الهيمنة الأمريكية وتحولات النظام السياسي الدولي

اعداد : يحيى قاعود – ماجستير في تاريخ الفكر والنظرية السياسية

باحث في مركز التخطيط الفلسطيني- م.ت.ف

المركز الديمقراطي العربي

منذ أن وجدت الكيانات السياسية وهي تتصارع من أجل القوة والبقاء والهيمنة، وبعد تبني تلك الكيانات الأيديولوجيات السياسية في مجتمعاتها، بدأت صراعاً من أجل الهيمنة والانتشار، فسقطت أيديولوجيات واستمرت أخرى في حروب عالمية ودولية. وبعد نهاية الحرب الأيديولوجية بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة عام 1989م، هيمنت الولايات المتحدة منفردة على العالم بأيديولوجيتها الليبرالية المنتصرة. ثم نظر مفكريها للأخطار التي قد تجابه الهيمنة الأمريكية، فكان مضمون هذه الأخطار “صدام الحضارات العالمية”. فبدأ النظام السياسي الدولي([أ‌]) بقيادة الولايات المتحدة بالتحول نحو حقبة جديدة من الهيمنة عنوانها صدام الحضارات.

وتتحدد أهداف المقالة في الكشف عن مكانة الولايات المتحدة في النظام السياسي الدولي في عالم صراع الأيديولوجيات السابق والانتقال إلى عالم صراع الحضارات الحالي. ومحتوى هذه الأفكار السياسية ومدى تأثيرها في التفاعلات الدولية. كما وتهدف إلى بيان السمات الرئيسية التي تتحكم في تفاعلات القوى الدولية وتحولاتها من الهيمنة الأيديولوجية إلى الهيمنة الحضارية([ب‌])، لتجيب عن سؤال رئيس وهو: مدى تأثر الهيمنة الأمريكية في ظل النظام السياسي الدولي القائم؟

كلمات مفتاحية: الهيمنة، الصراع الأيديولوجي، الصراع الحضاري، النظام السياسي الدولي

الصراعات الأيديولوجية والهيمنة:

جاء أول استخدام للأيديولوجيا من قبل دستوت دتراسي Destutt Detracy (1754-1836) وهي مركبة من مقطعين فكرة Idea وعلم Loges، وكان الهدف من المفهوم الجديد أن يحل محل “الميتافيزيقا” التي كانت غير ذات قيمة بعد الثورة الفرنسية 1789م، ويعرف دتراسي الأيديولوجيا بأنها “العلم الذي يرمي إلى دراسة الأفكار على أنها وقائع الوعي، ويكشف خصائصها وقوانينها وعلاقاتها بالإشارات التي تعبر عنها”، ومن هذا التعرف أنطلق الفلاسفة في تحديد مفهوم للأيديولوجيا، ولا يوجد مفهوم محدد يحظى بقبول عام عند علماء السياسية اليوم. فقد اختلفت الفلسفة السياسية عند المفكرين لتكون مجموعة من الأيديولوجيات السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين. والتي هيمنت مع بداية القرن العشرين على النظام السياسي العالمي، وتصارعت منذ بداية ثلاثينيات واربعينيات القرن المنصرم، وفي هذا الصراع سقطت بعض الأيديولوجيات، وبقيت الأيديولوجيات المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهما الأيديولوجيا الاشتراكية والأيديولوجيا الرأسمالية، وهيمنت الأيدولوجيات المنتصرة على النظام السياسي الدولي الذي سمي بنظام القطبية الثنائية، والتي تصارعت في عالم الحرب الباردة وسميت بـ “حرب الأيديولوجيات”([ت‌]). وتصف (حنان، بدون) استخدام مصطلح أيديولوجيا باعتباره سلاحاً سياسياً لإدانة أو انتقاد مجموعة الأفكار والقيم العقائدية المنافسة. فعندما يصف الليبرالي مثلاً غريمه السلفي أو الشيوعي بأنه “مؤدلج”، ويرفض في الوقت نفسه الاعتراف بأن الليبرالية أيديولوجيا أيضاً، فإنه يفترض بأن هذه الكلمة تحمل معان سلبية بالضرورة. منها: تشويه الواقع، والتضليل، والتزييف، أو كما يصفه الماركسيون بـ “الوعي الزائف”؛ وهو مصطلح يشير إلى هيمنة الأيديولوجيا على وعي الجماعات والطبقات المُستَغَلّة، وإسهامها في نفس الوقت بتبرير واستمرار هذا الاستغلال (حنان، hekmah.org).

بعد سقوط سور برلين عام 1989م، وما تبعه من انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، انتهت الحرب الباردة التي استمرت أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وسقطت الأيديولوجيا الاشتراكية وعلى إثر هذه الأحداث العالمية أعلن جورج بوش الأب George Herbert Walker Bush عن بدء عهد جديد في العالم- النظام العالمي الجديد، الذي تقوده الولايات المتحدة منفردة. وفي شهر أيلول/ سبتمبر 2002م، أذاعت إدارة بوش الابن George W. Bush (2001-2009) على الملاء استراتيجيتها للأمن القومي، وفيها أفصحت عن حقها في اللجوء إلى القوة للقضاء على أي تحدِ منظور للهيمنة([ث‌])الأمريكية على العالم (تشومسكي، 2004: 9). وكانت الدوافع المعلنة للولايات المتحدة هو تصدير الديمقراطية الغربية إلى منطقة الشرق الأوسط، وليست الأيديولوجيا الغربية.

أصبحت السمة الأساسية للنظام العالمي الجديد- آحادي القطبية هي، هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام السياسي الدولي من الناحية السياسية والعسكرية، وانفردت بقيادة العالم، خاصة في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن الذي عزز من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية المنفردة في النظام السياسي الدولي دون الحاجة لحلفاء. وحتى تكون الدولة مؤثرة في النظام السياسي الدولي عليها أن تمتلك القوة، وليست القوة العسكرية فحسب، وفي هذا يشير (علي، 2009) إلى أن الدولة صاحبة التأثير تشمل بجانب القوة العسكرية قدرات مادية ومعنوية، فالدول تتوزع توزيعاً متوازناً بين الأركان الثلاثة للقوة، القوة العسكرية- العنف، والقوة الاقتصادية- الثروة، فضلاً عن العلوم التقنية والثقافية- المعرفية (علي، 2009: 155). وهذا ما امتلكته الولايات المتحدة. ولكن هذه الهيمنة لم تكن هيمنة أيديولوجية كما كانت في عهد الحرب الباردة، وإنما هيمنة حضارية. إن التحولات في موازين الدولية تبعه تحولات في الفكر الذي صنع مفاهيم النظام العالمي الجديد. ولفهم الهيمنة الأمريكية على العالم علينا أن نعي جيداً الترابط بين القوة التي تؤمن الهيمنة والجغرافيا. يوضح (حسن، 2008) العلاقة بين القوة والجغرافيا قائلا: “إذا كانت القوة تعني: التأثير والسيطرة والإمكانية والقابلية، فلا غرور أن يقول الجنرال الفرنسي “غالو” أن الجيوبوليتك هي: دراسة العلاقات بين نهج سياسة القوة المأخوذ بها على المستوى الدولي والإطار الجغرافي الذي تمارس فيه. ويلتقي هذا التعريف مع تعريف كولن غراي الذي يقول: الجيوبوليتك هي العلاقة التي تقوم بين القوة والسياسة الدولية والإطار الجغرافي (حسن، 2008: 22). ومن هنا نستطيع أن نحدد أهمية منطقة الشرق الأوسط في صراع القوى الدولية الكبرى. فالمنطقة كانت وما زالت حلبة الصراع الرئيسية ما بين الغرب والشرق.

الصراعات الحضارية والهيمنة:

قدم المفكرين المرجعيات الفكرية التي تدعو صانع القرار في الولايات المتحدة إلى الدخول إلى عالم جديد- آحادي القطبية، بنشوة المنتصر. وتباينت تلك التنظيرات الفكرية في طروحاتها. ويرى (الراوي، 2015) أن المفكرين أثروا بشكل كبير لاستمرار هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، فضلا عن وجود تيار المحافظين الجدد، الذي كان له الدور الأكبر في دفع الولايات المتحدة إلى الهيمنة من خلال ما تمتلكه الولايات المتحدة من مقومات قوة أهلتها لكي تكون الدولة الأولى في العالم (الراوي، 2015: 22). وما طرحه فوكوياما Francis Fukuyamaفي “نهاية التاريخ”، وما عززه هانتنغتونSamuel Huntington (1927-2008) في “صدام الحضارات”، مثل التنظير الفلسفي لإعادة صياغة النظام العالمي الجديد لاستمرار الهيمنة الأمريكية على العالم. حيث انهيا الأيديولوجيا، واختلفا في رؤيتهما للعالم في القرن الحادي والعشرين. إن الفكرة الأساسية التي يطرحها فوكوياما هي “الديمقراطية الليبرالية تشكل نهاية التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية للحكم البشري”. أما أطروحة هانتنغتون “صدام الحضارات” التي انها فيها الأيديولوجيا السياسية كما فعل فوكوياما، لكنه لم ينه التاريخ، بل تنبأ في بداية صراع جديد وهو: الصراع الثقافي بين الحضارات. وتحدث هانتنغتون في أطروحته أن العالم يتم إعادة تشكيله وفقاً لاعتبارات ثقافية في السياسة الكونية، وقسم العالم إلى سبع حضارات رئيسية مع احتمالية قيام الثامنة “الحضارة الإفريقية”، واعتبر أشد الحضارات عداءً للحضارة الغربية هي الحضارة الإسلامية نتيجة الغطرسة الغربية والتعصب الإسلامي، بالإضافة إلى الحضارة الصينية([ج‌]). وعن تأثير تلك التنظيرات في استراتيجية الولايات المتحدة يقول (جبر، 2016) أخذت الإدارات الأمريكية تلك التنظيرات حجة لتحويل القرن الحادي والعشرون “قرنا أمريكيا” في صراعها مع الأيديولوجيات التي عدتها منطلقاً فكرياً في تعريف الآخر، في حين شكلت العقيدة الدينية ولو بشكل مبطن أهم مرتكزات تلك المتمايزات وبشكلها الواضح ما أسمته الولايات المتحدة (الإسلام المتطرف) وما انبثق عن ذلك المصطلح من مفاهيم محورية مثل: الإرهاب، ونشر الديمقراطية، ما جعل مجتمعاتنا تدخل في دوامة التأثير السياسي الأمريكي المباشر وغير المباشر، ابتداء بالتحولات السياسية في شكل أنظمة الحكم والسلطة، وانتهاءً بالتحولات الثقافية والفكرية لأنماط عيش تلك المجتمعات وجذورها التقليدية، بالإضافة إلى الارتباط الكامل- الخاضع لاقتصاديات تلك الدول مع الاقتصاد الأمريكي (جبر، 2016: 3). ويرى (قاعود، 2017) أن الأطروحتين جاءتا مكملتين لبعضهما البعض، فالأولى أعلنت الانتصار الليبرالي بعد سقوط الأيديولوجيا الاشتراكية، والثانية حذرت من أعداء جدد وفق رؤية جديدة للصراع الدولي. إن فوكوياما وهانتنغتون من أبرز رواد برديغم paradigm المركزية الغربية- نحن والآخرون- وهو أحد الأطر النظرية الأساسية والمؤثرة على السياسية الخارجية الأمريكية (قاعود، 2017: 75). وهذا ينقلنا إلى تساؤل جوهري في هذه المقالة وهو: كيف تمارس الولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة في النظام السياسي الدولي الحالي؟

استثمرت إدارة الرئيس السابق بوش الابن تلك الأطروحات الفكرية للهيمنة على العالم من خلال الحروب، وكانت فاعلة بشكل أقل في إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما Barack Obama (2009-2017)، فقد استخدمت إدارة أوباما (القوة الذكية) للهيمنة على النظام العالمي، فقد كتبت وزير الخارجية السابق هيلاري كلنتون Hillary Clinton في مذكراتها قائلة: “أردت استخدام كل عناصر السياسية الأمريكية معاً، قادني هذا التحليل إلى تبني مفهوم القوة الذكية، وقد دار الحديث عليه في واشنطن، بضع سنوات… عنت القوة الذكية بالنسبة إلي الاتحاد السليم بين كل الأدوات- الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والقانونية والثقافية- وفقاً لكل الظروف (كلنتون، 2015: 49). ومع وصول الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب Donald Trump 2017 أعلن في أكثر من خطاب “أمريكاً أولا” أي إعادة هيمنة الولايات المتحدة والحفاظ على الحضارة الغربية، فقد أصدر عدة قرارات أهمها، بناء سور على الحدود المكسيكية، ومنع دخول مواطني سبع دول عربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد نشرت جريدة التليغراف تقريراً لكون كوغلين محرر شؤون الدفاع في الجريدة بعنوان: “صراع الحضارات الذي يشعله ترامب لا يصب إلا في مصلحة الإرهابيين” (BBC, 2017). وفي تقرير لـ (الجزيرة، 2017) أشارت فيه أن هدف مستشار ترامب ستيف بانون Steve Bannon هو، إحياء صراع الحضارات، إشارة منه على صراع قادم لا مفر منه بين الدول الغربية والعالم الإسلامي. وبالتالي، هناك أوجه شبه لافتة للنظر بين نظرة بانون ووجهة نظر تنظيم الدولة- داعش الذي يرى العالم ينقسم إلى محورين (الجزيرة، 2016). وأكد ترامب مرة أخرى على الصراع الحضاري في خطابة أمام القمة الإسلامية العربية الأمريكية في الرياض في 21 مايو 2017م، وأعاد استخدام مصطلح “الخير والشر”.

يتضح لنا مما سبق أن الهيمنة الأمريكية تعتمد على الحضارة الغربية في النظام السياسي الدولي، وهذا لا يعني سقوط الأيديولوجيا السياسية بقدر ما توسع الصراع ليشمل الحضارات العالمية وثقافاتها، فالحضارة الغربية نفسها تعتمد على ثقافة الديمقراطية الليبرالية. وبالرغم من ذلك يمكننا القول بأن الفروق بين اليمين واليسار تقاربت إلى حد بعيد، خاصة في دول أوروبا التي تعتمد في برامجها السياسية على عدة عناصر تشمل الليبرالية والضمان الاجتماعي. وتؤكد (الهاشمي، بدون) نفور كثير من الساسة من الإقرار بأن برامجهم وقراراتهم السياسية نابعة من منطلقات أيديولوجية. ومن أمثلة ذلك؛ تصريح رئيس وزراء بريطانيا السابق ديفيد كاميرون David Cameron عندما أطلق خطته لتخفيض الإنفاق العام في يونيو 2010 حين قال: “نحن لا نفعل ذلك لأن هنالك نظرية أيديولوجية ما تقودنا، بل نفعل ذلك لأن هذا ما يتحتّم علينا القيام به”. وباراك أوباما الذي أعلن الاستقلال من الأيديولوجيا والتفكير الضيق والتمييز والتعصب، في اليوم الأول لتنصيبه (الهاشمي، بدون). وحينما يتحدث الغرب عن الإرهاب يعتبرونه صراع حضاري بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى. فقد أعادت زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبن Marine Le Penالسبب الرئيس لهجمات باريس([ح‌])إلى “صراع الحضارات” (صاغية، 2015). وحينما نتحدث بعمق عن الحضارة الغربية وأيديولوجيتها الحالية نجدها شهدت عدة تصدعات أهمها، الأزمة المالية عام 2008م التي عصفت بعدة دول في أوروبا، وكذلك عودة الأحزاب والتيارات الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وما زال هناك بعض الأحزاب التي تؤمن بالأيديولوجيات السياسية رغم اندماج بعض الأفكار السياسية التي أصلت أيديولوجيات جديدة في العالم، وما تنامي دور شركات متعددة الجنسيات في النظام السياسي الدولي والتنظيرات الفكرية الجديد إلا استمراراً للأيديولوجيا الليبرالية. ويرى (محفوظ، 2012) إرجاع كافة الظواهر الصراعية إلى العامل الحضاري، يعد تحليلا تعسفياً بحق التاريخ وأحداث الراهن. إذ أن العامل الحضاري يؤثر بعمق في رؤية المجتمع إلى قيمه ومصالحه الآنية والبعيدة.. ولكن هذه الرؤية والمصالح لا تتشكل فقط من العامل الحضاري، بل يشترك مع هذا العامل الكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والمجتمعية (محفوظ، 2012). لذا، نستطيع القول إن الصراع في النظام السياسي الدولي القائم في واجهته صراعا حضارياً دون إغفال العوامل الأخرى الأيديولوجية والثقافية والسياسية والاقتصادية.

ما الجديد في النظام السياسي الدولي؟

أشار (بشارة، 2016) إلى أن الصراع الدائر في البلدان الغربية المتطورة هو صراع بين ثقافتين تشتملان على مكونات طبقية وثقافية وسياسية وقيمية، أو صراع بين بين ثقافات يمكن أن تتحول إلى هويات. وكذلك روسيا والصين في الصراع على المستوى العالمي تبنتا عقيدة صراع الحضارات ضد انتشار الديمقراطية والليبرالية بوصفهما ثقافة غربية (بشارة، 2016: 7). أي أن هيمنة الدول الكبرى الدائرة حالياً هي الهيمنة الثقافية على الحضارات الأخرى. تعمل كل من روسيا والصين على منع انتشار الثقافة الليبرالية في منطقة الشرق الأوسط. وعن صراع الأفكار وتطبيقاتها العملية يؤكد (عصام، 2016) أن مسألة القيم Values Issue لم تكن مطروحة بشكل كاف لرفض ظاهرة الهيمنة Hegemony and Dominance في العلاقات الدولية، بالشكل المطلوب لاعتبارات عديدة، أهما طغيان التوظيف المتبادل للقوة والمصلحة بين مختلف أطراف المجتمع الدولي، بما لا يتيح فرص تكثيف التعاون المتبادل Mutual Cooperation بطريقة تؤمن استقرار السلم والأمن الدوليين (عصام، 2016: 288). إن عودة روسيا الاتحادية الجديدة التي تنافس الولايات المتحدة في النظام السياسي الدولي، قائمة على التنافس الثقافي، فالروس يرفضون سطوة الولايات المتحدة وتمددها في الشرق الأوسط، خاصة بعد انهيارها وخسارة الكثير من المواقع التي كانت تنتشر بها الشيوعية في شرق أوروبا. غير أن هذه العودة لا تتبنى الصراع الأيديولوجي بقدر ما تتبنى الصراع الحضاري. ومن جانب آخر ينافس الاتحاد الأوروبي والصين الولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي، بسبب قوة اقتصاد هاتين القوتين الاقتصاديتين الكبيرتين. وعليه تظهر قوة اللاعبين الدوليين على الصعيد الدولي رغم تفوق الولايات المتحدة عالمياً إلا أنها لم تعد القوة الوحيدة عالمياً.

الهيمنة الأمريكية في ظل الأزمات الدولية ومعادلات القوة:

إن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم بشكل عام، والمنطقة العربية بشكل خاص، تعتمد على قوتها، وفي المنطقة العربية تعتمد على قدرتها في التحكم بدول المنقطة والقوى الإقليمية الفاعلة، فعمدت السياسة الأمريكية إلى الدبلوماسية والاستراتيجية العسكرية في إخضاع المنطقة لهيمنتها، بدءً باستخدام القوة العسكرية على العراق عام 2003م وتحالف المصالح مع الخليج، ومروراً بالأزمة السورية التي تارة ما تؤيد النظام وتارة أخرى تؤيد المعارضة، إلى أن عقدت الاتفاق النووي مع إيران. في المقابل تحالفها الاستراتيجي وضمان تفوق إسرائيل في المنطقة. وفي ذات الوقت تعرضت الهيمنة الأمريكية في المنطقة إلى تفاعلات القوى الدولية الأخرى التي تسعى لتأمين مصالحها في المنطقة. ويتحدث (صبحي، 2015) عن عودة روسيا والصين بقوة على الساحة الدولية، حيث أوضح أن روسيا الاتحادية فاقت من كبوتها عام 2000م ونمت قوتها على نحو جعلها قادرة على رد الولايات المتحدة في سوريا عام 2011م، وفي الأزمة الأوكرانية عام 2013م، كلها مواقف برهنت أن الروس في عهد بوتن عملوا على تنمية وتعزيز الوعي بمكانة دولتهم في النظام السياسي الدولي. أما الصين فإنها وإن كانت لا ترغب بالصدام مع الولايات المتحدة؛ إلا ان قوتها نمت بمعدلات يصعب على الولايات المتحدة تنفيذ أجندات الاحتواء ضدها (صبحي، 2015: 239). وعن تفاعل القوى الدولية الصاعدة مع الولايات المتحدة الأمريكية في الأزمات الدولية، وخاصة في المنطقة العربية، يريا (سعيد وفتحي، 2015) أن التحولات في القوة الاقتصادية والعسكرية وما يصاحبها من نفوذ سياسي على الساحة الدولي، ما وصفة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بـ “الواقع العالمي الجديد”، أصبح يهدد قواعد وأسس النظام الدولي الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة، إذ يعبر الواقع الجديد عن نهاية عصر السيطرة الأمريكية والصعود الغربي (سعيد وفتحي، 2015: 427). وأثر تلك التحولات نصح (Drezner, 2007) الولايات المتحدة إعادة تشكيل السياسة الخارجية وفق التحولات العالمية الجديدة، ومنح الدول الصاعدة المكانة التي ترغب بها في النظام السياسي الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فإذا لم يتم التوافق والتعاون بين الولايات المتحدة والدول الصاعدة سوف تخلق مؤسسات جديدة مناهضة للولايات المتحدة (Drezner, 2007). تنافس القوى العالمية في النظام السياسي العالمي ليس بالضرورة أن يكون صراعي لسببين: أولها، التقدم الاقتصادي لدول آسيا لا يتعارض مع قيم الديمقراطية القائمة على الاقتصاد الرأسمالي. أما الثاني، توازن القوى الدولية وإن لم يكن بنفس المستوى يجعل من تحقيق المصالح المشتركة ممكناً (Drezner, 2007). فيما أكد (جبر، 2016) أن القرن الحادي والعشرين يحمل في طياته ملامح التغير في خارطة العالم السياسية والاقتصادية والثقافية ويجعل من التحولات الاجتماعية والفكرية بل وحتى الدينية نتيجة حتمية، حيث تتكامل عدة عناصر في السياسة الامريكية يؤدي كل منها دوره في إعادة صياغة العالم الجديد، منها استخدام القوة العسكرية والتكنولوجية والسياسية والنفوذ والهيمنة (جبر، 2016: 21). وقدم (هانتنغتون، 1991) تحليلاً جديداً لقوة الولايات المتحدة في السياسة العالمية “في مرحلة الحرب الباردة كانت بنية القوة الدولية ذات قطبين، أما البنية الناشئة مختلفة جداً، وبدلاً من ذلك فإن النظام القائم حالياً هو نظام هجين آحادي متعدد الأقطاب uni-multipolar، ويتشكل من قوة عظمى superpower واحدة وعدة قوى رئيسية أخرى major powers (هانتنغتون، 1991: 7،8). وهذا يعني أن القوى الدولية الصاعدة بجانب الولايات المتحدة ليس بالضرورة أن تتصارع مع الولايات المتحدة، فقد تصل إلى اتفاق تعاوني أو توزيع أدوار أو تقاسم المصالح بالشكل الذي يتناسب مع هيمنة القوى الدولية الأخرى، خاصة حينما تتقاطع مصالحها في عالم الجنوب. وهذا التحليل يأخذنا إلى تساؤل ملح: هل ستسمر الهيمنة الأمريكية على النظام السياسي الدولي؟

لا شك أن هناك تحولات في بنية النظام السياسي الدولي، حيث لم يكن هناك قوة دولية في النظام العالمي الجديد سوى الولايات المتحدة، ومع بداية القرن الحادي والعشرون ظهرت قوى دولية جديدة تتطلع لدور أساسي في النظام العالمي الجديد يتناسب مع تنامي قوتها العسكرية والاقتصادية، وهذا يوضح أن الولايات المتحدة هي القوة العالمية المهيمنة لكن ليست وحدها فهناك عودة لأقطاب جديدة في النظام الدولي. وحتى تكون النظرة أكثر واقعية، علينا أن نعي جيداً بأن القوى الصاعدة لم تصل بعد إلى قوة الولايات المتحدة في كافة المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والحضارية. وبالرغم من ذلك ما زالت الولايات المتحدة هي المهيمنة ولكن ليست هيمنة مطلقة.

المراجع

أولاً: الكتب

  1. أبو عامر، علاء. (2004). العلاقات الدولية الظاهرة والعلم- الدبلوماسية والاستراتيجية، الشروق للنشر والتوزيع، عمان- الأردن.​
  2. تشومسكي، نعوم. (2004). الهيمنة أم البقاء السعي الأمريكي إلى السيطرة على العالم، (ت) سامي الكعكي، دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان.​
  3. الراوي، مهند. (2015): عالم ما بعد القطبية الأحادية الأمريكية- دراسة في مستقبل النظام السياسي الدولي، الناشر المكتب العربي للمعارف، القاهرة- جمهورية مصر العربية.​
  4. قاعود، يحيى. (2015). أطروحات فوكوياما وهانتنغتون والنظام العالمي الجديد دراسة تحليلية مقارنة، الناشر مركز البيان للدراسات والبحوث، الرياض- السعودية.​
  5. كلنتون، هيلاري. (2015). مذكرات هيلاري رودهام كلينتون خيارات صعبة، (ت) ميراي يونس، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت- لبنان.​
  6. هانتنغتون، صمويل. (1999): القوة العظمى الانفرادية البعد الجديد للقوة، (ت) مركز فلسطين للدراسات والبحوث، مطابع التوفيق، غزة- فلسطين، ص7-8.​
ثانياً: الدوريات
  1. بشارة، عزمي. (2016). “صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل: حينما تنجب الديمقراطية نقائض الليبرالية. مجلة سياسات عربية، العدد 23، تشرين ثاني/ نوفمبر 2016.​
  2. جبر، عقيل. (2016). التفكير الإستراتيجي الأمريكي وعالم الجنوب قراءة في نظرية صدام الحضارات، مجلة آداب المستنصرية، العدد 75، بغداد- العراق.​
  3. حسن، علي. (2008). الجيوبولتيك ونظرية صدام الحضارات لهانتنغتون، مجلة السياسة والدولية، العدد 8، الجامعة المستنصرية، بغداد- العراق.​
  4. سعيد، امنة. وفتحي، محمد. (2015). الهيمنة الأمريكية في مطلع القرن الحادي والعشرين “مقاربة في المنطلقات والنتائج”، مجلة قضايا سياسية، جامعة النهرين، العدد 42، بغداد- العراق، ص 158.​
  5. صبحي، انس. (2015). السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي مع إيران (قراءة في مستقبل المنطقة العربية)، مجلة قضايا سياسية، جامعة النهرين، العدد 42، العراق.​
  6. عصام، بن الشيح. (2016): الهيمنة كهدف في السياسة الخارجية الأمريكية. مجلة دفاتر السياسة والقانون، العدد 15، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة- الجزائر.​
  7. علي، سليم. (2009). مقومات القوة الأمريكية وأثرها في النظام الدولي، مجلة دراسات دولية، جامعة بغداد، الإصدار 42، بغداد- العراق.​
  8. قاعود، يحيى. (2017). المرجعية الفكرية للإدارة الأمريكية الجديدة- دونالد ترامب، مجلة تسامح، العدد 56، تصدر عن مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان، رام الله- فلسطين.​
ثالثاً: الصحف والجرائد
  1. صاغية، حازم. (2015). إلى صراع الحضارات در، جريدة الحياة اللندنية، الثلاثاء 13 يناير 2015م.​
  2. محفوظ، محمد. (2012). الثقافة والصراع الحضاري، جريدة الرياض، العدد 15919، 24 يناير 2012م.​
رابعاً: مراجع الانترنت
  1. الهاشمي، حنان. (بدون). نقاش حول مفهوم الأيديولوجيا، موقع حكمة، تاريخ التصفح 24 مايو 2017.​
  1. BBC. (2017). التليغراف: إقدام ترامب على إشعال صراع الحضارات لا يصب إلا في مصلحة “الإرهابيين الإسلاميين”، تاريخ النشر 1 فبراير 2017، تاريخ التصفح 24 مايو 2017.​
  1. الجزيرة. (2017). صراع الحضارات هدف لمستشار ترامب وتنظيم الدولة، قناة الجزيرة الإخبارية، نشر بتاريخ 12 فبراير 2017م، تاريخ التصفح 24 مايو 2017.​

http://www.aljazeera.net/news/presstour/2017/2/12

خامساً: المراجع الأجنبية

  1. Drezner, Daniel. (2007). the New New World Order, Foreign Affairs, March/April 2007.​

https://www.foreignaffairs.com/articles/2007-03-01/new-new-world-order

الهوامش

([أ‌]) النظام السياسي الدولي: يعرف علاء أبو عامر النظام السياسي الدولي بأنه “مجمل العلاقات التي تقوم بين متغيرات تدعى الفاعلين. والفاعل الدولي هو شخص العلاقات الدولية (أبو عامر، 2004: 29).

([ب‌]) تعتمد الدراسة الفرق بين الحضارة والثقافة كما وصفها (حسن، 2008) إن الصفة التي تميز الحضارة هي قابليتها للانتقال والانتشار بين الأمم، في حين تختص الثقافة بكل أمة (حسن، 2008: 25).

([ت‌]) للاستزادة راجع كتاب:

قاعود، يحيى. (2015). أطروحات فوكوياما وهانتنغتون والنظام العالمي الجديد دراسة تحليلية مقارنة، الناشر مركز البيان للدراسات والبحوث، الرياض- السعودية.

([ث‌]) الهيمنة: تعني الهيمنة في العلاقات الدولية محاولة من جانب دولة ما، بما تملكه من وسائل وعناصر قوة لفرض إدارتها على الدول الأخرى وإملاء سياسات ومواقف عليها تتناسب مع مصالحها القومية والعالمية أو منعها من اتخاذ سياسات ومواقف تتعارض مع سلوك غير أخلاقي وإنساني وقانوني. ويشير مصطلح الهيمنة في القاموس السياسي إلى القطبية، أي سيطرة دولة كبرى واحدة على باقي وحدات المجتمع الدولي بشكل هرمي وانفرادها في التحكم بالسياسة الدولية دون قدرة الدول الكبرى الأخرى منافستها على مركزها نتيجة لاحتكارها لهيكل القوة الثلاثي الاقتصادي، والتكنولوجي، والعسكري بشكل تتميز به عن غيرها من الدول. للاستزادة راجع:

سعيد، امنة. وفتحي، محمد. (2015). الهيمنة الأمريكية في مطلع القرن الحادي والعشرين “مقاربة في المنطلقات والنتائج”، مجلة قضايا سياسية، جامعة النهرين، العدد 42، بغداد- العراق، ص 158.

([ج‌]) للاستزادة راجع كتاب:

قاعود، يحيى. (2015). أطروحات فوكوياما وهانتنغتون والنظام العالمي الجديد دراسة تحليلية مقارنة، الناشر مركز البيان للدراسات والبحوث، الرياض- السعودية.

([ح‌]) هجمات باريس: هي الهجمات الدموية التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس مساء يوم الجمعة 13 نوفمبر 2015م.​

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button