دراسات سياسية

صعود وسقوط الهيمنة الأمريكية من ويلسون إلى ترامب

جوزيف ناي، مجلة الشؤون الدولية، يناير 2019

إعداد وترجمة: جلال خَشِّيبْ، باحث مشارك أول بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية

يتتّبع ناي في هذه الدراسة طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد الرئيس ويلسون وخروج الولايات المتحدة من عزلتها الدولية أواخر الحرب العالمية الأولى إلى حقبة ترامب الحالية، محاولاً التركيز على الدور الذّي لعبته شخصية الرئيس وتصوّراته في تحديد التوجّه العام لهذه السياسة وكيف أثّر هذا التوجّه إيجاباً أو سلباً على مكانة الهيمنة الأمريكية العالمية. يُحاجج الباحث هنا بأنّ شخصيتيْ الرئيسيْن ويلسون وروزفلت (مطلع القرن العشرين) بوجهتيْ نظرهما المختلفتيْن بخصوص السياسة العالمية كان لهما أكثر التأثير على مسار السياسة الخارجية الأمريكية منذ ذلك الوقت، وكلّ من جاء بعدهما كان نسخةً مقلّدةً أو مُشوّهةً لإحدى وجهتيْ النظر هذه. لقد كان كلّ منهما أخلاقيا، يؤمن بالمهمّة الخاصّة للولايات المتحدة والإستثناء الأمريكي، إلاّ أنّ ويلسون كان مثاليا (ليبراليا)، أمّا روزفيلت فكان واقعيا. تبنّى ويلسون، على سبيل المثال، مسألة حقوق الإنسان العالمية، ولم يتردّد في التدخّل في المكسيك والكاريبي لترويج الديمقراطية، كما كان ينظر إلى النظام الدولي على أُسسٍ ليبرالية، محاولاً صياغة سياسة خارجية أخلاقية جعلته يرفض آلية الأحلاف وتوازن القوة ويُفضّل آلية المنظمات والأمن الجماعي، كان من الآباء الأوائل للقوة الناعمة الأمريكية، فضلاً أنّ تدخّله في الحرب العالمية الأولى كان بهدف إحلال السلام الدائم من دون أن تنتهي الحرب بإنتصار أحد الأطراف، لقد أراد بإختصار أن يجعل السياسة العالمية أكثر أخلاقية. أمّا روزفيلت فكان واقعياً يؤمن بأنّ الولايات المتحدة بإمكانها إنقاذ البشرية، لكن عبر دمج القوة بالغايات الكبرى، منتقداً ويلسون لمثاليته العاجزة وعدم إدراكه لأهميّة توزان القوة والأحلاف في خدمة المصالح الأمريكية، مع ذلك فقد كان متأثّرا به، وإتضّح ذلك في النظام الدولي اللبيرالي الذّي ساهم في هندسته بعد الحرب العالمية الثانية وجمع فيه بين الليبرالية الويلسونية (مؤسّسسات إقتصادية ومالية كالبنك الدولي) وتوازن القوة الواقعي (حلف الناتو ونسج الأحلاف). يتسائل الكاتب بعدها عن مصير المكانة الأمريكية والنظام الليبرالي الدولي بعد مائة سنة من العهد الويلسوني، فكلاهما يعرف تراجعا واضحا لاسيما في حقبة ترامب الذّي يراه مجرّد عَرَضٍ لا سبباً جوهرياً لهذا التراجع، إذ يُمثّل ترامب “لحظة معاداة الويلسونية” في تاريخ الولايات المتحدة، على حدّ تعبير ناي، مع مقته للمؤسسات الدولية متعدّدة الأطراف ومناهضته للعولمة والديمقراطية بشكل أضعف القوة الناعمة الأمريكية. لقد كان للويلسونية، كما يُحاجج ناي، فرصةَ إنبعاثٍ أخرى قويّة في السياسة الخارجية الأمريكية مع لحظة الأحادية القطبية سنة 1990، إلاّ أنّها إنحرفت وصارت نزعة إمبريالية خطرة على القيم الليبرالية التّي شجعتها، وقد بلغ هذا الخطر ذروته مع بوش الإبن والمحافظين الجدد أو “الويلسونيون الجدد” كما يُسميّهم آخرون، إذ بالغ هؤلاء في تعزيز فكرة السلام الديمقراطية وتغيير الأنظمة لإرساء الديمقراطية بإستخدام القوة العسكرية وإستغلال مبدأ مسؤولية الحماية كما بدا ذلك أثناء غزوهم للعراق سنة 2003. وفي سعيه لتحديد وضع الهيمنة الأمريكية في المستقبل المنظور، يُناقش ناي أيضا مسألة صعود الصين وقوى أخرى وأثرها على وضع الهيمنة هذا، مُحاججاً بأنّ الصين لن تتمكّن من تعويض الولايات المتحدة على رأس النظام الدولي لأسباب كثيرة مرتبطةً أساسا بالتفوّق الأمريكي العسكري والإقتصادي والجيوبوليتيكي على الصين، سوف تظلّ الصين متأخرّةً عن الولايات المتحدة كثيرا وفق معيار نصيب الدخل الفردي من الناتج حتّى وإن تجاوزت بيجين واشنطن من حيث الحجم الكلّي للإقتصاد، كما يُشكلّ الإنفاق العسكري الأمريكي أربعة أضعاف نظيره الصيني، أمّا عن مؤشّر القوة الناعمة فالولايات المتحدة مُصنّفة من الدول الثلاث الأولى، بينما تحتّل الصين المرتبة 26، إضافة إلى ذلك، فإنّ الصين تُعدّ مستفيداً أولاًّ من النظام الدولي الليبرالي الذّي بنته الولايات المتحدة، لذا فليس من المرجح أن تتجّه إلى تقويضه. بخصوص روسيا فهي تعاني إنحداراً ديمغرافياً حادّا، وإعتماداً ثقيلاً على صادرات الطاقة يمنعها من التحوّل إلى قوة منافسة على غرار الصين، كما تبقى الولايات المتحدة، في نظره، لاعباً حاسماً في ميزان القوة الآسيوي، سوف تُبقي اليابان، الهند، أستراليا وبقية الدول تُوازنُ القوة الصينية. أخيراً، يتخوّف ناي من التهديد القادم من الداخل لوضع الهيمنة الأمريكية أكثر من التهديد القادم من الخارج، ويعني بذلك صعود القومية والشعبوية داخل الولايات المتحدة على حساب القيم الليبرالية والديمقراطية، وتنامي الإستقطاب السياسي والميل الدوغمائي في السياسة الخارجية. بالرغم من كلّ ما سبق، يرى ناي بأنّ إرث ويلسون في تطوير المؤسّسات الدولية والقيم الأخلاقية الليبرالية يبقى إرثاً ذا معنى وأهميّة اليوم، وعلى الولايات المتحدة أن تتجّه نحو تعزيز مهمّة القيادة العالمية لا الهيمنة الإمبريالية، مستعينةً بهذا الإرث. غير ذلك، ستبقى الويلسونية الآن معلّقة ومستقبل النظام الدولي الليبرالي الذّي قادته واشنطن منذ سنة 1945 يشوبه الشكّ والريبة.


إعداد وترجمة: جلال خشِّيب، البوصلة الجيوبوليتكية، مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية، المجلّد الأول، العدد التاسع، 28 فبراير 2020، إسطنبول-تركيا (حقوق النشر: مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية 2020، جميع الحقوق محفوظة)

The English brief:
رابط الملخّص باللغة الإنجليزية:
http://www.geopoliticalcompass.com/…/the-rise-and-fall-of-…/

The 13. issue of the Geopolitical Compass (English version) is available as pdf on CIGA Website

النسخة العربية للعدد الثالث عشر من البوصلة الجيوبوليتيكية سيكون متاحا على الموقع قريبا.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى