويل. وتغيَّر شكل المساعدة التقليدي الذي كان محصورًا في إمدادات القطاع الزراعي وميدان التنشئة والتربية والصحة, واتسع ليشمل ميدان العمل الحرفي وتحويل السلع الصناعية الصغيرة إلى تجارية, وميدان البيئة وتنظيم المدن والعمل المصرفي, وتمويل بعض المشاريع.

ب- الوظيفة المعيارية

تشارك المنظمات غير الحكومية أحيانًا بمسار صياغة الإتفاقيات الدولية التي تساعد في ما بعد على تطبيقها, فهي تضطلع بدور أساسي في إعداد معايير مخصصة لأنها تحكم العلاقات بين الدول في ميادين السيادة الوطنية. لا يقتصر دور هذه المنظمات على إعداد المعايير بل تختص أيضًا بالسهر على تطبيق هذا القانون. كذلك شاركت هذه المنظمات في المؤتمر الثالث للأمم المتحدة حول قانون البحار بوضع أحكام تتعلق بالمحافظة على البيئة البحرية وحمايتها.

ج- وظائف الإعلام

يقوم دور المنظمات غير الحكومية في هذا النموذج الوظيفي, على إثارة إهتمام الرأي العام بمشكلة التنمية حيث تأخذ على عاتقها مهمة تربوية تنفذها عبر تنظيم ندوات وتوزيع وثائق. وكذلك على كشف الأحداث السيئة في عملية التنمية, على سبيل المثال تقدم منظمة العفو الدولية في كل عام تقريرًا عن إنتهاكات حقوق الإنسان في بلد معيّن. وفضلًا عن ذلك فإن عملها يعزّز القانون الدولي المتعلق بحقوق الإنسان ويوطده بالإضافة إلى مسألة الهجرة والأسباب الكامنة وراءها.

د- وظيفة المحافظة على قِيَم معيّنة

تريد هذه المنظمات أن تكون ضامنة للمبادئ الديمقراطية والتضامن وحماية مصالح الأقليات ولا مركزية السلطات والتعددية, وتعتبر هذه المنظمات بمثابة إنبثاقٍ لحريتين أساسيتين وضامنتين للديمقراطية, حرية الإجتماع وحرية التعبير. إن إيديولوجيا حقوق الإنسان توحي بعمق عمل هذه المنظمات, فالحقوق المدنية والسياسية تتجلّى عبر عدة نقاط تطبيقية في النشاط اليومي للمنظمات غير الحكومية, مثل إحترام الهوية وتحسين شروط الحياة وحرية الرأي والتعبير, وكذلك حق الناس في الحياة والصحة والتغذية والتركيز على مفهوم الحق في التنمية.

تطوّر أهداف المنظمات الدولية غير الحكومية ومهماتها

يمكن تصنيف الأهداف التي تنشدها المنظمات غير الحكومية إلى نوعين رئيسيين من الأهداف, يكمن أولهما في العمل على تحقيق أغراض اقتصادية بالمفهوم الواسع في حين يكمن النوع الآخر من هذه الأهداف في الدفاع عن قضايا معينة وتقديم الخدمات والاستشارات والقيام بالبحوث والدراسات المطلوبة لجهات معينة.

وتتسع أهداف العمل من الفئة الأولى لتشمل تقديم الخدمات المختلفة إلى المحتاجين بما في ذلك الخدمات الصحية وتلبية الحاجات الخاصة للفقراء مثل توزيع الأغذية والملابس والأدوية في أوقات الكوارث والأزمات, إلى جانب القيام بأعمال إنمائية تركّز بصفة أساسية على الجماعات الفقيرة إلى جانب تقديم خدمات استشارية وبحوث ودراسات لحساب جهات معينة بما في ذلك تنفيذ مشاريع خاصة بها[4]. أما النوع الأخر من الأهداف التي تنشدها المنظمات غير الحكومية فيكمن في التصدي والدفاع عن قضايا البيئة والمرأة وحقوق الإنسان في أوقات السلم والحرب على حد سواء.

هكذا تطوّر دور هذه المنظمات غير الحكومية من مجرد إغاثة المحتاجين إلى دور إنمائي متقدّم ومتنوّع على أكثر من صعيد. هذا التطور في دور المنظمات غير الحكومية ساهم بتعزيز حضورها على المسرح الدولي ما أدّى إلى الاعتراف بها وبدورها.

الاعتراف الدولي بدور المنظمات غير الحكومية

نظراً لازدياد دور الهيئات غير الحكومية في العالم, في برامج الطوارئ والاغاثة والانماء, أقرّت معظم الدول الصناعية تشجيع الهيئات غير الحكومية وتطويرها, وسنت قوانين تعتبر دفع التبرعات والمساعدات للهيئات غير الحكومية بمثابة وأهمية تسديد الضرائب للدولة.

لقد نما هذا الدور بشكل كبير في السنوات الأخيرة, إذ يوجد في الدول الصناعية 4000 جمعية قدّمت في العام 1986 إلى بلدان العالم النامية 15% من مجموع المساعدة التي تقدّمها الدول الصناعية للانماء, وفي العام 1990 بلغت المساعدات التي تقدّمها الهيئات الطوعية 6,3 مليار دولار وأن الثلثين من هذا المبلغ قد جمعتها الهيئات الأهلية والثلث الباقي قدمته حكومات الدول الصناعية[5].

في ضوء هذا الدور, أقرّت الأمم المتحدة تشريع دور الهيئات غير الحكومية, واعترفت بها كشريك فعال إلى جانب الحكومات ومنظمات الأمم المتحدة. كما أن السوق الأوروبية المشتركة أنشأت إطارًا تنسيقيًا CEE\ONG مع الهيئات الأهلية, يسمح لحوالى 600 جمعية أوروبية بالتعاون في ما بينها ومع البرلمان الأوروبي.

برزت بعض المنظمات غير الحكومية عالميًا واكتسبت شهرةً واسعة وأضحت جزءًا أساسيًا من المنظومة الدولية المؤثرة إجتماعيًا واقتصاديًا على مختلف الدول التي تدخلت وعملت فيها وخصوصًا الدول النامية. لذا لابد من التوسع في القسم الثاني من البحث في واقع أهم هذه المنظمات في لبنان.

القسم الثاني: واقع المنظمات غير الحكومية في لبنان

تأتي أهمية المنظمات غير الحكومية الدولية من تاريخها ومدى انتشارها وأهمية دورها وتأثيرها على مجتمعات الدول التي تعمل فيها وفي مختلف الظروف والأوضاع. لذا سنقارب أهم هذه المنظمات وفق ما أجمعت عليه مراجع القانون الدولي العام ومراجع المنظمات الدولية المعتمدة في أغلب الجامعات مع الأخذ بالاعتبار تلك التي لها فروع عاملة ومؤثرة في لبنان. وفي تقديرات لباحثين في مجال الجمعيات الأهلية فإن عدد المنظمات الأجنبية العاملة في لبنان يصل اليوم إلى200 من أصل 1302 منظمة أي حوالى 15% من إجمالي عدد المنظمات غير الحكومية في لبنان[6].

في تعريف الحكومة اللبنانية فإن المنظمة غير الحكومية هي مجموعة أفراد يصبون معارفهم ومواردهم من أجل الخير العام من دون توخي الربح الشخصي[7]. وتخضع المنظمات اللبنانية غير الحكومية لقانون 1909 العثماني الخاص بالجمعيات, الذي كتب كجزءٍ من إصلاحات ليبرالية ذات إلهامٍ فرنسي في إطار منح حق تشكيل الجمعيات. ويعرِّف القانون الجمعيات بأنها مجموعةٌ مؤلفةٌ من عدة أفراد يوحّدون معلوماتهم وجهودهم بشكلٍ دائم ولا يكون هدفهم تقسيم الأرباح, فالقانون اللبناني ينص على أن في استطاعة أي مجموعة تضم أكثر من ثلاثة أشخاص, يعملون معًا في نشاطٍ معينٍ لا يتوخى الربح الشخصي, أن تتسجَّل كمنظمةٍ غير حكومية[8].

بدايات المنظمات غير الحكومية في لبنان

في ظل ظروف ضعف الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وتبعًا للتنوع الديني والطائفي في لبنان, سعت الدول الأوروبية إلى إيجاد موطىء قدم لها في المنطقة, فدخلت في علاقات تجارية مع المسيحيين في جبل لبنان وأوفدت قناصلها التجاريين الذين تحوّلوا إلى قناصل سياسيين, تطوّرت علاقاتهم بدخولهم في تناقضات التركيبة الطائفية والسياسية فانتشر نشاط الإرساليات التبشيرية الغربية وتنامى بدءًا من العام 1815, كما تم افتتاح أول مدرسة للعميان في الشرق الأوسط من قبل السيدة طومسون في العام 1868, وأنشئت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت كرد فعل لتنامي عمل الإرساليات التبشيرية الغربية ولتقديم خدمات إجتماعية وتربوية في البيئة الاسلامية.

تمكنت المؤسسات التبشيرية والإرساليات من خلال التعليم من خلق الكوادر المرتبطة ثقافيًا وسياسيًا بالدول الغربية. وقد أدت هذه الارساليات دورًا أساسيًا في الحياة السياسية في جبل لبنان خلال القرن التاسع عشر, وساهمت في رسم معالم الخريطة السياسية الطائفية للبنان الحديث خلال القرن العشرين.

تأثير الحرب الأهلية في لبنان على عمل المنظمات غير الحكومية

إن تدخل المؤسسات الأهلية خلال الحرب فرضته ظروف استثنائية وما نتج عنها من سقوط القتلى والجرحى, وأعمال التهجير, وفقدان المواد الغذائية, الأمر الذي تطلّب تدخّلا مباشرًا من القوى والاحزاب التي كانت تعمل على الأرض, بالإضافة إلى مبادرة اللجان الشعبية في الأحياء لتنظيم الصمود الشعبي ودعمه. إن تراجع مؤسسات الدولة عن القيام بدورها أحدث فراغًا في المجتمع, كان يفترض بالقوى الحزبية العمل على إشغاله, فاهتمت بالجوانب الخدماتية والصحية ذات الطابع الإغاثي, وبنت مؤسساتها الميدانية لتلبية هذه الحاجات الضرورية في المجتمع استكمالًا للمهمات العسكرية في الحرب.

لقد ولدت هذه المؤسسات نتيجة الفراغ ولتأمين متطلبات الصمود الشعبي في أثناء الحرب, وبذلك فهي لم تنطلق من توجهات فكرية معيّنة ترتبط بالعمل الأهلي, ولم يكن لديها خطط مستقبلية بناءً على تصوّرها المسبق للواقع, فتطوّرها جاء بفعل تطوّر الأزمة واشتداد حدة المعارك في ظل تدفّق المساعدات الأجنبية على لبنان. ما أدى إلى تنامي هذه المنظمات وازدياد عددها.

تَشْمل سجلاّتُ الدولة اللبنانية منظّماتٍ ذاتَ بنيات وأهداف مختلفة مثل أوكسفام, وجميعةِ الشبّان المسيحيين (YMCA), والمقاصد, وجهاد البناء, ومؤسّسة الحريري, وعددٍ وافرٍ من المنظّمات العائلية غير الحكومية كمؤسّسة الصفدي ومؤسّسة رينيه معوَّض, وروابط رجال الأعمال, والكشّافة[9]. فالوحدةُ المخصَّصةُ للمنظّمات غير الحكومية, التي تديرها وزارةُ الشؤون الاجتماعية في لبنان, تحتوي في سجلاّتها أكثرَ من 6000 منظّمة غير حكومية[10]. منها منظّماتٍ غير حكومية تأسّستْ حديثًا.

في ظل هذا العدد الضخم من المنظّمات غير الحكومية العاملة في لبنان[11]. سأتناول بعض هذه المنظمات الدولية والتي لها فروعًا عاملة في لبنان ومؤثّرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع اللبناني كنماذج على سبيل المثال لا الحصر, والبداية من الصليب الاحمر.

مكونات الحركة العالمية للصليب الأحمر والهلال الأحمر

أ- اللجنة الدولية للصليب الأحمر

تأسست في العام 1863 ومقرها جنيف, وهي منظّمة مستقلة تعمل بحياد تام وعدم تحيّز في حالات الاضطرابات والنزاعات المسلّحة إستنادًا إلى إتفاقيات جنيف والبروتوكولين الملحقين بها. الصليب الأحمر منظمة ليست سياسية ولا دينية وإنما منظّمة محايدة, لا تتدخّل في شؤون الحكومات. توظّف اللجنة الدولية للصليب الأحمر عناصر من مختلف التخصّصات والمهن, الذين يمكن أن تساهم خبراتهم في تحسين مستوى الخدمات الإنسانية.

ب- الإتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر

تأسس في العام 1919 ومقرّه جنيف, يتألف من الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر, مهمّته تنسيق المساعدات الدولية في أثناء الكوارث الطبيعية ودعم البرامج الإنسانية التي تقوم بها الجمعيات الوطنية وتنمية قدراتها وتعزيز التعاون وتبادل الخبرات والموارد في ما بينها.

ج- الجمعيات الوطنية

هي جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر المنتشرة في العالم بمعدّل جمعية واحدة (صليب أحمر أو هلال أحمر) في كل دولة مستقلّة, وهي تعمل كهيئات مساندة للسلطات العامة في بلدانها في المجال الانساني وتقدّم مجموعة من الخدمات الإنسانية تشمل الإغاثة في حالات الكوارث والبرامج الصحية والإجتماعية, وتساعد السكان المدنيين المتضرّرين وهي معترف بها كفريق مساند للخدمات الطبية العسكرية في بلدانها في أثناء فترة الحرب, والجمعية الوطنية في لبنان هي الصليب الأحمر اللبناني.

د- الصليب الأحمر اللبناني[12].

الصليب الأحمر اللبناني جمعية وطنية مستقلّة تأسست في العام 1945 بموجب علم وخبر رقم 1061. معترف بها ذات منفعة عامة منذ العام 1946, وكفريق مساعد للجهاز الطبي في الجيش اللبناني منذ العام 1946 أيضًا, اعترف بها رسميًا من اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف في العام 1947 وهي إحدى مكوّنات الحركة العالمية للصليب الأحمر والهلال الأحمر, وعضو في الإتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر, وعضو مؤسس في منظمة الأمانة العامة لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر العربية.

منظمة السلام الأخضر العالمية[13]

ولدت غرينبيس في العام ١٩٧١ عندما آمنت مجموعة صغيرة من المتطوّعين بالتغيير, فأبحروا برفقة بعض الصحفيين والناشطين من كندا إلى ألاسكا, ليكونوا شهود عيان على التجارب النووية التي تجريها الولايات المتحدة الأميركية هناك. غرينبيس منظمة دولية لا تبغي الربح, تعمل على تغيير الرأي العام والأنماط المعيشية نحو ممارسات تحافظ على البيئة وتنشر السلام. أهم اهدافها الدفع نحو إحداث ثورة في مجال إنتاج الطاقة واستثمارها وذلك من أجل مواجهة أكبر المخاطر المحدقة وهي تغيّر المناخ, كشف الأساليب المدمّرة وغير المستدامة لصيد الأسماك وعرقلتها, السعي لإنشاء شبكة من المحميات البحرية حفاظًا على المتوسّط وسائر البحار والمحيطات, الحفاظ على الغابات القديمة والدفاع عن النباتات والحيوانات.

لمنظمة غرينبيس مكاتب في أكثر من ٤٠ بلدًا في العالم أما المركز الرئيس فهو في أمستردام, هولندا. تجتمع هذه المكاتب حول المبادئ والأهداف والأفكار المشتركة على الرغم من تركيز كل مكتب على المشاكل والحلول المحلية المرتبطة بالإطار الذي يتواجد فيه. ويعود لكل مكتب مسؤولية إدارة شؤونه وحملاته وموظفيه. ومن أقدم الشعارات التي اتخذتها غرينبيس هي تلك الكلمات المأثورة المقتبسة عن الزعيم الهندي الأحمر سياتل, وهي “عند اقتلاع آخر شجرة وتسمّم آخر نهر ونفوق آخر سمكة, سنكتشف أننا لا نستطيع أن نأكل المال”.

منظمة السلام الأخضر في لبنان[14]

بدأ نشاط منظمة السلام الأخضر في لبنان في العام 1994 عندما اكتشفت براميل من النفايات السامة صُدّرت إلى لبنان من ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا. في العام 1996 فتحت مكتبًا رسميًا بهدف تقديم معلومات عن البيئة. منذ ذلك الوقت يرتكز عمل المنظّمة على موضوع التلوّث السام وينقسم هذا العمل إلى جزئين: أولا التلوّث الصناعي الصادر عن كل أنواع الصناعة, ثانيًا المكبات الساحلية ومعالجة النفايات وإدارة النفايات ومشكلة المحارق. مكتب لبنان, وهو الوحيد في المنطقة العربية, تابع لمكتب البحر المتوسط في مالطا.

تركز منظمة غرينبيس في لبنان على مواجهة موضوع حرق النفايات وتدعو إلى اعتماد استراتيجية وطنية لإدارة النفايات الصلبة تعتمد على الفرز وإعادة التدوير وتقليص النفايات وحظر الحرق بكل أنواعه. المشكلة الخطيرة التي عملت على حلّها منظمة السلام الأخضر هي استيراد النفايات السامة إلى لبنان, وتم إرجاع القسم الأكبر منها إلى ألمانيا وإيطاليا ومازالت حتى الآن تبحث عن بعض البراميل البلجيكية.

منظمة العفو الدولية[15]

تمثل منظمة العفو الدولية حركة تعمل على نطاق العالم بأسره وتنظِّم الحملات من أجل تعزيز حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا وحمايتها. وتعمل المنظمة من أجل تحسين حياة الأشخاص من خلال تنظيم الحملات والتضامن الدولي. تمارس المنظمة التأثير على الحكومات وعلى الهيئات السياسية والشركات والهيئات الحكومية الدولية, ويتبنى ناشطوها قضايا حقوق الإنسان فيحشدون الجمهور ليمارس الضغوط عن طريق المظاهرات, والاعتصامات, وكسب التأييد, وكذلك تنظيم الحملات على المواقع الإلكترونية.

تجري منظمة العفو الدولية أبحاثًا وتقوم بتحركات ترمي إلى منع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان, مطالبين بأن تحترم جميع الحكومات وغيرها من الكيانات القوية سيادة القانون. ومن أهم أهدافها وقف العنف ضد المرأة, الدفاع عن حقوق الذين وقعوا في براثن الفقر وكرامتهم, إلغاء عقوبة الإعدام, معارضة التعذيب ومحاربة الإرهاب بالعدالة, إطلاق سراح سجناء الرأي وحماية حقوق اللاجئين والمهاجرين.

بالإضافةً لما سبق ذكره فهناك مئات المنظمات غير الحكومية الدولية والتي لها فروع أو مكاتب عاملة في لبنان كما هناك آلاف المنظمات غير الحكومية اللبنانية, تعمل جميعها في إطار العمل الإغاثي والتنموي في مختلف المناطق اللبنانية وفي مجالات متنوّعة لها حكمًا أثرًا مهمًا على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في لبنان مع ما يرافق ذلك من إشكاليات مطروحة حول براءة عمل هذه المنظمات خصوصًاً بالنظر إلى كيفية حصولها على الأموال اللازمة وإشكالية التمويل وما يتبعه من شروط ومحاذير, وهذا ما سأقاربه في الفصل الثاني من البحث سعيًا لفهم هذه الإشكالية وبحثًا عن أجوبة لها.

الفصل الثَّاني

1- انعكاس دور المنظمات غير الحكومية على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

على الرغم من وجود نقص في المعلومات الدقيقة حول حجم المنظمات غير الحكومية اللبنانية ونطاقها, إلا أنه من الواضح أن لبنان يتمتع بأكثر المجتمعات المدنية فعالية ونشاطًا وأقلها قيودًا في الشرق الأوسط.

تنبع قوة قطاع المنظمات غير الحكومية اللبنانية من الدور الرئيس الذي اضطلعت به هذه المنظمات خلال الحرب الأهلية التي امتدت من العام 1975 لغاية العام 1990, حيث أدّت الدور الذي تتحمل مسؤوليته الدولة عادةً, مثل التعليم, والرعاية الصحية, والإغاثة في حالات الطوارىء. وقد استمر هذا الدور بعد انتهاء الحرب آخذًا أشكالًا أخرى في مجالات اجتماعية واقتصادية متنوّعة.

نتيجة تلك الظروف وذلك الواقع الاجتماعي والاقتصادي في لبنان, حيث غياب الدولة أو تغييبها, ونتائج الحرب الكارثية وعدم الاستقرار السياسي, كان للمنظمات غير الحكومية دورًا وتأثيرًا مهمين على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي نظرًا للمجالات الواسعة التي عملت فيها سواءً المنظمات غير الحكومية اللبنانية أو الأجنبية.

القسم الأول: إسهام المنظمات غير الحكومية في تحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

إن التحديات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان والتي تفاقمت كنتيجة طبيعية للحرب التي استمرت أكثر من خمسة عشر عام تشكّل أهم عوائق النهوض الاقتصادي الاجتماعي الذي تسعى لتحقيقه الحكومات المتعاقبة بعد الحرب. وتشمل هذه التحديات الدين العام الذي نتج عن إعادة إعمار البنى التحتية مع ما رافق ذلك من هدر وفساد, بالإضافة للبطالة المزمنة والفقر وضعف القطاعات المنتجة وانعدام الحماية الاجتماعية…إلخ.

إنَّ المقاربات الاقتصادية الريعيَّة والإدارة الضعيفة للخصخصة وسياسات التحرير الاقتصادي الشامل التي تعتمدها الحكومات مترافقة مع قدرات تشريعية ضعيفة حدَّت كلها من قدرة الدولة على الاستجابة لحاجات مختلف المواطنين وضروراتهم. كما أدَّى التاريخ الطويل من عدم الاستقرار السياسي والعنف, فضلاً عن الحروب المتتالية مع العدو الاسرائيلي إلى معوقات أخرى فُرِضَت على قدرات الدولة والمجتمع في إعادة النهوض في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.

بعد الحرب الاسرائيلية على لبنان في العام 2006 وما خلفته من دمار في البنى التحتية والمدن والقرى قدرت الخسائر التي سبّبتها بنحو 4 مليار دولار [16]. إنعقد مؤتمر باريس 3 (25 ك2/ يناير 2007), حيث بلغ إجمالي الهبات والقروض 3.612 مليار دولار, لكن الوضع الاقتصادي بقي سيئًا بسبب عدم الاستقرار وحجم الدين العام المترتب على لبنان والذي يبلغ 58 بليون دولار[17]. حتى نهاية ك2/ يناير 2013.

يوسِّع النزوع القوي للمركزية الهوة ما بين المدن والأرياف, ولاسيَّما لجهة التمتُّع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فقد شهدت عملية تطبيق اللامركزية السليمة والفعَّالة عرقلة بسبب غياب أو ضعف المجالس البلدية في تأدية أدوارها. كما يشكّل الفقر تحدِّيًا كبيرًا يواجه إحقاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في لبنان. فنحو 8% من الشعب اللبناني يعيشون في ظل ظروف الفقر المدقع. ويتضمَّن ذلك أنَّ حوالى 300000 نسمة عاجزون عن إشباع حاجاتهم الغذائية وغير الغذائية الأساسية. وبحسب “البنك الدولي” في ما يتصل بخط الفقر الأعلى, تبلغ نسبة الفقر 28,5%[18]..

أما الأكثر فقرًا بين الأسر فتلك التي ترعاها نساء, إذ تبلغ نسبتها 14,2% من أسر لبنان, في ما ثلث راعياتها من الأرامل, و60% منها مجرَّدة من أيِّ تغطية صحيَّة, كما يتبيَّن أنَّ 40% منها تتَّسم بدرجات إشباع متدنية جدًّا للحاجات, وأنَّ 50% تعيش بأقل من 400 دولار أميركي في الشهر[19].

يعاني لبنان من مستويات فساد مرتفعة بحسب التحذيرات التي أطلقتها منظّمات مكافحة الفساد العالمية وعلى الرغم من إقرار قانون مكافحة الفساد الذي لا يطبّق, بل إنَّ الفساد المُمَأسَس يؤدِّي إلى تقسيم مشوَّه للموارد وإلى احتكار يُمارَسُ في عدة أسواق.

المجلس الاقتصادي – الاجتماعي

أنشأت الحكومة اللبنانية في العام 1998, وبهدف إشراك المجتمع المدنيّ في الحوار الوطني, المجلس الاقتصادي-الاجتماعي الذي تتمّثل فيه عناصر مختلفة من المجتمع المدني لإعطاء مشورة للحكومة حول المسائل الاقتصادية والاجتماعية. وفي بداية العام 2000 تمّ تعيين 72 عضوًا للمجلس الذي يهدف إلى تحقيق إجماع حول الحلول اللازمة للمسائل المختلفة بهدف تكوين رؤية وطنية وتعزيز القدرات الوطنية. يمكن للمجلس أن يتناول المواضيع الإنتاجية والتنافسية والضمان الاجتماعيّ والإسكان والسياسة الصحية والنقل العام وغيرها.

مشاركة المنظمات غير الحكومية اللبنانية في إعادة الأعمار

على أثر الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في تموز/ يوليو 2006 ساهمت مؤسسة “جهاد البناء” وهي جهة أهلية غير حكومية إلى جانب الدولة بإعادة الإعمار في الضاحية, فأعادت بناء 182 مبنى دُمر تمامًا و192 مبنى دُمر جزئيًا وتم ترميم 4000 شقة سكنية, لمساعدة الناس في استعادة منازلهم, وقد استعانت بخبراء أجانب للمشاركة في ورشة العمل منهم عالم الاجتماع في الولايات المتحدة البروفسور سكوت بولينز, وآخر من المجلس الوطني الفرنسي للبحوث العلمية ايريك فيرديي[20].

كان للجمعيات الأهلية والأُسرية دورًا في إعادة بناء وترميم ما دمّرته الحرب الاسرائيلية على لبنان في العام 2006, حيث قامت بإعادة بناء بعض الجسور المدمرة ممَّا ساهم في تسريع ربط المناطق المعزولة وتسهيل حركة المواصلات وتنشيط الدورة الاقتصادية. ومنها, على سبيل المثال لا الحصر, رابطة فوزي جابر من النبطية التي أعادت بناء جسري حبوش والجرمق, وكذلك تبرّعت جمعية آل فرحات من بلدة عرب صاليم ببناء جسر الست زبيدة الذي يربط النبطية بإقليم التفاح, كما تعهّدت مؤسسة آمال حوراني من مرجعيون ببناء جسري الخردلي والتحرير.

مشاركة المنظمات غير الحكومية الاجنبية في إعادة الإعمار

ساهمت المنظمات غير الحكومية الأجنبية بشكل فاعل في دعم الاقتصاد اللبناني من خلال ما أخذته على عاتقها لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب والتخفيف من الأعباء التي كانت تواجه لبنان, منها “صندوق الشراكة الأميركية-اللبنانية” للمساعدة في جهود إعادة الإعمار الذي تديره مؤسسة “غلوبال إمباكت” وهي منظمة غير ربحية, ومؤسسة كهنة لياج في بلجيكا وهي مؤسسة خاصة بمساعدة لبنان والتي ساهمت بإعادة إعمار 11 قرية[21].

قام الهلال الأحمر الإيراني بإعادة تأهيل بعض الجسور والمستشفيات والكهرباء والتعاقد مع متعهدين لترميم 100 مدرسة[22]. كما قام الهلال الأحمر الإماراتي بتنفيذ مشاريع في الجنوب عقب الحرب الإسرائيلية الأخيرة, تهدف إلى تطوير شبكة المياه وتاهيل المدارس وبناء خزّاَنات وتركيب مضخّات مياه ومولّدات كهربائية. وقدّمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية دعمًا لإعادة ترميم البنى التحتية والمدارس والآثار ومساعدة المزارعين, إسوة بما قامت به منظمة “فرسان مالطا” و”البعثة البابوية”[23].

أرسلت مؤسسة “نيككو” اليابانية, وهي مؤسسة غير حكومية تهتم بالدول التي تصاب بالكوارث وتتطلّع إلى إيجاد عالم خالٍ من الفقر والصراعات, وفدًا منها إلى لبنان قام بتجهيز المدارس, وبلغت قيمة الهبة 130 ألف دولار. على أن يتم شراء التجهيزات من السوق اللبنانية لتشجيع الاقتصاد اللبناني وفق توجيهات الجمعية. كما قامت أكاديمية التطوير التربوي وهي مؤسسة أميركية غير حكومية بالمساهمة في إعادة البناء في لبنان وخصوصًا في حقل التعليم والتربية[24].

دور المنظمات ﻏﻴﺭ الحكومية في الزراعة

للمنظمات غير الحكومية دورًا بارزًا في قطاع الزراعة في المناطق الريفية في مجالات عديدة أهمها[25]:

أ- ﺘﺸﺠﻴﻊ ﺍﻟﺯﺭﺍﻋﺔ ﺍﻟﻌﻀﻭﻴﺔ ﻭﺘﺄﻁﻴﺭﻫﺎ ﻭﺘﺴﻭﻴﻘﻬﺎ.

ب- ﺍﻟﺘﺼﻨﻴﻊ ﺍﻟﺯﺭﺍﻋﻲ ﻭﺘﻁﻭﻴﺭﻩ ﺒﺸﻜل ﻴﺘﻨﺎﺴﺏ ﻤﻊ ﺍﻷﺴﻭﺍﻕ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ, ﻭﺘﻁﻭﻴﺭ ﺁﻟﻴﺔ ﻤﺭﺍﻗﺒﺔ ﺍﻟﺠـﻭﺩﺓ, ﻭﻴﺘﻡ ﺍﻟﺘﺭكيز ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﺘﺠﺎﺕ ﺍﻟﻠﺒﻨﺎﻨﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﺠﻭﺩﺓ ﻤﺜل ﺯﻴﺕ ﺍﻟﺯﻴﺘﻭﻥ.

ج- ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻑ ﺍﻟﺯﺭﺍﻋﻲ ﻤﻥ ﺨﻼل ﺍﻟﻘﺭﻭﺽ ﺍﻟﺼﻐﻴﺭﺓ ﻟﻠﻤﺯﺍﺭﻋﻴﻥ ﻭﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻨﻴﺎﺕ.

د- ﺒﺭﻨﺎﻤﺞ ﺩﻋﻡ ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﺍﻟﺭﻴﻔﻴﺔ ﻤﻥ ﺨﻼل ﺍﻟﺘﺼﻨﻴﻊ ﺍﻟﻐﺫﺍﺌﻲ ﻭﺘﻌﺎﻭﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﻭﻨﺔ.

هـ- ﻤﺸﺎﺭﻴﻊ ﺩﻋﻡ ﺍﻹﻨﺘﺎﺝ ﺍﻟﺤﻴﻭﺍﻨﻲ ﻤﻥ ﺨﻼل ﺘﻭﺯﻴﻊ الأبقار ﻭﺍﻟﻤـﺎﻋﺯ ﺍﻟﻤﺅﺼـﻠﺔ ﻭﺘـﺸﺠﻴﻊ ﺇﻨﺘـﺎﺝ ﺍﻟﻤﺯﺭﻭﻋﺎﺕ ﺍﻟﻌﻠﻔﻴﺔ.

و- ﺘﻭﺯﻴﻊ ﻤﻨﺢ ﻤﺎﻟﻴﺔ للمزارعين ﻹﻋﺎﺩﺓ ﺍﺴﺘﺌﻨﺎﻑ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻡ ﺍﻟﺯﺭﺍﻋﻴﺔ(ﻋﺒـﺭ ﺍﻟﻤﻨﻅﻤـﺔ ﺍﻷﻤﻴﺭكية ﻟﻺﻏﺎﺜﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺭﻕ ﺍﻷﺩﻨﻰ ANERA )

ز- بالاضافة إلى ﻤﺸﺎﺭﻴﻊ ﻭﻨﺸﺎﻁﺎﺕ ﻤﺩﻋﻭﻤﺔ ﻤﻥ ﺍﻻﺘﺤﺎﺩ ﺍﻷﻭﺭﻭﺒﻲ ﻤﺜل ﺍﻟﺒﺭﺍﻤﺞ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻨﻔﺫ ﻋﺒـﺭ ﺼـﻨﺩﻭﻕ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ ﻭﺍﻻﺠﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﻤﺠﻠﺱ الإنماء ﻭﺍﻹﻋﻤﺎﺭ, ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺒﺭﺍﻤﺞ تركّز ﻋﻠﻰ ﺨﻠﻕ ﺃﻁﺭ ﻤﺤﻠﻴﺔ ﻟﻠﻭﺼﻭل ﺇﻟﻰ ﺘﻨﻤﻴﺔ ﻤﺴﺘﺩﺍﻤﺔ, وهي مشاريع ﻤﺘﻌﺩّﺩﺓ ﻤﻥ ﺒﻨﻰ ﺘﺤﺘﻴﺔ ﺯﺭﺍﻋﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﺭﺸﺎﺩ ﻭﺍﻟﺘﻭﺠﻴﻪ, ﻭﺩﻋﻡ ﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﺯﺭﺍﻋﻴﺔ.

تنظيف الأراضي الزراعية من الألغام

تقوم المنظمات غير الحكومية بنزع الالغام وتدمير القنابل العنقودية التي خلّفها العدوان الإسرئيلي في الأراضي الزراعية في الجنوب بما يمكّن المزارعين من إعادة استغلالها زراعيًا وبيع منتجاتها وتحسين أوضاعهم الاقتصادية. وتم تنظيف أكثر من 6 ملايين متر مربع من الأراضي عبارة عن 3200 قطعة ارض أُعيدت إلى أصحابها, وتم تدمير نحو 17000 مخلّف حربي من الألغام والقنابل العنقودية والقذائف غير المنفجرة. وفي بداية العمل بلغ عدد الفرق العاملة 44 فريقًا من المنظمات غير الحكومية[26].

تأمين فرص العمل للشركات المحلية والافراد

تنوّعت مجالات أنشطة المنظمات غير الحكومية خلال السنوات الماضية, واختلفت المقاربات من خيري إلى خدماتي فتنموي, وارتفع حجم التمويل وتعددت الجهات المانحة ما فتح المجال أمام خلق فرص عمل جديدة وخصوصًا بالنسبة إلى الشباب أصحاب الكفاءات المتوسطة والعالية. من الصعب إحصاء عدد العاملين في هذه المنظمات[27], لأن نسبة قليلة منهم تعمل بعقود عمل مصرَّح عنها في الضمان الاجتماعي, وإن كان لديهم عقود فهم في كل الأحوال يعملون لفترات قصيرة الأمد (حسب مدة المشاريع).

إن سُوق العمل والشركات المحلية استفادت من عمل هذه المنظمات, فمثلاً مشروع “وعد” لإعادة الإعمار للمباني التي دمرتها إسرائيل في الضاحية الجنوبية في تموز/يوليو 2006 (266 مبنى), والتي انتهى إعمارها بعد حوالى 6 سنوات في أيار/مايو 2012, تعاقد مع 32 شركة مقاولات لبنانية وبلغ إجمالي عدد القوى العاملة في المشروع في فترة الذروة 3813 عاملاً[28], وإلى جانبهم عددًا كبيرًا من المهندسين ومشغلي المعدات.

دور المنظمات غير الحكومية في مجالات حقوق الانسان

تمارس المنظمات الدولية غير الحكومية دورًا مهمًا فى مجال حقوق الإنسان, حيث تقوم بمراقبة الانتهاكات الواقعة على حقوق الإنسان من خلال المداخلات التى تقوم بها لدى السلطة المعنية ولدى الرأى العام المحلى والدولي بهدف وضع حد لهذه الانتهاكات, فهي تقوم بدور المراقب على حقوق المجتمع وأفراده من تصرفات ظالمة, وهى تبذل كل جهدها فى الدفاع عن كل فرد فى المجتمع ليتمتّع بحقوقه المعترف بها. ولقد أضحت المنظمات الدولية غير الحكومية أكثر نفوذًا فى تعزيز حقوق الانسان وحمايتها وعلى نحو متزايد.

قد لا يكون للمنظمات الدولية غير الحكومية نفس التأثير على مختلف الدول في مجال حقوق الانسان لأن الأمر مرتبط بالنظام السياسي وثقافة المجتمع, لكن من المؤكّد أن لها تأثيرًا لا يستهان به في لبنان قياسًا إلى دول المنطقة, فالعديد من المنظمات الدولية والوطنية غير الحكومية تضطلع بدورٍ نشيط في تعزيز حقوق الإنسان في المجتمع اللبناني وحمايتها وأهمها على سبيل المثال لا الحصر الجمعية اللبنانية لحقوق الانسان التي تعنى بحقوق المرأة, حقوق الطفل, حق التعبير عن الرأي, معاملة السجناء, الحق في الحياة, وحق المشاركة في الشؤون العامة.

دور المنظمات غير الحكومية في إصدار التشريعات والحفاظ على البيئة

يبرز دور هذه المنظمات من خلال اقتراح المشاريع التي تقوم بها وزارة البيئة في مجال المحافظة على البيئة وإدارة الموارد الطبيعية, منها “التحالف المدني حول المناخ” الذي يضم 29 جمعية مثل جمعية “ابساد”, جمعية “الأرض _ لبنان” وغيرها. وبفضل جهود هذه الجمعيات أصدر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 10/1/2012 أربعة مشاريع قوانين هي: إنشاء نيابة عامة بيئية, المحميات الطبيعية, الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة, حماية نوعية الهواء[29].

دور المنظمات غير الحكومية الأجنبية في تطوير وإصلاح البلديات

يقوم مركز التطوير التشريعي في جامعة ولاية نيويورك منذ العام 1998 بتطبيق برنامج إصلاح إداري ومالي للبلديات في لبنان بهدف تدعيم العلاقات والاتصالات القائمة بين المواطنين والمراكز الحكومية المحلية وضمان مستوى أكبر من الشفافية في أطر العمل البلدي. وتم تنظيم عدة ورش عمل لتدريب الكوادر على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات شارك فيها ما يقارب 1150 عضوًا, كما تم تدريب 1200 عضوًا على إدارة المناهج الإدارية والمالية بالإضافة إلى تشكيل مواقع إنترنت خاصة بالبلديات[30].

تأثير عمل المنظمات غير الحكومية في المجتمع اللبناني

في مواجهة النتائج الكارثية لسنوات الحرب وفي ظل الشلل الذي أصاب مؤسسات القطاع العام, إستطاعت المنظمات غير الحكومية وبالتعاون مع ما تبقى من مؤسسات عاملة في الدولة, ومع منظمات الأمم المتحدة, والجمعيات الأجنبية الصديقة, من أن تضطلع بدورٍ أساسيٍ وتساهم في الحفاظ على وحدة المجتمع واستمراره. إن هذا الدور الطليعي في تلك الظروف الصعبة قد أدى إلى الآتي:

– نمو القدرات التي تتمتع بها المنظمات التي واكبت المحنة وانخرطت في برامج مواجهة نتائجها.

– تطوير مفاهيم العمل الاجتماعي وإمكان الفعل في ظروف صعبة.

– بروز روح الفريق والعمل الجماعي بمواجهة العقلية الفردية السائدة في لبنان بشكل خاص وفي دول العالم الثالث بشكل عام.

– التطوّع في سبيل خدمة الآخرين, إن العمل من أجل النجاح الفردي حق مشروع إلا أنه يتم أحيانًا على حساب الآخرين, بينما التفاني في سبيل خدمة الآخرين والقيام بالمهمات الخطيرة, يشكّل نقلة نوعية في العلاقات داخل المجتمع مبنية على العطاء في سبيل الغير, وأن النماذج العديدة الموجودة داخل معظم المنظّمات غير الحكومية تشكّل أولوية للمواطنية الصالحة والانصهار المجتمعي حيث الإيمان بالإنسان, بمعزل عن معتقده وانتمائه السياسي أو الديني أو الجغرافي.

نجحت هذه المنظمات في أعمالها بشكل لافت إستحوذ على إعجاب المجتمع اللبناني ورضاه بشكل عام وبخاصة في الأرياف والمناطق النائية, فكيف هي علاقة هذه المنظمات مع الدولة اللبنانية؟ وهل هي علاقة تكاملية أو تنافسية؟ في معرض البحث عن إجابة لهذا التساؤل جاء القسم الرابع من البحث ليطرح إشكالية علاقة المنظمات مع الدولة ويتطرّق إلى إشكالية تمويل هذه المنظمات وتأثير هذا التمويل على تلك العلاقة.

القسم الرابع: علاقة المنظمات غير الحكومية مع الدولة واشكالية التمويل

العلاقة مع حكومات الدول وإشكالية الثقة

إن العلاقة المتبادلة ما بين المنظمات غير الحكومية الأهلية منها والدولية وبين الحكومات في دول العالم الثالث أو الدول الضعيفة والصغرى بصفة عامة تختلف في طبيعتها وبدرجة واسعة عن تلك العلاقات المتبادلة بين هذه المنظمات ذاتها وبين حكومات الدول في العالم المتقدم بما فيها حكومات الدول القوية والدول الكبرى عمومًا. كما وتختلف العلاقات سالفة الذكر باختلاف طبيعة النظام السياسي الحاكم في أي دولة وموقفه من الديمقراطية. فالسمة الغالبة على العلاقات بين المنظمات غير الحكومية عمومًا وبين حكومات دول العالم الثالث والدول غير الديمقراطية عامة أن هذه العلاقات تقوم على أساس من الشك والريبة وعدم الثقة المتبادل.

بصفة عامة, فالملاحظ أن الديمقراطيات الغربية تسمح للمنظمات غير الحكومية بالوصول إلى أجهزة صنع القرار من خلال قنوات رسمية أو غير رسمية بما يتيح لهذه المنظمات أن تنتقد السياسات الحكومية أحيانًا وأن تطالب بإدخال تغييرات أو تقديم خدمات جديدة معينة, الحال على خلاف ذلك تمامًا في الدول ذات الحكم الشمولي أو الدول غير الديمقراطية والتي تضيق بعمل المنظمات غير الحكومية وتعتبرها منافسًا لها وتهديدًا لدورها بل وتنظر إليها قي بعض الأحيان على أنها عدو حقيقي أو محتمل.

ظروف تدخّل المنظمات غير الحكومية في الدول

إن اختلال التوازن على الصعيد العالمي يسمح للولايات المتحدة بإعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية في التسعينيات ومطلع الألف الثالث لمصلحتها من خلال سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تفرض على هذه الدول, وذلك عبر سلسلة إجراءات تؤدّي إلى تقليص سيطرة هذه الدول على اقتصادها. هذا بالإضافة إلى نقل أعباء أزمة الدول الرأسماليّة على عاتق البلدان النامية من خلال آليتين هما آلية التجارة الخارجية وآلية المديونية الأجنبية, ويقوم صندوق النقد الدولي بإدارة الآلية الثانية من خلال فرض سياسة انكماشية.

تتلخص السياسة الانكماشية بفرض شروط على الدول طالبة القروض تتمثل ببرنامج تقشف لتخفيض العجز الداخلي والخارجي وجعل سعر الصرف واقعيًا وذلك ما يسمى بتصحيح المسار الاقتصادي. وإلى جانب برنامج التقشف تفرض إصلاحات هيكلية ترمي للحد من تدخل الدولة في الاقتصاد واستبعاد كل أنواع الدعم.

في ظل هذه السياسات الاقتصادية الدولية فإن معدلات الفقر تزداد إرتفاعا, الأمر الذي يتطلب العمل على تخفيف آثارها السلبية بما ينسجم مع السياسة العامة التي تؤكّد على كف يد الدولة عن التدخّلات الاجتماعية, ويقترح في هذا السياق دور المنظمات غير الحكومية لتساهم في التخفيف من هذه المشكلات من خلال تدخلها المدعوم ماديًا ومعنويًا من مثيلاتها في الدول الرأسمالية الغربية. هذا إلى جانب التركيز على قضايا أخرى ترتبط بتوجهات سياسية وإيديولوجية نابعة من مصالح الدول الرأسمالية بما يطرح أسئلة كثيرة حول هذا العطاء البريء.

إشكالية العطاء البريء

تنشط الدول الرأسمالية من أجل إبراز دور المنظمات غير الحكومية خارج فضاء الدولة وتحدّد لها المهمات المتمثلة في حقوق الإنسان والمرأة والبيئة والفقر من خلال تقديم المساعدات واستثمارها في مشاريع داخل المجتمعات المحلية تخفّف من آثار غياب الدولة, بما يؤدّي إلى طرح المنظمات الأهلية من خلال هذه المساعدات وهذا الدور بمثابة ممثّل للشعوب وبديل عن الأحزاب السياسية فيها. في ظل هذه الأوضاع تطرح التساؤلات حول إمكان تدخل الدول الكبرى من خلال المنظمات المانحة وتأثيرها على المنظمات الأهلية والمحلية غير الحكومية تحت عناوين مختلفة خدمةً لأهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

تترافق مع ذلك ظاهرة جديدة وهي توجّه المنظمات المانحة للعمل ضمن برنامج إقليمي يتم فرضه على المنظمات الأهلية كشرط من شروط دعمها. لذلك فإن المواضيع التي يتم التركيز عليها قد لا تكون بالضرورة ضمن الأولويات والاحتياجات الوطنية, فالمؤسسة المانحة تضع على جدول أعمالها قضايا معيّنة تسعى إلى إبرازها, والتي قد تكون في أسوء الأحوال تعبيرًا عن توجهات الدول التي تتبع إليها المنظمات, وفي أحسن الأحوال تعبيرًا عن مزاج الفئات السياسة التي تمثّلها.

يمكن هنا رصد عدد من الأهداف التي تسعى المنظمات المانحة إلى تحقيقها من خلال المنظمات غير الحكومية وهي كما حددتها الباحثة شهيدة الباز في دراستها عن الجمعيات الأهلية العربية[31].

التسريع بتحويل اقتصاديات الدول النامية إلى نظام السوق وتنمية قيم اقتصاد السوق وثقافته.

– العمل على تنمية اللامركزية في محاولة للتخفيف من الدور المركزي للدولة كجزء من عملية التحوّل من الاقتصاد القائم على التخطيط وتدخل الدولة إلى اقتصاد السوق.

– العمل على تنمية مؤسسات المجتمع المدني, وبخاصة تلك التي تتبنّى الفكر الليبرالي وتدافع عن قضايا الديمقراطية الغربية وحقوق الانسان.

– التركيز على المشروعات التي يمكن تقييمها تقويما كميَّا ذات نتائج سريعة.

– ممارسة بعض الجهات المانحة أسلوبًا يتسم بالوصاية على المنظمات التي تتم إعانتها.

– تشير هذه السمات والأهداف التي تسعى المنظمات المانحة لفرضها إلى العلاقة غير المتكافئة مع المنظمات الأهلية المحلية وإلى إعاقتها عن بلورة دور وطني يعبّر عن المصالح الفعلية والاحتياجات التنموية للمجتمع اللبناني والتي يفترض بالمنظمات الأهلية تلبيتها.

إشكالية حجم ودور التمويل الدولي للمنظمات غير الحكومية في لبنان.

من المسلم به أن التمويل يشكّل بالنسبة إلى المنظمات غير الحكومية بنوعيها عصب أي نشاط وبدونه لا يتسنى لها غير إعداد البحوث والدراسات الميدانية. إن قضية التمويل تعدّ من أهم المشكلات التي تواجه هذه المنظمات سواء في شقها السلبي أي قلة مصادر التمويل وضآلته أو حتى في شقها الإيجابي أي تعدّد مصادر التمويل مع ارتباط البعض منها بالشروط السياسية.

يمكن القول بأن قضية التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية دولية كانت أو غير دولية تثير العديد من القضايا والتساؤلات مثل قضية الاستقلال الذاتي للمنظمة ومدى قدرتها على إعداد مشروعاتها وبرامجها والقيام بأنشطتها بشكل مستقل عن الجهات المانحة, وإلى أي مدى يمكن بناء الشراكة مع الهيئات المانحة, وهل يمثّل تزايد تدفّق التمويل الأجنبي عاملاً إيجابيًا أو سلبيًا في تطوّر عمل هذه المنظمات؟ إن محاولة الإجابة على هذه الأسئلة تلامس جوهر إشكالية هذا البحث التي تتمحور حول براءة هذه المنظمات غير الحكومية بين نقاء عطائها من جهة وشبهة التبعية والاستغلال لإدراك أهداف أبعد من ذلك تقع في عمق السياسة والمصالح الخاصة من جهة أخرى.

الحديث عن التمويل لابد وأن يتطرّق إلى مصادره الرئيسة الثلاث وهي:

1- المصادر الذاتية والتبرعات

وهي مصادر تعتمد على اشتراكات الأعضاء وعلى تسويق الخدمات التي تقدّمها المنظمات وفي هذا المجال فإن اشتراكات الأعضاء لا يمكن التعويل عليها وخصوصًا لدى الجمعيات التي تعمل على نطاق جغرافي ضيق لأنها تشكّل نسبة ضئيلة جدًا من الموازنات. أما المنظمات التي تعمل على نطاق جغرافي واسع وتستفيد من نشاطها مجموعات كبيرة فتنقسم إلى قسمين:

أ- القسم الأول ويضم الجمعيات الخيرية الإحسانية-الدينية, التي تقوم بتنفيذ مشاريع مثل رعاية المسنين والمعوقين والأيتام وتهتم بالتعليم الطائفي بالإضافة إلى الأنشطة الدينية, وتعتمد في جزء كبير من تمويلها على الهبات التي تحصل عليها من فاعلي الخير والمحسنين, هذا إلى جانب التبرعات والهبات التي تأتيها من متمولين من دول أخرى.

ب- القسم الثاني ويضم الجمعيات ذات الطابع اللاطائفي التي تتعامل مع قضايا إجتماعية كالتنمية والبيئة ومحو الأمية وحقوق الإنسان…الخ. تواجه هذه الجمعيات مشكلة في قدرتها على تأمين التمويل من المصادر المحلية لأنشطتها لأن السمة الرئيسة للوعي الاجتماعي السائد مازالت ذات طابع خيري-إنساني, والمتبرّعون ينطلقون إجمالاً من دوافع دينية فجمع تبرعات لبناء مسجد أسهل بكثير من جمع تبرّعات لبناء مدرسة أو شق قناة ري أو طريق زراعي…الخ.

ج- لذلك فإن قدرة هذا النوع من الجمعيات اللاطائفية على تأمين مصادر تمويل محلية مازالت ضعيفة جدًا مما يدفعها للبحث عن مصادر أخرى لتمويل أنشطتها وخصوصًا لدى المنظّمات الدولية المانحة, إلا أنها تصطدم باختلاف الأولويات فتعيش في ظل أزمة مالية تعيق حركتها. أما المنظمات التي تتبنّى أولويات المنظمات المانحة ولاسيما قضايا اللاعنف وحقوق الإنسان والديمقراطية, فإن إمكانات التمويل المشروطة للانشطة ذات الطابع السياسي متوافرة ولا تعاني من أزمات.

المصادر الحكومية

تساهم الحكومة ومن خلال وزارة الشؤون الاجتماعية بجزء من تمويل أنشطة المنظّمات غير الحكومية, فقد بلغت القيمة الاقتصادية للقطاع الأهلي في لبنان حوالى 100 مليون دولار ساهمت فيها الحكومة بحوالى 11%[32].

المصادر الأجنبية

أ- يعتبر لبنان من أول البلدان العربية التي نشطت فيها مؤسسات تمويلية أجنبية ويعود ذلك إلى عدد من المميزات التي تتوافر فيه وأهمها: موقعه الاستراتيجي بين الداخل العربي والخارج الأوروبي, قلة عدد سكانه مما يجعل الاستثمار فيه قابل للظهور أكثر من البلدان التي تشهد كثافة سكانية هائلة وتتطلّب إمكانات ضخمة, وجود ارتباط تاريخي لبعض الطوائف اللبنانية مع الغرب سياسيًا وثقافيًا, هذا بالإضافة إلى وقوعه في منطقة صراع أساس مع الكيان الصهيوني.

ب- إنطلاقا من هذه الدوافع ساهمت المنظّمات المانحة في دعم الانشطة الرعائية وتمويلها خلال عقود طويلة. وخلال الحرب ازداد عدد هذه المنظمات التي ساهمت في تمويل الأنشطة الإغاثية واضطلعت بدورٍ محوريٍ في دعم بنية القطاع الأهلي وتقوية أجهزته. ويقدّر حجم هذا الدعم من إجمالي تقديمات القطاع الأهلي بنسبة 52%[33].

تثار في لبنان إشكالية حجم التمويل الدولي للمنظمات غير الحكومية ودوره بشكل لافت أحيانًا ذلك أن تحديد قيمة مصادر التمويل غير ممكنة لأن هذه المنظمات لا تصرّح عن مصادرها المالية لعدم وجود أي قانون يفرض عليها الإعلان عن مصادرها المالية وقيمتها.

لقد حمل هذا التمويل إنعكاسات إيجابية وسلبية على المنظمات غير الحكومية في الوقت ذاته, فمن الناحية الإيجابية نجد أن الدعم ساعد القطاع الأهلي على تحمل مسؤولية أساسية في قدرة المجتمع على الاستمرارية وعدم حصول كوارث إجتماعية وصحية وغذائية على الرغم من انهيار مؤسسات الدولة خلال الحرب الأهلية أما من الناحية السلبية فإن الإغراق المالي وعدم المساءلة عن أوجه الصرف ساهم وبخطوات متسارعة في تحوّل هذه المنظمات من العمل التطوّعي إلى العمل المؤسسي المأجور.

إن أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى الاستغناء عن التطوّع والاعتماد على العمل المأجور تمثل بحجم الدعم المالي الذي حصلت عليه المنظمات غير الحكومية من المؤسسات الدولية المانحة, مما وفّر لها إمكان استخدام موظفين متفرّغين لتأدية العمل بشكل مستمر, وهذا ما أدّى تدريجيًا إلى فك الروابط بين القطاع الأهلي من جهة والمجتمع المحلي من جهة أخرى.

إن إشكالية تمويل المنظمات غير الحكومية تثير الكثير من الأسئلة حول علاقة هذه المنظمات مع الدول المانحة وشروط هذا التمويل التي تملى على هذه المنظمات على قاعدة القول المأثور “من جاد ساد” أي من يجود بالمال يكون سيدًا على من يجود عليه. إن ذلك لا يلغي مبدأ العطاء البريء والمساعدات الإنسانية المنطلقة من النوايا الحسنة والتي ستبقى إحدى سمات الحياة لأنها ترتبط بالبعد الإنساني للبشر.

الخلاصة العامة

تبلورت منذ القرن التاسع عشر فكرة تأسيس منظمات غير ربحية تعنى بمساعدة المحتاجين من الأفراد والشعوب في الدول الفقيرة وبخاصةٍ في ظروف الأزمات والحروب. هكذا كانت بدايات ظهور المنظمات غير الحكومية الدولية منها والاقليمية والمحلية التي برزت وتطوّر دورها بشكل واسع وبات لها تأثيرًا مهمًا على المجتمعات والدول التي تعمل فيها, وباتت تشكّل أحد أهم أشكال العلاقات الدولية الحديثة وآلياتها. من المسلم به أنه كلما كان دور هذه المنظمات فاعلاً في إحدى الدول كان ذلك يأتي ومن دون شك على حساب سيادة هذه الدولة سواءً في الإطار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.

ينسحب هذا الحال أيضًا على لبنان الذي عانى طويلًا من ويلات الحروب الأهلية من جهة ومن الاعتداءات الاسرائيلية من جهة اخرى, فشكّلت هذه العوامل مناخًا ملائمًا لدخول المنظمات غير الحكومية الأجنبية بشكل واسع وولادة منظمات غير حكومية محلية, اجتماعية, عائلية وحتى مذهبية, كان لها تأثيرًا سلبيًا على وحدة المجتمع اللبناني وتماسكه في فترةٍ دقيقة من تاريخ لبنان.

مما لا شك فيه أن لهذه المنظمات غير الحكومية فضلاً كبيرًا في إعادة إعمار لبنان وتنشيط الدورة الاقتصادية فيه مما أثّر إيجابًا على واقعه الاقتصادي على الرغم مما يعانيه من أزمة كبيرة. لكن في المقابل يمكن تسجيل بعض التداعيات السلبية على الواقع الاجتماعي نتيجة تغلغل هذه المنظمات غير الحكومية في مختلف شرائح المجتمع وما نتج عن ذلك من تجاذبات ساهمت بزيادة الشرخ بين هذه الشرائح, كون هذه المنظمات مرتبطة بالدول المانحة التي تموّلها والتي تضع شروطًا أو تفرض التزامات قد تقع خارج المصلحة الوطنية اللبنانية.

إن انعكاس دور المنظمات غير الحكومية على الواقع الاجتماعي في لبنان يحتم تنظيم عمل هذه المنظمات ووضع إطار عام يضبط مهامها ويضمن بقاء تقديماتها ضمن إطار المصلحة الوطنية, ويؤمن تكامل مشاريعها وخدماتها مع احتياجات المجتمع اللبناني. ولا يمكن القيام بذلك إلا من خلال إشراف أجهزة الدولة على مختلف أنشطة المنظمات غير الحكومية بدءًا من جهازها البشري وصولاً إلى مختلف أنشطتها ومشاريعها مرورًا بمراحل تمويلها وخلفيات هذا التمويل ووجهة صرفه.

تقدّمت لغة المصالح على جميع القيم الأخرى في المفاهيم الحديثة للعلاقات الدولية في القرن الواحد والعشرين, مما جعل من هذه المنظمات غير الحكومية إحدى أبواب التدخّل في حياة الشعوب في الدول النامية التي يجبرها عوزُها على فتح أبوابها لهذه المنظمات مع ما قد تحمّله من مآرب سياسية واقتصادية واجتماعية وأهدافها, يصل تأثيرها السلبي على الواقع الاجتماعي إلى حدود بعيدة جدًا, مثل تغيير مفاهيم المجتمع وتقاليده وثقافاته بما يتناسب مع مصالح الدول المانحة ويحقّق هيمنتها عليها جيلًا بعد جيل.

الخاتمة

إن مقاربة موضوع المنظمات غير الحكومية والبحث في دورها وانعكاسه على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان هي مسألة دقيقة وحساسة, كونها تبحث في مسألة التقديمات والعطاء بين حدّ البعد الانساني الصّرف وحدّ البعد السياسي الذي تدخل فيه المصالح الخاصة.

إن مستوى معالجة هذه الإشكالية البحثية يبقى ناقصًا على الرغم من الجهود المبذولة في سياق إعداد هذا البحث وذلك بسبب الضبابية والغموض اللذين يرافقان النوايا الحقيقية لبعض هذه المنظمات غير الحكومية منذ بروز فكرة تأسيسها مرورًا بارتباطاتها الخارجية وصولاً إلى أسرار تمويلها, بالإضافة إلى ذلك كثرة هذه المنظمات في العالم وفي لبنان خصوصًا وارتفاع عددها بشكل لافت ومثير.

بناءً عليه سيبقى مستوى مقاربة هذه المشكلة ناقصًا ومحتاجًا إلى مقاربات عديدة من جوانب أخرى (ربما من قبل العاملين فيها أو القيمين عليها) ليصار إلى اكتمال الصورة, كما أن الإحاطة الشاملة بهذه المشكلة تتطلّب رصدًا دقيقًا للتحوّلات التي يشهدها المجتمع اللبناني, حيث يصار أحيانًا إلى تشكيل وعيٍ جديد وثقافةٍ جديدة في بعض شرائح هذا المجتمع نتيجة سلوك ممنهج لبعض هذه المنظمات ولاسيما في الإطار الثقافي والديني.

ولكن البحث لم يغط بشكلٍ كافٍ مسألة العولمة وتأثيرها على عمل المنظمات غير الحكومية ومدى تقبل المجتمعات لهذه المنظمات في ظل مناخات العولمة المؤاتية في عالمٍ بات يشبه قريةً واحدة كبيرة.

[1]- جميل عودة, “المنظمات الحكومية وغير الحكومية”, متوافر على الموقع:

http://shrsc.com/articles/187.htm, الدخول: 24-06-2013.

[2]- دليل عملي للمنظمات غير الحكومية متوافر على الموقع:

ttp://www.mandint.org/ar/guide-ngos.الدخول:20-05-2013.

[3]- (1) أرنولد دو رولان, “المنظمات غير الحكومية في المجتمع الدولي”, تعريب نقولا متيني وجورج سعد, الطبعة الأولى, دار النجوى, بيروت, 2008, ص 10.

[4]- زينب عبد العظيم, “الدور المتغير للمنظمات غير الحكومية في ظل العولمة”, جامعة القاهرة, مركز الدراسات الاسيوية, ٢٠٠٢, ص 50-51.

[5]- خليل حسين, “التنظيم الدولي- النظرية العامة والمنظمات العالمية”, ط 1 , لبنان, 2010, ص ص 519- 557.

[6]- عبدالله محي الدين, “الجمعيات الأهلية في لبنان”, مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق, ط 1, لبنان, 2000, ص 5.

[7]- غسان مخيبر, “الجمعيات في لبنان: دراسة قانونية””, بيروت: وزارة الشؤون الاجتماعية 2002.

[8]- يبين الملحق – أ- آلية أخذ العلم و الخبر في وزارة الداخلية اللبنانية.

[9]- حنان طوقان, “من حالمين إلى موظَّفين المنظّمات المدنيةُ غير الحكومية والمموِّلون وعمليةُ التغيير في لبنان”, 10-11-2008, متوافر على الموقع:

http://adabmag.com/taxonomy/term/63 الدخول: 06-07-2013

[10]- المرجع السابق.

[11]- يبين الملحق – ب – لائحة بأهم المنظمات غير الحكومية العاملة في لبنان.

[12]- موقع الصليب الاحمر اللبناني, متوافر على الموقع

http://www.redcross.org.lb/SubPageAr.aspx?pageid=489&PID=488 , الدخول:10-06-2013 .

[13]- موقع منظمة السلام الاخضر العالمية,

ttp://www.greenpeace.org/arabic/about, تاريخ الدخول 10-06-2013 .

[14]- موقع منظمة السلام الاخضر في

ttp://ar.qantara.de/,الدخول: 20-06-2013.

[15]- موقع منظمة العفو الدولية,

http://www.amnesty.org/ar/who-we-are/about-amnesty-international , الدخول: 10-6-2013.

[16]- نعمة جمعة, “الجمعية اللبنانية لحقوق الانسان”, تقرير نهائي عن حرب تموز على لبنان, متوافر على الموقع

www.ssnp.net/content/view/11400/106/, الدخول: 14/6/2013.

[17]- جريدة الحياة, متوافر على الموقع :

http://alhayat.com/Details/502545.,الدخول:20-06-2013.

[18]- المراجعة الشاملة للحقوق الاقتصادية, متوافر على الموقع:

www.annd.org, الدخول: 30-6-2013.

[19]- المرجع السابق.

[20]- رلى معوض, جريدة النهار, 12 تموز, 2012.

[21]- جريدة النهار, 25 أيلول/سبتمبر 2006.

[22]- جريدة المستقبل, 28 أيلول/سبتمبر 2006.

[23]- جريدة السفير, 30 أيلول/سبتمبر 2006.

[24]- بيار عطالله, جريدة النهار, 22 آذار/مارس 2007

[25]- جريدة النهار, 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2006.

[26]- متوافر على الموقع:

http://www.hanawey.org , الدخول: 15-6-2013.

[27]- شؤون لبنانية, جريدة المستقبل, الاثنين 20 نيسان/أبريل 2009, العدد 1630, ص 4.

[28]- اقتصاد, جريدة الاخبار, الثلاثاء 10 تموز/يوليو 2012, العدد 1753.

[29]- زينب ياغي, جريدة السفير, 14/ 7/2012, العدد 12232.

[30]- بوابة لبنان للتنمية والمعرفة, متوافر على الموقع:

www.lkdg.org/ar/node/6940 ,الدخول: 6/6/2013.

[31]- مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي, “Gender profile in Municipal Election in Lebanon”, الطبعة الأولى, مؤسسة فريدريش إيبرت, بيروت, 2006, ص 3.

[32]- شهيدة الباز, “الحق في تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية”, متوافر على الموقع:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=132367, الدخول: 30-07-2013.

[33]- عبدالله محي الدين, مرجع سبق ذكره, ص 20.

Nongovernmental Organizations and their impact on the economic and social situation in Lebanon

An outburst has been overrunning third world countries since the second half of the eighties and it is represented by the talk related to Nongovernmental organizations or more concisely NGOs. This outburst has been associated with a political, social and economic intervention that has surfaced in International conventions and assemblies which are held to face some of the problems confronted by humanity taking into consideration that these organizations represent human rights and the rights of peoples and operate as a watchdog monitoring the governments of these countries.

This research paper sheds light on a large system of organizations and associations, some of which are local, others are affiliated to International institutions operating throughout the Lebanese arena, in both urban and rural areas with an impact stretching to the most remote border villages.

Approaching Nongovernmental organizations, their role and impact over the economic and social situation in Lebanon has necessitated a wide search in the history of these organizations, the circumstances of their emergence as a substitute to State institutions. This also requires a thorough search in the economic and social impact of these organizations in light of their performance and function. All of this comes in the course of answering the following issues:

A – The emergence of Nongovernmental Organizations

B – The role of local and International Nongovernmental Organizations

C – The impact of this role over the economic and social situation

D – The relation of these organizations with the State

H – The problematic of funding these organizations and the problematic of “innocent donations”

Les organisations non gouvernementales et leur réflexion sur la situation économique et sociale au Liban

Un bond envahit les pays du tiers monde depuis la deuxième moitié des années 80, et qui consiste dans le fait de parler des organisations non gouvernementales dont l’abréviation est ONG. Ce bond est accompagné par une intervention politique, économique et sociale et paraît dans les conférences internationales tenues en vue de confronter les problèmes dont l’humanité témoigne, vu que ces organisations représentent les droits de l’homme et des peuples et sont qualifiées comme l’œil qui observe les gouvernements de ces pays.

Cette recherche met l’accent sur un grand nombre d’organisations et de comités dont certaines sont nationales, d’autres sont affiliées à des institutions internationales opérantes sur la scène libanaise dans différentes régions soient-elles urbaines ou rurales et possèdent une influence qui s’étend aux villages frontaliers.

L’approche des organisations non gouvernementales ainsi que leur rôle et leurs effets sur la situation économique et sociale au Liban nous poussent à étudier l’histoire de ces organisations, les circonstances de leur apparition comme étant des organisations venues remplacer les institutions de l’Etat. Il est même évident d’étudier de près leurs effets sociaux et économiques à la lumière de leur fonction et leur performance. Tout cela doit s’inscrire dans le cadre des réponses aux questions suivantes:

L’émergence des organisations non gouvernementales

La nature du rôle des organisations non gouvernementales locales et internationales

L’effet de ce rôle sur la situation économique et sociale

La relation de ces organisations avec l’Etat

La problématique du financement de ces organisations et la problématique des « donations innocentes ».​

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button