دراسات سياسية

انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: قراءة سياسية وقانونية للانسحاب

بقلم الأستاذ: كــــــــــــــردالـــــــــــــــــــواد مــــصــــــــــطـــــــــــــــفى

كلية الحقوق والعلوم السياسية-جامعة سطيف 2-

 

   أشار الكاتب الأمريكي جاك دونللي Jack Donnelly  إلى مكانة حقوق الإنسان وإلى تصاعد الاهتمام بها في منظومة العلاقات الدولية خلال السنوات الأخيرة، وهذه المكانة والاهتمام دفعا إلى بروز نظام عالمي لحقوق الإنسان يغلب عليه طابع التعزيز والترويج، ولكنه يتمتع بقوة نسبية. ورغم أن معاييره الجوهرية أصبحت تلقى قبولا واسعا، إلا إنفاذها جد محدود حسب جاك دونللي دائما. يمكن إرجاع هذه القوة المعيارية والضعف الإجرائي التي يتصف بها النظام العالمي لحقوق الإنسان إلى تلك القرارات السياسية الواعية، التي ترتبط أساسا بفواعل النظام العالمي.

    يعتبر وجود آليات دولية وأخرى إقليمية وحتى وطنية لحماية حقوق الإنسان بمثابة تأكيد على ذاتية القانون الدولي لحقوق الإنسان خاصة بعد انعقاد مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان في سنة 1993، فحسب تيم دان  Tim Dunne أعطى هذا المؤتمر دفعا قويا لدبلوماسية حقوق الإنسان التي قادتها فواعل المجتمع المدني، والشبكات عبر الوطنية، مما نتج عنه شلالا متتابعا من المعايير الدولية لحقوق الإنسان، كان لها بالغ التأثير والانتشار بعد ذلك، وشكلت هذه التدابير والاجراءات ردا قويا على الواقعيين المتعنتين الذين يعتبرون حقوق الإنسان مجرد كلام.

    ومن الآليات الدولية المستحدثة في هذا المجال نجد مجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة، والذي حل محل لجنة حقوق الإنسان التي كانت تابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. وشكل هذا الانتقال من نظام اللجنة إلى نظام المجلس، وكذا تبعية هذا المجلس للجمعية العامة، خطوات متقدمة لتعزيز حماية حقوق الإنسان، وهي بلا شك خطوات غير كافية بالنظر إلى عولمة مهددات حقوق الإنسان في العقود الأخيرة.

   أنشئ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة U.N. Human Rights Council بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 60/251 المؤرخ 15 مارس 2006، وهو يتكون من 47 دولة من الدول الأعضاء تنتخبهم أغلبية أعضاء الجمعية العامة، تستند العضوية في المجلس إلى التوزيع الجغرافي العادل، وتوزع مقاعده بين اﻟمجموعات الإقليمية. يجتمع اﻟﻤﺠلس بانتظام طوال العام، ويعقد ما لا يقل عن ثلاث دورات في السنة؛ بينها دورة رئيسية، كما يجوز له أن يعقد دورات استثنائية عند الاقتضاء؛ بناء على طلب من أحد أعضاء اﻟﻤﺠلس، على أن يحظى بتأييد ثلث أعضاء اﻟﻤﺠلس. ويتخذ المجلس قراراته بأغلبية بسيطة من الأعضاء الحاضرين المصوتين.

   يتـولى مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مسؤولية تعزيز الاحترام العالمي لحماية جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، دون تمييز من أي نوع، وبطريقة عادلة ومنصفة؛ كما يعالج المجلس حالات انتهاك حقوق الإنسان، بما فيها الانتهاكات الجسيمة والمنهجية، ويقدم توصيات بشأﻧﻬا. كما يناط به مسؤولية تعزيز التنسيق الفعال بشأن حقوق الإنسان، وتعميم مراعاﺗﻬا داخل منظومة الأمم المتحدة.

   لإنجاز المهام الموكلة إليه، تبنى مجلس حقوق الإنسان مشروع النص رقم 5/1 المؤرخ في 18 جوان 2007، المعنون بـ” مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة: بناء المؤسسات”، واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا المشروع بالقرار رقم A/HRC/5/21، تضمن هذا القرار آليات عمل المجلس، وهي تتمثل إجمالا فيما يلي:

أولاً / آلية الاستعراض الدوري الشامل؛

ثانياً / الإجراءات الخاصة؛

ثالثاً / اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان؛

رابعاً / إجراء تقديم الشكاوى.

   عند مراجعة آليات عمل مجلس حقوق الإنسان، يمكن تقسيمها إلى آليات مؤسسية وأخرى إجرائية. كذلك يمكن ملاحظة بأن المجلس وبموجب قراره رقم 5/1، احتفظ ببعض آليات عمل لجنة حقوق الإنسان السابقة التي حل محلها هذا من جهة، ومن جهة أخرى استحدث آليات عمل جديدة خاصة بمجلس حقوق الإنسان.

انتخاب الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان وانسحابها

     قـاطعت الولايات المتحدة مجلس حقوق الإنسان عند تأسيسه سنة 2006، وكان ذلك في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش George W Buch. لكنها دخلت فيما بعد إلى المجلس سنة 2009، أي بعد تولي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما Barack Obama الرئاسة في الولايات المتحدة؛ حيث انتخبتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا المجلس لدورتين متتالتين، وهو ما مثل الحد الأقصى للدورات المتتالية. بعد مرور سنة على غياب الولايات المتحدة عن المجلس، أعيد انتخابها مجددا في سنة 2016.

   بعـد فترة وجيزة من تولي إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب الحكم، أبلغت نيكي هيلي Nikki Haley سفيرة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة في سنة 2017 مجلس حقوق الإنسان، بعزم واشنطن على مراجعة عضويتها في المجلس، وربما ستنسحب منه نهائيا. وجاء التهديد الأمريكي آنذاك على خلفية اتهام الرئيس ترامب لمجلس حقوق الإنسان بانتهاجه لسياسة الانحياز المعادي لإسرائيل، وشن حملة ممنهجة ضدها؛ على حد زعمه.

   قـام مجلس حقوق الإنسان في شهر ماي الماضي من سنة 2018 بالتصويت لصالح إجراء تحقيق في وقائع وأحداث سقوط قتلى في قطاع غزة بفلسطين المحتلة، واتهم إسرائيل بالاستخدام المفرط للقوة ( وهو التصويت الذي عارضته الولايات المتحدة كعادتها، وتبعتها أستراليا في ذلك)، وعلى إثر هذا التصويت نفذت الولايات المتحدة تهديدها بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان بتاريخ 19 يونيو 2018، حيث أُعلن هذا الانسحاب بشكل رسمي من طرف وزير خارجيتها مايك بومبيو Mike Pompeo وسفيرتها بالأمم المتحدة نيكي هيلي Nikki Haley .

ردود الأفعال على انسحاب الولايات المتحدة من مجلس لحقوق الإنسان

    أهم الردود المعقبة على انسحاب الولايات المتحدة من مجلس لحقوق الإنسان، صدرت عن الأمم المتحدة وآلياتها الخاصة بحماية حقوق الإنسان. فقد أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريشAntónio  Guterres عن أسفه على انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان، كما صرح رئيس مجلس حقوق الإنسان فويسلاف سوك Vojislav Šuc في تعليقه على الانسحاب بقوله «إذا لم تناقش قضايا حقوق الإنسان هنا في هذه القاعة [مجلس حقوق الإنسان]، ستكون هناك فرصة ضئيلة للتعامل مع هذه القضايا في أي مكان آخر. إن المجلس يوفر مكانا فريدا للاستماع إلى مجموعة منوعة من الآراء، بما في ذلك ما تعجز المنظمات الأخرى على مناقشته أو لا ترغب في مناقشته». أما مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان رعد زيد الحسين، فقد وصف قرار انسحاب واشنطن من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف بأنه قرار مخيب للآمال.

    توالت الردود المنتقدة لهذا الانسحاب من قبل أعضاء المجموعة الدولية وحلفاء الولايات المتحدة بالخصوص، فممثلة الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني Federica Mogherini اعتبرت الانسحاب الأمريكي من المجلس الأممي لحقوق الإنسان «تقويضًا لدور واشنطن الداعم للديمقراطية على الساحة العالمية». ولعل أقوى الردود صدرت عن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، حيث اعتبرت بريطانيا على لسان وزير خارجيتها بوريس جونسون Boris Johnson بأن قرار الولايات المتحدة بالإنسحاب من مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة «مؤسف«. وأن دعم بلاده [أي بريطانيا] للمجلس لا يزال ثابتًا، وأضاف بأن بريطانيا لم تخف حقيقة حاجة مجلس حقوق الإنسان للاصلاح؛ لكنها رغم ذلك ملتزمة بالعمل على تقوية المجلس من الداخل، فهو أي المجلس « أفضل أداة لدى المجتمع الدولي للتصدي للإفلات من العقاب».

  من جانبها اعتبرت وزارة الخارجية الروسية بأن خروج الولايات المتحدة من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، يشكل ضربة قوية لسمعة الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان. وأضافت ماريا زاخاروفاMaria Zakharova المتحدثة باسم الخارجية الروسية بأن « تجاهل واشنطن ليس فقط للمجلس، بل ولهيئة الأمم المتحدة كلها، والمؤسسات التي تنتمي إليها«. وعبرت وزارة الخارجية الفرنسية عن أسفها على هذا الانسحاب. ونفس الموقف صدر عن الخارجية الصينية، التي علقت على خطوة الأمريكية بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان؛ بأنها سوف تجعل صورتها كمدافع عن الحقوق على شفا الانهيار.

   جاءت ردود المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان في نفس السياق المندد بالانسحاب. فقد أدانت منظمة Human Rights Watch قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من المجلس، وقال مديرها التنفيذي بأن «انسحاب إدارة الرئيس الأميركي [من مجلس حقوق الإنسان]، هو انعكاس مؤسف لسياسة أحادية البعد في ما يتعلق بحقوق الإنسان، تتلخص بالدفاع عن الانتهاكات الاسرائيلية في وجه أي انتقادات قبل كل شيىء». ومن جهته صرح اتحاد الحريات المدنية الأمريكي بأن إدارة ترامب تقود «جهودا مخططة وعدوانية لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية»، وأضاف مدير برنامج حقوق الإنسان بالاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بأن اتباع ترامب « سياسة الانعزالية المضللة إنما يضر المصالح الأمريكية فحسب»، كما حذرت 12 جماعة حقوقية وإغاثية، منها منظمة  Human Rights First، منظمة Save The Children، ومنظمة Care International، من أن انسحاب واشنطن من مجلس حقوق الإنسان « سيجعل من الصعب تعزيز أولويات حقوق الإنسان، ومساعدة ضحايا الانتهاكات حول العالم» .

   عند التأمل في الردود المستعرضة أعلاه، الصادرة عن مختلف الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، نجدها صبت في اتجاه التنديد ونقد القرار الأمريكي بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، لكنها من زاوية أخرى عكست مجمل هذه الردود، تلك المكانة الهامة التي تحتلها حقوق الإنسان في وقت لا يزال الكثير يجادل عن مدى إلزامية قواعدها وقرارات أجهزة حمايتها؛ رغم أن العديد من الفقهاء على غرار لوترباخت Lauterpacht وجيسوب Jessup أكدوا بأن الدول ملزمة باحترام حقوق الإنسان طبقا للإلزام الذي فرضه ميثاق الأمم المتحدة منذ اعتماده سنة 1945.

خلفيات انسحاب الولايات المتحدة من مجلس لحقوق الإنسان

   بالرجوع إلى كرونولوجيا الانسحاب الأمريكي من مجلس حقوق الإنسان، وما صرح به بعد ذلك وزير الخارجية الأمريكي وسفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أثناء إعلان قرار الانسحاب من المجلس، يمكن الوقوف على دافع مباشر يشكل خلفية أساسية لانسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان، ويتمثل في برمجة مجلس حقوق الإنسان بشكل دائم في دوراته بموجب البند السابع من قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 5/1 لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي الدائمة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والقضية التي أفاضت الكأس كما سبق القول، فكانت اتهام مجلس حقوق الإنسان لإسرائيل باستخدامها للقوة المفرطة ضد الفلسطينيين في شهر ماي الماضي سنة 2018 على الشريط الحدودي مع غزة؛ مما أوقع العديد من القتلى والجرحى وحتى الأطفال الأبرياء. وهو ما لم تتقبله الولايات المتحدة التي تعتبر إسرائيل حليف استراتيجي يستفيد منذ احتلاله لفلسطين من دعمها السياسي والعسكري والاقتصادي؛ وهو دعم يهدف إلى الحفاظ على معادلة التفوق الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط.

     وباعتبار نظام التصويت في مجلس حقوق الإنسان الذي أدان الجرائم الإسرائلية في غزة، يختلف تماما من الناحية القانونية عن نظام التصويت في مجلس الأمن الذي تحوز فيه الولايات المتحدة على العضوية الدائمة، وتستأثر فيه بحق الفيتو الذي تبطل به كل قرار يدين جرائم إسرائيل وانتهاكاتها المنتظمة والممنهجة لحقوق الإنسان الفلسطيني. وعليه لجأت الإدارة الأمريكية مدفوعة باللوبي الصهيوني إلى الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، لأنها لا تملك أية سلطة لإبطال مناقشاته وتوصياته، كما هو الحال بالنسبة لحق الفيتو الذي توظفه دوريا لصالح إسرائيل في مجلس الأمن، وقوة اللوبي الصهيوني المتغلغل في دواليب الإدارة الأمريكية شرّحها منظر الواقعية الأمريكي البروفيسور جون ميرشايمر John Mearcheimer وزميله Stephen Walt ستيفن والت في كتاب مشترك بعنوان اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية.

    أما عن الخلفيات غير المباشرة للانسحاب الأمريكي من مجلس حقوق الإنسان، فيمكن مناقشتها على ضوء مجموعة من المعطيات السياسية والتاريخية، أولها وصول الرئيس دونالد ترامب  Donald Trumpإلى الرئاسة بشعار ” أمريكا أولا” America first، وتجسيدا لهذا الشعار انطلق الرئيس الجديد مباشرة في تنفيذ وعوده الانتخابية؛ ليبدأ مسلسل تنصل وانسحاب الولايات المتحدة من عدد من الاتفاقيات، والمنظمات مثل اتفاق باريس للتغيرات المناخية، واتفاقيات التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ مع دول أمريكا الشمالية، ملف التسوية الكوبية، كما حظر المساعدات المالية عن صندوق الأمم المتحدة للسكان، وأوقف دعم الولايات المتحدة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فضلا عن الانسحاب من منظمة اليونسكو، ومن الاتفاق النووي مع إيران.

   حذّر العديد من المفكرين ومراكز الفكر من توجهات السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس ترامب، والقاضية بتحلل الولايات المتحدة من إلتزاماتها وانسحابها من المنظمات الدولية والإقليمية، فهي بحسبهم سياسة انعزالية تقوض دور أمريكا باعتبارها قوة عالمية في قيادة النظام العالميAmerican leadership، لأن الولايات المتحدة كما وصفها جورج كينان George Kennan واضع سياسة الاحتواء ” حارسة الحضارة الغربية، والوصية عليها”.

    المعطى الثاني يقتضي البحث عن مكانة حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية، والنظام الأمريكي عموما، ولا يختلف إثنان في القول بأن حقوق الإنسان مشترك إنساني بين جميع الأمم والحضارات، إلا أن الولايات المتحدة باعتبارها جزء من منظومة الغرب التي تحتكر دوما حقوق الإنسان، وتوظفها بما يخدم أهدافها ومصالحها الاستراتيجية، وهذا التوظيف انتقده الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس Jürgen Habermas بقوله “في كل حين استخدم الغرب الطلب أن تسري حقوق الإنسان على الجميع، فإنما هو وسيلة لحجب عدم المساواة الفعلي الذي يطال بصمت المنبوذين…إذ تعمل حقوق الإنسان درعا لعمومية كاذبة- لبشرية وهمية استطاع الغرب الإمبريالي أن يخفي وراءها ذاتيته ومصلحته الخاصة”.

    وفي سياق تحليل خلفيات انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان، تشير الكثير من الكتابات إلى اقتران تاريخ الولايات المتحدة منذ تأسيسها بسمعة سيئة في مجال حقوق الإنسان، فقد قامت أولا على إبادة السكان الأصليين لأمريكا من الهنود الحمر، وارتبطت بدايات نشأتها الأولى بتجارة العبيد بجلبهم من القارة الإفريقية، وسن قوانين التمييز العنصري ضد السود طيلة عقود في القرن الماضي. لم يغفل التاريخ أيضا  كتابة تلك الإبادة البشرية التي ارتكبتها الولايات المتحدة باطلاقها لقنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي باليابان، بالإضافة إلى إعلانها للحرب العالمية على الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، وهي الحرب التي تم على إثرها التدخل في أفغانستان، واحتلال العراق، فارتكبت العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني داخل الولايات المتحدة بموجب قانون الوطن Patriot Act، وتم عولمة السجون والمعتقلات السرية في أوربا وأمريكا مثل معتقل غوانتنامو، وسجن أبو غريب في العراق. ومجمل القول ارتبط تاريخ الولايات المتحدة بجرائم وانتهاكات في مجال حقوق الإنسان تحت ذرائع شتى، كمحاربة الشيوعية، محاربة الإرهاب، إزالة أسلحة الدمار الشامل، دعم الديموقراطية، وحتى حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها !.

    تبرز في هذا الشأن كتابات عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي Noam Chomsky المنتقدة للسياسة الخارجية الأمريكية، وفظائعها الرهيبة في أرجاء العالم، فهذه القوة الإمبريالية حسب وصف تشومسكي ارتبط سعيها الدائم إلى الهيمنة بجرائم تدمير وحرق للمدن في العديد من البلدان في فيتنام، (الصومال، العراق، أفغانستان…)، كما دعمت فرق الموت في نيغاراغوا والسلفادور وغواتيمالا…ونصبت أنظمة ديكتاتورية عميلة، وحكومات احتلال، وعملت على دعمها وحمايتها بكل الطرق والأشكال كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل.

   مقابل هذه النزعة الصلبة التي تسيطر على سياسة الولايات المتحدة الخارجية، لا تزال النخبة الأمريكية تؤكد على ضرورة تفعيل البعد الأخلاقي في السياسة الخارجية الأمريكية وفق تصورات ومبادئ ويلسون Woodrow Wilson الرئيس الأمريكي السابق، وبدون أخلقة للسياسة الخارجية فهناك خشية من انهيار القوة الأمريكية حسب المفكر السياسي كارن سميث Karen Smith، ولتفادي هذا الانهيار يدعو إلى توظيف الأخلاق والقانون الدولي.

    بعد استعراض الخلفيات المباشرة وغير المباشرة للانسحاب الأمريكي من مجلس حقوق الإنسان، نختم  بالإشارة إلى آثار هذا الانسحاب الذي يعتبر سابقة أولى في تاريخ المجلس؛ ونكتفي بآثاره القانونية والسياسية على منظومة حقوق الإنسان. سبق القول بأن الولايات المتحدة تقضي حاليا عضويتها الثالثة بصفتها عضو منتخب في مجلس حقوق الإنسان، وهي العهدة التي بدأت سنة 2016 وتنتهي في سنة 2019، وبعد استلام الإخطار بالانسحاب من الولايات المتحدة رسمياً سوف يؤول المقعد إلى عضو جديد منتخب ليحل محل الولايات المتحدة حتى انتهاء فترة ولايتها، كما صرح بذلك رئيس المجلس. بالإضافة إلى ذلك فمجلس حقوق الإنسان هيئة فرعية، وليس هيئة رئيسية في أجهزة الأمم المتحدة، فهو تابع عضويا للجمعية العامة التي أنشأته بموجب صلاحياتها المنصوص عليها في المادة 22 من الميثاق. فضلا عن ذلك فالمجلس لا يضم جميع الدول كما هو الحال بالنسبة للجمعية العامة بل تشكيلته تتكون من 47 دولة، تجدد العضوية فيه عن طريق الانتخاب مع مراعاة التوزيع الجغرافي العادل وفق نظام يضم خمس مجموعات من الدول. وعليه يبدو أن آثار الانسحاب من الناحية القانونية لا تأثر على استمرارية عمل المجلس وتصدي آلياته لقضايا حقوق الإنسان، أما من الناحية السياسية فإن آثار الانسحاب الأمريكي من مجلس حقوق الإنسان كما أشار البعض يمكن أن تقوي شوكة بعض الدول المعروفة بانتهاكها لحقوق الإنسان، وبسلوكها المعارض لرقابة الآليات الدولية حقوق الإنسان.

   ونذكر بحاجة مجلس حقوق الإنسان إلى الاصلاح باعتباره لا يضم في تشكيلته جميع الدول، وأن صلاحياته تفتقر لعنصر الإلزام، مضافا إليها معضلة تسييس قضايا حقوق الإنسان التي أضرت كثيرا بعمل هذا المجلس، ومختلف آليات حماية حقوق الإنسان. ورغم ذلك استطاع المجلس فضح انتهاكات حقوق الإنسان في العديد من الدول ومناطق العالم على غرار الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة في فلسطين، انتهاكات حقوق الروهينغا في ميانمار، انتهاكات حقوق الإنسان في الحرب السورية…وفعلا كما قال البروفيسور فنسنت  R.J.Vincent أن حقوق الإنسان قد عرضت” أنظمة الحكم الداخلية الخاصة بجميع أعضاء المجتمع الدولي لتقويم أقرانها الذي أصبح مشروعا لها “.

المراجـع:

قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 60/251 المؤرخ 15 مارس 2006.

قرار مجلس حقوق الإنسان 5/1 المؤرخ 18 يونيه 2008.

– د نبيل إبراهيم مصطفى، آليات حماية حقوق الإنسان، دار النهضة العربية، القاهرة، 2005.

-عبد اللطيف بن عبد الله بن محمد الغامدي، المركزية الغربية وتناقضاتها مع حقوق الإنسان، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، جدة، المملكة العربية السعودية، ط1، 2014.

– تيم دان وآخرون، نظريات العلاقات الدولية، التنوع والتخصص، ترجمة ديما الخضرا، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، ط 1، 2016.

-جاك دونللي، حقوق الإنسان العالمية بين النظرية والتطبيق، ترجمة مبارك علي عثمان، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، الطبعة العربية الأولى، 1998.

-رشا سهيل محمد، بان غانم الصائغ، السياسة الأمريكية اتجاه قضايا حقوق الإنسان في الصين 1949-2006،  مجلة التربية والعلم، المجلد 19، ع 5، 2012.

-نعوم  تشومسكي: القوة والإرهاب جذور العنف في الإمبريالية الأمريكية، قراءة في كتاب منشورة في القدس العربي.

 -بونصر كريمة، تازيت سهيلة، مجلس حقوق الإنسان كآلية أممية لحماية الحقوق والحريات، مذكرة ماستر في الحقوق، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة بجاية، 2016-2017.

– د بن عصام الشيخ، دراسة في أدبيات جوزيف ناي، فرنسيس فوكوياما، زبينغيو برجنسكي أنموذجا، دفاتر السياسة والقانون،ع 15، كلية الحقوق والعلوم السياسة، جامعة ورقلة، 2016.

-مواقع جرائد على الانترنيت.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى