دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينيةدراسات اقتصاديةدراسات سياسية

النموذج التنموي البرازيلي … الإنجازات والتحديات

 لاشك بأن انتقال المجتمعات عبر مراحل التطوير والتقدم ليس بالأمر الهين أو اليسير، فهذه مهمة تتكفلبها قدرات الإنسان وقابليته للتغيير والابداع،وهناك العديد من الدول التي شهدت قفزات نوعية على مختلف الأصعدة التنموية، وذلك بعد انتهاج سياسات مدروسة تم التخطيط لها سلفاً .

البرازيل وهي أكبر دول أمريكا اللاتينية مساحة وسكاناً تعد أحد النماذج التنموية التي يُشار إليها بالبنان، فهذا البلد الذي كان يرزح تحت ربقة التخلف والجهل لعقود طويلة، استطاع أن يتحول بفعل الإرادة السياسية والتخطيط الجيد والعمل الدؤوب إلى أحد أهم اقتصادات العالم.

ولتتبع هذه التحولات ومعرفة أسبابها سيتم تسليط الضوء على تاريخ نشأة دولة البرازيل، وكذلك المراحل التي شهدت تطورها السياسي والاقتصادي وصولاً إلى المرحلة الراهنة، مع محاولة استخلاص بعض الدروس المستفادة من هذه التجربة التنموية الرائدة من خلال فهم عوامل النجاح والقصور التي واكبت مسيرتها.        

نبذة تاريخية :

البرازيل دولة من دول أمريكا الجنوبية وتعد الأكبر من حيث المساحة والسكان، إذ تصل مساحتها إلى أكثر من 8 مليون كلم2، ويتجاوز عدد سكانها الـ200 مليون نسمة .

خضعت البرازيل للاستعمار البرتغالي في القرن السادس عشر،ثم نالت الاستقلال تحت اسم إمبراطورية البرازيل عام 1822م غير أنها وقعت تحت الحكم العسكري بعد ذلك وتحولت إلى مسمى جمهورية البرازيل.

وتم اقرار الدستور فيها لأول مرة سنة 1824م .

الأبعاد الرئيسية للتجربة التنموية في البرازيل تتمثل في :

أولاً : البعد السياسي:

ويتمثل في تدرج بناء الحكم الديمقراطي وينقسم إلى ثلاثة مراحل أساسية وهي :

المرحلة الأولى : وبدأت مع أربعينيات القرن العشرين، حيث عرفت البرازيل بعض الجوانب الشكلية للديمقراطية، وتميزت هذه الفترة بوجود التعددية الحزبية وزيادة النشاط العمالي والنقابي، وتنامي حرية التعبير،غير أن هذه التجربة لم تدم طويلاً بفعل الانقلابات العـسكرية التي أدت إلى دخول البرازيل في عهد الدكتاتورية العسكرية سنة1964م، وذلك بصعود الجيش واستيلائه على السلطة وحل جميع المؤسـسات المنتخبة وحظر التعددية الحزبية واعتقال قادة المعارضة.

المرحلة الثانية : وتمتد من سنة 1974إلى بداية التسعينيات، وتُمثل بالفعل مرحلة التحول الديمقراطي، حيث ظهرت بـوادر الانفراج السياسي بالرغم من استمرار الجيش فـي السلطـة، وبتزايد الضغوط الشعبية والنقابية تمالسماح بإجراء انتخابات برلمانية تنافسية ضاعفت نسبة تمثيل المعـارضة في البرلمان وهيأت للعديد من الاصلاحات السياسية بعد ذلك، حيث تم إجراء أول انتخابات رئاسية مباشرة في البرازيل سنة1990  م،وقد توفرت الضمانات اللازمة لنزاهة الانتخابات وذلك بإنـشـاء محاكم انتخابية تختص بالنظر في سلامة الإجراءات والنتائج الانتخابية، مع وجود مجتمع مدني قـوي وحركة عمالية نشطة وفاعلة.

المرحلة الثالثة : جاءت مع بداية التسعينات، وقد شهدت زيادة ترسيخ الديمقراطية بشكل أكبر، حيـث عـرفــت البرازيل الاستقرار السياسي، وتأكيد التداول السلمي على السلطة الذي مكن من صعود المعارضة اليسارية ووصولها إلى الحكم بفوز كاسح للنقابي القوي ( لولا دي سيلفا ) وتراجع دور العسكريين في السلطة بفعل الزخم السياسي الكبير للتنظيمات الشعبية والمؤسسات المدنية.

ثانياً : البعد الاقـتـصـادي: ويتمثل في الخطط الاقتصادية الكبرى، والتي سميت باستراتيجية ( بعث البرازيل ) بدءاً من تطوير التصنيع وحماية الإنتاج الوطني، وإعادة توزيع الدخل بشكل متوازن، مروراً باستراتيجية التصنيع من أجل التصديروتشجيع الشركات الوطنية وجلب الاستثمارات الأجنبية وإيجاد شراكات معها، وإجراء إصلاحات مالية واقتصادية، وذلك بسن تشريعات للحد من التفاوت الاجتماعي وتقوية دور الدولة في مجال التعليم والخدمات الصحية.

إن الإجراءات التي اتخذها النظام السياسي الاشتراكي المعتدل لمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية التي شهدتها البرازيل سنة 1999م والتي أوشك فيها الاقتصاد على الانهيار؛ هي من فتح الباب على التغيير الهيكلي في بنية الاقتصاد البرازيلي، وذلك من خلال اسـتراتيجية التنمية الاقتصادية المستقلة التي انتهجها الرئيس ( لولا ديسيلفا ) بداية من عام 2003م، والقائمة على سياسة التقشف والتوسع في الصناعة وتغيير وتنويع الصادرات، وسياسة الإقـراض والتوسع فـي الإنتاج الزراعي، والاسـتـفادة مـن الموارد الطبـيعية، وترشيد إدارة الديون، وتسخير السياسة الخارجية لدعم الاقتصاد الوطني، حيث أن البرازيل عضو في مجموعة البريكس وهي كتلة اقتصادية كبرى تضم الدول الأكثر نمواً في العالم وهي البرازيل ، وروسيا ، والصين ، وجنوب افريقيا .

ثالثاً : البعد البيئي : وهو ذو أهمية خاصة بالنسبة للبرازيل وهو أحد عوامل التنمية المهمة فيها، حيث تنوع الموارد النباتية وتوافرها على مساحات شاسعة من غابات الأمازونوما لها من دور فـي التوازن البيئي العالمي؛ وقد وظفت البرازيل الموارد البيئية لتنويع مصادر الطاقة البديلة، وقد حققت نجاحاً كبيراً في هذا المجال باستخدام الوقود الحيوي المستخرج من النباتات، والعمل بأنظمة التدوير والرسكلة.

رابعاً : البعد الخارجي: تطور دور البرازيل خارجياً في عهد الرئيس ( لولا )، وتمثلذلك بتوثيق الصلات  السياسية والاقتصادية مع معظم دول العالم، وتسوية المنازعات بشكل سلمي، وعدم التدخل فـي الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتوظيف السياسة الخارجية لتحسين الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وتعتمد في ذلـك على جملة من الأدوات لتحقيق هذه الأهـداف، مـن بينها قوتها الناعمة وتشكيل تحالفات دبلوماسية، والتركيزعلى التفاوض والمشاركة في المؤسسات والمنتديات الدولية، والتركيـز على العلاقات التي تشمل دول  جنوب – جنوب، وكذلك زيادة المشاركة الفعالة على المستوى الـدولي فـي حماية السلم والأمـن الدوليين، والتعاون الدولي، ومحاربة الفقر، ودعم برامج الصحة العالمية.

التحديات التي تواجه البرازيل :

 ( 1 ) تحدي ترسيخ الديمقراطية:

إن التطورات السياسية والنزاعات الدستورية التي عرفتها البرازيل مؤخراً قد تزعزع حالة الاستقرار السياسي والعملية الديمقراطية، خصوصا بعد خلع الرئيسة الإشتراكية السابقة ( ديلما روسيف ) عن طريق المحاكم واتهامها بقضايا فساد، والتي نفتها( روسيف) بشكل قاطع واعتبرتها وسيلة للانقلاب على الديمقراطية، كماطالت هذه التهم الرئيس الأسبق( لولا دي سيلفا ) أيضاً، والذي تمت محاكمته مؤخراً ثم الافراج عنه ! الأمر الذي مهد لعودة اليمين المحافظ للحكم، والذي فاز بالانتخابات عن طريق مرشحه ( جائيربولوسونارو )، وتأتي كل هذا التطورات والتجاذبات ضمن صراع الدوائرالسياسية بين القوى اليسارية صاحبة المشاريع الإجتماعية، والقوى المحافظة التي تخشى فقدان سيطرتها على الموارد الاقتصادية والاحتكارات والنفط والعلاقات مع الشركات الاجنبية .

( 2 ) تحدي تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام :

بالرغم من تصاعد معدل النمو الاقتصادي البرازيلي منذ عام 2003م وخلق فرص عمل بمعدل قياسي، إلا أن الاقتصاد البرازيلي يواجه تحديات عـدة على رأسها التضخم وارتفاع نسبة الديون وتفشي البطالة، وهذا ناتج أيضاً عن عدم قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه برامجها الاقتصادية الممولة من الخزانة العامة، حيث أن انخفاض أسعار النفط من وقت لآخريؤثر على العديد من برامج مساعدات الطبقات الفقيرة.

ورغم نجاح خطة الرئيس ( لولا دي سيلفا ) على المستوى الاجتماعي فـي إخراج أكثر مـن 30 مليون مواطن من خانة الفقر؛ إلا أن البرازيل لازالت تواجه تحديات استمرار وجود التفاوت الطبقي وقصورخدمات الأمن والتعليم والصحة، وانتشار الجريمة وانتهاكات حقوق الإنـسان،وهـي تحديات تحبط جهـود النظام السياسي في بناء مجتمع متماسك،حيث أن عملية التطور الديمقراطي والاقتصادي لا يمكن أن تتم بمعـزل عن التطورالقيمي، وقد أثبتت العديد من التجارب أهمية القيم والشـروط الثقافية في التطور السياسي والاقتصادي.

الخلاصة :

إن أهـم مصادر قوة البرازيل على المستوى الاجتماعي يتحدد فـي الموارد البشرية المتميزة بالوفرة والتحضر، والتنوع الثقافي والعرقي والديني، والذي يشكل مصدر غنى المجتمع البرازيلي، حـيـث سـيادة التسامح والتعايش، وربما سيكون على البرازيليين بذل المزيد من الجهد من أجل الوصول إلى مراحل أكثر استقراراً وازدهاراً للبرازيل، فالأمر يتعلق بمؤسسات المجتمع المدني والقوى الفاعلة في المجتمع، بحيث لا تترك المجال فقط للقوى السياسية المتصارعة على النفوذ والسلطة، فعادة الفراغ الذي يحدث بسبب سلبية الجماهير تملؤه الجماعات السلطوية اللاهثة وراء التحكم والسيطرة.

وهذا ما تشهده بلادنا ليبيا حالياً وبشكل مستمر منذ عشر سنوات، فعدم وجود المبادرة الشعبية والتنظيمات المدنية اليقظة ترك المجال مفتوحاً لحفنة قليلة من المتنافسين من ذوي المصالح الضيقة والذين يدعون تمثيل مناطق أو قبائل أو مدن ولكن في حقيقة الأمر هم يدافعون عن مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة. 

وعلى كل حال فإن وعي المواطنين بأهمية التنظيمات المدنية بدءاً من الطلاب ومروراً بالاكاديميين والمثقفين ورجال القانون هو الذي سوف يولد القدرة على التغيير وانتزاع المبادرة من محتكري السياسة، لأن الرهان في النهاية سيكون دائماً متعلقاً بالشعب ومدى قدرته على التأثير في مجريات الأحداث.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ورقة بحثية اعدت للمشاركة في ورشة عمل بالأكاديمية الليبية طرابلس بالتعاون مع المركز الليبي للدراسات والأبحاث وقسم الدراسات الإقليمية بمدرسة العلوم الإستراتجية والدولية بتاريخ : 2021.05.19 م بعنوان: التنمية السياسية في بلدان الجنوب ( الانجازات والتحديات ).

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى