دراسات اقتصادية

النظريات الاقتصادية

يعتبر النُّمو الاقتصادي من الأهداف الأساسية التي تسعى خلفها الحكومات، وتتطلع إليها الشعوب؛ وذلك لكونه يمثل الخلاصة المادية للجهود الاقتصادية وغير الاقتصادية المبذولة في المجتمع؛ إذ يعد أحد الشروط الضرورية لتحسين المستوى المعيشي للمجتمعات، كما يعد مؤشرًا من مؤشرات رخائها، ويرتبط النُّمو الاقتصادي بمجموعة من العوامل الجوهرية في المجتمع تُعَد بمثابة المناخ الملائم لتطوره؛ كعامل توفر المؤسسات ذات الكفاءة العالية، الحكم الراشد، المشاركة المجتمعية، البحث العلمي، الصحة والتعليم.. وبالتالي صارت عملية تحقيق مستوى نمو لا بأس به مرتبطةً عضويًّا بتوفر هذا المناخ المؤثر… تحاول هذه الورقة البحثية أن تقدم باختصار تصورًا عامًّا عن مفهوم النُّمو الاقتصادي، خصائصه، عناصره، مؤشراته، وكذا أبرز النظريات التي كُتبت في سبيله تحقيقًا لغاياته الكبرى بفاعلية في نظم المجتمعات.

خطة الموضوع:

مقدمة:

بين النُّمو والتنمية.

مفهوم النُّمو الاقتصادي.

مفهوم التنمية الاقتصادية.

مفهوم التقدم والتطور الاقتصادي.

مفهوم الانطلاق الاقتصادي.

سمات النُّمو الاقتصادي.

التنمية بين التغيير والتحديث.

عناصر النُّمو الاقتصادي وفوائده.

مقاييس النُّمو الاقتصادي.

نظريات النُّمو في الفكر الاقتصادي.

1 – النُّمو الاقتصادي عند الكلاسيك.

2 – النظرية النيوكلاسيكية في النُّمو.

3 – النُّمو الاقتصادي في النظرية الكينزية.

4 – النُّمو الاقتصادي في النظرية الماركسية.

5 – النُّمو الاقتصادي في النظرية الحديثة.

6 – نظرية جوزيف شومبيتر في النُّمو الاقتصادي.

7 – نظرية مراحل النُّمو عند والت روستو.

8 – نموذج هارولد ودومار.

9 – نظرية التحولات الهيكلية لآرثر لويس.

10 – نموذج نادي روما (النظرية التقليدية المنقحة للنمو الاقتصادي).

11 – نظرية ثورة التبعية الدولية.

12 – نظرية النُّمو المتوازن وغير المتوازن.

خاتمة.

 

أولا- مفاهيم أساسية:

تعريف النظرية: هي مجموعة مترابطة من المفاهيم والتعريفات والقضايا التي تكون رؤية منظمة للظواهر، عن طريق تحديدها للعلاقات بين المتغيرات بهدف تفسير الظواهر والتنبؤ بها.

وتكتسي النظرية أهمية كلما كانت قابلة للتطبيق وتميزت بالوضوح والبساطة، وتزداد النظرية شهرة كلما اتسمت بالشمول والقدرة على استيعاب ظواهر متعددة وفهمها وتفسيرها.

والنظرية تفيدنا كثيرا في عملية البحث، حيث أنها توجه البحث نحو مجالات مثمرة، كما أنها تضفي على نتائج البحث دلالة ومغزى، إذ أنها تمكن الباحث من القدرة على الفهم والربط بين المعطيات التي يتوصل إليها، وتمكنه من القدرة على التفسير في إطار اشمل  وأكثر وضوحا.

وتتمثل الوظيفة الأساسية للنظرية في إيجاد تفسير مستند إلى أدلة موضوعية، مما يعطي معنى للوقائع والبيانات، من خلال اكتشاف المنطق الذي يحكمها، ويتم ذلك من خلال عملية الاستنباط على أساس النظرية وبعد التحقق التجريبي من صحة النتائج المستنبطة.

وفي مجال العلوم الاجتماعية نجد أن النظرية نسبية في تفسيرها أي لا تتفق في وضع تفسير موحد للمواضيع الاجتماعية.

بين النُّمو والتنمية

تعتبر التنمية والنُّمو الاقتصادي من المفاهيم الشائعة في علم الاقتصاد؛ إذ تعتبر الهدف الرئيسي لأغلب النظريات الاقتصادية وأكثر المواضيع التي تهم إدارة الحكومات التي تهتم بتطوير بلادها وازدهار شعبها، ولكن يجب الانتباه إلى وجود فرق بين النُّمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية.

فالنُّمو الاقتصادي يعني – في الغالب – حدوث زيادة في متوسط الدخل الفردي الحقيقي مع مرور الزمن، الذي يعبر عن الدخل الكلي مقسومًا على عدد السكان؛ فزيادة الدخل الكلي لا تعني بالضرورة زيادة في النُّمو الاقتصادي؛ إذ إن علاقة التناسب القائمة بين الدخل الكلي والسكان يجب أن تؤخَذَ بعين الاعتبار؛ وذلك لتأثير نمو السكان على النُّمو الاقتصادي لدولة ما.

كما يلاحظ أن النُّمو الاقتصادي لا يطلق عليه حُكم الزيادة إلا إذا تحقق فيه شرط الاستمرار، (كأن نستثني مثلاً إعانة حكومية ما مقدمة لدولة فقيرة من حسابات النُّمو)، ففي تلك المدة يكون هناك زيادة في الدخل الكلي، ولكنها مؤقتة.

إذًا فمفهوم النُّمو الاقتصادي يركز على التغيير في الكم الذي يحصل عليه الفرد من السلع والخدمات في المتوسط، دون أن يهتم بهيكل توزيع الدخل الحقيقي بين الأفراد، أو بنوعية السلع والخدمات المقدمة.

وعلى نقيض منه، تركز التنمية الاقتصادية على حدوث تغيير هيكلي في توزيع الدخل والإنتاج، وتهتم بنوعية السلع والخدمات المقدمة للأفراد؛ أي: إنها لا ترتكز على الكم فقط، بل تتعداه إلى النوع، وبصفة عامة تعرف التنمية بأنها العملية التي تسمح أو يتم من خلالها زيادة في الإنتاج والخدمات، وزيادة في متوسط الدخل الحقيقي مصحوبًا بتحسين الظروف المعيشية للطبقات الفقيرة.

بالنسبة للنمو الاقتصادي، فقد تطرقت إليه النظريات التالية: نظرية النُّمو الكلاسيكية، نظرية النُّمو النيوكلاسيكية، نظرية النُّمو الكينيزية، نظرية النُّمو الجديدة (الداخلية).

أما التنمية الاقتصادية، فقد تطرقت إليها النظريات التالية: نظرية الدفعة القوية، نظرية النُّمو المتوازن، نظرية النُّمو غير المتوازن، نظرية أنماط النُّمو، نظرية التغيير الهيكلي وأنماط التنمية، نظرية مراحل النُّمو، نظرية التبعية الدولية.

مفهوم النُّمو الاقتصادي

يعتبر مفهوم النُّمو الاقتصادي مفهومًا كميًّا يعبِّر عن زيادة الإنتاج في المدى الطويل، ويعرف النُّمو الاقتصادي بأنه: “الزيادة المحققة على المدى الطويل لإنتاج البلد”، كما يمكننا الإشارة إلى مفهوم التوسع الاقتصادي، الذي هو الزيادة الظرفية للإنتاج، وبالتالي نستطيع القول: إن النُّمو الاقتصادي هو عبارة عن محطة لتوسع الاقتصاد المتتالي، وبما أن النُّمو يعبر عن الزيادة الحاصلة في الإنتاج، فإنه يأخذ بعين الاعتبار نصيب الفرد من الناتج؛ أي: معدل نمو الدخل الفردي، وَفْقًا لما سبق فإن النُّمو الاقتصادي يتجلى في:

 – زيادة الناتج الوطني الحقيقي بين فترتين.

 – ارتفاع معدل الدخل الفردي.

كما يمكن للنمو أن يكون مصاحبًا لتقدم اقتصادي إذا كان نمو الناتج الوطني أكبر من معدل نمو السكان، أو أن يكون غير مصاحب بتقدم اقتصادي إذا كان معدل نمو الناتج الوطني مساويًا لمعدل نمو السكان، بينما إذا كان معدل نمو السكان أرفعَ من معدل نمو الناتج الوطني فإن النُّمو حينئذ يكون مصحوبًا بتراجع اقتصادي[1].

ويعتبر النُّمو الاقتصادي شرطًا ضروريًّا، ولكنه غير كافٍ لرفع مستوى حياة الأفراد المادية؛ فالشرط الآخر هو طريقة توزيع الزيادة المحققة على الأفراد، التي تعد موضوعًا شائكًا مرتبطًا بطبيعة النظم الاقتصادية والسياسية في كل دولة.

من جانب آخر يعرف سيمون كازنت – الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1971 – النُّمو الاقتصادي بأنه: “ارتفاع طويل الأجل في إمكانيات عرض بضائع اقتصادية متنوعة بشكل متزايد للسكان، وتستند هذه الإمكانيات المتنامية إلى التقنية المتقدمة والتكيف المؤسسي والأيديولوجي المطلوب لها”.

من هذا التعريف نلاحظ مجموعة من السمات، منها:

 – التركيز على النُّمو طويل الأجل، وبالتالي على النُّمو المستدام وليس العابر.

 – دور التقانة المركزية في النُّمو طويل الأجل.

 – ضرورة وجود تكيف مؤسسي وأيديولوجي، مما يظهر أهمية النظام المؤسساتي في عملية النُّمو.

المهم في هذا التعريف أنه يقلص الفجوة بين النُّمو الاقتصادي كفعل تلقائي، وبين التنمية الاقتصادية كفعل إرادي؛ فالنُّمو الاقتصادي المستدام هو نتيجة لسياسات ومؤسسات وتغييرات هيكلية وعلمية، وبالتالي ليس مجرد عملية تلقائية كما كان سائدًا في الأدبيات الكلاسيكية[2].

أما جون ريفوار فيعرفه بأنه: “التحول التدريجي للاقتصاد عن طريق الزيادة في الإنتاج أو الرفاهية، بحيث الوضعية التي يصل إليها الاقتصاد هي في اتجاه واحد نحو الزيادة لهذه الأخيرة، وبصفة أدق يمكن تعريف النُّمو بالزيادة في إجمالي الدخل الداخلي للبلد مع كل ما يحققه من زيادة في نصيب الفرد من الدخل الحقيقي[3].

أما الاقتصادي الأمريكي كوزينتس فيعتبره إحداث أثر زيادات مستمرة في إنتاج الثروات المادية، ويعتبر الاستثمار في رأس المال المادي والبشري – فضلاً عن التقدم التقني وكفاءة النظم الاقتصادية – هو المصادر الأساسية للنمو الاقتصادي؛ فرأس المال المادي والبشري يؤثر بشكل إيجابي على إنتاجية العامل وتنمية القوى العاملة من حيث التدريب والتأهيل إلى الحد الذي يزيد من نسبة القوى الفاعلة اقتصاديًّا، أما التقدم التقني فهو يعني استخدام أساليب تقنية جديدة من خلال الاختراع أو الابتكار، فضلاً عن عنصر المخاطرة في المنشآت الإنتاجية، أما النظم الاقتصادية فتظهر كفاءتها من خلال نقل الموارد إلى المجالات التي تحقق اقتصاديات الحجم والوضع الأمثل للإنتاج[4].

مفهوم التنمية الاقتصادية

إذا كان النُّمو يمثل التحسن الكمي لمجمل الاقتصاد بما في ذلك الموارد والنُّمو الديمغرافي وإنتاجية العمل، وهذا النُّمو يقتضي سلسلة من التغيرات في الهيكل الاقتصادي حتى نضمن استمراره – فإن التنمية الاقتصادية تعرف بأنها “سلسلة من التغيرات والتأقلمات التي بدونها يتوقف النُّمو”، كما تعرف أيضًا بأنها: “مجموع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المرافقة للنمو”.

ويمكن تعريف التنمية بأنها: “مجموع السياسات التي يتخذها مجتمع معين، وتؤدي إلى زيادة معدلات النُّمو الاقتصادي استنادًا إلى قواه الذاتية، لضمان تواصل هذا النُّمو واتِّزانه لتلبية حاجيات أفراد المجتمع، وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية”[5].

فالتنمية بالمفهوم الواسع هي رفع مستدام للمجتمع ككل، وللنظام الاجتماعي نحو حياة إنسانية أفضل، كما عرفت أيضًا بأنها: “تقدم المجتمع عن طريق استنباط أساليب جديدة أفضل، ورفع مستويات الإنتاج من خلال إنماء المهارات والطاقات البشرية، وخَلْق تنظيمات أفضل”.

ويوضح مفهوم التنمية التغيرات التي تحدث في المجتمع بأبعاده الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الفكرية والتنظيمية، من أجل توفير الحياة الكريمة لجميع أفراد المجتمع[6].

ويرى بونيه “أن النُّمو الاقتصادي ليس سوى عملية توسع اقتصادي تلقائي، تتم في ظل تنظيمات اجتماعية ثابتة ومحددة، وتقاس بحجم التغيرات الكمية الحادثة، في حين أن التنمية الاقتصادية تفترض تطويرًا فعالاً وواعيًا؛ أي: إجراء تغييرات في التنظيمات الاجتماعية للدولة”.

أما الدكتور محمد زكي الشافعي فيرى أن “النُّمو يراد به مجرد الزيادة في دخل الفرد الحقيقي، أما التنمية فالراجح تعريفها بأنها تتحصل في الدخول في مرحلة النُّمو الاقتصادي السريع، بعبارة أخرى: تحقيق زيادة سريعة تراكمية ودائمة في الدخل الفردي الحقيقي عبر فترة ممتدة من الزمن، وبما أن أي شيء ينمو لا بد له من أن يتغير، فإن التنمية لا تتحقق دون تغير جذري في البنيان الاقتصادي والاجتماعي، ومن هنا كانت عناصر التنمية هي التغير البياني، الدفعة القوية والإستراتيجية الملائمة.

من هذه التعريفات يتضح لنا أن مفهوم التنمية أكثر شمولاً من مفهوم النُّمو الاقتصادي؛ حيث إن التنمية الاقتصادية تتضمن – بالإضافة إلى زيادة الناتج وزيادة عناصر الإنتاج وكفاءتها – إجراء تغييرات في هيكل الناتج، الأمر الذي يتطلب إعادة توزيع عناصر الإنتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية، ومنه نستطيع القول: إن التنمية هي عبارة عن نمو مصاحب بالسعي إلى:

 – إحداث تغيير هيكلي في هيكل الناتج مع ما يقتضيه ذلك من إعادة توزيع عناصر الإنتاج بين القطاعات.

 – ضمان الحياة الكريمة للأفراد.

 – ضمان استمرارية هذا النُّمو من خلال ضمان استمرار تدفُّق الفائض الاقتصادي، أو المتبقي بعد حاجات الأفراد، والموجه للاستثمار[7].

جدول يوضح الفرق بين النُّمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية[8]

 النُّمو الاقتصادي التنمية الاقتصادية
ü               يتم بدون اتخاذ أية قرارات من شأنها إحداث تغيير هيكلي للمجتمع.

ü               يركز على التغيير في الحجم أو الكم الذي يحصل عليه الفرد من السلع والخدمات.

ü               لا يهتم بشكل توزيع الدخل الحقيقي الكلي بين الأفراد.

ü               لا يهمه مصدر زيادة الدخل القومي.

ü               عملية مقصودة (مخططة) تهدف إلى تغيير البنيان الهيكلي للمجتمع لتوفير حياة أفضل لأفراده.

ü               تهتم بنوعية السلع والخدمات نفسها.

ü               تهتم بزيادة متوسط الدخل الفردي الحقيقي، خاصة بالنسبة للطبقة الفقيرة.

ü               تهتم بمصدر زيادة الدخل القومي وبتنويعه.

مفهوم التقدم والتطور الاقتصادي

إن قياس النُّمو الاقتصادي ما هو إلا قياس كلي لزيادة السلع والخدمات المنتجة في فترة معينة مقارنة بالخبرة السابقة، أما التقدم الاقتصادي فهو الزيادة بين فترة وأخرى لمتوسط الناتج الحقيقي، متوسط الدخل الحقيقي، ومتوسط الاستهلاك الحقيقي للسكان.

ويعرف R,Barre التقدم بأنه: “نمو الموارد المتاحة بنسبة تفوق نمو السكان”، ويعبر التقدم الاقتصادي عن “مجموع التحسينات في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، المرافقة للنمو”[9].

أما التطور فلُغَةً يعني الحركة إلى الأمام، وفي المجال الاقتصادي يعني تقدمًا اقتصاديًّا ما نحو أهداف محددة مسبقًا، إما كمية؛ كزيادة المنتج، أو نوعية؛ كتوزيعٍ أفضلَ للمداخيل داخل الدولة؛ فالتطور إذًا يدل على التغيير والحركة، وغالبًا ما يستعمل للدلالة على الحالة الاقتصادية لبلد ما أو لقطاع ما، فنقول مثلاً: التطور الاقتصادي أو التطور الصناعي لبلد ما خلال فترة معينة، وهو ليس مرادفًا للنمو؛ إذ إنه يمكن أن يكون هناك تطور في المجال الصناعي بوتيرة أخف من تزايد السكان، فهنا لا يوجد نمو، كما أنه ليس مرادفًا للتنمية؛ إذ إنه يمكن أن يكون هناك تطور اقتصادي دون أن يكون مصحوبًا بتغييرات هيكلية وذهنية تضمن استمرارية وانتظام هذا التطور؛ (أي: إنه لا توجد تنمية)[10].

مفهوم الانطلاق الاقتصادي

يشيع استعمال مفهوم الانطلاق الاقتصادي في الكتابات التي تُعنَى بشؤون التنمية، وهو ترجمة للمصطلح الإنجليزي Take off، أو المصطلح الفرنسي Décollage ، وهناك من يترجمه إلى: “انطلاقة اقتصادية”.

ويستند المعجم الاقتصادي في تحديد هذا المفهوم إلى نظرية روستو؛ حيث ينص على أن روستو استخدم هذه الكلمة في نظريته عن التطور الاقتصادي، الذي قسمه إلى خمس مراحل، ومرحلة الانطلاق: هي المرحلة التي تنهزم من خلالها القوى المقاومة للتقدم، ويبدأ عندها ناتج الفرد في المتوسط في الازدياد حاملاً معه تغييرات جذرية في فنون الإنتاجية التي تقوم بها فئة من أفراد المجتمع تميزت بصدق العزيمة، ورُوح التجديد والابتكار.

إذًا يرجع الفضل في تحليل هذا المفهوم وبيانه إلى أستاذ التاريخ الاقتصادي بجامعة كامبريدج، المفكر روستو في كتابه: “مراحل النُّمو الاقتصادي”، الذي اعتبر فيه أن التنمية “ظاهرة حتمية” تمر بها الدول مرحليًّا، والمسألة فقط أن هناك دولاً بدأت قبل الأخرى في السياق الخطي للتنمية.

سمات النُّمو الاقتصادي

 – زيادة حجم الإنتاج، مع زيادة الدخل الفردي المجتمعي المرافق لزيادة الإنتاج، وذلك خلال فترة زمانية، مقارنة بالفترات السابقة.

 – حدوث تغيرات على مستوى طرف التنظيم، بهدف تسهيل ديناميكية العمل وتداول عناصر الإنتاج بصورة أسهل، والبحث عن عناصر إنتاج أقل تكلفة وأكثر ربحية.

 – التقدم الاقتصادي[11].

التنمية بين التغيير والتحديث

كثيرًا ما يحدث الخلط بين مفهوم التنمية والتغيير والتحديث؛ فالفارق بينها أن التغيير لا يؤدي بالضرورة إلى التقدم والارتقاء والازدهار؛ فقد يتغير الشيء إلى السالب، بينما هدف التنمية هو التغير نحو الأفضل بوتيرة متصاعدة، متقدمة ومستمرة.. فالتنمية – كما وضحنا آنفًا – تعني الزيادة في القدرة الإنتاجية بشكل يرفع مستوى المعيشة ماديًّا وثقافيًّا وروحيًّا، مصحوبًا بقدرة ذاتية متزايدة على حل مشاكل التنمية، أما التحديث فهو جلب رموز الحضارة الحديثة وأدوات الحياة العصرية، مثل: التجهيزات التكنولوجية، والمعدات الآلية، والسلع الاستهلاكية.. في الحقيقة لم تصمد نظريات التحديث أمام الانتقادات الموجهة إليها لسبب بسيط جدًّا، وهو أنها تجاهلت الخصائص النوعية للعالم الثالث أو المتخلف، ووقوع هذه النظريات التحديثية أسيرة النموذج الغربي؛ لأنها لم تهتم بحقيقة النُّمو الاجتماعي والإمكانيات الذاتية للعالم الثالث[12].

عناصر النُّمو الاقتصادي وفوائده

أما العناصر فيمكن حصرها في:

العمل: ونعني به “مجموع القدرات الفيزيائية والثقافية التي يمكن للإنسان استخدامها في إنتاج السلع والخدمات الضرورية لتلبية حاجياته”.

رأس المال: “مجموع السلع التي توجد في وقت معين في اقتصاد معين”، يساعد على تحقيق التقدم التقني من جهة، وعلى توسيع الإنتاج بواسطة الاستثمارات المختلفة المحققة من جهة أخرى.

التقدم التقني: ويعني الاستخدام الأمثل لعوامل الإنتاج في العملية الإنتاجية[13].

أما عن فوائد النُّمو فيمكن حصر أهمها فيما يلي:

 – زيادة الكميات المتاحة لأبناء المجتمع من السلع والخدمات.

 – زيادة رفاهية الشعب؛ عن طريق زيادة الإنتاج، والرفع في معدلات الأجور والأرباح، والدخول الأخرى.

 – يساعد على القضاء على الفقر، ويحسن من المستوى الصحي والتعليمي للسكان.

 – زيادة الدخل القومي تسمح بزيادة موارد الدولة، وتعزز قدرتها على القيام بجميع مسؤولياتها؛ كتوفير الأمن، الصحة، التعليم، بناء المنشآت القاعدية، والتوزيع الأمثل للدخل القومي، دون أن يؤثر ذلك سلبًا على مستويات الاستهلاك الخاص.

 – التخفيف من حدة البطالة[14].

مقاييس النُّمو الاقتصادي

يتم بقياس نمو الناتج ونمو الدخل الفردي.

 – الناتج الوطني: هو مقياس لحصيلة النشاط الإنتاجي، وحساب معدل نموه هو ما يصطلح عليه تسمية معدل النُّمو، ويمكن حساب الناتج الوطني بحساب الناتج المحقق في بلد وتقديمه بعملة ذلك البلد، ومن ثم مقارنته بنتائج الفترة السابقة ومعرفة معدل النُّمو، ما يعاب هنا أن لكل دولة عملتها الوطنية، وبالتالي لا يمكن مقارنة النُّمو المحقق في مختلف البلدان وفق هذا المقياس؛ ولذا تستخدم غالبًا عملة دولية واحدة لتقييم الناتج الوطني لمختلف البلدان، حتى يسهل المقارنة بين معدلات النُّمو المحققة فيها[15].

متوسط الدخل الفردي: يعتبر هذا المعيار الأكثر استخدامًا وصدقًا لقياس النُّمو الاقتصادي في معظم دول العالم، لكن في الدول النامية هناك صعوباتٌ لقياس الدخل الفردي بسبب نقص دقة إحصائيات السكان والأفراد.

هناك طريقتان لقياس معدل النُّمو على المستوى الفردي، وهما:

 – طريقة معدل النُّمو البسيط: يقيس معدل التغير في متوسط الدخل الحقيقي من سنة لأخرى.

 – طريقة معدل النُّمو المركزي: يقيس معدل النُّمو السنوي في الدخل كمتوسط خلال فترة زمنية طويلة نسبيًّا.

كانت هذه أهم أسس وطرق قياس النُّمو الاقتصادي[16].

نظريات النُّمو في الفكر الاقتصادي

1 – النُّمو الاقتصادي عند الكلاسيك:

تتضمن نظرية النُّمو عند الكلاسيك آراء كل من آدام سميث ودافيد ريكاردو المتعلقة بالنُّمو، بالإضافة إلى آراء التجاريين حول مصدر الثروة من التجارة الخارجية، ثم آراء كل من جون ستيوارت ميل حول الأسواق، وروبرت مالتوس حول السكان، ويمكن حصر عناصر النظرية فيما يلي:

 – سياسة الحرية الاقتصادية: الحرية الفردية، حرية المنافسة الكاملة، البُعد عن أي تدخل للدولة في الحياة الاقتصادية.

 – التكوين الرأسمالي مفتاح التقدم.

 – الربح هو الحافز على الاستثمار: كلما زاد معدل الأرباح، زاد معدل التكوين الرأسمالي والاستثمار.

 – ميل الأرباح للتراجع: وذلك نظرًا لتزايد حدة المنافسة بين الرأسماليين على التراكم الرأسمالي.

 – حالة السكون: اعتقد الكلاسيك بحتمية الوصول إلى حالة الاستقرار كنهاية لعملية التراكم الرأسمالي؛ ذلك أنه ما أن تبدأ الأرباح في التراجع حتى تستمر إلى أن يصل معدل الربح إلى الصفر، ويتوقف التراكم الرأسمالي، ويستقر السكان، ويصل معدل الأجور إلى مستوى الكفاف، وحسب آدم سميث فإن ندرة الموارد الطبيعية توقف النُّمو الاقتصادي، وتقُوده إلى حالة السكون، أما ريكاردو ومالتوس فقد نظرا للنمو السكاني وتراجع النُّمو في رأس المال من خلال قانون تناقص الغلة، الذي يمثل بدوره عقبة أمام التنمية.. في نظر الكلاسيك فإن النتيجة النهائية للتنمية هي الركود، هذا الركود ينتج عن الميل الطبيعي للأرباح نحو التراجع، وما يترتب على ذلك من قيود على التراكم الرأسمالي، أو يستقر عدد السكان وتسود حالة من السكون.

الانتقادات الموجهة للنظرية الكلاسيكية:

  • تجاهل الطبقة الوسطى.
  • إهمال القطاع العام.
  • إعطاء أهمية أقل للتكنولوجيا.
  • القوانين غير الحقيقية: نزعة التشاؤم المؤدية لحتمية الكساد.
  • خطأ النظرة للأجور والأرباح: ففي الواقع لم يحدث أنْ آلت الأجور نحو مستوى الكفاف، كما أن الدول المتقدمة لم تصل إلى مستوى الكساد الدائم.
  • عدم واقعية مفهوم عملية النُّمو: حيث افترضت الكلاسيكية حالة من السكون مع وجود تغيير يدور حول نقطة التوازن الساكنة؛ أي: إن الكلاسيك افترضوا حدوث بعض النُّمو في شكل ثابت مستمر، كما في حالة نمو الأشجار، والواقع أن هذا التفسير لا يُعَد تفسيرًا مقنعًا لعملية النُّمو الاقتصادي كما هو عليه اليوم[17].

2 – النظرية النيوكلاسيكية في النُّمو:

ظهر الفكر النيوكلاسيكي في السبعينيات من القرن التاسع عشر، وبمساهمات أبرز اقتصادييها: ألفريد مارشال، فيسكل وكلارك، قائمة على أساس إمكانية استمرار عملية النُّمو الاقتصادي دون حدوث ركود اقتصادي، كما أوردت النظرية الكلاسيكية، ولعل أهم أفكار النيوكلاسيك تتمثل في:

 – أن النُّمو الاقتصادي عبارة عن عملية مترابطة متكاملة ومتوافقة، ذات تأثير إيجابي متبادل؛ حيث يؤدي نمو قطاع معين إلى دفع القطاعات الأخرى للنمو؛ لتبرز فكرة مارشال، المعروفة بالوفرات الخارجية، كما أن نمو الناتج القومي يؤدي إلى نمو فئات الدخل المختلفة من أجور وأرباح.

 – أن النُّمو الاقتصادي يعتمد على مقدار ما يتاح من عناصر الإنتاج في المجتمع (العمل، الأرض، الموارد الطبيعية، رأس المال، التنظيم، التكنولوجيا).

 – بالنسبة لعنصر العمل نجد النظرية تربط بين التغيرات السكانية وحجم القوى العاملة، مع التنويه بأهمية تناسب الزيادة في السكان أو في القوى العاملة مع حجم الموارد الطبيعية المتاحة.

 – فيما يخص رأس المال اعتبر النيوكلاسيك عملية النُّمو محصلة للتفاعل بين التراكم الرأسمالي والزيادة السكانية؛ فزيادة التكوين الرأسمالي تعني زيادة عرض رأس المال، التي تؤدي إلى تخفيض سعر الفائدة، فتزيد الاستثمارات، ويزيد الإنتاج، ويتحقق النُّمو الاقتصادي، هذا مع الإشارة إلى دور الادخار في توجيه الاستثمارات، يعتبر النيوكلاسيك الادخار عادة راسخة في الدول التي تشق طريقَها نحو التقدم، لتأخذ بذلك عملية الاستثمار والنُّمو شكلاً آليًّا ميكانيكيًّا.

 – أما عنصر التنظيم فيرى أنصار النظرية أن المنظم يشغل التطور التكنولوجي بالصورة التي تنفي وجود أي جمود في العملية التطويرية، وهو قادر دائمًا على التجديد والابتكار.

 – أن النُّمو الاقتصادي كالنُّمو العضوي – وصف مارشال – لا يتحقق فجأة، إنما تدريجيًّا، وقد استعان النيوكلاسيك في هذا الصدد بأسلوب التحليل المعتمد على فكرة التوازن الجزئي الساكن، مهتمين بالمشاكل في المجال القصير؛ حيث يرون أن كل مشروع صغير هو جزءٌ من كلٍّ ينمو في شكل تدريجي متسق متداخل، وبتأثير متبادل مع غيره من المشاريع.

 – أن النُّمو الاقتصادي يتطلب التركيز على التخصص وتقسيم العمل وحرية التجارة.

نقد النظرية: أهم الانتقادات الموجهة إليها:

 – التركيز على النواحي الاقتصادية في تحقيق النُّمو والتنمية متجاهلة النواحي الأخرى التي لا تقل أهمية؛ كالنواحي الاجتماعية، والثقافية، والسياسية.

 – القول بأن التنمية تتم تدريجيًّا بخلاف ما هو متفق عليه في الكتابات الاقتصادية حول أهمية وجود دفعة قوية لحدوث عملية التنمية.

 – الاهتمام بالمشكلات الاقتصادية في المدى القصير بدون الإشارة إلى ما قد يحدث على المدى الطويل.

 – افتراض حرية التجارة الخارجية أمرٌ لم يسهل تطبيقه بعد ذلك مع وجود التدخل الحكومي والحواجز التجارية، خاصة بعد الثلاثينيات من القرن العشرين[18].

3 – النُّمو الاقتصادي في النظرية الكينزية:

ترتبط هذه النظرية بأفكار الاقتصادي جون ماينادر كينز (1883 – 1946)، الذي تمكن من وضع الحلول المناسبة للأزمة الاقتصادية العالمية للفترة من عام (1929 – 1932)، وبموجب هذه النظرية فإن قوانين نمو الدخل القومي ترتبط بنظرية المضاعف؛ حيث يزداد الدخل القومي بمقدار مضاعف للزيادة الحاصلة في الإنفاق الاستثماري، ومن خلال الميل الحدِّي للاستهلاك.

وترى هذه النظرية أن هناك ثلاثة معدلات للنمو، وهي:

أ – معدل النُّمو الفعلي Actual rate of growth ، وهو يمثل نسبة التغيير في الدخل إلى الدخل.

ب – معدل النُّمو المرغوب Warranted rate of growth، وهو يمثل معدل النُّمو عندما تكون الطاقة الإنتاجية في أقصاها.

ج – معدل النُّمو الطبيعي (GN)، فهو أقصى معدل للنمو يمكن أن يتمخض عن الزيادة الحاصلة في التقدم التقني والتراكم الرأسمالي والقوة العاملة عند مستوى الاستخدام الكامل، ويجب أن يتحقق التعادل بين معدل النُّمو الفعلي ومعدل النُّمو المرغوب، وأن يتعادل أيضًا معدل النُّمو الفعلي مع المعدلين المرغوب والطبيعي؛ فالتعادل الأول يؤدي لتوفر القناعة لدى المديرين بقراراتهم الإنتاجية، أما إذا تعادل معدل النُّمو المرغوب فيه مع معدل النُّمو الطبيعي فليس هناك اتجاه لنشوء البطالة والتضخم، فلو افترضنا أن المعدل المرغوب أقل من المعدل الطبيعي – حتى في حالة تساوي المعدل الفعلي والمرغوب فيه – فإن البطالة ستزيد؛ حيث إن كلاً من المعدل الفعلي والمرغوب فيه أقلُّ من المعدل الطبيعي، أما في حالة العكس (أي إن المعدل المرغوب فيه أكبر من المعدل الطبيعي) بصورة مؤقتة، فإن كِلا المعدلين الفعلي والمرغوب فيه قد يتعادلان، وإن المعدل الفعلي لا يمكن أن يتجاوز المعدل الطبيعي على نحو غير محدود؛ حيث إن المعدل الطبيعي يمثل أقصى معدل للنمو[19].

4 – النُّمو الاقتصادي في النظرية الماركسية:

لقد فند كارل ماركس في نظريته للنمو الاقتصادي آراء الرأسماليين، وقد قامت نظريته في هذا الصدد على مجموعة من الفرضيات تتعلق بطبيعة الوظيفة التي يقوم بها الإنتاج في المجتمع، وكذا على نوع الابتكار والاختراع السائدين، وعلى طريقة تراكم رأس المال، إلى جانب فرضيات تتصل بمعدلات الأجور والأرباح السائدة.

وتعتبر نظرية فائض القيمة الأساس الفعلي للنظرية الماركسية في النُّمو، ويعرف فائض القيمة بأنه زيادة الإنتاج عن حاجة الاستهلاك، أي ما هو مخصص للاستثمار، كذلك يرى ماركس أن التسيير المركزي للاقتصاد من أجل تحقيق المنفعة العامة سوف يؤدي بكل مؤسسة للبحث عن فائدتها الخاصة، وبالتالي الاستغلال الأمثل لمواردها الطبيعية والقوة العاملة.. ويرى ماركس أن المقياس السليم لسلوك الأفراد هو طريقة الإنتاج السائدة؛ أي: إن هناك تنظيمًا معينًا للإنتاج في المجتمع يتضمن:

 – تنظيم العمل عن طريق التعاون والتقسيم المثمر بين المهارات العمالية، وعن طريق الوضع القانوني للعمال من حيث الحرية والاسترقاق.

 – البيئة الجغرافية والمعرفة بطرق استخدام موارد الثروة الموجودة.

 – الوسائل العلمية الفنية المطبقة في الإنتاج، وحالة العلم بوجه عام.

ما يعاب على ماركس هو إهماله لدور الطلب في تحديد القيمة المضافة، وتحديده للعمل فقط كمحدد للقيمة، كما أن الواقع ينفي ما ذهب إليه ماركس من أن أجور العمال تتجه نحو الانخفاض، بل على العكس نجد الأجور في ارتفاع لفترات طويلة في الدول الرأسمالية المتقدمة دون أن يؤثر ذلك على فائض القيمة المحقق، كما أن التنبؤ الماركسي بزوال الرأسمالية كان عكسيًّا[20].

5 – النُّمو الاقتصادي في النظرية الحديثة:

ركزت هذه النظرية على النُّمو الاقتصادي في الأجل الطويل، نتيجة استمرار الفجوة التنموية بين البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان النامية، منها: نموذج بول رومر وروبرت لوكاس سنة 1986، التي تمحورت حول تطوير الإطار التاريخي لتحقيق تحول نوعي ذاتي في مجال المعرفة والتقدم التقني، أما الأساتذة غريك مانكي، ديفيد رومر وديفيد ويل (1992) فقد استندت أبحاثهم على الصياغة الجديدة لدالة الإنتاج بالترابط مع السلاسل الزمنية وإحصاءات النُّمو في البلدان النامية، التي ترتكز على أهمية التقدم التقني في النُّمو الاقتصادي من خلال الاكتشافات والاختراعات والابتكارات، وفي نفس الوقت فإن مثل هذه الدالة لا تفسح المجال لرأس المال البشري لتوسيع مساهمته في العملية الإنتاجية؛ لكون مجموع معاملات المرونة للعناصر الثلاثة مساويًا للواحد الصحيح، وبالتالي تنفرد هذه النظريات السابقة بأنها قسمت رأس المال إلى جزأين، هما: رأس المال المادي، ورأس المال البشري، في ظل هذه النظرية ينسجم مع مفهوم معدلات النُّمو اللازمة لصالح الفقراء؛ حيث يتم مناقشة المضامين الأساسية لتطوير حياة السكان، خاصة الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر، وذلك لا يتحقق إلا من خلال تطوير المستويات التعليمية والصحية والخدمات الأساسية، وكل ما يتعلق بزيادة مساهمة العنصر البشري في العملية الإنتاجية[21].

6 – نظرية جوزيف شومبيتر في النُّمو الاقتصادي:

جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter (1883 – 1950) اقتصادي وعالم اجتماع أمريكي، ولد في مورافيا – تشيكيا، وتوفي في تاكونيك – كونيتيكت – الولايات المتحدة الأمريكية.

اشتهر بنظرياته حول التنمية والدورات الاقتصادية، وتمرد على المدارس الاقتصادية السائدة في زمنه، وخرج على أساتذته في مدرسة فيينا التقليدية الجديدة، مبتعدًا عن التحليل السكوني (الستاتيكي)، محاولاً تأسيس نظرية التحليل الحركي (الديناميكي)، وباهتمامه الكبير بالجمع بين النظرية الاقتصادية والإحصاء، إضافة إلى التاريخ وعلم الاجتماع، في معالجة القضايا الاقتصادية لعصره، يكون قد أدار ظهره مرة ثانية للمدرسة التقليدية الجديدة، وكذلك للمدرسة الكينزية، والكينزية الجديدة فيما بعد[22].

تأثر جوزيف شومبيتر بالمدرسة النيوكلاسيكية في اعتبار أن النظام الرأسمالي هو الإطار العام للنمو الاقتصادي، وتأثر أيضًا بأفكار مالتوس فيما يخص تناقضات النظام الرأسمالي؛ فهو يمقت الشيوعية، مع ذلك لا يدعو لإلغاء الرأسمالية، ولا ينحاز إليها، إنما تنبأ بانهيار النظام الرأسمالي ليرث محله النظام الاشتراكي وليس الشيوعي، وقد ظهرت أفكاره في كتابه: نظرية التنمية الاقتصادية عام 1911، وكملها في كتاب له سنة 1939، أهم أفكاره:

 – أن التطور في ظل النظام الرأسمالي يحدث في صورة قفزات متقطعة واندفاعات غير متسقة، تصاحبها فترات من الكساد والرواج قصيرة الأجل متعاقبة؛ وذلك بسبب التجديدات والابتكارات التي يحدثها المنظمون، والتي من شأنها زيادة الإنتاج ودفع عجلة النُّمو.

 – يتوقف النُّمو على عاملين أساسين، الأول هو المنظم، والثاني هو الائتمان المصرفي الذي يقدم للمنظم إمكانيات التجديد والابتكار.

 – إعطاء المنظم أهمية خاصة، ووصفه بأنه مفتاح التنمية، أو “الدينامو” المحرك لعجلة التنمية.

 – التطورات التي يحدثها المنظم تؤثر في العادات والتقاليد وأذواق المستهلكين، التي يمكن أن تأخذ إحدى أو بعض الصور التالية:

  • استغلال موارد جديدة.
  • استحداث سلع جديدة.
  • استحداث أساليب إنتاج جديدة.
  • فتح أسواق جديدة.
  • إعادة تنظيم بعض الصناعات.

إن انهيار الرأسمالية قد يحدُث نتيجة أحد أو كل الأسباب التالية:

 – بوار وظيفة المنظم (نتيجة روتينية الابتكار والتجديد وقيام الخبراء والباحثين بها).

 – زوال الإطار التنظيمي للمجتمع الرأسمالي (الاحتكار، والكارتيلات).

 – انحلال الطبقة السياسية التي كانت تحميها.

 – العداء النشط المستحكم ضد الرأسمالية من جانب المثقفين والعمال.

وفي تحليله لعملية النُّمو الاقتصادي يبدأ شومبيتر بافتراض سيادة المنافسة والعمالة الكاملة لاقتصاد في حالة توازن ساكن يكرر نفسه دائمًا دون وجود صافي استثمار أو زيادة سكانية؛ حيث يقوم المنظم بإيجاد الفرص المربحة لتمويل استثمارات جديدة، فتولد موجة من الاستثمارات نتيجة التجديد والابتكار، فيتم تشغيل مصانع جديدة، وتجد السلع طريقها إلى الأسواق، تبدأ موجة من الازدهار، تغذيها زيادة الائتمان المصرفي، فزيادة في الإنتاج والدخل، ويعم الرواج، تعمل زيادة السلع على انخفاض الأسعار، وتصبح المنشأة القديمة غير قادرة على منافسة المنشآت الجديدة، فتغلق هذه الأخيرة أبوابها، وتسود حالة من التشاؤم لدى المنظمين، فتتعثر حركة التجديد والابتكار، وتسود حالة من الكساد، لا يلبث الكساد إلا فترة وجيزة لتعود الأمور إلى التحسن بابتكارات جديدة، واستحداث أساليب إنتاج أفضل، فاستثمار وتوسع للنشاط الاقتصادي وهكذا…

نقد النظرية:

 – إعطاء أهمية مبالغ فيها للمنظم؛ حيث تفقد وظيفة هذا الأخير مكانتها مع بزوغ جماعات الخبراء والمختصين.

 – افتراضه لتأثير الادخار بسعر الفائدة، رغم أن هذه العلاقة لا يزال الغموض يكتنف جوانبها.

 – افتراض التمويل عن طريق الائتمان المصرفي، ولكن القروض طويلة الأجل في الدول الرأسمالية لا تقدمها البنوك، إنما يتم تمويل الاستثمارات طويلة الأجل عن طريق الأرباح المحتجزة أو إصدار الأسهم والسندات.

 – عدم التعرض للعقبات التي يمكن أن تعرقل من عملية النُّمو؛ كالزيادة السكانية، وتناقص الغلة، وغيرها من العقبات التي تعاني منها معظم الدول الأقل نموًّا[23].

7 – نظرية مراحل النُّمو عند والت روستو:

تسمى أيضًا: نظرية مراحل التطور الاقتصادي، روج لها روستو في كتابه: “مراحل النُّمو الاقتصادي”، الذي استحوذ على اهتمام كبير في أوساط المتخصصين بقضية التنمية والدخل، يقول عنه ريمون أرون: “لقد أقبل العالم كله على قراءة هذا الكتاب، وأصبح التمييز بين مراحل النُّمو الاقتصادي بغضِّ النظر عن التناقض بين النظم السياسية شيئًا عاديًّا”.

وبالرغم من أن روستو في هذا الكتاب لم يُعنَ أساسًا بتحليل قضية التخلف بالبلاد المتخلفة، فإن نظريته قد استخدمت بعد ذلك كاتجاه متميز في تفسير التخلف، والفكرة التي قدمها روستو هنا تتلخص في أن النُّمو الاقتصادي يتكون من مراحل معينة ذات تتابع زمني، بحيث إن كل مرحلة تمهد الطريق أوتوماتيكيًّا للمرحلة التي تليها، وهذا يعني أن على البلدان المتخلفة أن تعيش نفس الطريق الذي مشته الدول المتقدمة في الفترة ما بين 1850 – 1950، حتى تقطع هذه المراحل وتصل إلى المجتمع الصناعي فما بعد الصناعي، وحسب روستو يمكن أن ينسب أي مجتمع من حيث مستوى تطوُّره الاقتصادي إلى إحدى المراحل الخمس:

 – مرحلة المجتمع التقليدي.

 – مرحلة التهيؤ للانطلاق.

 – مرحلة الانطلاق.

 – مرحلة الاتجاه نحو النُّضج.

 – مرحلة الاستهلاك الوفير.

ويرى روستو أن هذه المراحل ليست إلا نتائج عامة مستنبطة من الأحداث الضخمة التي شهدها التاريخ الحديث[24].

المرحلة الأولى: مرحلة المجتمع التقليدي، وتتميز باقتصاد متخلف جدًّا يتسم بالطابع الزراعي، ويتبع أهله وسائل بدائية للإنتاج، ويلعب فيه نظام الأسرة أو العشيرة دورًا رئيسيًّا في التنظيم الاجتماعي، كما أن الهيكلة الاجتماعية مؤسسة على الملكية العقارية، ويستند نظام القيم إلى “القدرية ومعاداة التغيير”، أما الناتج الوطني فإنه يقسم لأغراض غير إنتاجية، وقد ضرب روستو مثالاً لدول اجتازت هذه المرحلة؛ كالصين، ودول الشرق الأوسط، ودول حوض البحر المتوسط، وبعض دول أوروبا في القرون الوسطى، هذه المرحلة عادة ما تكون طويلة نسبيًّا، وتتميز بالبطء الشديد[25].

المرحلة الثانية: مرحلة التهيؤ للإقلاع أو الانطلاق، لا تختلف هذه المرحلة الجديدة – من حيث البنيان الاجتماعي والقيم والمؤسسات السياسية اللامركزية – اختلافًا جذريًّا عن مرحلة المجتمع التقليدي، ولعل الفارق الرئيس بين المرحلتين لا يعدو أن يكون فارقًا في طبيعة حركية المجتمعين؛ فحركية المجتمع التقليدي لا تتعدى أطرَ ذلك المجتمع؛ لأنها حركية داخلية جزئية بالضرورة، بينما تتميز مرحلة المجتمع المؤهل للانطلاق بظهور نوازع للتحول الجذري، تحول في المؤسسات السياسية – الاقتصادية، وتوسيع آفاق المصالح الفردية والجماعية التي تدفع بأفراد المجتمع إلى العمل المثمر، وإلى أخذ المبادرة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الانطلاق، مرحلة حتمية في عملية النُّمو، فإذا تعطلت العقبات التي تعترض سبل التنمية، دخل المجتمع مرحلة الانطلاق، وهي المرحلة التي تسيطر فيها القوى الفاعلة لأجل التقدم في كل مرافق الحياة، فيصبح النُّمو والتنمية ظاهرة طبيعية في المجتمع، وهنا تختلف الحوافز الدافعة في هذا الاتجاه، غير أن أنماط التجارِب التاريخية أظهرت فعالية عاملين رئيسيين: التكنولوجيا، والثورة السياسية، بمعنى انتقال الحكم السياسي “إلى جماعة تعتبر تحديث الاقتصاد قضية جدية، وتعطيها المقام الأول بين القضايا السياسية”، وفي هذه المرحلة ترتفع نسبة الاستثمار من خمسة إلى عشرة بالمائة، فتتوسع الصناعات الجديدة بسرعة وتنشط ويتم تصنيع القطاع الزراعي[26].

المرحلة الرابعة: مرحلة النضج، مرحلة تُعَد فيها الدول المتقدمة اقتصادية؛ حيث تكون قد استكملت نمو جميع قطاعات اقتصادها القومي، وتمكنت من رفع مستوى إنتاجها، ترتفع القدرات التقنية للاقتصاد المحلي، وتقام العديد من الصناعات الأساسية، وصناعات أكثر طموحًا من ذي قبل، وصناعات قائدة للتنمية؛ كصناعة الآلات الصناعية، والزراعية، والإلكترونية، والكيميائية، مع زيادة الصادرات الصناعية.

وقد حدد روستو أهم التغيرات التي تأخذ مكانها في هذه المرحلة، فيما يلي:

 – التحول السكاني من الريف إلى الحضر، وتحول الريف ذاته إلى شكل أكثر حضارة.

 – ارتفاع نسبة الفنِّيِّين والعمال ذوي المهارات المرتفعة.

 – انتقال القيادة من أيدي أصحاب المشروعات والرأسماليين إلى فئة المدربين التنفيذيين.

 – النظر إلى الدولة في ظل سيادة درجة من الرفاهية المادية وكذا الفردية على أنها المسؤولة عن تحقيق قدر متزايد من التأمين الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين[27].

المرحلة الخامسة: مرحلة الاستهلاك الوفير، وهي المرحلة التي يبلغ فيها البلد شأوًا كبيرًا من التقدم؛ حيث يزيد الإنتاج عن الحاجة، ويعيش السكان في سَعة من العيش، وبدخول عالية، وقسط وافر من سلع الاستهلاك وأسباب الرخاء، ومن مظاهرها:

 – ارتفاع متوسط استهلاك الفرد العادي من السلع المعبرة (سيارات…).

 – زيادة الإنتاج الفكري والأدبي للمجتمع[28].

نقد النظرية: أجمع الاقتصاديون على فشل هذه النظرية في أمرين: أولهما: إثبات صحة المراحل التاريخية، وثانيهما: في إمكانية انطباقها على دول العالم الثالث اليوم، يقدم روستو فهمًا بسيطًا يصور التخلف على أنه تأخر زمني لا أكثر ولا أقل، وبذلك يتجاهل فهم تاريخ الدول المتخلفة، زيادة على اعتباره البلدان النامية وكأنها طبقة أو فئة واحدة، وبصورة أكثر تحديدًا يفترض روستو أن كل هذه البلدان تتعرض لنفس المشاكل، وتعاني من نفس المعوقات، وتتطور تقريبًا بنفس الشكل في عمليتها التنموية؛ فروستو صوَّر لنا مراحل النُّمو الخمسة على شكل (محطة قطار) عن طريقها، وبالضرورة يجب أن تمر كل الدول السائرة في طريق النُّمو، زيادة على هذا فقد أغفل روستو ظرفًا هامًّا من الظروف المهيِّئة للانطلاق في الرأسمالية الغربية، وهو الاستعمار ونهب الثروات، الذي حققت عن طريقه مراحل ازدهارها وتقدمها، في الوقت الذي حرمها فيها الاستعمار من فرص تنمية ذاتها، زعمًا بأن الرأسمالية هي السبيل الوحيد للتنمية والازدهار[29].

8 – نموذج هارولد ودومار:

يُعَد من أكثر النماذج اتساقًا وشيوعًا، تم تطويره في الأربعينيات، ويرتبط باسمي الاقتصاديَّيْن البريطاني “روي هارولد” والأمريكي “إيفري دوما”، يركز النموذج على الاستثمار كضرورة حيوية لأي اقتصاد، ويبين أهمية الادخار في زيادة الاستثمار كمتطلبات لرأس المال وعلاقتها بالنُّمو، يفترض النموذج وجود علاقة تربط الحجم الكمي لرصيد رأس المال بإجمالي الناتج القومي، لتعرف هذه العلاقة والمشكلة لنسبة رأس المال إلى الناتج في الأدب الاقتصادي بمعامل رأس المال… فنموذج هارولد دومار يبين أن تحقيق عملية التنمية يتطلب زيادة الادخار، وبالتالي الاستثمار السريع لزيادة سرعة النُّمو، وأساس النُّمو أن رأس المال الذي يخلق عن طريق الاستثمار في المصانع والمعدات هو المحدد الرئيسي للنمو، وهو يعتمد على مدخرات الأفراد والشركات الذين يقومون بالاستثمارات الممكنة، أما عن نسبة رأس المال إلى الناتج – أي معامل رأس المال – فإنه ببساطة مقياس لإنتاجية الاستثمار أو رأس المال.

نقد النظرية:

إن كان النموذج قد استخدم لرفع معدلات النُّمو الاقتصادي للدول الأوروبية وتهيئتها للدخول من مرحلة الانطلاق أو الإقلاع إلى مرحلة النضوج بعد الحرب العالمية الثانية من خلال خطة مارشال الأمريكية – فإن الوضع بين هذه الدول والدول المتخلفة يختلف اختلافًا كبيرًا، وما ينطبق عليها قد لا ينطبق على هذه الأخيرة، وإن كان يمكن استخدامه لتحديد معدلات النُّمو المتوقعة عند تحديد كمية الاستثمار، فكما يلاحظ أن محددات النُّمو طبقًا لنموذج “هارولد دومار” لا تتوافر في البلاد الأكثر فقرًا، التي تتضاءل فيها نسبة ما يوجه للادخار، ومن ثم للاستثمار، من دخلها القومي المنخفض أساسًا، والذي يكفي بالكاد لسد احتياجاتها الاستهلاكية الأساسية، في هذه الحالة لا تتمكن هذه الدول من سدِّ فجوة الادخار الناشئة لديها سوى عن طريق القروض الخارجية، أو أرباح الاستثمارات الأجنبية في بلادها[30].

9 – نظرية التحولات الهيكلية لآرثر لويس:

من أشهر نظريات التنمية التي ظهرت في الخمسينيات، والتي تركز على الكيفية التي يتم بواسطتها تحويل اقتصاديات الدول الفقيرة من الاعتماد الحاد على الزراعة إلى الصناعة والخدمات، لتصبح اقتصادياتها أكثر مرونة وقدرة على مواجهة تقلبات وتغيرات الطلب، كان “آرثر لويس” أول من قدم نموذجًا للتنمية، أساسه التحول من الريف إلى الحضر، أو من الزراعة إلى الصناعة بشكل مقصود ومنطقي، ويتعامل لويس مع اقتصاد مكون من قطاعين، أولهما: قطاع زراعي تقليدي، أطلق عليه اسم قطاع الكفاف، يتميز بهبوط إنتاجية العمل فيه إلى الصفر، أو أعلى بقليل، وثانيهما: قطاع صناعي؛ حيث ترتفع فيه الإنتاجية وتتحول إليه العمالة الرخيصة في القطاع التقليدي بشكل تدريجي منتظم، وافترض لويس في تحديد نظريته ما يلي:

 – أن عملية تحول العمالة من القطاع التقليدي إلى القطاع الصناعي ونمو العمالة في هذا الأخير متوقفة على زيادة إنتاج القطاع الصناعي والناتج عن زيادة التراكم الرأسمالي.

 – أن الطبقة الرأسمالية في المجتمع تعيد استثمار جميع أرباحها.

 – أن القطاع الصناعي يحتفظ بمستوى ثابت للأجور عند مستوى أعلى من مستوى أجر الكفاف السائد في القطاع الزراعي (يفترض أنه أعلى بنسبة 30 بالمائة) لتشكل حافزًا قويًّا لهجرة تدريجية للعمالة إلى القطاع الصناعي عند زيادة إنتاج هذا الأخير، وبالتالي زيادة الطلب على العمالة فيه.

 – أن الزيادة في الإنتاج وخلق فرص جديدة للعمل في القطاع الصناعي تتحدد بنسبة الاستثمارات والتراكم الرأسمالي في هذا القطاع[31].

إذًا فنظرية التغيرات الهيكلية ترتكز على الآلية التي بوساطتها تستطيع الاقتصادات المتخلفة نقل هياكلها الاقتصادية الداخلية من هياكل تعتمد بشدة على الزراعة التقليدية عند مستوى الكفاف إلى اقتصاد أكثر تقدمًا، وأكثر تحضرًا، وأكثر تنوعًا صناعيًّا في مجال الصناعات التحويلية والخدمات؛ إذ تستخدم هذه النظرية أدوات النظرية الكلاسيكية المحدثة لوصف الكيفية التي على وَفقها تتخذ عملية التحول موقعها، والتغيرات الهيكلية هي التغيرات التي تطرأ بين الأجزاء والكل، وبين الأجزاء بعضها مع البعض الآخر من خلال عملية النُّمو، أي هو التغير في الأهمية النسبية للقطاعات الاقتصادية، سواء من حيث مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي أو مدى مساهمتها في استيعاب الأيدي العاملة، أو التغير في نسبة التجارة الخارجية؛ إذ إن التغيرات طويلة الأجل ليست في حقيقتها سوى نتائج تراكمية لتغيرات متتالية قصيرة الأجل.

تؤكد النظريات الهيكلية على الزيادة في الطلب الاستهلاكي؛ فقد حاولت التعرف على مميزات الهيكل الاقتصادي للبلدان النامية، ولا سيما جمود أو محدودية المرونة في احتمالات الإحلال أو الاستبدال في الإنتاج وفي عناصر الإنتاج، تلك الصفات أو المميزات التي تحاول أن تؤثر في التكيفات الاقتصادية واختيار السياسة التنموية؛ لذا فإن الهيكليين يركزون على خطط قطاعية معينة، وسياسات اقتصادية محددة، ومثل هذه التوجهات يمكن أن نجدها في عمليات معينة، مثل إستراتيجية إحلال الواردات “IMPORTS SUBSTITUTION” في الاقتصاد الوطني، وبقية التغيرات في القطاعات الاقتصادية الأخر[32].

نقد النظرية: رغم انسجام النظرية مع التجرِبة التاريخية التي مرت بها دول العالم الغربي، فإنه يصعب انطباقُها على واقع الدول النامية لأسباب ثلاثة، وهي:

 – افتراض النظرية لكون التراكم الرأسمالي وإعادة الاستثمار يعمل على خَلْق فرص جديدة للعمل، والواقع يقول بأنه إذا وجهت الاستثمارات لشراء معدات رأسمالية، فإن الطلب على العمل سينخفض، كما أن واقع الدول النامية يبين أن الأرباح إنما يعاد استثمارها خارج البلاد لأسباب اقتصادية وسياسية بدلاً من استثمارها في بلادهم.

 – افتراض النظرية لوجود فائض عمل في القطاع الريفي يمكن تحويله إلى المناطق الحضرية، بينما يوضح واقع الدول النامية تزاحم المدن، وارتفاع نسبة البطالة فيها.

 – افتراض وجود سوق عمل تنافسي في القطاع الصناعي، مما يعمل على ثبات الأجور، ولكن كثير من الدول النامية ترتفع فيها الأجور الحقيقية، لوجود النقابات العمالية ذات القوة التساومية العالية، حتى مع وجود بطالة[33].

10 – نموذج نادي روما (النظرية التقليدية المنقحة للنمو الاقتصادي):

ويسمى هذا النموذج بنموذج حدود النُّمو (1972)، الذي يشير إلى أن الاتجاهات الحالية المتفاقمة لنمو السكان وتدنِّي إنتاج الغذاء وتلوث البيئة ونضوب الموارد يمكن أن تجعل معدلات النُّمو تصل إلى نهايتها خلال المائة سنة المقبلة، ويسمى النموذج بنموذج نادي روما؛ لأن الدراسة بدأها نادي روما وأشرف عليها دينيس ميدوس في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا MIT.

تشير هذه الدراسة إلى أن معدل نمو السكان يكون بشكل أُسِّي قياسًا بالمعروض من الغذاء الذي يتناقص بمرور الزمن، كما أن الإنتاج الصناعي سوف ينخفض أيضًا نتيجة نضوب الموارد المعدنية في باطن الأرض والنفط أيضًا، ثم ستنتشر المجاعة بنهاية المائة سنة المقبلة.

وقد تعرضت هذه النظرية للعديد من الانتقادات؛ حيث إنها افترضت محدودية التقدم التكنولوجي رغم أن هذا المتغير ينمو على نحو متزايد، كما أن النُّمو السكاني الذي افترضته الدراسة ينمو بصورة سريعة يمكن الحد منه طالما يزداد نصيب الفرد من الدخل، وأن النموذج يتجاهل أهمية جهاز الأثمان باعتباره حافزًا للاقتصاد في استخدام الموارد النادرة والبحث عن البدائل[34].

11 – نظرية ثورة التبعية الدولية:

أثناء السبعينيات حظيت نماذج التبعية الدولية بتأييد مفكري العالم الثالث، إن نموذج التبعية الدولية يرى أن دول العالم الثالث محاصرة بالعراقيل المؤسسية والسياسية والاقتصادية، سواء المحلية أو الدولية، بالإضافة إلى وقوعها في تبعية وسيطرة الدول الغنية من خلال علاقتها بها. ضمن التبعية الدولية توجد ثلاثة تيارات فكرية، هي:

أ – نموذج التبعية الاستعمارية الجديدة.

ب – نموذج المثال الكاذب.

ج – فرضية الثنائية التنموية.

أ – نموذج التبعية الاستعمارية الجديدة:

هذا النموذج تطور غير مباشر للتفكير الماركسي في التنمية الاقتصادية؛ فهو يرجع وجود واستمرارية العالم الثالث المتخلف إلى التطور التاريخي للنظام الرأسمالي غير العادل فيما يخص العلاقة بين الدول الغنية والفقيرة.

من خلال النظام الدولي المسيطر تتم العلاقة عن طريق عدم تكافؤ القوة في العلاقة بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، وحسب هذه النظرية، توجد مجموعات (حكام، عسكريين وبعض النخب) الذين يتمتعون بدخول مرتفعة ومكانة اجتماعية بالإضافة إلى القوة السياسية، التابعين للنظام الرأسمالي الدولي القائم على عدم العدالة، وتتطابق مصالحهم مع جماعات المصالح الدولية، مثل: شركات متعددة الجنسيات، أو منظمات المساعدات، مثل: البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي، التي تمولها الدول الرأسمالية الغنية، أنشطة هذه النخبة تمنع جهود الإصلاح الحقيقي، وتبقي على مستويات معيشة منخفضة واستمرارية التخلف، باختصار: أصحاب هذه النظرية يعزون مشاكل الفقر في دول العالم الثالث إلى سياسات الدول الصناعية الرأسمالية، وبالتالي التخلف ناتج عن ظاهرة خارجية على عكس نظريات المراحل الخطية والتغير الهيكلي.

إذًا الكفاح الثوري أو إعادة بناء النظام الرأسمالي العالمي أصبح أمرًا ضروريًّا لتحرير العالم الثالث.

ب – نموذج المثال الكاذب:

يقوم هذا النموذج على ما يعطى للعالم الثالث من نصائح مغلوطة وغير مناسبة؛ فهؤلاء الخبراء يعرضون مفاهيم لا محل لها من الصحة، ونماذج الاقتصاد القياسي لا تتماشى مع واقع الدول، إن العوامل المؤسسية للهياكل الاجتماعية التقليدية كثيرًا ما تغيب من نماذجهم المعروضة، وبالتالي تفشل نماذجهم في إيجاد الحلول الناجعة لدول العالم الثالث.

ج – فرضية الثنائية التنموية:

أظهرت صراحة نظريات التبعية الدولية فكرة ثنائية المجتمعات في كل من الدول الغنية والدول الفقيرة، في الدول الفقيرة تتمركز الثروة في أيدي قلة داخل مساحة كبيرة من الفقر.. والثنائية مفهوم واسع في التنمية الاقتصادية، وهو ما يشير إلى وجود استمرار تزايد الفرق بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ومفهوم الثنائية يشتمل على أربعة عناصر أساسية:

 – توافر مجموعة الظروف المتباعدة في آن واحد وفي مكان واحد (الحديث والتقليدي، المدينة والريف، فئة غنية مع فقراء أكثر).

 – اتساع هذا التعايش واتسامه بالاستمرارية وليس بالمرحلية (أسباب هيكلية لا يسهل إزالتها والقضاء عليها).

 – عدم تقارب الثنائية، بل على العكس فإنها تزداد بكثرة، مثل إنتاجية العمال في الدول المتقدمة والدول المتخلفة، وتتسع من عام لآخر.

 – وأهم خواص الثنائية يكمن في عدم تأثير القطاع المتخلف بالرواج أو الانتعاش الموجود في القطاع المتقدم، بل على العكس بدلاً أن تتقلص الفجوة فإنها تتسع[35].

12 – نظرية النُّمو المتوازن وغير المتوازن:

وهي للاقتصادي روز نشتاين رودان، ومُفاد نظريته: لكي ينتشل الاقتصاد من دائرة الفقر والتخلف لا بد أن تكون برامج التنمية ضخمة متلاحقة، وأن تتسم برامج الاستثمار بالدفعة الكبيرة “Big Push” حتى يمكن التغلب على القصور الذاتي للاقتصاد الراكد ودفعه نحو مستويات أعلى للإنتاج والدخل، وأن الحكومة يجب أن تقوم في البلاد النامية بإعداد مشروعات التنمية كوحدة.. ذلك لضمان زيادة الدخل بقدر يكفل زيادة الطلب الفعال، ومن ثم نجاح المشروعات في مجموعها، ولضمان معدل مناسب ومرتفع للادخار في اقتصاد يتميز بانخفاض مستوى الدخل عن طريق زيادة في الاستثمار يمكن تحقيقها بتحريك موارد إضافية كامنة، مثل القوة العاملة العاطلة، وفي الوقت نفسه يجب أن تتخذ بعض التدابير الخاصة، عن طريق الضرائب لرفع المعدل الحدي للادخار على هذا الدخل الإضافي، ومن أجل نجاح نموذجه يؤكد رودان على وجوب توافر رؤوس الأموال من مصادر داخلية وخارجية.

أما راجنار نيركسة R. NURKSE فيرى أن النُّمو المتوازن يمكن تحقيقه فقط بالقيام بموجة كبيرة من الاستثمارات في عدد من الصناعات حتى يتسع نطاق السوق ويزيد بالتالي الطلب على منتجاتها، وهو من الاقتصاديين الذين أيَّدوا وبشدة حاجة البلاد النامية إلى معدل مرتفع للاستثمار في بدء مرحلة تنميتها[36].

أما بخصوص فكرة النُّمو غير المتوازن فقد بلور هيرشمان معالمها بعدما انتقد أقطاب النُّمو والنُّمو المتوازن، وأكد أن الخطة التنموية التي تطبق إستراتيجية النُّمو غير المتوازن المقصود هي أفضل طريقة لتحقيق التقدم؛ ذلك لأن الاستثمار في القطاعات الإستراتيجية الرائدة هو الذي يقود استثمارات جديدة، وأن عملية التنمية تحتاج إلى عدم التوازن في بداية مراحلها؛ حيث ينتقل النُّمو من القطاعات القائدة إلى القطاعات التابعة، وهذا لخلقها الوفرات الخارجية التي تستفيد منها باقي القطاعات، وكل مشروع جديد من شأنه أن يولد وفرات ومزايا (أرباح المنظمين الخواص، والأرباح الاجتماعية) يستفيد منها كل مشروع آخر جديد، وهكذا، كما أن البلدان النامية تحتاج إلى دفعة قوية لتمويل البرنامج الاستثماري الضخم المخصص لبعض الصناعات، وليس كلها، وهو ما حدث في الولايات المتحدة أو اليابان، وحيث إنه لا يوجد أي بلد قادر على توفير التمويل اللازم لكل القطاعات، يتوجب على المخطط الوطني توجيه الاستثمارات لبناء رأس المال الاجتماعي، أو لإقامة النشاطات الإنتاجية المباشرة؛ حيث يخلق أحدها وفرات خارجية، بينما يستفيد منها الآخر، وكل تطور للأول يشجع الاستثمار الخاص، وهذا العمل من شأنه أن يخلق عدم التوازن الاقتصادي الذي يعتبر القوة الدافعة للنمو، وهو يحدث في مستويين، إما اختلال التوازن بين قطاع رأس المال الاجتماعي وقطاع الإنتاج المباشر، أو الاختلال داخل القطاع نفسه، مع اشتراط أن يكون القطاع الرائد يحتوي على أكبر قدر من قوة الدفع للأمام والخلف، فمثلاً يؤدي إنشاء صناعة السيارات إلى خلق صناعة الإطارات والزجاج والبطاريات، كما يؤدي إلى دفع المستثمرين لإنشاء الصناعات الوسيطة.

يعاب على النظرية افتراضها تماثل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين كل البلدان أو بعضها (خاصة بين البلدان النامية والصناعية)، هذه الأخيرة التي ورثت نظامًا اقتصاديًّا هشًّا، لعب الاستعمار والظروف التاريخية المرتبطة بنشأة النشاط الاقتصادي دورًا مهمًّا في حالة التخلف التي تعاني منها هذه البلدان، كما أنها أهملت الأخطاءَ التخطيطية في دراسة العلاقات التبادلية بين القطاعات التي يمكن أن تقود إلى الاتجاه السلبي في تطور القطاعات نفسها أو باقي القطاعات التابعة لها، بمعنى: قد تكون قوة الدفع للأمام والخلف ذات أثر سلبي، يعمق أزمة التنمية فيها أكثر فأكثر[37].

كانت هذه أهم النظريات المقدمة لتفسير نمط وعملية النُّمو الاقتصادي في العصر الحديث.

 نظريات التنمية الاقتصادية:

لا بد من الحديث عن نظريات التنمية الاقتصادية لكي نعرف خلفية ما تم التفكير به على مر الزمن من  أفكار، ونظريات تؤطر عمل الباحث لموضوع التنمية  الاقتصادية وتم اختيار عدد منها كما يلي:

I– نظريات النمو(*)قبل الحرب العالمية الثانية:

1- نظرية آ دم سميث ( Adam Smith):

وهو من طليعة المفكرين الاقتصاديين الكلاسيكيين، وكان كتابه: ثروة الأمم Welth of Nations عام 1776 يهتم بمشكلة التنمية الاقتصادية وان كان لم يقدم النظرية بشكلها المتكامل، إلا أن اللاحقين قد شكلوا النظرية الموروثة عنه، والتي تحمل سمات مهمة منها :

أ* القانون الطبيعي :

 اعتقد آدم سميث بإمكانية تطبيق القانون الطبيعي في الأمور الاقتصادية، أي أن النظام الاقتصادي نظام طبيعي قادر على تحقيق التوازن تلقائيا، ومن ثم فانه يعد كل فرد مسئولا عن سلوكه، أي أنه أفضل من يرعى مصالحه، وأن هناك يدا خفية Invisible Hand تقود كل فرد وترشد آلية السوق، وأن كل فرد يبحث عن تعظيم ثروته، وكان آدم سميث ضد تدخل الحكومات في الصناعة والتجارة، لأن ذلك يعرقل نمو الاقتصاد الوطني، وعليه فلا بد من الحرية الاقتصادية.

ب* تقسيم العمل :

وهو نقطة البداية في نظرية النمو الاقتصادي، حيث تؤدي إلى أعظم النتائج في القوى النتيجة للعمل.

جــــ* تراكم رأس المال :

 يعد ضروريا للتنمية الاقتصادية، ويجب أن يسبق تقسيم العمل، فالمشكلة هي مقدرة الأفراد على الادخار أكثر، ومن ثم الاستثمار أكثر في الاقتصاد الوطني.

د * دوافع الرأسماليين على الاستثمار :

 إن تنفيذ الاستثمارات يرجع إلى توقع الرأسماليين تحقيق الأرباح، وأن التوقعات المستقبلية فيما يتعلق بالأرباح تعتمد على مناخ الاستثمار أكثر في الاقتصاد الوطني.

ه * عناصر النمو:

 تتمثل في كل من المنتجين المزارعين ورجال الأعمال، ويساعد على ذلك أن حرية التجارة والعمل والمنافسة تقود هؤلاء إلى توسيع أعمالهم، وهو ما يؤدي إلى زيادة التنمية.

و* عملية النمو:

 يفترض  آدم سميث أن الاقتصاد ينمو مثل الشجرة، فعملية التنمية تتقدم بشكل ثابت ومستمر، فعلى الرغم من أن كل مجموعة من الأفراد تعمل معا في مجال إنتاجي معين، إلا أنهم يشكلون معا الشجرة ككل.

2- نظرية جون ستيوارت ميل :

 ينظر ستيوارت ميل إلى التنمية  الاقتصادية كوظيفة للأرض والعمل ورأس المال، حيث يمثل العمل والأرض عنصرين رئيسيين للإنتاج في حين يعد رأس المال تراكمات سابقا لناتج عمل سابق، ويتوقف معدل التراكم الرأسمالي على مدى توظيف قوة العمل بشكل منتج، فالأرباح التي تكتسب من خلال توظيف العمالة غير المنتجة، مجرد تحويل للدخل، ومن سماتها:

– التحكم في السكان يعد أمرا ضروريا للتنمية الاقتصادية.

– أن الأرباح تعتمد على تكلفة عنصر العمل، ومن ثم فان الأرباح تمثل النسبة مابين الأرباح والأجور، فكلما ارتفعت الأرباح قلت الأجور.

– إن الميل غير المحدود في الاقتصاد يتمثل في أن معدل الأرباح يتراجع نتيجة لقانون تناقص قلة الحجم في الزراعة، وزيادة عدد السكان على وفق معدل مالتوس، وفي حالة غياب التحسن التكنولوجي في الزراعة وزيادة معدل نمو السكان بشكل يفوق التراكم الرأسمالي، حيث يصبح معدل الربح عند حده الأدنى وتحدث حالة من الركود.

– ميل من أنصار سياسة الحرية الاقتصادية، لذلك فقد حدد دور الدولة في النشاط الاقتصادي عند حده الأدنى، وفي حالات الضرورة فقط مثل إعادة توزيع ملكية وسائل الإنتاج.

3- نظرية شومبيتر :(Joseph Schumpeter):

تأثر شومبيتر بالمدرسة النيوكلاسيكية في اعتباره أن النظام الرأسمالي هو الإطار العام للنمو الاقتصادي، وتأثر أيضا بأفكار مالتس فيما يخص تناقضات النظام الرأسمالي، فهو يمقت الشيوعية ومع ذلك لا يدعو لإلغاء الرأسمالية ولا ينحاز إليها، إنما تنبأ بانهيار النظام الرأسمالي ليرث محله النظام الاشتراكي وليس الشيوعي. وقد ظهرت أفكار شومبيتر في كتابه نظرية التنمية الاقتصادية عام 1911، وطورها في كتابه عن الدورات عام 1939.  

تفترض هذه النظرية اقتصادا تسوده حالة من المنافسة الكاملة وفي حالة توازن، وفي هذه الحالة لا توجد أرباح، ولا أسعار فائدة ولا مدخرات ولا استثمارات، كما لاتوجد بطالة اختيارية. ويصف شومبيتر هذه الحالة بــــــــــــــ: التدفق النقدي، وما يميز هذه النظرية هو الابتكارات التي هي على حسب رأيه تحسين إنتاج أو منتج أو طريقة جديدة للإنتاج، وإقامة منظمة جديدة لأي صناعة، أما دور المبتكر للمنظم ليس لشخصية الرأسمالي، فالمنظم ليس شخصا ذا قدرات إدارية عالية، ولكنه قادر على تقديم شيء جديد، فهو لا يوفر أرصدة نقدية ولكنه يحوّل مجال استخدامها.

أما الأرباح، فإنه في ظل التوازن التنافسي تكون أسعار المنتجات مساوية تماما لتكاليف الإنتاج ومن ثم لا توجد أرباح.

4- النظرية الكنزية (John Maynard Keynes ):

يعتبر جون مينار كينز مؤسس المدرسة الكنزية، انطلق كينز في بناء نظريته في ظروف مغايرة لتلك الظروف التي بنيت فيها النظريات السابقة، وأهم ظرف هو أزمة الكساد الكبير ( الأزمة الاقتصادية العالمية) التي أصابت العالم سنة 1929، والتي من مظاهرها:

*حدوث كساد في السلع والخدمات: العرض يفوق الطلب.

* توقف العملية الإنتاجية، وبالتالي توقف النمو الاقتصادي.

* ارتفاع مستويات البطالة.

* انخفاض مستويات الأسعار.

 فرضيات كينز:

–  يمكن أن  يتوازن الاقتصاد عند حالة عدم التشغيل الكامل، ويستمر ذلك لفترة طويلة.

– لا يمكن للاقتصاد أن يتوازن تلقائيا، وان حدث فسيكون ذلك في المدى البعيد، وبتكلفة اجتماعية باهظة.

– وجوب تدخل الدولة لإعادة التوازن الاقتصادي  أو للحفاظ عليه.

– الطلب هو الذي يوجد العرض المناسب له وليس العكس.

وقد اهتمت نظرية كينز باقتصاديات التنمية في الدول المتقدمة أكثر مما هي موجهة للدول النامية، حيث يرى كينز أن الدخل الكلي يعد دالة في مستوى التشغيل في أي دولة، فكلما زاد حجم التشغيل زاد حجم الدخل الكلي، والأدوات الكينزية هي:

1- الطلب الفعال: البطالة تحدث بسبب نقص الطلب الفعلي وللتخلص منها يرى كينز حدوث زيادة في الإنفاق سواء على الاستهلاك أو الاستثمار.

2-  الكفاية الحدية لرأس المال: تمثل احد المحددات الرئيسة  لمعدل الاستثمار، وتوجد علاقة عكسية بين الاستثمار والكفاية الحدية لرأس المال.

3- سعر الفائدة هو العنصر الثاني المحدد للاستثمار، ويتحدد دوره بتفضيل  السيولة وعرض النقد.

 4- المضاعف الكنزي يقوم على فرضيات: وجود بطالة لا إرادية، اقتصاد صناعي، وجود فائض في الطاقة  الإنتاجية للسلع الاستهلاكية، درجة مرونة  عرض مناسبة وتوفير سلع رأس المال اللازمة لزيادة الإنتاج.

II– نظريات التنمية الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية:

جاءت هذه النظريات لتحلل أوضاع الدول المتخلفة، وكان السبب من وراء هذا الاهتمام من قبل الدول المتقدمة بالدول المتخلفة هو محاولة كسب ودها وضمها إلى معسكرها.

وقد انقسمت نظريات التنمية الاقتصادية في هذه الحقبة إلى اتجاهين، اتجاه يحلل أسباب فشل الدول النامية  في تحقيق التنمية والتقدم ( المشاكل والمعوقات)، واتجاه أخر يركز ويبحث عن العوامل الأساسية للنمو والتنمية.

1- نظرية مراحل النمو: روستو  ( W.W. Rostow)

قدمت هذه النظرية من طرف الاقتصادي “والت ويتمان روستو سنة 1960، والتي لقيت صدى كبير. شغل روستو منصب أستاذ في التاريخ الاقتصادي في جامعة كمبريدج.

 هذه النظرية عبارة عن مجموعة من المراحل الاقتصادية المستنبطة من المسيرة التنموية للدول المتقدمة، حيث حاول في هذه النظرية أن يضع الخطوات التي يجب على الدول النامية أن تسير عليها للوصول إلى التقدم، وقد لخصها في 05 مراحل في كتاب “مراحل النمو الاقتصادي”، وهي: مرحلة المجتمع التقليدي، مرحلة التهيؤ للانطلاق، مرحلة الانطلاق، مرحلة النضج، ومرحلة الاستهلاك الوفير وفيما يلي التفصيل:

أ- مرحلة  المجتمع التقليدي:

تكون الدولة في هذه المرحلة شديدة التخلف سماتها نفس سمات العصر التاريخي الأول، أي ما قبل التاريخ، ومن مظاهرها:

– سيادة الطابع الزراعي التقليدي والصيد.

– تمسك المجتمع بالتقاليد والخرافات.

– تفشي الإقطاع.

– انخفاض الإنتاجية.

– ضآلة متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي.

وقد قدم روستو مثالا عن دول اجتازت هذه المرحلة كــــــــــ: الصين، دول حوض البحر الأبيض المتوسط، بعض دول أوربا، وهذا في القرون الوسطى.

 ومن سمات هذه المرحلة أنها عادة ما تكون طويلة نسبيا، وبطيئة الحركة، كما أن هناك بعض المناطق في العالم في العصر الحالي مازالت تعيش هذه المرحلة مثل: بعض مجتمعات جنوب الصحراء الأفريقية، مناطق أدغال أمريكا اللاتينية.

ب- مرحلة التهيؤ للانطلاق : وهي المرحلة الثانية والتي يكون من مظاهرها:

* حدوث تغيرات على المستويين الاقتصادي وغير الاقتصادي.

 فعلى المستوى غير الاقتصادي نجد:

– بروز نخبة تدعو إلى التغيير وتؤمن به.

– بروز ظاهرة القومية كقوة دافعة في هذه المرحلة.

أما على المستوى الاقتصادي فنجد:

–  زيادة معدل التكوين الرأسمالي ( بروز نخبة ترغب في تعبئة الادخار وتقوم بالاستثمار).

– بداية تخصص  العمال في أنشطة معينة.

– بداية طهور القطاع  الصناعي إلى جانب القطاع الزراعي.

– ظهور الاستثمارات الاجتماعية ( بناء الطرقات، المواصلات،..).

 لكن مع ذلك كله، يبقى نصيب الدخل الفردي منخفض، وضرب مثلا لدول اجتازت تلك المرحلة: ألمانيا، اليابان، روسيا، وذلك مع بداية القرنين الماضيين (19 و20م).

جــــــ- مرحلة الانطلاق:

 وهي المرحلة الثالثة والحاسمة في عملية النمو وفيها تصنف الدولة على أنها ناهضة أو سائرة في طريق النمو، حيث تسعى فيها الدول جاهدة للقضاء على تخلفها. ومن مظاهرها:

– إحداث ثورة في أساليب الإنتاج والتوزيع  وإنشاء الصناعات الثقيلة.

– النهوض بالزراعة والتجارة ووسائل النقل.

– ارتفاع معدل الاستثمار  الصافي من 5 بالمائة وأقل إلى أكثر من 10 بالمائة.

– بروز صناعات جديدة تنمو بمعدلات مرتفعة.

– بروز إطارات سياسية واجتماعية مواتية إلى حد كبير ودافعة للنمو المطرد ذاتيا.

* رغم أن هذه المرحلة تنطوي على حدوث تقدم ملموس، إلا أن المجتمع يبقى متمسكا بالأساليب الإنتاجية التقليدية.

وضرب روستو مثلا بدول اجتازت هذه المرحلة: روسيا بين 1890و 1914، اليابان بين 1878 و 1900.

 كما يرى روستو أن هذه المرحلة قصيرة نسبيا، حيث تتراوح مدتها ما بين 20 و30 سنة.

د- مرحلة النضج: وفي هذه المرحلة تعتبر الدولة متقدمة اقتصاديا، ومن مظاهرها:

– استكمال نمو جميع القطاعات الاقتصادية ( الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات) بشكل متوازي.

– انتشار وتطور التكنولوجيا على شكل واسع.

– ارتفاع مستوى الإنتاج المادي.

– ازدهار التجارة الخارجية وزيادة الصادرات.

– تقدم المجتمع ونضوجه فكريا و فنيا.

ه- مرحلة الاستهلاك الوفير: وهي آخر مراحل النمو كما تصورها روستو، حيث تكون الدولة قد بلغت شوطا كبيرا في التقدم ومن مظاهرها:

– يعيش سكانها في سعة ورغد من العيش.

– الدخل الفردي مرتفع جدا.

– لا تشكل في ظلها الضروريات: الغذاء، السكن، الكساء،.. الأهداف الرئيسة للفرد.

– زيادة الإنتاج الفكري والأدبي والعلمي للمجتمع.

2- نظرية لبنشتين:

يؤكد لبنشتين أن الدول النامية تعاني من حلقة مفرغة للفقر، بحيث تجعلها تعيش عند مستوى دخل منخفض، أما عناصر النمو عنده فهي تعتمد على فكرة الحد الأدنى من الجهد على أساس وجود عدة عناصر مساعدة على تفوق عوامل رفع الدخل عن العوامل المعوقة. إضافة إلى الحوافز حيث يوجد نوعان من الحوافز: الحوافز الصفرية وهي التي لا ترفع من الدخل القومي، وينصب أثرها على الجانب التوزيعي، والحوافز الايجابية والتي تؤدي إلى زيادة الدخل القومي.

3- نظرية نيلسون:

يمكن وضع الاقتصاديات المتخلفة وفقا لهذه النظرية كحالة من التوازن الساكن عند مستوى الدخل عند حد الكفاف في مستوى متوازن للدخل الفردي يكون معدل الادخار، وبالتالي معدل الاستثمار الصافي عند مستوى منخفض، ويؤكد نيلسون أن هناك أربعة شروط تفضي إلى هذا الفخ هي:

* انخفاض العلاقة بين الزيادة في الاستثمار والزيادة في الدخل.

* ندرة الأراضي القابلة للزراعة.

* عدم كفاية طرق الإنتاج.

* الارتباط القوي بين مستوى الدخل الفردي ومعدل نمو السكان.

4- نظرية الدفعة القوية:

 تتمثل فكرة النظرية في أن هناك حاجة إلى دفعة قوية أو برنامج كبير ومكثف في شكل حد أدنى من الاستثمارات بغرض التغلب على عقبات التنمية ووضع الاقتصاد على مسار النمو الذاتي.

 ويفرق روزنشتين رودان بين ثلاثة أنواع من عدم القابلية للتجزئة والوفورات الخارجية، الأولى عدم قابلية دالة الإنتاج للتجزئة، والثانية عدم قابلية دالة الطلب للتجزئة، وأخيرا عدم قابلية عرض الادخار للتجزئة.

ويعتبر رودان أن نظريته في التنمية اشمل من نظرية الاستاتيك التقليدية لأنها تتعارض مع الشعارات الحديثة، وهي تبحث في الواقع عند المسار باتجاه التوازن أكثر من الشروط اللازمة عند نقطة التوازن.

 5 – نظرية النمو المتوازن:

النمو المتوازن يتطلب التوازن بين مختلف صناعات سلع الاستهلاك وبين صناعات السلع الرأسمالية، كذلك تتضمن التقارب بين الصناعة والزراعة. ونظرية النمو المتوازن قد تمت معالجتها من قبل روزنشتين وآرثر لويس، وقدمت هذه النظرية أسلوبا جديدا للتنمية طبقتها روسيا وساعدتها على الإسراع بمعدل النمو في فترة قصيرة.

6- نظرية النمو غير المتوازن:

تأخذ هذه النظرية اتجاها مغايرا لفكرة النمو المتوازن، حيث إن الاستثمارات هنا تخصص لقطاعات معينة بدلا من توزيعها بالتزامن على جميع قطاعات الاقتصاد الوطني، ومن روادها: هيرشمان الذي يعتقد أن إقامة مشروعات جديدة يعتمد على ما حققته مشاريع أخرى من وفورات خارجية، إلا أنها تخلق بدورها وفورات خارجية جديدة يمكن أن يستفيد منها، وتقوم عليها مشروعات أخرى تالية.

  7 – نظرية النمو لــــــ: هارود ودومار Harrod- Domar :

تم تطوير هذه النظرية في الأربعينات، وتعتبر كامتداد للفكر الكينزي الجديد، وقد حاول هذان الاقتصاديان تقديم نموذج يشرح شروط حدوث التنمية الاقتصادية، وقد صاغا نتيجة بحثهما في شكل علاقة رياضية على النحو التالي y/y=s/k أي أن: معدل النمو الاقتصادي= معدل الادخار القومي /معامل رأس المال

وفي حالة إدخال معدل نمو السكان يصبح النموذج كالتالي:  y/y=s/y-n

أي: معدل النمو الاقتصادي = (معدل الادخار القومي/معامل رأس المال) – معدل نمو السكان

وعليه فان: معدل النمو الاقتصادي تربطه علاقة طردية بمعدل الادخار والاستثمار وعلاقته عكسية بكل من معامل راس المال ومعدل النمو السكاني المرتفع

إذن: انطلاقا من المعادلة السابقة نستنتج ما يلي:

– سبب تأخر وتخلف الدول المتخلفة يرجع إلى:

1- إما لضعف معدلات الادخار والاستثمار القومي، وإما:

2- لارتفاع معامل رأس المال وذلك بسبب:

– ضعف التقدم التكنولوجي، أو بسبب ارتفاع معدلات النمو السكاني.

والواقع أن جميع هذه الظروف متوفرة في الدول المتخلفة، وأصبحت حجر عثرة أمام خططها التنموية.

كما نجد العكس من ذلك في الدول المتقدمة، ارتفاع معدلات الادخار والاستثمار ( بسبب ارتفاع الدخل وتوفر البيئة الاستثمارية الملائمة)، وانخفاض معامل راس المال نتيجة التقدم التكنولوجي وانخفاض المعدلات السكانية نتيجة سياسة الحد من النسل.

– ولتفادي معدلات النمو الاقتصادي السلبية، فإن ذلك  يستوجب معدلات ادخار عالية جدا، لكن المشكل بالنسبة للدول المتخلفة هو ضعف القدرة الادخارية، إذن الحل هو تعبئة الفجوة الادخارية عن طريق التمويل الأجنبي، إما القروض الأجنبية “المديونية” أو الاستثمارات الأجنبية.

 التقييم: – طبقت نتائج هذه النظرية في اوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن مشروع مارشال وكانت النتائج مقبولة جدا.

 – لا يمكن اعتبار عامل الادخار المشكل الوحيد لعملية التنمية في الدول المتخلفة، فهناك مشاكل أخرى مثل عدم الاستقرار السياسي، التخلف الاجتماعي،..

 – شجع هذا النموذج على زيادة الاقتراض من طرف الدول المتخلفة، ما أدى بها إلى مشكل المديونية.  وبالتالي فإن هذا النموذج لا يصلح للتطبيق على الدول النامية.

8- نظرية التنمية لآرثر لويس:

 وهي من أهم النظريات الحديثة في التنمية، وركزت على التغيير الهيكلي للاقتصاد الأولي الذي يعيش حد الكفاف، والذي حصل بموجبه آرثر لويس على جائزة نوبل في منتصف الخمسينات، وقد عدل بعد ذلك من طرف كل من:  Gustave ranisو  .John Feiإن نموذج آرثر لويس أصبح نظرية عامة في عملية التنمية القائمة على فائض العمالة في دول العالم الثالث خلال الستينات والسبعينات، والذي مازال التمسك به مستمرا حتى يومنا هذا في العديد من الدول.

وفي ضوء هذه النظرية، يتكون الاقتصاد من قطاعين هما: الزراعي التقليدي الذي يتسم بالإنتاجية الصفرية لعنصر العمل، والصناعي الحضري الذي تتحول العمالة إليه تدريجيا من القطاع التقليدي، إذن يفترض لويس انه بالإمكان سحب هذا الفائض من القطاع الزراعي بدون أية خسائر في الناتج، مع تحقيق إنتاجية عالية. أما عن السرعة التي يتم بها هذا التحول فإنها تتحدد بمعدل النمو في الاستثمار الصناعي وتراكم رأس المال في القطاع الصناعي، فالاستثمار يسمح بزيادة أرباح القطاع بالاعتماد على الفرض القائل بإعادة المستثمرين استثمار أرباحهم يحدث التوسع في هذا القطاع بالإضافة إلى زيادة تحول وهجرة العمالة من القطاع التقليدي إلى القطاع الحديث.

9- نظرية هوليس تشينري: hollis chenery:

وهي من النظريات المعروفة على نطاق واسع في دراسة نماذج التنمية في عدد من دول العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية. والفرضية التي يقوم عليها النموذج هي أن التنمية عملية مميزة للنمو، تكون الملامح الأساسية للتغيير فيها متشابهة في كل الدول، ويحاول النموذج التعرف على الاختلافات التي من الممكن أن تنشأ بين الدول فيما يتعلق بخطوات ونموذج التنمية، بالاعتماد على مجموعة الظروف الخاصة بها. وهناك مجموعة من العوامل المؤثرة في عملية التنمية وهي: السياسة الحكومية، حجم الدولة، المصادر الطبيعية، أهداف الدولة، التكنولوجيا، رأس المال الخارجي، التجارة الدولية.

إن الدراسات التجريبية لعملية التغيير الهيكلي تقودنا إلى أن خطوات التنمية ونموذجها من الممكن أن تتغير وفقا لكل من العوامل المحلية والعوامل الدولية حيث يفوق العديد منها قدرة الدولة بمفردها على التحكم فيها.

هناك فرق بين نموذج تشينري ونموذج لويس، حيث يعتبر الأول أن التنمية لا تركز فقط على الادخار كشرط لحدوث عملية التنمية، بل تعتبر شرط ضروري لكن غير كاف. فبالإضافة إلى التراكم الرأسمالي والبشري، تتطلب عملية التحول مجموعة من التغيرات  الداخلية للهيكل الاقتصادي مثل: التغيير في النمط الإنتاجي، تغيير النمط الاستهلاكي للهيكل الاجتماعي مثل: التحضر، التوزيع السكاني، الثقافة.

استوحي نموذج تشينري من دراسة أقيمت على مجموعة من الدول المتخلفة بعد الحرب العالمية الثانية وخلص إلى مجموعة من  الصفات منها:

 – الانتقال من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي .

– كما تتطلب تراكم مادي وبشري.

– تتطلب التغيير في الطلب الاستهلاكي من التركيز على السلع الغذائية والأساسية إلى الرغبة في السلع الصناعية والخدمية.

– نمو التحضر الصناعي عن طريق هجرة السكان من المزارع والمدن الصغيرة الصناعية.

– انخفاض حجم الأسر والنمو السكاني.

– اهتمام أرباب الأسر بالنوع أكثر من الكم.

10- نظرية ثورة التبعية الدولية:

تعتبر هذه النماذج كامتداد للفكر الاشتراكي الجديد ( النيو ماركسية)، وتعتبر نماذج تشاؤمية مقارنة بنماذج التغير الهيكلي، حيث ترى أن الدول المتخلفة محاصرة بمجموعة من العراقيل المؤسسية والاقتصادية، سواء المحلية أو الدولية، وقد اكتسبت هذه النظرية مكانتها خلال السبعينات بعد خيبة الأمل التي أصابت الدول النامية من محاولاتها المستمرة لتطبيق نظريات ونماذج تنموية غير ملائمة. وهناك 3  نماذج أساسية هي: نموذج التبعية الاستعمارية، نموذج المفهوم الخاطئ للتنمية، فرضية الثنائية التنموية.

* نموذج التبعية الاستعمارية الجديدة:

يعد هذا النموذج امتدادا للفكر الماركسي، والذي يرجع وجود العالم المتخلف واستمرار تخلفه إلى التطور غير العادل في النظام الدولي، حيث أصبح هذا الأخير يخدم مصالح الدول الرأسمالية القوية، والتي تشكل مركز هذا النظام، ولا يخدم الدول الفقيرة التي تشكل محيط النظام. وهذا ما يجعل قرارات السلطة دائما في أيدي الدول الغنية مما يبقي دائما تبعية من قبل دول المحيط إلى دول المركز. هذه التبعية من شانها أن تعرقل أية محاولة للتنمية والتقدم، بل تجعلها عملية مستحيلة. فمن مصلحة الدول المتقدمة بقاء الدول الفقيرة في تخلفها، لهذا شكلت نظام دولي يخدم مصالحها. ضف إلى ذلك وجود بعض الأطراف المحلية التي تتطابق مصالحها مع مصالح الدول الغنية من اجل الاستفادة أكثر، وفي غالب الأحيان يكون هؤلاء الأفراد ذوي نفوذ سياسي داخل بلدانهم وهم: الحكام العسكريون، التجار، الموظفون الحكوميون السامون، .. وبالتالي فإن هذه النخبة تمارس أنشطة من شانها أن تعرقل التنمية من خلال: احتكار السوق، إهمال وعرقلة  النشاط الإنتاجي، تشجيع الواردات.

وعليه، فإن التنمية تتحقق بإحداث تغيرات جذرية للنظام الاقتصادي العالمي بما يضمن قيام علاقات اقتصادية متكافئة بين دول العالم.

* نموذج المفهوم الخاطئ للتنمية:

يرجع هذا النموذج تخلف الدول النامية- زيادة على ظروفها الداخلية- لإتباعها سياسات اقتصادية غير ملائمة نتيجة الضغوط التي تمارسها مؤسسات التنمية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلا عن إعطاء الدول النامية نصائح مخلوطة وغير مناسبة، وذلك نتيجة التحيز العرقي للخبراء من الدول المتقدمة المشتغلين بالوكالات والمنظمات الدولية، إذ يقدم هؤلاء الخبراء هياكل اقتصادية رائعة، ونماذج اقتصاد قياسي معقدة في التنمية غالبا ماتقود إلى سياسات غير سليمة وغير مناسبة.

* فرضية التنمية الثنائية:

 يفترض تركز الثروة في أيدي قليلة داخل مساحة كبيرة من الفقر، ويشتمل مفهوم هذه الفرضية على العناصر الأساسية التالية:

1- توافر مجموعة من الظروف المتباعدة في آن واحد وفي مكان واحد، كأن يتعايش معا في ظروف الإنتاج في بلد ما طريقتي الإنتاج التقليدية والحديثة، في قطاع الريف والمدينة، أو تعايش القلة الغنية مرتفعة المستوى الثقافي والتعليمي مع كثرة الفقيرة والأمية من سكان مجتمع ما.

2- اتساع هذا التعايش واستمراره ليس مرحليا، ويرجع هذا إلى مسببات ليست ظاهرية ولكنها أسباب هيكلية لا يسهل إزالتها والقضاء عليها.

 3- لا تبدي الفوارق بين شقي ظاهرة الثنائية الاقتصادية أي ميل نحو التقارب، بل على عكس فإنها تميل نحو الزيادة والاتساع، ومن خواصها أيضا أن الأحوال الاقتصادية في القطاع المتخلف لا تتأثر كثيرا بالرواج أو الانتعاش في القطاع المتقدم بل على العكس، إذ قد يدفع القطاع المتأخر إلى الأسفل وتعميق تخلفه.

11- نظرية الثورة النيوكلاسكية الجديدة:

لقد ظهرت هذه النظرية من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وألمانيا الغربية سابقا، في النظريات والسياسات الاقتصادية خلال القرن 20 م. وقد تركزت دراسات هذه النظرية على سياسات الاقتصاد الكلي الذي يهتم إلى جانب العرض وعلى نظريات التوقعات الرشيدة وإلى عمليات الخوصصة، أما على صعيد الدول النامية فقد أخذ ذلك على شكل تحرير الأسواق، وانتهاج أسلوب التخطيط المركزي على مستوى الدولة. ومن الملاحظ أن أنصار المذهب النيو كلاسيكي يسيطرون على أقوى مؤسستين ماليتين في العالم هما: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

إن النظرية تقول بان حالة التخلف الاقتصادي تنتج عن سوء تخصيص الموارد بسبب السياسات السعرية الخاطئة والتدخل المفرط في النشاط الاقتصادي من جانب حكومات دول العالم الثالث، ويقول رواد مدرسة الثورة النيو كلاسيكية أمثال  Balassa  Bellaو Harry Johnson و  Peter Bawerأن التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي هو الذي يؤدي إلى إبطاء عملية النمو الاقتصادي.

ويرى الليبراليون الجدد أن السماح بانتعاش الأسواق الحرة وخوصصة المشروعات المملوكة للدولة وتشجيع حرية التجارة والتصدير والترحيب بالمستثمرين الأجانب من الدول المتقدمة، وتقليل صدور التدخل الحكومي  والاختلالات السعرية سواء أكان ذلك في أسواق عوامل الإنتاج أو السلع أو أسواق المال من شانه أن يؤدي إلى زيادة الكفاءة الاقتصادية وتحفيز النمو الاقتصادي.

هنا يظهر وجه الاختلاف حول أسباب التخلف للدول النامية مع ما يدعيه أنصار نظرية التبعية، حيث يعتقد مفكرو النظرية النيوكلاسكية أن سبب تخلف دول العالم الثالث ليس نتيجة التصرفات التي تقوم بها دول العالم الأول أي الدول المتقدمة والوكالات الدولية التي تسيطر عليها، وإنما بسبب التدخل المفرط من جانب الدولة وانتشار الفساد وعدم الكفاءة وغياب الحوافز الاقتصادية.

(*)- نستخدم هذا المصطلح تأسيسا على أن مصطلح التنمية ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن النظريات التي جاءت قبل هذا التاريخ جاءت حسب الباحثين الاقتصاديين تحت تسمية نظريات النمو.

خاتمة

لا يفهم النُّمو الاقتصادي بأي حال من الأحوال بمعزل عن مفهوم التنمية الاقتصادية؛ فكلاهما يعد جزءًا لا يتجزأ من عملية البناء وتحقيق رفاهية المجتمعات، كما لا ينبغي حصر مفاهيم النُّمو والتنمية في مجالهما الاقتصادي الضيق وحسب طالما اعتبر كلاهما عملية متعددة الأبعاد تهدف إلى إعادة تنظيم وتوجيه كل من النظامين الاقتصادي والاجتماعي، والرقي بهما إلى الأحسن.

قائمة المراجع:

  • عبدالعالي دبلة، الدولة رؤية سوسيولوجية (القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع، ط. 1،2004).
  • كبداني سيد أحمد، أثر النُّمو الاقتصادي على عدالة توزيع الدخل في الجزائر مقارنة بالدول العربية، دراسة تحليلية وقياسية، أطروحة دكتوراه في العلوم الاقتصادية، جامعة أبي بكر بلقايد – تلمسان، السنة الجامعية: 2012 – 2013.
  • صليحة مقاوسي وهند جمعوني، نحو مقاربات نظرية حديثة لدراسة التنمية الاقتصادية، ملتقى وطني حول الاقتصاد الجزائري: قراءات حديثة في التنمية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الحاج لخضر – باتنة، السنة الجامعية: 2009 – 2010.
  • بناني فتيحة، السياسة النقدية والنُّمو الاقتصادي – دراسة نظرية – مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الاقتصادية، جامعة أمحمد بوقرة – بومرداس، 2008 – 2009.
  • ربيع نصر، رؤية للنمو الاقتصادي المستدام في سوريا، جمعية العلوم الاقتصادية السورية.
  • توفيق عباس عبد عون المسعودي، دراسة في معدلات النُّمو للأزمة لصالح الفقراء (العراق – دراسة تطبيقية)، مجلة العلوم الاقتصادية، العدد 26، المجلد السابع، نيسان 2010.
  • مقدم مصطفى، بحث حول النُّمو الاقتصادي، startimes.com
  • جمعة حجازي، مفاهيم التنمية. ina – syrie.com/tbl_images/file0473.pdf
  • عبداللطيف مصيطفى وعبدالرحمن بن سانية، انطلاق الاقتصاديات النامية: رؤية حديثة. digitallibrary.univ – batna.dz
  • عبلة عبدالحميد بخاري، التنمية والتخطيط الاقتصادي: نظريات النُّمو والتنمية الاقتصادية، الجزء الثالث، ص: 34،35 faculty.mu.du.sa
  • مطانيوس حبيب، شومبيتر (جوزيف)، الموسوعة العربية، المجلد الحادي عشر. http://www.arab – ency.com
  • و.و روستو، مراحل النُّمو الاقتصادي، ترجمة برهان الدجاني، مجلة الرائد العربي، العدد الثامن عشر، إبريل 1962. al – hakawati.net
  • زكي قاسم السعدي، مفهوم النُّمو والتنمية الاقتصادية. http://econ.to – relax.net

[1] مقدم مصطفى، بحث حول النمو الاقتصادي، www.startimes.com.

[2] ربيع نصر، رؤية للنمو الاقتصادي المستدام في سوريا، جمعية العلوم الاقتصادية السورية، ص: 05.

[3] جمعة حجازي، مفاهيم التنمية. www.ina-syrie.com/tbl_images/file0473.pdf

[4] توفيق عباس عبد عون المسعودي، دراسة في معدلات النمو للأزمة لصالح الفقراء (العراق – دراسة تطبيقية)، مجلة العلوم الاقتصادية، العدد 26، المجلد السابع، نيسان 2010، ص: 28.

[5] مقدم مصطفى، مرجع سابق.

[6] صليحة مقاوسي وهند جمعوني، نحو مقاربات نظرية حديثة لدراسة التنمية الاقتصادية، ملتقى وطني حول الاقتصاد الجزائري: قراءات حديثة في التنمية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الحاج لخضر – باتنة، السنة الجامعية: 2009 – 2010، ص: 4.

[7] مقدم مصطفى، مرجع سابق.

[8] بناني فتيحة، السياسة النقدية والنمو الاقتصادي – دراسة نظرية – مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الاقتصادية، جامعة أمحمد بوقرة – بومرداس، 2008 – 2009، ص: 4.

[9] مقدم مصطفى، مرجع سابق.

[10] بناني فتيحة، مرجع سابق، ص: 5.

[11] عبداللطيف مصيطفى وعبدالرحمن بن سانية، انطلاق الاقتصاديات النامية: رؤية حديثة. www.digitallibrary.univ-batna.dz.

[12] صليحة مقاوسي وهند جمعوني، مرجع سابق، ص: 4 – 5.

[13] مصطفى مقدم، مرجع سابق.

[14] بنابي فتيحة، مرجع سابق، ص: 10.

[15] مصطفى مقدم، مرجع سابق.

[16] بنابي فتيحة، مرجع سابق، ص: 06.

[17] عبلة عبدالحميد بخاري، التنمية والتخطيط الاقتصادي: نظريات النمو والتنمية الاقتصادية، الجزء الثالث، ص: 34،35 www.faculty.mu.du.sa.

[18] عبلة عبدالحميد بخاري، المرجع نفسه، ص: 35،36،37،38.

[19] توفيق عباس عبد عون المسعودي، مرجع سابق، ص: 31،32.

[20] بنابي فتيحة، مرجع سابق، ص: 16، 17.

[21] توفيق عباس عبد عون المسعودي، مرجع سابق، ص: 34.

[22] مطانيوس حبيب، شومبيتر (جوزيف)، الموسوعة العربية، المجلد الحادي عشر. http://www.arab-ency.com

[23] عبلة عبدالحميد بخاري، مرجع سابق، ص: 35،36،37،38.

[24] عبلة عبدالحميد بخاري، المرجع نفسه، ص: 38،39.

[25] عبداللطيف مصيطفى وعبدالرحمن بن سانية، مرجع سابق، ص: 02.

[26] و.و روستو، مراحل النمو الاقتصادي، ترجمة برهان الدجاني، مجلة الرائد العربي، العدد الثامن عشر، إبريل 1962. www.al-hakawati.net

[27] عبلة عبدالحميد بخاري، مرجع سابق، ص: 40.

[28] عبداللطيف مصيطفى وعبدالرحمن بن سانية، مرجع سابق، ص: 03.

[29] عبدالعالي دبلة، الدولة رؤية سوسيولوجية (القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع، ط. 1،2004).

[30] عبلة عبدالحميد بخاري، مرجع سابق، ص: 41،42،43.

[31] عبلة عبدالحميد بخاري، المرجع نفسه، ص: 45،46.

[32] رغد زكي قاسم السعدي، مفهوم النمو والتنمية الاقتصادية. http://econ.to-relax.net

[33] عبلة عبدالحميد بخاري، مرجع سابق، ص: 47.

[34] توفيق عباس عبد عون المسعودي، مرجع سابق، ص: 34.

[35] صليحة مقاوسي وهند جمعوني، مرجع سابق، ص: 11،12.

[36] رغد زكي قاسم السعدي، مفهوم النمو والتنمية الاقتصادية، مرجع سابق.

[37] كبداني سيد أحمد، أثر النمو الاقتصادي على عدالة توزيع الدخل في الجزائر مقارنة بالدول العربية، دراسة تحليلية وقياسية، أطروحة دكتوراه في العلوم الاقتصادية، جامعة أبي بكر بلقايد – تلمسان، السنة الجامعية: 2012-2013، ص: 69،70.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى