دراسات جيوسياسية

النظرية الجيوسياسية

إذا كانت النظريات الجيواستراتيجية تنطلق من الإقليم الذي تتواجد فيه الدولة والذي يؤثر على حركتها السياسية، فإن النظريات الجيوسياسية تنطلق من الإقليم الذي يؤثر في القوى العالمية ويكون موضع استقطاب وجذب لهذه الحركة، بما ينطوي عليه من خصائص ومزايا تطلعًا نحو السيطرة العالمية، وليس بالضرورة أن تكون هذه القوى متواجدة فيه.

ومن الناحية البنيوية تشكيل الدولة وحدة التحليل الأساسية في النظرية الجيوبوليتيكية في حين يشكل الإقليم محور البناء الفكري للنظرية الجيواستراتيجية، أما من الناحية الوظيفية، فالنظرية الجيوبوليتيكية تركز على وظيفة الدولة كوحدة متحركة بسبب من قابليتها الذاتية في انطلاقتها نحو السيطرة العالمية، مبتلعة أقاليم ومجالات حيوية تتميز بخصائصها الإستراتيجية، بينما تركز النظرية الجيواستراتيجية على وظيفة الإقليم بسبب من مزاياه وخصائصه الإستراتيجية، وأثر ذلك على حركة القوى في السيطرة عليه لإتمام سيطرتها العالمية.
وبناءا على ما سبق برزت في حقل الجيواستراتيجية نظريات عدة أولت اهتماما بالغ الأهمية لأقاليم بعينها معتبرة أن تمكن قوة ما من بسط نفوذها عليها هو الطريق الأقرب والمضمون لإحراز السيطرة العالمية.

وفي حقيقة الأمر تلعب الأقاليم – التي يمكن وصفها بالإستراتيجية- دورا بارزا في جذب أنظار القوى الكبرى إليها، متسببة في كثير من الأحيان في إذكاء نزاعات لا يتم تسويتها إلا بالدم، فبالنسبة لغالية تاريخ الشؤون الدولية، كانت السيطرة على الأرض محور النزاعات الدولية… وليست هناك مبالغة عند القول بأن الدوافع المتعلقة بالأرض كانت الحافز الرئيسي الموجه للسلوك العدواني للدولة القومية،الإمبراطورية هي الأخرى قامت من خلال الاستيلاء البارع على المواقع الجغرافية الحيوية مثل جبل طارق، أو قناة السويس أو سنغافورة، وهي المواقع التي عملت كمحابس أو مسامير عجلة، في منظومة السيطرة الإمبراطورية.

وقبل الولوج إلى أهم النظريات الجيواستراتيجية في هذا الصدد، ينبغي أن نؤكد أن مفهوم الإقليم لا يقتصر على مساحة محددة من الأرض كما يمكن أن يفهم عل العموم، فقد يكون هذا الإقليم مجالا بحريا كما يمكن أن يكون أيضا مجالاً جويا، وعلى هذا الأساس، فقد كان كبار الجيوبوليتيكيين –ولا يزالون- يتجادلون حول ما إذا كان النفوذ الأرضي أكثر أهمية من النفوذ البحري أو العكس من أجل السيطرة العالمية كما جادل بعض منهم في أهمية كلا المجالين “البري والبحري” –نتيجة للتطور التكنولوجي الحاصل- كونهما لا يحملان أهمية بالغة إذا ما قورنا بأهمية المجال الجوي –ثم الفضائي- في تحقيق السيطرة العالمية.

وفيما يلي عرض مفصل لأبرز وأشهر النظريات الجيواستراتيجية التي طرحها أشهر الباحثين في هذا الصدد.

هالفورد ماكيندر و نظرية قلب العالم: 1861-1947

لقد تميز ماكيندر في طريقة تحليله الجيوبوليتيكي، الذي هو في حقيقته تحليل جيواستراتيجي، باهتمامه بالأقاليم وتحليل عناصره، ونظرته للمشاكل الجغرافية على نطاق عالمي، الأمر الذي جعل من النتائج التي توصل إليها تتمتع بخاصة إستراتيجية، لذا يمكن أن نقول أن ماكيندر بدأ بداية جيوبوليتيكية وانتهى بنتائج جيواستراتيجية.
ويبدأ تحليل ماكيندر عندما يقسم –في نظريته- العالم الذي يجمع ما بين اليابسة والماء إلى ثلاث مناطق: منطقة القلب، منطقة الهلال الداخلي، ومنطقة الهلال الخارجي.

ولاحظ أن الجزيرة العالمية، -وهي تلك الحلقة المتصلة من اليابس وهي أوروبا، آسيا، إفريقيا-، تكون ثلثي مساحة اليابس كلية، وأن الكتل اليابسة الأخرى تكون الثلث الباقي وتحيط بالجزيرة العالمية متمثلة في أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، بينما تمثل البحار والمحيطات ثلاث أرباع العالم، وتكون كتلة مائية متصلة أطلق عليها المحيط العالمي، World Ocean.

ويؤكد ماكيندر على أن الوضع الجيوبوليتيكي الأفضل لكل دولة هو الوضع المتوسط المركزي، كما يؤكد على فكرة مهمة جدا، -ونعتبرها أساسية في دراستنا هذه- وهي أن المركزية مفهوم نسبي ويمكنها أن تتبدل مع كل سياق جغرافي محدد.
والقارة الأوراسية من وجهة النظر الكونية، تقع في مركز العالم –أي الوضع المتوسط المركزي- ويقع في مركزها ما سماه بـقلب العالم أو الـHeartland وهذا هو رأس الجسر الجغرافي الأكثر ملائمة للسيادة على العالم بأسره، فالهارتلاند هو المنطقة الأكثر أهمية في السياق الأعم ضمن حدود الجزيرة العالمية World Island.
وتشمل منطقة القلب -التي أطلق عليها في بادئ الأمر بـ “منطقة الإرتكاز” “Pivot Area” جزءا كبيرا من أوراسيا، هذه المنطقة يحدها من الشرق الصين ومنشوريا، ومن الشمال المحيط المتجمد الشمالي، ومن الجنوب هضاب آسيا وجبال الهيمالايا، أما من الغرب فيحدها نهر الفولكا.

وينظر ماكيندر إلى الهارتلاند من زاويتين: على اعتبار أنه يشمل مناطق الصرف الداخلي في أوراسيا، وعلى اعتبار أنه يشمل المناطق التي يصعب على القوى البحرية الوصول إليها، “تحت الظروف السائدة حينذاك”، إذ يعتبر أن المحيط القطبي شرق البحر الأبيض عقبة طبيعية للتحركات البشرية، أما بحر قزوين وبحر أرال وبحيرة بيكال فهي مياه مغلقة لا تتصل بالبحار الخارجية والطرق العالمية، فعلى الاعتبارين السابقين، نجد أن الهارتلاند ينطبق تقريبا على إقليم واحد،هو إقليم قاري تفصله مناطق انتقالية عن الأقاليم الهامشية البحرية في أوروبا وآسيا،وعلى هذا الأساس كانت عزلة الهارتلاند وأمانه راجعة إلى ظروف جغرافيته الطبيعية: المحيط القطبي المتجمد في الشمال، السلاسل الجبلية والصحاري المتسعة إلى الجنوب والشرق، لكنه سهل الاتصال نوعا ما من جهة الغرب، حيث يسهل اتصاله بأراضي أوروبية عامرة بالسكان.

فقوة الهارتلاند وأهميته يستمدها من اتساعه الكبير، فضلا عن أمانه الطبيعي وتوسطه أوراسيا تقريبا، ولم “تهبه الطبيعة” قوة دفاعية فحسب، بل يتحكم أيضا في خطوط المواصلات الداخلية، فعوامل الاتساع والبعد عن منال القوى البحرية هي قلعة الدفاع الحصينة للهارتلاند، وهي القاعدة الأمينة للقيام بحرب هجومية، فضلا عما يتمتع به من معادن وثروات طبيعية.

كما تصور ماكيندر منطقة ارتكاز ثانية سماها قلب الأرض الجنوبي، وتتكون من إفريقيا جنوب الصحراء، ويتصل القلبان الشمالي والجنوبي عن طريق بلاد العرب، ويحيط بقلب الأرض نطاق أو قوس من الأراضي ذات التصريف المائي الخارجي أطلق عليها ماكيندر اسم الهلال الداخلي Interi or marginal crescent” ويضم هذا الهلال أوروبا الغربية، والأرض العربية الواقعة في “الشرق الأوسط” والمناطق الموسمية في آسيا، وقد اعتبر ماكيندر هذه المنطقة، منطقة الصدام بين القوات البرية والبحرية.

ويحيط بالهلال الداخلي، قوس من الجزر التي تفصلها عن الهلال الداخلي بحار ومحيطات واسعة، سماها ماكيندر “بالهلال الخارجي” “Outer crescent” ويشمل أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا وانكلترا واليابان، ويمتلك هذا النطاق قوة بحرية عظيمة.

قلب العالم إذن قاري، وأطرافه جزرية، وعلى هذا وضع ماكيندر فرضيته التي تقول أنه:
– من يتحكم بمنطقة القلب يتحكم بالجزيرة العالمية.
– ومن يتحكم بالجزيرة العالمية يتحكم بالعالم.
وللتغير الطارئ في ميزان القوى بعد الحرب العالمية الأولى، كتب ماكيندر كتابا جديدا عام 1919 سماه “المثاليات الديمقراطية والواقع والحقيقة”، وفيه عدل مصطلح المنطقة المحورية إلى قلب الأرض، وفي نظرة يشمل: بحر البلطيق، الدانوب الأوسط والأدنى، البحر الأسود وآسيا الصغرى، أرمينيا وإيران، التبث ومنغوليا، وبذلك أكد ماكيندر على أهمية شرق أوروبا كبوابة تفتح على قلب الأرض، وأن شرق أوروبا يعتبر المفتاح الوحيد الذي أو امتلكته قوة خارجية يمكنها أن تسيطر بالتالي على قلب الأرض.

وبهذا لخص ماكيندر نظريته في الثلاثيات الآتية:
– من يتحكم في شرق أوروبا يسيطر على قلب الجزيرة العالمية “الهارتلاند”.
– ومن يتحكم في منطقة القلب يسيطر على الجزيرة العالمية.
– ومن يتحكم في الجزيرة العالمية يسيطر على العالم.
– Who rules east Europe, Commands the Heartland.
– Who rules the heartland, Commands the Island.
– Who rules the Island, Commands the World
وفي ضوء تطورات الحرب العالمية الثانية، كتب ماكيندر بحثا تحت عنوان “Round World and Winning of peace” سنة 1943 في مجلة الشؤون الخارجية.
عدل فيه من نظريته حيث جعل الو.م.أ ركنا أساسيا -بعد بروزها كقوة على المسرح الدولي- فبرأيه أن الموقف السياسي للقوة العالمية لا يعتمد فقط على الموقع الجغرافي في قلب الأرض، وإنما يعتمد كذلك على التقدم العلمي والتكنولوجي والتطور الصناعي، ولهذا استحدث اصطلاح “الحوض الأوسط” الذي يضم شمال المحيط الأطلسي وشرق الو.م.أ وغرب أوروبا، واعتبر أن منطقة الرايخ الألماني فاصلا بين الحوض الأوسط من ناحية وقلب الأرض من ناحية ثانية.

مما سبق نلاحظ أن ماكيندر كان دائم التغيير في حدود قلب العالم ونظرته للعالم ككل، إذ لقد كان على علم تام -كجغرافي – بأن استغلال الإنسان لمحيطه الطبيعي كان دائم التغيير، وأن المحيط الطبيعي كان أيضا يتغير، لذلك فنكاد نجزم أن ماكيندر كان سيرسم -لو عاش بيننا اليوم- لوحة جيوبليتيكية جديدة لعالم اليوم، محددا منطقة إقليم جيواستراتيجية جديدة لهذا العالم، فكما يقول ماكيندر نفسه: “أن لكل قرن جيوبوليتيكا”.

– السير هالفورد ماكيندر، الشخصية الأوفر تألقا بين علماء الجيوبليتيكا، بعد أن أنهى علومه الجغرافية أخذ منذ عام 1887 يعمل في التدريس في أوكسفورد إلى أن عين مدير للمدرسة الاقتصادية في لندن، وصار بين 1910-1922 عضو مجلس العموم، وكان بين 1919-1920 الموفد البريطاني إلى روسيا الجنوبية.
يشتهر ماكيندر بمقامه الرفيع في عالم السياسة الانجليزية التي ترك أثره العميق في توجهاتها الدولية، وبكونه فضلا عن ذلك، صاحب المخطط الأجرأ والأكثر ثورية بين مخططات التأويل السياسي لتاريخ العالم.
كان أول أعمال ماكيندر وأهمها تقريره حول “المحور الجغرافي للتاريخ The Géographic pivot of history” والذي نشر عام 1904 في المجلة الجغرافية أي أثر العامل الجغرافي في تفسير تاريخ العالم، وفيه جاءت نظريته عن قلب العالم والجزيرة العالمية، والتي تعتب أشهر =النماذج الجغرافية لدراسة العلاقات الدولية، وقد صاغها بعد دراسته المتعمقة للجغرافيا وقراءاته الواعية لتاريخ العالم، وقد كان كل ما جاء بعدها تعديلا لها أو تعليقا علها .
لذلك يمكن عدها بمثابة النص الجيوبوليتيكي الرئيسي في تاريخ هذا العلم

نيكولاس سبيكمان و نظرية الإطار: 1893-1943

ينطلق سبيكمان في تحليله من أن مركز الدولة في إطار السياسة الدولية، لا يتوقف من الناحية الجيوبوليتيكية، على موقعها الثابت، وإنما يعتمد أيضا وإلى حد بعيد على علاقة هذا الموقع بمراكز القوى المؤثرة في السياسة الدولية، ولما كانت مراكز القوى هذه في حالة تغير لأسباب عديدة، فإن قيمة الموقع الجغرافي للدولة هو الآخر يتغير، ليس من الناحية الجغرافية، وإنما من حيث طبيعة التفاعلات السياسية، بعبارة أخرى أن التفاعلات السياسية وتغير مراكز القوى الدولية تؤثر على القيمة السياسية للموقع الجغرافي.

وبعد أن درس سبيكمان بكل اهتمام أعمال ماكيندر تقدم بصياغته لمخطط جيوبوليتيكي أساسي يختلف عن أنموذج ماكيندر، وكانت فكرة سبيكمان الأساسية تقوم على أساس أن ماكيندر قد بالغ في تقييم الأهمية الجيواستراتيجية للهارتلاند، وهذه المبالغة لم تتناول فقط التموضع الحيوي للقوى على خارطة العالم، بل وتناولت المخطط التاريخي الأولي.

فالهارتلاند لا يتمتع في نظر سبيكمان بأي صفات تؤهله للقيادة “افتقاره للموارد الطبيعية والطاقوية، يقع أغلبه في مناطق متجمدة أو صحراوية…”، لذلك فإن منطقة الثقل الرئيسية لا تتمثل في منطقة القلب الأرضي –عند ماكيندر- وإنما تتركز فيما يسميه بمنطقة الإطار أو حافة الأرض، الريملاند Rimland، وهي من وجهة نظر سبيكمان أعظم أهمية من القلب نفسه.

والريملاند هو ذلك النطاق الساحلي، والذي يشمل كل أوروبا -عدا روسيا- والجزيرة العربية بما في ذلك العراق وآسيا، والصين وشرق سيبيريا، واعتبر سبيكمان الريملاند بمثابة منطقة حاجزة تفصل بين القوى المتصارعة البرية والبحرية، في زمن السلم، كما تعتبر منطقة التقاء و تصادم Crush Zone بين القوى البحرية والبرية في زمن الحرب،كما اهتم سبيكمان بهذه الحلقة الوسطى وأعطاها أهمية أكبر من قلب الأرض، ويرجع ذلك إلى أن النطاق الارتطامي يضم عددا ضخما من سكان العالم وأنه يمتاز بموارده الاقتصادية والطبيعية الغنية المتنوعة، علاوة على استخدامه لطرق بحرية داخلية.

ويرى سبيكمان أن التاريخ السياسي بطوله لم يكن عبارة عن نضال بين القوى البحرية والقوى البرية بهذه البساطة، وإنما هو نضال “بين قوة بحرية بريطانيا، قوة هامشية أي قوة من الريملاند”من ناحية،ضد قوة من النطاق الهامشي”من الريملاند” وقوة برية “روسيا” من ناحية أخرى، أو بين قوة بحرية “بريطانيا” وبرية “روسيا” من ناحية، ضد قوة من الريملاند من ناحية أخرى.

والملاحظة الجيواستراتيجية عند سبيكمان هي أن منطقة الإطار الأرضي أو حافة الأرض، منفتحة على قلب الأرض ومحيطة بها، الأمر الذي يمهد، أو يمكن من السيطرة عليها من قبل قوى الإطار الأرضي.
وبسبب هذه المزايا الإستراتيجية وضع سبيكمان فرضيته التي تقول:
– من يتحكم في حافة الأرض يحكم أوراسيا.
– ومن يحكم أوراسيا يتحكم في مصير العالم.
– Who controls the rimland rules Eurasia.
– Who rules Eurasia controls the destinies of the World
وباعتبار منطقة الريملاند نقطة ارتكاز أساسية لتحقيق السيطرة العالمية، يرى سبيكمان أن القوى الراغبة في تحقيق الهيمنة العالمية تنطلق في التوسع وصولا إلى بسط سيطرتها على الريملاند وذلك ابتداءا المواقع الأول مقاومة للتوسع،حيث يتم احتلال منطقة ثم ابتلاعها لتكون نقطة ارتكاز نحو اندفاعية جديدة لاحتلال المزيد، ولذا يمكن القول أن ثمة علاقة بين حجم التوسع وسهولة حركة هذا التوسع، أي بين التوسع وضعف المقاومة، ويستمر هذا التوسع إلى أن يغطي منطقة الريملاند، وعلى الرغم من القرب والانفتاح الجغرافي للريملاند على الهارتلاند وقوى البر”

إلا أن سبيكمان يرى -في إطار التنافس بين القوتين البرية والبحرية- أن السيطرة الكاملة على الريملاند من طرف الدول البحرية سيؤدي إلى النصر النهائي الذي لا رجعة فيه على القوى البرية التي ستكون منذ ذلك اليوم وبكاملها تحت السيطرة.
يعد الأمريكي نيكولاس سيكمان الهولندي المولد، المتابع المباشر لخط الأميرال ماهان كان سبيكمان أستاذا للعلاقات الدولية، وأصبح فيما بعد مديرا لمعهد العلاقات الدولية في جامعة ييل، كان ينظر إلى الجيوبوليتيكا على أنها الأداة الأكثر أهمية في السياسة الدولية المحددة كمنهج تحليلي ونظام للمعادلات يسمحان معا باستنباط الإستراتيجية الأشد تأثيرا، وقد وجه أعنف نقده مدرسة الجيوبوليتيكية الألمانية خاصة في كتابه “جغرافية العالم” والذي عد فيه التصورات المتعلقة “بالحدود العادلة والحدود الظالمة هراءً ميتافيزيقيا.

ألكسندر دي سفرسكي و نظرية القوة الجوية.

كان للتقدم الهائل الذي طرأ على الطيران في الوقت الحاضر أثر كبير على الفكر الجيوبوليتيكي، وقد ظهرت بعض الآراء التي تهتم بدراسة العلاقة بين الاثنين في ضوء نظرة عالمية، مع رسم جيواستراتيجية للعالم على أساس القوات الجوية على غرار من رسموا هذه الجيواستراتيجيا على أساس القوات البحرية أو البرية.

وتستمد نظرية القوة الجوية صياغتها الفكرية من افتراض مفاده “أن السيطرة على الجو تتيح إمكانية عالية للسيطرة على الأرض”. هذا الافتراض ورغم بساطته فقد غير الكثير من مفاهيم السوق العسكري ومحاور القوة الجيوبوليتيكية والجيواستراتيجية ذلك أن الخصائص الإستراتيجية للمجال الجوي تعالج في الواقع مضمونه الجيواستراتيجي معتبرة إياه مجالا ينطوي على أهمية فائقة تتجاوز المجالين البحري والبري.

وأهم الآراء التي جاءت في هذا الصدد، ما جاء به ألكسندر سفرسكي في بحث باسم “القوة الجوية مفتاح البقاء Air Power Key to survival” 1950 والذي نظر إلى الوضع الجيوبوليتيكي في العالم في ضوء القوات الجوية، حيث رسم سفرسكي خريطة ذات مسقط قطبي “القطب الشمالي” ووضع فيها الأمريكيين جنوب القطب وأوراسيا وإفريقيا في شمال القطب، وعلى هذا فإن تقسيم سفرسكي هو التقسيم المتعارف عليه: العالم القديم والعالم الجديد، وفي هذه الخريطة يتضح أن السيادة الجوية الأمريكية تشتمل على كل الأمريكيتين بينما منطقة السيادة الجوية السوفيتية تغطي جنوب وجنوب شرق آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

لكن منطقتي النفوذ الجوي تتلاقى وتتصادم في مناطق أخرى هي أوروبا الغربية وشمال إفريقيا والشرق فضلا عن أن نفوذ القوة الجوية الروسية يغطي أمريكا الشمالية، وبالمثل تغطي القوة الجوية الأمريكية الهرتلاند الأوراسياوي، ومنطقة تداخل السيادتين الجويتين البرية والبحرية تسمى في عرف سفرسكي “بمنطقة المصير” “Area of décision” فهي منطقة الحسم في أي معركة بين القوتين كما أنها المناطق الجيواستراتيجية الأهم في العالم وقد عبر سفرسكي عن ذلك بمبدئه القائل:
– من يملك السيادة الجوية يستطيع أن يسيطر على مناطق تداخل النفوذ الجوي.
– ومن يسيطر على مناطق تداخل النفوذ الجوي يصبح بيده مصير العالم.

بالرغم من الإضافة الجديدة التي جاء بها سفرسكي على اللوحة الجيوبوليتيكية للعالم إلا أن عمله هذا لم يسلم من النقد، وقد دارت الانتقادات الأساسية لعمله حول نقطتين، ارتبطت الأولى بمسقط الخريطة التي اعتمدها سفرسكي في بحثه، فقد أدى المسقط القطبي الذي اعتمده إلى إبعاد إفريقيا عن أمريكا الجنوبية بصورة لا وجود لها في الواقع، ومن ثم فإن هذا الابتعاد قد جعل كل من القارتين في حوزة القوة الجوية للسوفييت والأمريكيين على التوالي، بينما في الحقيقة تبعد إفريقيا عن الو.م.أ بالمقدار الذي تبعد به أمريكا عنها.

أما النقطة الثانية فمرتبطة بمبدأ أن السيطرة الجوية تقود فورا إلى السيادة العالمية، فلقد تكلم سفرسكي عن الدولتين الكبيرتين فقط مع إشارات خفيفة إلى قوى بريطانيا الجوية، في حين أن الدولة في النصف الشمالي أو الجنوبي من الأرض يمكنها، إذا تجمعت لديها الأسباب التي تجعل منها قوة عسكرية جوية قوية بالإضافة إلى إرادة السيطرة، أن تحصل على السيادة العالمية، خاصة وأننا في عصر تطورت فيه القاذفات الجوية والصواريخ عابرة القارات.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى