النظرية المعاصرة في تحليل العلاقات الدولية
تطور نظرية العلاقات الدولية مرتبط بتطور البيئة الداخلية والخارجية للدول، ونمط وحجم التفاعلات بين اللاعبين في النظام الدولي، وكذا تزاید عدد الفواعل في النظام الدولي كما ونوعا. هذه التطورات في العلاقات الدولية سوف تنعكس في شكل أفكار تجريدية أو وحدات تحليلية قدف إلى صياغة السلوك الدولي في شكل أنماط ومتغيرات، الهدف منها المساعدة على الفهم والتحليل وبناء النماذج المساعدة على توجيه وتبصير صانع القرار في مختلف دوائر صنع القرار نحو القرارات الأكثر عقلانية ومساعدته على الإدراك الصحيح للبيئة التي يتفاعل فيها
إن النظرية بقدر ما فيها من إيجابيات، فإنها تبقى مجرد أفكار خاضعة للصحة والخطأ، و بالتالي يجب ألا تعطى ها الثقة الكاملة في فهم السلوك الدولي خاصة إذا علمنا أن السلوك الدولي في النهاية هو سلوك إنساني تجري عليه كل تعقيدات الحياة الإنسانية غير المتناهية. ومن ثم مجرد صياغة وحدة جديدة للتحليل ردف مباشرة بالنقد وبيان مجال النقص فيها، لفسح المجال أمام التطور النظري، وإعمال الفكر في البحث والتطوير. وفي نفس الوقت هذا النقد هو جزء من مصداقية البناء النظري وكذا تعبير عن الوجه العلمي للبناء النظري؛ على اعتبار أن البناء النظري في العلاقات الدولية مثل غيره من حقول المعرفة الاجتماعية الأخرى، لا يتم إلا بعد توجيه النقد للسابق أو بين الجديد منه على نقائص الأفكار السابقة وهكذا. بمعنى أن النقد في حقل نظرية العلاقات هو حالة صحية تؤدي إلى تطوير البحث وإبداع الأفكار النظرية الجديدة، و استحداث الصياغات الجديدة في المجال النظري على قدر ما هو جاري في نظيره العملي والمحال الميداني الذي هو مجال متحرك باستمرار.
يتناول هذا الكتاب اتجاهين نظرين حديثين في تحليل العلاقات الدولية هما الاتجاه الوظيفي والاتجاه الكوني. والصفة المشتركة والمميزة لهذين الاتجاهين هي الطابع الاقتصادي لهما، على اعتبار أن الأساس النظري لما هو أساس اقتصادي؛ بالإضافة إلى التركيز على خاصية التعدد في الفواعل. وذلك انسجاما مع تطور العلاقات الدولية وتقدم العامل الاقتصادي على العوامل الأخرى في العلاقات الدولية في مرحلة معينة. فالاتجاهان هنا يعبران عن تأثير تطور العلاقات الاقتصادية على تطور العلاقات الدولية، وبالتالي تطور النظرية في العلاقات الدولية. ويتبع ذلك، بناء وحدات تحليلية متباينة وفرضیات مختلفة عن نظير ما في النظريات الأخرى. كما أن الطابع المميز لفرضیات هاتان النظر بتان هو الطابع الفني ذو الصبغة التقنية، وتراجع العامل الإيديولوجي الرمزي.
هناك ظاهرتان بارزتان في العلاقات الدولية أثرتا في انبثاق النظريتان الجديدتان و هما الحركة السريعة في وتيرة عملية التكامل في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، والثانية انتهاء الحرب الباردة وظهور ما يسمى منظمة التجارة العالمية. فالنظرية الوظيفية هي انعكاس لظاهرة التكامل الدولي، والنظرية الكونية هي انعكاس لظاهرة منظمة التجارة العالمية أو ما يسمى بعولة الاقتصاد الدولي
من ناحية أخرى، لا بد من التأكيد على أن عمليات التكامل التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعمليات الاقتصاد الدولي التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة كلاهما يعدان تطورا للنظام الرأسمالي الليبرالي العالمي. وبالتالي بطريقة أو بأخرى، تتضمن النظريتان أفكار النظام الرأسمالي لكن بصياغات متباينة أو مختلفة، وفي بعض الأحيان، بصياغات متطورة، وأحيان أخرى بصياغات
جديدة. ومن ثم تعد النظريتان تطورا مرافقا لتطور النظام الدولي ومكوناته وفواعله، الذي يتقدم فيه العامل الاقتصادي على العامل العسكري والسياسي على الأقل من وجهة نظر أنصار هاتين النظريتين)، وذلك من جراء وجود فواعل قوية ومؤثرة لا تملك قوة عسكرية كألمانيا واليابان والشركات المتعددة الجنسيات.
إن هذا الكتاب هو تتمة للعمل النظري الذي سبق أن كتبناه تحت عنوان “الاتجاهات النظرية في تحليل العلاقات الدولية”. فهو يشمل على اتجاهين نظريين هما: الاتجاه الوظيفي والاتجاه الكوني. ولو أن هذا الأخير لا زال البحث جاريا
حوله بسبب حداثته، ولم تستو وحدات تحليله بعد، كما أنه ما زال يعاني من العديد من جوانب النقص ونقاط الضعف. وأحد أسباب ذلك، عدم وضوح معالم النظام الدولي الجديد، وحالة عدم الاستقرار في العلاقات الدولية، وبقاء المؤسسات الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية ثابتة دون تحديد. فإذا أخذنا ماية الحرب العالمية الثانية نجد أنها كشفت بوضوح عن معالم النظام الدولي الجديد يومئذ بإنشاء الأمم المتحدة والمؤسسات المرافقة لها، وظهور الثنائية القطبية في العلاقات السياسية والإستراتيجية الدولية. في حين أنه منذ الإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب الباردة في عام 1991 إلى غاية كتابة هذه السطور ( سبتمبر 2005) – وهي مناسبة مرور ستين سنة على تشكيل الأمم المتحدة ومناقشة أعضاء الأمم المتحدة في نيويورك موضوع إصلاح المنظمة-، لم تتضح بعد معالم النظام الدولي الجديد بالرغم من ظهور مؤسسات ومنظمات جديدة. ومازالت مؤسسات الحرب الباردة هي العاملة في العلاقات الدولية: الأمم المتحدة ، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، الأوبك، منظمة حلف الشمال الأطلسي.
وفي الأخير يعد هذا الكتاب مساهمة إضافية من المؤلف لإثراء مكتبات كليات العلوم السياسية والإعلام، ومساعدة طلبة العلاقات الدولية على فهمي نظريات العلاقات الدولية التي تعد مقياسا أساسيا في تخصص العلاقات الدولية. والدافع الذي حفزني على تأليف هذا الكتاب هو فقر المكتبة من مثل هذه الكتب، إذ بالكاد تجد كتابا متخصصا في نظرية العلاقات الدولية. والموجود منها تجد فيه إشارات طفيفة لنظريات العلاقات الدولية، وأغلب الأعمال فيهذا الميدان هي کتب عامة حول العلاقات الدولية بصفة عامة. لذا نريد هذا العمل والكتاب الذي سبقه، وضع خط جديد لبناء تراكمية متخصصة في نظرية العلاقات الدولية داخل كليات العلوم السياسية والإعلام.