دراسات اقتصادية

انعكاسات العولمة على مسألة البطالة والتشغيل: موقف التيارات النيوليبرالية

        إن التشغيل والبطالة والأزمات الاقتصادية، كلها ظواهر مرتبطة بتطور النظم الاقتصادية والاجتماعية وأجهزتها الإنتاجية وعلاقاتها الاجتماعية. لذا، فتناول هذه المسألة لا يتم في اعتقادنا، إلا من خلال رؤية شاملة لسير النظام الاقتصادي والاجتماعي ككل، ومراحل تطوره وبالأخص مراحل الأزمات.

تاريخيا، البطالة والتشغيل تولدتا من عدم قدرة النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم على تأمين العمل بصفة دائمة لمجموع السكان القادرين على العمل، عندما لا تستخدم كل طاقاته الإنتاجية، أي عندما تحدث أزمة في سيره العادي، مما يتسبب في تعطيل طاقاته الإنتاجية. ولقد عرفت المجتمعات الإنسانية في مختلف مراحل تطورها هذه الظاهرة، وإن كانت أسبابها ونتائجها مختلفة، فالمجتمعات الماقبل رأسمالية عرفت هذه الظاهرة التي برزت من خلال مراحل اللانشاط التي تمس المنتجين وأساسا الفلاحين، بحكم ارتباط نشاطهم الإنتاجي بالطبيعة وتقلباتها، هذا الخلل (اللانشاط) سوف يتولد عنه نقص كبير في الإنتاج، وتعطيل للعمل، مما يؤدي إلى المجاعات وانتشار الأوبئة والأمراض، وإلى النزوح الريفي، كما يؤدي إلى اضطرابات مالية ونقدية خطيرة، وتقلبات سياسية واجتماعية أزاحت دولاً بأكملها. أما في المجتمع الرأسمالي، فهذه الظاهرة تصبح هيكلية ومرتبطة بتطور النظام الرأسمالي، وأزماته الاقتصادية والاجتماعية، التي تنتج عن اختلالات وانقطاعات في عملية إعادة الإنتاج الموسع، أي في عملية التراكم بحد ذاتها. هذه الاختلالات والانقطاعات ستؤدي إلى تعطيل الطاقات الإنتاجية، وانخفاض معدلات النمو، وإلى بطالة جماهيرية. لهذا فإن ظاهرة البطالة هي ملازمة لهذا النظام خاصة في مراحل أزماته، مثل أزمة 1929 م-1933 م، التي عرفت “بأزمة الكساد الكبير” التي تميزت بمعدلات بطالة مرتفعة جدا لم يسبق للرأسمالية أن عرفتها منذ نشأتها (أكثر من 35 % من السكان النشطين)، أو كذلك الأزمة الطويلة المدى التي انطلقت مع نهاية ستينيات القرن العشرين ولازالت مستمرة حتى الآن، هذه الأزمة الأخيرة التي تمس البلدان الرأسمالية المتطورة والبلدان النامية، تظهر على شكل انكماش طويل المدى تتخلله فترات من الانتعاش، وتعرف ميلا طويل المدى لانخفاض معدلات الأرباح والنمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة وتدهور عام في ظروف العمل. وإثر ذلك، اكتست مسألة التشغيل والبطالة أهمية بالغة، وأصبحت محل انشغال السلطات العمومية لهذه البلدان وأحزابها السياسية، وكذا المؤسسات والهيئات الدولية، وكذلك العديد من الباحثين والمفكرين. وفهم موقف التيارات الاقتصادية النيوليبرالية من البطالة والتشغيل، يمر حتما بفهم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها العالم منذ سبعينيات القرن العشرين، فالعالم يعرف  تحولات هامة، تسارعت وتائرها مع تفاقم الأزمة المتعددة الجوانب التي مست معظم البلدان الرأسمالية المتطورة والبلدان النامية، هذه التحولات شاملة وتمس كل البلدان، ولكن بدرجات مختلفة ونتائج متباينة. ورغم المحتوى المختلف الذي يعطى لها، فإن هناك إجماعا الآن على تسميتها بـ “العولمة” (Mondialisation) أو بـ “الكوكبة” (Globalisation)، والمحرك الأساسي لهذه التحولات هو النمو المتعاظم للقوى المنتجة على المستوى العالمي، وهو النمو الذي تؤدي فيه الثورة التكنولوجية دورا رئيسا حاسما، وتكون للدول التي تواكب هذه التحولات المكانة المحركة للاقتصاد العالمي. وعليه، فإن الإشكالية التي يمكن طرحها في هذه المداخلة: – ما هي انعكاسات هذه التحولات العالمية على ميادين الإنتاج والتشغيل في البلدان النامية؟ وما هو موقف التيارات الاقتصادية المعاصرة من البطالة والتشغيل؟

       و للإجابة على هذه الإشكالية اقتضت المنهجية المستخدمة للبحث إدراج الفقرات التالية:

  1. I. التحولات التي يعرفها الاقتصاد العالمي المعاصر:

    إن فهم موقف التيارات الاقتصادية النيوليبرالية من البطالة والتشغيل، يمر حتما بفهم التحولات الاقتصادية والإجتماعية التي يعرفها العالم منذ السبعينيات من القرن العشرين، فالعالم يعرف منذ الحرب العالمية الثانية تحولات وتغيرات هامة، تسارعت وتائرها منذ السبعينيات مع تفاقم الأزمة المتعددة الجوانب التي مست معظم البلدان الرأسمالية المتطورة والبلدان النامية، هذه التحولات هي شاملة وتمس كل البلدان دون استثناء، ولكن بدرجات مختلفة ونتائج متباينة، كما تمس كل مجالات النشاط الإنساني، البنية التحتية والفوقية العالمية. ورغم المحتوى المختلف الذي يعطى لها، فإن هناك إجماعا الآن على تسميتهــا بالعولمة (Mondialisation)، أو بالكوكبة (Globalisation). والفقرات التالية ستوضح أهم الجوانب المتعلقة بهذه التحولات العلمية:

 I.1- عولمة الأزمة الاقتصادية:

    بعد الحرب العالمية الثانية، مر الاقتصاد العالمي بفترة طويلة نسبيا من الانتعاش والاستقرار الاقتصادي، على إثر تطبيق السياسات الاقتصادية الكينزية. هذه الفترة دامت إلى غاية نهاية الستينيات، ليدخل الاقتصاد العالمي بعد ذلك في أزمة طويلة مست كل البلدان الرأسمالية المتطورة، كما مست البلدان النامية، وكذا البلدان الاشتراكية سابقا، فملامح تلك الأزمة ظهرت كذلك في انخفاض مؤشرات الإنتاج العالمي، وتباطؤ التشغيل، وتراجع حجم التجارة الدولية، وارتفاع البطالة ومستويات التضخم، وكذا انخفاض الدخول الحقيقية، وهو الأمر الذي زاد من حدة الفقر والتهميش، وفاقم من الأزمة الاجتماعية في البلدان الرأسمالية المتطورة.

تلك الأزمة اصطحبتها فترة من عدم الاستقرار النقدي والمالي، وبأزمة للمواد الأولية، حيث عرفت أسعار هذه الأخيرة انخفاضا كبيرا خاصة في الثمانينيات. كما اصطحبت بأزمة للمديونية، التي انفجرت سنة 1982 م في المكسيك، ثم مست بعض بلدان أمريكا اللاتينية، لتتعمم فيما بعد على جميع البلدان النامية.

وبهذا، فعلى المستوى النظري دخلت النظرية الاقتصادية الكينزية في أزمة، ووصفاتها لم تعد قادرة على حل أزمة الكساد التضخمي. فالبلدان النامية، ورغم إنجازاتها المتباينة إلا أنها في معظمها لم تستطع تحقيق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، و تفاقمت الأزمة عندها مع بداية الثمانينيات مع بروز عجزها في تسديد ديونها الخارجية وانخفاض أسعار المواد الأولية التي تصدرها. ولقد عرفت معظم هذه البلدان مشاكل عديدة في تطبيق سياساتها الاقتصادية والإنمائية، فلم تستطع إجراء التحولات اللازمة في القطاع الفلاحي التي تسمح لها بتحقيق الأمن الغذائي، ولا بناء القاعدة الصناعية الضرورية لعملية النمو، بل نجدها سقطت في تبعية غذائية وتكنولوجية ومالية أصبح من الصعب جدا الخروج منها. كما أن الأزمة في البلدان النامية تفاقمت مع انفجار أزمة المديونية، وتبني حكومات معظم هذه البلدان لبرامج صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، هذه البرامج التي كان لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية خطيرة، هددت النسيج الاجتماعي، والكيان السياسي لتلك الدول.

أما البلدان الاشتراكية سابقا، أو كما تسمى اليوم بالبلدان الانتقالية، فقد دخلت في أزمة حادة ومتعددة الجوانب منذ الستينيات، تمثلت في أزمة النموذج السوفيتي بمظاهرها المختلفة: أزمة تسيير مجتمع، أزمة نمو وأسلوب تخطيط، أزمة سياسية وإيديولوجية..، لكن لقد كان للحرب غير المعلنة للرأسمال الدولي على هذه البلدان دورا في أزمة هذه البلدان، فقد اضطرت هذه الأخيرة إلى توجيه موارد كبيرة للمجهود الحربي، والسباق نحو التسلح بدل توجيهها لتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. ولقد أدت هذه الأزمة إلى تفجير تلك البلدان، وتراجعها عن الاقتصاد المخطط واختياراتها السابقة، وتبنيها لاقتصاد السوق والوصفات النيوليبرالية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وهو الأمر الذي زاد من خطورة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان، حيث أدى الشروع السريع في تفكيك القطاع العام، وعملية الخوصصة، وكذا التراجع السريع عن المكاسب الاجتماعية، إلى ارتفاع رهيب في الأسعار ومعدلات البطالة وتدني في مستوى المعيشة، وبروز ظواهر مثل الفقر والجوع والتشرد، أكثر من ذلك بروز العنف والمافيا السياسية-المالية.

إن الأزمة التي ستتوسع وتكتسي طابعا عالميا، لن تكون الحدث الوحيد الذي يميز الاقتصاد العالمي منذ الستينيات، بل سوف يعرف العالم تطورات وتغيرات وتحولات هامة سواء على مستوى البنية الاقتصـادية، أو على مستوى البناء الفوقي، هي تحولات تعتبر امتدادا للتطورات التي تعرفها الرأسمالية منذ نشأتها، ولكن سوف تكتسي هذه المرة طابع الشمولية والجذرية، فهي ليست تحولات كمية فقط بل نوعية، تعيد النظر في قواعد وأشكال تنظيم وسير الاقتصاد العالمي ككل.

I.2- تعريف العولمة الجارية:

     إن الأدبيات المتعلقة بدراسة وتحليل ظاهرة مثل العولمة، بحجمها وسرعتها وعمقها، انقسمت إلى اتجاهين اثنين في تعريفها للعولمة، فالاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي يعبّر عن الخطاب المسيطر حاليا، الذي يرى في العولمة ظاهرة مرتبطة باتساع الأسواق والتبادل، ودخول دول وفروع اقتصادية جديدة في السوق العالمية و”المبارزة” الدولية، كما أنها ظاهرة تتميز بثورة في مجال الإلكترونيك والاتصال والبيوتيكنولوجيا. هذا الاتجاه نجده يعرّف العولمة بمظاهرها، ويركز على الجانب الاقتصادي والتقني الكمي في التحولات الجارية، ومن هذا المنطلق فهو يتخذ مجموعة من المواقف منها، أساسا:

– العولمة هي “حتمية” (FATALITE) لا يمكن أن نكون معها أو ضدها، فإما ([1]) أن تأكل وإمـا أن تؤكل  (TO HAVE LUNCH OR TO BE LUNCH)، ومن هذا المنطلق، فالعولمة هي “موجة عارمة” لا يمكن مقاومتها، بل يجب التأقلم معها.

– العولمة تعود بالفائدة على جميع البلدان، وما دامت حصيلة عملية التبادل إيجابية، فإنها ستقود إلى الرخاء والنمو لا محالة. فحسب الكاتب الفرنسي Alain Minc فإن ([2]) العولمة: “ستسمح بوصول جميع مناطق العالم للنمو السريع وستسمح للبلدان السائرة في طريق النمو باللحاق بالركب..”.

– التأقلم مع العولمة يتم عبر رفع كل الحواجز القانونية والتشريعية التي تحول دون تنقل المنتجات ورؤوس الأموال في السوق العالمية، فرئيس مجموعة أ.ب.ب الدولية وأحد كبار رجال الأعمال في العالم “Percy Barnevik”  عرّف العولمة بأنها ([3]) ” حرية الاستثمار حيثما تشاء، وفي الوقت الذي تشاء، لإنتاج ما تشاء، والتموّن والبيع أين تشاء، مع تحمل أقل القيود في مجال تشريعات العمل والاتفاقيات الجماعية”.

– لنجاح العولمة، يجب على الدولة خلق الشروط المواتية للاستثمار الأجنبي، وفتح الأبواب للمؤسسات المالية والنقدية والاقتصادية الدولية لتطبيق وصفاتها. كما يجب الشروع في التفتح السياسي، لأن هناك علاقة تلقائية بين السوق والديمقراطية.

أما الإتجاه الثاني، فهو يأخذ من العولمة موقف الحذر والتحفظ، وقسم منه يعتبر العولمة خطة اخترعتها “القوى العظمى” بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، للسيطرة على خيرات العالم والبلدان النامية، ونشر النموذج الاقتصادي والثقافي الأمريكي الغربي. وأصحاب هذا الموقف يمثلون القوى المحافظة، الدينية والقومية، التي ترى في العولمة جانبها الذاتي فقط، السياسي والأيديولوجي، متجاهلة الكثير من الجوانب الموضوعية التي تمس مختلف جوانب النشاط الإنساني، والتي تأخذ منها موقف العداء المطلق والرفض القاطع. وقسم آخر، يرى أن العولمة هي امتداد لعملية تاريخية طويلة لتطور النظام الرأسمالي العالمي، بدأت بتوسع السوق وقيام “الاقتصاد العالمي”، وتطورت عبر عملية تدويل رأس المال الذي تؤدي فيه الشركات المتعددة الجنسيات دورا حاسما. المرحلة الحالية تعرف تطورا أوسع لعملية التدويـل، تحت هيمنة الشركات المافوق قومية والرأسمال المالي الدولي، وبتأثير من الثورة التكنولوجية والعلمية الجارية. فالعالم حسب الاقتصادي P. Petit هو أمام “اقتصاد من نوع جديد”([4])، ويذكر ثلاثة تغيرات هيكلية أساسية مترابطة فيما بينها، تحدث هذا التحول وهي: النظام التكنولوجي الجديد، والتدويل المتنامي الذي تعرفه اقتصاديات العالم، وتوسع القطاع الثلاثي. هذا الموقف، يميز كذلك بين الجانب الموضوعي للعولمة، الحامل للتطورات التكنولوجية والعلمية وتطبيقاتها على مختلف جوانب النشاط الإنساني، وأساسا على الإنتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك، وبين الجانب الذاتي للعولمة التي تجري تحت لواء الأفكار النيوليبرالية في الاقتصاد والسياسة، ولتحقيق مصالح الرأسمال الدولي والشركات المافوق قومية.

وبالتالي ما يمكن استخلاصه من هذين الموقفين، أن العولمة هي واقع يفرض علينا اليوم بشكل موجه ومصوب، لخدمة مصالح الشركات المافوق قومية والرأسمال العالمي، وأساسا الرأسمال المالي العالمي، والدول الرأسمالية المتطورة، التي تحت تأثير الأزمات الاقتصادية المتعددة التي عرفتها منذ السبعينيات، والحاملة لتناقض أساسي يتمثل من جهة في انخفاض معدلات النمو (مع كل النتائج المعروفة على مستوى تفاقم البطالة وتدهور ظروف العمل والقدرة الشرائية.. وانخفاض الطلب..إلخ)، ومن جهة أخرى في وجود فوائض كبيرة من رؤوس الأموال العائمة التي تبحث عن توظيف. هذا التناقض، تريد قوى الرأسمال الدولي حله عبر عملية إعادة نظر جذرية في توزيع الدخل، على المستوى الوطني والعالمي، لصالح الربح وعلى حساب العمل. ولتحقيق ذلك تشن هذه القوى حربا على قوانين العمل والحماية الاجتماعية، وعلى القوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي، وأساسا تلك المنظمة لمجال التبادل والمجال المالي والنقدي.

والحقيقة، أن هذا الهجوم، هو ضد كل ما هو قوانين وتشريعات، سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي التي تحد من الأرباح، ومن مجال تحرك الشركات المافوق قومية والرأسمال العالمي. إنه هجوم لإضعاف الدولة وتطويعها لخدمة مصالحها، تحت شعار: المرونة ( FLEXIBILITE )، ورفع القواعد المسيرة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي (DEREGULATION). فالهدف من وراء كل هذا هو إنشاء خزان عالمي من اليد العاملة والمواد الأولية الرخيصة، وتكريس البلدان النامية كسوق لتصريف منتجات الشركات المافوق قومية، والدول الرأسمالية المتطورة. ومن الواضح اليوم كذلك، أننا أمام إستراتيجية لفرض عولمة، أدواتها الفكرية والأيديولوجية هي الأفكار النيوليبرالية في الاقتصاد والسياسة، والتي يروج لها عبر وسائل الإعلام ملك الشركات المافوق قومية نفسها، أما أدواتها التطبيقية، فهي المؤسسات والمنظمات المالية والنقدية والاقتصادية الدولية، وأساسا صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، عبر برامجها “للتعديل الهيكلي” وسياساتها الاقتصادية التي “تقترحها” على الحكومات.

I.3- المظاهر الأساسية للعولمة:

    هناك شبه إجماع لدى عدد كبير من الباحثين، أن العولمة الجارية تنعكس في مجموعة من المظاهر المتداخلة والمتفاعلة فيما بينها، يمكن إيجازها فيما يلي:

– المظهر الأول:الثورة العلمية والتكنولوجية وتطبيقاتها

   إن التطورات المتسارعة التي يعرفها العالم والاقتصاد العالمي على مستوى قطاعات عديدة من العلوم، والتكنولوجيا المرتبطة أساسا بالإلكترونيك والإعلام الآلي والمعلوماتية، والبيوتكنولوجيا، جعل العديد من المتتبعين يصفونها بالثورة العلمية والتكنولوجية، وآخرون أطلقوا عليها اسم: التكنولوجية الجديدة في مجال الإعلام والإتصال (Nouvelles  technologies de l’information et de la communication -NTIC-).

وبالفعل يشهد العالم ثورة في عدد من القطاعات المرتبطة أساسا بالإلكترونيك، والإعلام الآلي، والاتصـال، والكيمياء والبيولوجيا المركبة، الشيء الذي جعل البعض يتحدث عن “رأسمالية إلكترونية”. هذه الثورة سوف تغير ترتيب القطاعات الاقتصادية، وتجعل من قطاع الخدمات المرتبطة بها يحتل نصيبا أكبر وأكثر في النشاط الاقتصادي والإنساني ككل، كما تغير هذه الثورة من أنماط الإنتاج والتشغيل وكذا طرق التسيير.

ومن هنا، فأساليب العمل الجديدة التي تفرضها الثورة العلمية والتكنولوجية، تخالف تماما الأساليب القديمة القائمة على التايلورية والفوردية، لأنها ([5]) تستلزم أساليب تقوم على الحوار والمساهمة الجماعية، وأكثر ديمقراطية في التصميم والتنفيذ، لتصبح المؤسسة الإنتاجية الخلية القاعدية للمجتمع مثلها مثل الأسرة والمدرسة.

 وقد أحدثت الثورة العلمية والتكنولوجية انقلابا جذريا ونوعيا في الإنتاج أساسه الإلكترونيك، والإعلام الآلي، والاتصال، والكيمياء والبيولوجيا المركبة، وهذا أدى إلى نمو سريع للقوى المنتجة، وإلى خلق فروع جديدة، وغير خريطة النشاط الاقتصادي العالمي لصالح القطاعات والشركات التي تواكب هذه التطورات.

وكل الدراسات والإحصائيات تؤكد اليوم أن إنتاج القطاعات المذكورة أعلاه يتزايد بنسب كبيرة، فحسب (H.Boudchon) مساهمة هذه الصناعات الجديدة في نمو الاقتصاد الأمريكي سنة 1990 كانت 6%، بينما ساهمت سنة 1998 ب15%، ومساهمتها الحالية قد تبلغ 25%([6])، في حين يبقى يحافظ قطاع إنتاج السيارات على وتيرة إنتاجه ومكانته، بينما نلاحظ تقهقر قطاعات مثل النسيج، والخشب والورق، والحديد والصلب. والملفت للانتباه في هذا التطور هو النمو المتزايد لقطاع الخدمات الذي أصبح يستحوذ على 60 % من النشاط الاقتصادي العالمي. إذن، فالثورة العلمية والتكنولوجية تؤدي دورا حاسما في رسم الإستراتيجيات الصناعية والاقتصادية للدول والشركات المافوق قومية.

– المظهر الثاني: التدويل والإحتكار والمافوقومية (La Transnationalisation)

    إن هذه الظاهرة تعبٌر في الواقع عن تدويل القوى المنتجة على المستوى العالمي، ونقصد هنا بالقوى المنتجة ([7]) جميع الوسائل والقدرات التي هي في متناول المجتمع الإنساني لأجل الإنتاج.. وقوى الإنتاج تتضمن وسائل الإنتاج وقوى العمل التي تستخدمها، وبالتالي فهي تتضمن أساليب الإنتاج وأدوات العمل وطرق تنظيم هذا الإنتاج، وكذا مستوى العلوم والتكنولوجيا. ومن هذا المنطلق فإن تدويل القوى المنتجة يعني تدويل الدورة الاقتصادية للبلدان والعالم، في مختلف مجالات النشاط الاقتصادي من إنتاج وتبادل وتوزيع واستهلاك، كما أن هذا التدويل يشمل مجالات الحياة الأخرى الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية.

بصفة ملموسة، هذا التدويل يعني تشابك وترابط اقتصاديات الدول الرأسمالية المتطورة (خاصة الولايات المتحدة، والسوق الأوروبية، واليابان)، وتشابك وترابط هذه الاقتصاديات مع اقتصاديات الدول المصنعة حديثا، والبلدان الاشتراكية سابقا، وكذا البلدان النامية.

الشيء الذي يميز كذلك ظاهرة تدويل الاقتصاد هو تنامي الاحتكار، فالاحتكارات أصبحت واقعا اقتصاديا، ووزنها في الاقتصاد العالمي يبدأ يتطور أكثر فأكثر بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث أصبحت تسيطر على الدورات الاقتصادية للبلدان والعالم وتراقبها وتوجهها. هذا الاحتكار يعبر عن([8]) تنامي النشاط الصناعي والفلاحي والمالي، ونشاط الخدمات للاحتكارات الكبرى المتمثلة في الشركات المتعددة الجنسيات، والبنوك المتعددة الجنسيات. ومع نهاية هذا القرن، يشهد الاقتصاد العالمي تطور شكل الاحتكار من شركات متعددة الجنسيات، إلى شركات مافوق قومية (Transnationales)، ومن دون شك، فإن العامل الحاسم في هذا التحول، هو الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وتوسع مجال الرأسمال المالي. فالشركات المافوق قومية هي أحد العناصر الأكثر تعبيرا عن “كوكبة الاقتصاد”، إذ تبرز في  مجموعة من الشبكات المتواصلة عبر أجهزة الكومبيوتر والأقمار الصناعية، والمرتبطة ارتباطا وثيقا فيما بينها على شكل أفقي للعمل والتسيير، هذا الشكل الذي بدأ ينتشر أكثر فأكثر آخذا مكان الشكل التقليدي العمودي. وهذه الشبكات تقوم في تنظيمها على المزج بين الاندماج الكلاسيكي (الشركة الأم وفروعها)، وبين طرق تسيير وعمل الشركات اليابانية القائمة على لامركزية النشاطات، حيث تصبح العلاقة الجديدة بين الشركات وفروعها، علاقة عمودية وخطية أفقية في آن واحد، تأخذ عدة أشكال كاتفاقيات التعاون، وعقود المقاولة الباطنية، والاتفاقيات حول براءات الاختراع..إلخ.

ويمكن إذن لشركة واحدة أن تكون في علاقة مع المئات من فروعها وفروع الشركات الأخرى، وفي كل أنحاء العالم. فالإحصائيات تتحدث عن 500 شركة كبرى، تملك أكثر من 40 ألف فرع موزع في الخارج برأسمال يفوق 5500 مليار دولار ([9])، وهي تسيطر الآن على 2/3 التجارة العالمية، كما أن 1/3 من المبادلات التجارية الدولية تتم بين فروع هذه الشركات نفسها (تفوق 1600 مليار دولار سنويا).

– المظهر الثالث: تدعيم مواقع الرأسمال المالي وتوسع مجاله

    هذا المظهر يعد من بين المظاهر الأكثر بروزا في العولمة الجارية، ويتمثل في القوة والاستقلالية التي بدأ يأخذها المجال المالي بالنسبة لمجال الاقتصاد الحقيقي والإنتاج. وبالفعل، فمجموعات مالية ضيقة جدا أصبحت تمتلك وتتلاعب بمبالغ ضخمة تقدر حاليا بآلاف الملايير من الدولارات، وهو الأمر الذي منحها سلطة قرار اقتصادي وسياسي، سواء على المستوى العالمي عبر البنوك المافوق قومية والمؤسسات المالية والنقدية والاقتصادية الدولية، أو على مستوى الدول والحكومات. والحديث اليوم، أصبح عن “مولنة كونية” للاقتصاد، وعن “كوكب مالي”، نظرا لكمية رؤوس الأموال التي أصبحت تنتقل بسرعة كبيرة من دولة إلى أخرى، ومن ساحة مالية إلى أخرى، الشيء الذي يجعل رأس المال يفقد أكثر فأكثر لهويته الوطنية. كما أن التطور الذي يعرفه المجال المالي على المستوى العالمي، أو ما يسمى بالعولمة المالية تحت تأثير الوصفات النيوليبرالية، وأساسا الوصفات النقدوية لميلتون فريدمان، تجعل الأسواق المالية والنقدية الدولية تؤدي دورا حاسما في تسطير السياسات الاقتصادية الوطنية للدول، فالأولى هي التي تحدد مدى نجاعة الثانية.

وأصحاب هذه الوصفات، يرون أن تحرير الأسواق المالية، سيكون له الأثر الفعال والإيجابي في تخصيص الموارد من رؤوس الأموال على المستوى العالمي، وتوزيعها بصفة متوازنة على مختلف المناطق، إلا أن معظم رؤوس الأموال الدولية تتركز في البلدان الرأسمالية المتطورة، وأكثر من ذلك فإننا نلاحظ تدفق معاكس لرؤوس الأموال من البلدان النامية إلى البلدان الرأسمالية المتطورة، على شكل تسديدات لخدمات الديون، وتحويل لأرباح الشركات المافوق قومية. وهذه هي، في اعتقادنا، أهم مظاهر العولمة التي يعرفها العالم على مستوى البنية التحتية، التي نعيد ونقول أنها مظاهر متداخلة ومتفاعلة بينها، ويصعب فصلها، فعلى سبيل المثال فإن قطاع البترول يعرف هذه المظاهر بصفة جليّة، إذ تشهد الشركات البترولية العالمية اليوم عملية تمركز واسعة، بفضل استحواذها على أموال ضخمة وامتلاكها لقدرات تكنولوجية ضخمة ([10]). كما تحمل ظاهرة العولمة جوانب موضوعية وذاتية يصعب التمييز بينها، واستخراج ما هو علمي فيها وما هو إيديولوجي.

ومن دون شك، فإن هذه التحولات على مستوى البنية التحتية العالمية سوف تؤثر على البنية الفوقية العالمية، وتطرح عدة مسائل وقضايا جديدة على مستوى تنظيم وتعديل النشاط الاقتصادي، من إنتاج وتبادل وتوزيع وإستهلاك، وكذا تنظيم كل أوجه النشاط الإنساني.

  1. II. أهم انعكاسات العولمة على البطالة والتشغيل:

     إن عملية العولمة بمظاهرها، خاصة الثورة العلمية والتكنولوجية وتطبيقاتها، وبالشكل الذي تتم به تحت لواء الأفكار النيولبرالية، ولصالح عدد محدود من الدول الرأسمالية المتطورة والشركات المافوق قومية، وكذا لصالح حفنة من أصحاب رؤوس الأموال والمضاربين، كانت لها انعكاسات كبيرة على التشغيل. فالأرقام والإحصائيات، تجمع كلها أن هناك تراجعا في التشغيل، وأن أعداد البطالين قد ارتفع في العالم، كما أن ظروف العمل تعرف تدهورا خطيرا من يوم إلى آخر، وهو ما زاد من مظاهر الفقر والتهميش، ونقص التغطية الصحية والتعليم …إلخ. والعولمة كعملية، وبحكم سرعة التحولات التي تحدثها، وعمقها وغموضها، يصعب حصر كل انعكاساتها، وفيما يلي عرض لأهم تلك الانعكاسات على البطالة والتشغيل في العالم:

II.1- التباعد بين مستوى النمو الاقتصادي ومستوى التشغيل:

     هناك تباعد أكثر فأكثر بين النمو الإقتصادي وبالأخص نمو الإنتاج، وبين مستوى التشغيل. فقد كان من بين المسلٌمات في علم الإقتصاد أن أي زيادة في الإستثمار تؤدي أوتوماتيكيا إلى زيادة في التشغيل، لكن في ظروف الثورة العلمية والتكنولوجية أصبح من الصعب ربط النمو بالتشغيل، فمن الممكن أن ترتفع معدلات النمو ومنه مستويات الإنتاج والإنتاجية دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى زيادة في التشغيل حتى وإن خفضت ساعات العمل، وهذا المشكل بدأت تعرفه الدول الرأسمالية المتطورة وهو محل نقاش بين المفكرين، وصراع حاد بين الحكومات والأحزاب السياسية والنقابات..إلخ. والسبب في ذلك يعود إلى عاملين أساسيين، الأول يكمن في الوتيرة السريعة لإدخال الألآت واستغناء الرأسماليين على عدد دائما متزايد من العمال، وهذه مسألة طبيعية جدا في الظروف العادية لسير الاقتصاد، لكن بالمقابل فإن إدخال التكنولوجيا الحديثة من المفروض، ودائما في ظل المنطق الاقتصادي، أن يؤدي إلى الرفع من المردودية ومنه الأرباح، وهذا بدوره من المفروض أن يؤدي إلى زيادة الاستثمار ومنه التشغيل. لكن في ظل النظام الرأسمالي ومنطق الربح، فإن الرأسماليين يعمدون دائما إلى توجيه أموالهم للقطاعات الأكثر ربحية، وهذا هو العامل الثاني في اعتقادنا.

فالباحثة الاقتصادية (Susan George) بيّنت ذلك في دراسة قامت بها حول أهم الشركات المافوق قومية ([11])، فقد قسمت هذه الشركات حسب نشاطها الصناعي وقامت بمقارنة رقم مبيعاتها أو رقم أعمالها بمناصب الشغل التي تحدثها، ووصلت إلى الملاحظات التالية:

ـ بالنسبة لقطاع الإلكترونيك والإعلام الآلي، فإن مبيعات العشرين شركة التي تقع ضمن المائة شركة الأولى في العالم سنوات 1995 و1997 قد ارتفع بنسبة 16%، في حين انخفض التشغيل بها بنسبة 4.3%.

ـ  في قطاع إنتاج السيارات، أرتفع رقم الأعمال بنسبة 25%، بينما التشغيل انخفض بنسبة 6.85.

ـ أما في قطاع البترول، فإن المفارقة تظهر بأكثر وضوحا، إذ عرف هذا القطاع ارتفاعا في رقم الأعمال بنسبة 19% ولكن التشغيل انخفض به بنسبة 24.4%.

ـ التشغيل ارتفع بنسبة ضئيلة جدا (1% فقط) في قطاع الخدمات وأساسا في شركات الوجبات السريعة والتبغ والمشروبات.

أما العامل الثاني يظهر في تنامي القطاع المالي على حساب القطاع الإنتاجي، فكما رأينا أعلاه، القطاع الذي يستقطب حاليا كميات هائلة من رؤوس الأموال، هو القطاع المالي الذي يحقق معدلات أرباح عالية جدا، خاصة أنه لا يخضع إلى ضرائب ورسوم، ولكنه بالمقابل فهو قطاع لا يخلق مناصب شغل. هذا الوضع يظهر جليا في سيطرة حاملي الأسهم على القرارات الإستراتيجية للشركات الكبرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بتخفيض التكاليف لمواجهة المنافسة، وبطبيعة الحال فتكاليف العمل هي التي تستهدف، حيث أصبح هناك علاقة طردية بين تخفيض عدد العمال وارتفاع قيمة السهم. وهذان العاملان يجعلان من الصعب الربط بين النمو الاقتصادي والتشغيل، وهو الأمر الذي يؤدي إلى زيادة البطالة.

II.2- تغير محتوى النشاط الإنتاجي وهيكل التشغيل:

    إن محتوى النشاط الإنتاجي يتغير، وهو ما أدى إلى تحول في هيكل العمالة لصالح قطاع الخدمات، فالمدة المخصصة للإنتاج المباشر أصبحت تتقلص لتترك المجال لمجموعة مختلفة من الأعمال الأمامية والخلفية للعمل الإنتاجي. إن مناصب الشغل أصبحت تنخفض في قطاعات الإنتاج المباشر، بينما لا تعوض في مجموعة من الأنشطة المرتبطة بالخدمات مثل البحث والتنمية، مراقبة الجودة، الإشهار والتسويق، الخدمات الصحية والاجتماعية..إلخ، وهو الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع البطالة وتدهور ظروف العمل لأن هذه الأنشطة هي الأكثر خضوعا لشروط “المرونة” التي يتطلبها الرأسماليون (العمل بالقطعة، بوقت محدد، والعمل المؤقت..إلخ). فهذه التحولات الجديدة تؤدي إلى تغيير في هيكل التشغيل وشروط العمل، فكما ذكرنا أعلاه، فإن التطور الكبير في ميدان الإعلام والاتصال قد أدى إلى انتشار ظاهرة التشغيل عن بعد، كما أن تطور الشركات المافوق قومية وتكوين الشبكات، أدى ويؤدي إلى إعادة تشكيل الصناعات (Reconfiguration) بشكل يجعل الشركة الأم ترتكز على نشاطها الأساسي “قلب المهنة” وتترك الأنشطة الأخرى لمجموعة من المؤسسات الصغيرة أو المؤسسات العائلية، سواء داخل البلدان الرأسمالية المتطورة أو داخل البلدان النامية، تحت شكل عقود المقاولة الباطنية أو إعادة توطين للصناعات. والهدف هو دائما تخفيض التكاليف لمواجهة المنافسة المتنامية في اقتصاد مفتوح أكثر فأكثر، وبالطبع ستكون الأجور وتخفيضها الأداة الأساسية، وهو ما يؤدي بشكل عام إلى انتشار عقود العمل المؤقت، وبوقت محدود، والعمل بالقطعة، وبالمنزل، وتشغيل النساء والأطفال..إلخ، الأمر الذي انعكس بتدهور كبير في ظروف العمل، وغياب تشريعاته، وانخفاض الأجور وغياب الحماية الصحية والضمان الاجتماعي. كما أن بعض الانعكاسات هذه للعولمة على التشغيل والبطالة ستؤدي إلى تفجير العمالة، فالحدود بين التشغيل والتكوين والبطالة تتقلص، والمرونة بينهم تصبح كبيرة لدرجة يصعب حصر وضع الشخص إن كان يشتغل أو في تكوين أم هو بطال، الشيء الذي يولد نقاشا حادا حول الإحصائيات المتعلقة بالبطالة، فهناك أشخاص في وضع مماثل، يعدون في البلدان الأوروبية من تعداد البطالين، بينما في الولايات المتحدة الأمريكية يدخلون ضمن المشتغلين، كما هناك أشخاص توقفوا عن البحث على عمل، سواء لفقدان الأمل في إيجاد منصب شغل، أو لنقص تأهيلهم ومستواهم التعليمي، ولا يدرجون في الإحصائيات ضمن البطالين. والأرقام تصبح محل تلاعب كبير خاصة في البلدان التي تتباهى بمرونة العمالة عندها، والتي شرعت منذ الثمانينيات في تطبيق الوصفات النيوليبرالية. كما أن البلدان النامية لا تفلت من هذا الوضع، إذ تساهم أجهزتها الإحصائية المتخلفة وكذا التلاعب بالأرقام لإغراض سياسية وانتخابية، في إعطاء صورة غير واقعية عن وضع التشغيل والبطالة في هذه البلدان.

II.3- انعكاسات أخرى للعولمة على البطالة والتشغيل:

     إن العولمة الجارية التي تدعو إلى تحرير التجارة الخارجية، وفتح الحدود للمنافسة تنكر الفوارق في إنتاجية العمل بين مختلف مناطق العالم، فعندما توضع هذه المناطق في مبارزة شرسة على نفس قدم المساواة، وهذا خلافا لما يدعو إليه “دافييد ريكاردو” بضرورة مراعاة مستوى تطور البلدان التي تقوم بعملية التبادل، فإننا نضع البلدان والمناطق الأقل تطورا في خيار صعب: فإما أن ترقى لشروط المنافسة، وهذا يعني تلبية شروط المردودية التي يفرضها المستثمرون، وهي لا تقل عن 15%، وإما الانسحاب من المنافسة، لأنهم لا يستطيعون تحقيق هذا المستوى من المردودية، وبالتالي فهم يرون أن عملهم الاجتماعي غير معترف به باسم مقياس حدد خارج واقعهم وإرادتهم. فإذا كانت عملية التدويل الكلاسيكية تقوم على أساس نقل الفائض بين مناطق متباينة ومختلفة، وذلك بمختلف الأشكال المافوق اقتصادية، والتبادل غير المتكافئ، فإن العولمة النيوليبرالية تعمل على خلق نوع من “المنطقة الحرة المعولمة”، أين تسود مقاييس المنافسة الشاملة التي تؤثر بمختلف الأشكال المتداخلة على تسيير اليد العاملة والأجور، في مختلف البلدان التي تدخل المنافسة بغض النظر على الفوارق في إنتاجية العمل. هذه المنافسة التي تمارس ضغطا قويا على البلدان النامية، من أجل تقديم المزايا للشركات المافوق قومية لجلب الاستثمارات، تؤدي إلى تسوية نحو الأسفل لتخفيض تكلفة اليد العاملة، وذلك بتفكيك تشريعات العمل وقوانين الحماية الاجتماعية. كما أن البلدان التي فتحت حدودها كاملة للمنافسة، كالمكسيك، وبلدان أمريكا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا، والتي اعتبرت كنموذج للانطلاقة الاقتصادية، والرفع من التشغيل، قد عاشت هذا الوضع. فالأزمة التي شملت هذه البلدان، خاصة بعد تخفيض قيمة البيزوس المكسيكي سنة 1994 م، والأزمات التي عرفتها كل البلدان التي وجهت اقتصادها كلية نحو التصدير، قد بينت أن هذه البلدان كانت كلما زادت من قدراتها التصديرية، كلما زادت وارداتها بقدر أكبر، وهذا ما أدى إلى تفاقم العجز في موازينها التجارية، وإلى انهيار العملة المحلية لهذه البلدان، الشيء الذي أدى بأصحاب رؤوس الأموال الأجنبية إلى سحب أموالهم، وبالتالي فمناصب الشغل التي أنشأت في سنوات الرخاء، مع كل ما تتميز به من تدهور في الأجور وشروط العمل المواتية، قد تبخرت في أيام معدودات. ومهما يكن فالعولمة في شكلها الحالي، قد فاقمت من أعداد البطالين في العالم، كما أدت إلى تدهور كبير لظروف العمل والتشغيل، فتقرير مكتب الشغل الدولي ([12]) حول التشغيل في العالم سنة 2000 م، يقول أن هناك 160مليون بطال عبر العالم من ضمنها 50 مليون في الدول الصناعية الكبرى، كما أنه وحسب نفس التقرير، فإن 500 مليون شخص يتلقون أجورا بأقل من واحد (01) دولار يوميا. وتأثير العولمة على عالم الشغل يظهر كذلك في الانخفاض المتواصل للأجور الحقيقية، واتساع الفوارق بين الأجور الأعلى والأجور الأدنى، وارتفاع معدلات الفقر والتهميش، وتدهور الحماية الصحية للعمال، والضمان الاجتماعي، والتأمين على البطالة، وتشغيل الأطفال والنساء..إلخ، وهو ما يطرح مسألة إعادة النظر في قانون العمل ومجموعة من القوانين الاجتماعية، التي من واجب المنظمات الدولية والأممية التكفل بها، كمنظمة العمل الدولية واليونسكو. وهذا الوضع لا يمكن فصله عن التيارات والأفكار النيوليبرالية التي بدأت تنتشر منذ السبعينيات، وعن السياسات الاقتصادية المستلهمة منها منذ الثمانينيات، فما هو موقف هذه التيارات من البطالة والتشغيل؟

III. موقف التيارات النيوليبرالية من البطالة والتشغيل:

    إن الليبرالية الكلاسيكية التي حملت شعارها المدرسة الكلاسيكية والنيوكلاسيكية، لم تختف مع انتصار الأفكار والسياسات الاقتصادية الكينزية، بل سوف تعاود الظهور مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وتعرف رواجا منذ السبعينيات مع الأزمة التي يدخلها النظام الرأسمالي، كما تعرف بداية تطبيقها منذ الثمانينيات في البلدان الرأسمالية المتطورة والبلدان النامية عبر برامج التعديل الهيكلي لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي. إذن فالليبرالية تعيد تشكيل نفسها، في البداية مع تجمع أنصارها في “جمعية مونت بالران” (La société du Mont pèlerin)، التي أسسها سنة 1947 م الاقتصادي النمساوي (Hayek Friedrich) ([13])، هذه الجمعية سوف تؤدي دورا كبيرا في الحفاظ على مبادئ الليبرالية الكلاسيكية وتطويرها، وأغلبية أتباعها درسوا ودرسوا بجامعة شيكاغو الأمريكية، كما نال معظمهم جائزة نوبل للاقتصاد. ومن هذه الجمعية ستنبثق أهم التيارات الاقتصادية النيوليبرالية المعاصرة، وبالرغم من تشعب أفكارها واتجاهاتها لكنها سوف تتوحد في عدد من المواقف، كاعتبارها السوق هو الميكانيزم الوحيد الفعال في تخصيص الموارد، وفي موقفها القاطع ضد تدخل الدولة في الاقتصاد، وضد الكينزية سواء على مستوى النظرية أو التطبيق.

III.1- موقف المدرسة النقدوية:

      ترتبط هذه المدرسة باسم المفكر الاقتصادي (Milton Friedman) ([14])، وتنطلق من أن الاقتصاد في استقرار دائم وللنقود دور هام في ذلك، وبالتالي فإنه يجب تجنب أي سياسة تدخلية للدولة. والنواة النظرية لأفكار هذه المدرسة تتمثل فيما يسمى بالنظرية الكمية في النقود، التي تنطلق بفكرة منذ القرن السادس عشر مفادها أن تدفق المعدن النفيس هو سبب ارتفاع الأسعار، هذه الفكرة تطورها كل من المدرسة الكلاسيكية والنيوكلاسيكية لتصبح قاعدة تفكيرها ونظرية متكاملة، ترى أن أي تغير في الكتلة النقدية ينعكس في المدى البعيد بتغير في نفس الاتجاه ونفس الحجم لمستوى الأسعار. ويعيد (Milton Friedman) الاعتبار لهذه النظرية فيقول ([15]): ” من دون شك، ليس هناك علاقة تجريبية في الاقتصاد، لاحظنا أنها تعاود الظهور بانتظام وفي ظروف مختلفة ومتنوعة، مثل العلاقة بين التغير في المدى القصير بين كمية النقود والأسعار، الواحدة هي وثيقة الارتباط بالأخرى وتسير في نفس الاتجاه.. ولدي اعتقاد أن هذا الانتظام هو نفسه يشكل القاعدة مثل العديد من الانتظامات التي تشكل قاعدة العلوم الفيزيائية”.

ومن هنا ينطلق (Milton Friedman) في تحديد مجموعة من المواقف والمبادئ أساسها أن عرض النقود يحدد قيمة النقود ومستوى الأسعار، أن التضخم هو دائما وفي كل الأحوال ظاهرة نقدية بحتة، وأن العلاقة بين التغيٌر في الكتلة النقدية والدورات الإقتصادية هي وطيدة، فالتغيٌر في كمية النقود هي مؤشر فعٌال يزوٌدنا بصفة وافية بالمعلومات عن التذبذبات الإقتصادية، وأن الإقتصاديات العصرية مستقرة، وعمل السوق الحرة كفيل بتحقيق التخصيص الأمثل للموارد والتشغيل الكامل.

من هذه المواقف والمبادئ، تتحدد مجموعة من المقترحات والسياسات الاقتصادية لـ(Milton Friedman)، والتي تركز على أن دور الدولة يقتصر على تأمين إطار مستقر لعمليات السوق (العرض والطلب). هذا يعني أنه يجب التراجع عن الفكرة التي مفادها أنه من الضروري تحقيق التشغيل الكامل، بل إن السياسات التي توضع لتحقيق هذا الهدف سوف تؤدي لعدم الاستقرار الاقتصادي. كما أن على الدولة  أن تكتفي بتحديد بعض الأهداف الكلية كضمان الصرامة النقدية، والاستقرار في النفقات، وتحقيق توازن الميزانية.

فيما يتعلق بموقف المدرسة من البطالة، فهو ينطلق من أن هناك معدل طبيعي للبطالة ([16]) يميل إليه كل اقتصاد في حالة توازن، وأي ارتفاع أو انخفاض لمعدل البطالة عن معدله الطبيعي يكون سببه “الوفاقات المؤسستية Les arrangements institutionnels” ([17])، كالتأمين على البطالة، والحد الأدنى للأجور، وقوانين العمل والنقابات..إلخ “عندما أتحدث عن معدل البطالة “الطبيعي”، فإنني لا أقول أنه لا يتحرك ولا يتبدل. بل بالعكس، فالكثير من خصائص السوق التي تحدد هذا المستوى (من البطالة)، هي نتاج الفعل الإنساني والسياسات المتبعة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، التشريعات حول الحد الأدنى للأجور… وقوة النقابات، تجعل معدل البطالة الطبيعي أكثر ارتفاعا مما هو عليه في الحالة العادية. كما([18]) أن أي سياسة باتجاه دفع الطلب الفعال وتخفيض هذا المعدل الطبيعي للبطالة، كالسياسات النقدية والجبائية.. ( ويقصد هنا السياسات الكينزية)، هي غير مجدية في المدى الطويل، وتؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم ليس هناك وفاق دائم بين التضخم والبطالة… هذه الأخيرة لا يمكن تفاديها دون ارتفاع سريع ودائم للتضخم.([19])”

III.2- موقف مدرسة العـرض:

     هي أحد مدارس التيار نيوليبرالي تطوٌرت مع التغيرات التي عرفتها السياسة الاقتصادية الأمريكية تحت رئاسة (Ronald Reagan).([20]) فعندما كان هذا الأخير محافظا على ولاية كاليفورنيا، انفجرت حركة شعبية مدعمٌة من طرف بعض الاقتصاديين للمطالبة بتخفيض الضرائب، توصلت إلى تحقيق تخفيضات هامة على رسوم الملكية، هذه الحركة توٌسعت من بعد لتشمل باقي الولايات الأمريكية. وسنة بعد ذلك، أي في عام 1979، ينشر كل من (Arthur Laffer) و (Jan p. Seymour) كتابا عنوانه ” اقتصـــاديات الثورة على الرسوم” (the economics of the tax revolt). الكتاب يحمل عدة أفكار أساسها أن الضرائب المرتفعة على المداخيل والأرباح لا تشجع على المبادرة والادخار، وبالتالي لا تشجع على الاستثمار والمجهود الإنتاجي. كما أن الجباية المرتفعة والردعية تحفز على ظهور الأنشطة غير الرسمية، كتوسع التشغيل غير المصرح به تهربا من دفع الضريبة. لهذا فهم يقترحون تخفيضات معتبرة في الضرائب المباشرة، والتقليل من طابعها التدرجي، لأن الأغنياء هم الذين يدخرون ويستثمرون في النهاية. ومفكرو مدرسة العرض لا يوافقون المدرسة النقدوية في اهتمامها المفرط بعرض النقود وإهمالها لعملية الإنتاج والابتكار، فبالنسبة إليهم المشكلة لا تكمن في التضخم أساسا بل في ركود الإنتاج الناجم عن نظام جبائي يحطم المبادرة والاستثمار. إلا أنهم يؤيدون النقدوية في أفكارها حول مزايا السوق والمنافسة، وضد تدخل الدولة في الاقتصاد وكل أشكال القوانين الاجتماعية. كما يعتبرون الاقتصاديات المعاصرة مستقرة، ولدعم موقفهم فهم يرتكزون على قانون المنافذ لجون “Jean-Baptiste Say” ( (1767-1832، ويعتبرون أن الاقتصاديات المعاصرة لا تعرف اختلالات ولا البطالة، وإن ظهرت فهي ناتجة عن عوامل خارجية. كما يؤيدون النقدوية في موقفها من السياسات الكينزية، حيث يعتبرونها ليست فقط غير فعالة، بل يمكن أن تكون لها نتائج معاكسة.

إن مطالب مدرسة العرض لا تقتصر على تخفيض الجباية، بل إنها ترى أنه يجب أن يصطحب ذلك بتخفيض في نفقات الدولة، فهذه الأخيرة، حسب رأيهم، تحول وتغير مسار الأموال التي كانت بالإمكان أن توضع في خدمة القطاع الخاص. ومن هذا المنطلق فهم يقترحون تخفيض كل النفقات الاجتماعية للدولة، لأن السياسات الاجتماعية تعتبر حاجزا أمام النمو وتهدد بالركود الاقتصادي، وقد قام (George Gilder) في كتابه “الثروة والفقر” (1981)، بمجهود تبريري لهذه الأفكار واعتبر أن المساعدات المقدمة للبطالين والمطلقين، والمنحرفين..إلخ، وكذا الخدمات الاجتماعية المجانية، لا تساعد إلا على التكاثر وتشكل بذلك خطر على المجتمع ” الضمان الاجتماعي ينهك العمل والعائلة، ويبقي الفقراء في فقرهم.”([21]) وأكثر من ذلك فهو يعتبر أن السياسات الإجتماعية للدولة هي الحاجز الأساسي ليس أمام النمو الاقتصادي فقط، بل أمام استمرار الحضارة الإنسانية!!  وكأننا هنا أمام قانون السكان لـ (Thomas Robert Malthus) ( (1766 –1834!

وفي نفس الاتجاه، فإن أصحاب هذه النظرية يطالبون بتخفيض تكاليف الأجور والأعباء الاجتماعية التي تدفعها المؤسسات، لأنها ترفع من التكلفة وتجعل المؤسسات في وضع تنافسي سيئ.

III.3- موقف مدرسة رأس المال البشري:

      ظهرت مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، والمفكر الاقتصادي (Mincer Jacob) هو أول من استخدم عبارة “الرأسمال الإنسان” في مقال نشره سنة 1958 م، لكن المؤشر الحقيقي للنظرية الجديدة هو مقال  “الاستثمار في الرأسمال البشري” الذي نشره سنة 1961 الاقتصادي تيودور شولتز (Schultz Théodore).

وترى هذه النظرية أنه بالإضافة للخيرات المستعملة لإنتاج خيرات أخرى، تعد الموارد البشرية بمثابة رأسمال لها نفس أهمية الموارد المادية الأخرى، وتسير بنفس المبادئ. المسألة ليست بجديدة، حيث أعطى الفكر الاقتصادي منذ نهاية القرون الوسطى إلى غاية الكلاسيك وماركس، وبدرجة متفاوتة، أهمية كبيرة للعمل الإنساني وأهميته في خلق الثروة والفائض الاقتصادي. إلا أن الجديد الذي تقدمه نظرية الرأسمال الإنسان هو اقترابها الجزئي (النيوكلاسيكي) لهذه المسألة، واعتبار الإشكالية تخص الفرد الاقتصادي العقلاني، وليس المجتمع ككل.

وأصحاب هذه النظرية يرون أن تكاليف الصحة والتكوين والتعليم أصبحت مكلفة جدا، لهذا فالإنفاق فيها يعتبر استثمارا، بالنسبة للفرد العقلاني الذي سيفاضل بين المزايا التي سيتحصل عليها مستقبلا، والتكاليف الحاضرة. فإذا أخذنا مثالا عن التعليم، فالفرد هو الذي سيقرر فيما إذا سيتوقف في المرحلة الثانوية أو الجامعية، فيما سيقوم بتعليم قصير أو طويل المدة، وفي كل الحالات فهو يفاضل بين الوقت الذي يخصصه للترفيه والوقت الذي يخصصه للعمل، إذا اختار الحالة الثانية فسوف يكلفه ذلك نفقات إضافية (استثمار)، لكن ستعود عليه بالنفع مستقبل بمداخيل إضافية. هذا المثال يعمم على الصحة والتكوين، فاختيارات الأفراد بالنسبة لصحتهم وتكوينهم هي التي تحدد مستقبلهم. إذن، وحسب أصحاب هذه النظرية فإن الاختلاف في الدخول يفسر باختيارات المستهلك العقلاني، وليس بوضعه الاجتماعي. وعقلانية الفرد الإقتصادي يوسعها (Becker Gary) إلى مختلف السلوكات والتصرفات الإنسانية للأفراد، فيمكن تفسير كل فعل إنساني مثل النشاط الإجرامي، والزواج، والإنجاب، والطلاق، وحتى تقسيم المهام داخل المنزل..إلخ، من خلال المقارنة العقلانية بين الفوائد والتكاليف التي تنجٌر من كل تصرف. هذا الاقتراب الذي صنف “بالأمبريالي” ([22]) يجعل من علم الاقتصاد نظرية عامة لتصرفات الأفراد، فليس هناك علوم اجتماعية، ولا علوم سياسية ، ولا علم النفس.

بإختصار، وحسب أصحاب هذه المدارس، فإنه([23]) ليس هناك علوم اجتماعية أخرى سوى علم الاقتصاد: علم التصرفات العقلانية ، فليس هناك سوى علم اجتماع واحد (علم الاقتصاد)، والشيء الذي يمنح لعلم الاقتصاد سلطة الغزو الإمبريالي، هو أن أصناف التحليل التي نتمتع بها : الندرة، التكاليف، التفاضل، الفرص، والتي لها تطبيق كوني بالفعل، وبهذا فعلم الاقتصاد يشكل قواعد النحو الكونية لعلم الاجتماع.

خاتمة:

    إن مسألة خطيرة ومأساوية مثل البطالة يجب أن توضع في باب الأولويات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية لسلطات البلدان المغاربية، لهذا فهي تتطلب في اعتقادنا نظرة واستراتيجية شاملة تتعدى مجال إنشاء الوكالات والمجالس الاستشارية، رغم أهميتها الميدانية في التنظيم والتأطير. والنظرة الواقعية ترى أن الوصفات النيوليبرالية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، هي وصفات انكماشية تتحمل المسؤولية الأولى في  تراجع الإنتاج الوطني، وارتفاع معدلات البطالة خاصة لدى الشباب، وتخفيض القدرة الشرائية لفئات واسعة من المجتمع، وتفاقم الفقر والتهميش، نظرة ترى كذلك أن ميكانيزمات السوق لوحدها، لا تحقق التنمية والانطلاقة الاقتصادية التي طالما تغنى بها أصحاب النيوليبرالية وأتباعهم. وباختصار نظرة تكف عن رؤية هذه الوصفات كحل سحري حامل للعقلانية الاقتصادية والعلم الخالص، بل يجب استخراج من خلالها استراتيجية الرأسمال الدولي في شكله الأكثر تطرفا: الرأسمال المالي، التي تهدف الإبقاء على بلداننا في التقسيم الرأسمالي الدولي كبلدان تابعة وخاضعة تستمر في دورها التقليدي، ولو بأشكال عصرية، كمصدرة للمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة، وكمستوردة للمواد المصنعة ونصف المصنعة. ولتحقيق ذلك يعمد الرأسمال الدولي لاستغلال كل مكتسبات الثورة العلمية والتكنولوجية وكل التحولات الموضوعية التي تعرفها بنية الاقتصاد العالمي، لتطويعها حسب مصالحه (الربح)، كما يعمد لتجنيد كل هيئات أركانه الإيديولوجية والإعلامية والسياسية، سواء داخل البلدان الرأسمالية المتطورة أو داخل البلدان النامية، أو المؤسسات والهيئات الدولية، لشن حملة للتغنٌي بمزايا الليبرالية الخالصة، ومزايا السوق الحرة، والمنافسة الحرة، والمبادرة الفردية..إلخ، والتهجم على كل ما حققته البشرية من مكاسب اجتماعية ومن تقدم ورقي بعد قرون من التضحية والعمل المنتج الخالق للثروات والخيرات.

إن الرأسمال الدولي في شكله المسيطر اليوم: الرأسمال المالي والمتمثل في حفنة من رجال المال المضاربين والطفيليين، يعمد من تحقيق هذه الإستراتيجية إلى:

أولا: تفكيك كل القوانين والنظم الوطنية والدولية المسيٌرة والمنظمة لسوق العمل وذلك بهدف تخفيض الأجور والأعباء الاجتماعية التي يراها العائق الأساسي أمام الربح، ولهذا سيشن الرأسمال الدولي حملة على الأجور والحد الأدنى للأجور، على العمل الدائم والقوانين المحددة لساعات العمل، على قوانين التقاعد والضمان الاجتماعي والتأمين على البطالة، على النقابات  والتنظيمات العمالية، وعلى الدولة كضامن للانسجام الاجتماعي.

باختصار، سيشن هذا الرأسمال حملة ضد الجبهة الاجتماعية محملا إياها مسؤولية جمود سوق العمل، وكل مصائب وأزمات الرأسمالية، لهذا سيحاول إقناعنا بأن الجانب الاجتماعي للنمو ليس له أي علاقة بالجانب الاقتصادي، وأن الحل يكمن في تطوير كل الأساليب للوصول إلى مرونة لسوق العمل عبر إلغاء العمل الدائم والحد الأدنى للأجور، تطوير عقود العمل لوقت محدد، والتشغيل عن بعد وفي المنزل، تقليص دور النقابات، والحد من تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية وفي التعديل الاقتصادي والاجتماعي..إلخ من الإجراءات، وهذا هو جوهر الآلية الأولى لتحقيق هذه الإستراتيجية: فصل الاجتماعي عن الاقتصادي. ولقد سبق وأن بينا أن الهدف من وراء ذلك، هو تكوين جيش احتياطي للعمل على المستوى العالمي مستعد للعمل بأدنى الأجور وأدنى شروط العمل، وذلك لتخفيض التكاليف لمواجهة المنافسة الشديدة، والمتنامية على المستوى العالمي بين البلدان الرأسمالي المتطورة نفسها، وبينها وبين بعض البلدان الصاعدة كالصين، والبلدان المسماة “حديثة التصنيع”، لهذا فالخطوة الأولى من هذه الإستراتيجية تهدف لتهيئة الشروط للخطوة الثانية.

ثانيا: تتمثل هذه الأخيرة في فك كل الحواجز والقوانين المسيٌرة والمنظمة للاقتصاد العالمي والتبادل الدولي، لهذا نجد الرأسمال الدولي الممثل في مؤسساته المالية والنقدية وفي المنظمة العالمية للتجارة، وكذا الممثل في بعض التنظيمات الاقتصادية والسياسية الجهوية مثل السوق الأوروبية المشتركة، نجده يدعو إلى إلغاء كل الحواجز أمام تنقل سلعه وخدماته، كما يدعو البلدان النامية للدخول للمنظمة العالمية للتجارة، السبيل الوحيد للتفاوض وإيجاد مكانة في السوق الدولية، وكذا دعوتهم للانخراط في عقود شراكة من أجل إنشاء مناطق حرة للتبادل، كل هذا باسم المنافسة الحرة والكاملة والمزايا والمصالح المتبادلة والمشتركة التي تحققها، والتي لم تعرفها الدول الرأسمالية نفسها حتى في عز مراحل تطورها. وتكمل دائرة هذه الإستراتيجية بفرض على الدول النامية الانخراط في السوق الدولية بشكل فردي لكل بلد على حدى، لهذا فليس هناك أي مجال أو حظ للتفاوض أو الدخول جماعيا في هذه السوق. وهذه هي إذن، في اعتقادنا استراتيجية الرأسمال الدولي، التي يعمد إلى تطبيقها في البلدان النامية من خلال برامج التعديل الهيكلي، ومن خلال السياسات الاقتصادية لسلطات وحكومات الدول النامية، ولقد رأينا ذلك في هذه البرامج ومراحلها: الاستقرار الاقتصادي بالضغط على الطلب، وهيكلة الاقتصاد لزيادة العرض باتجاه التصدير. وهي استراتيجية رأينا محدوديتها ونتائجها، بل رأينا أنها تؤدي إلى ركود اقتصادي ينذر بانفجار اجتماعي وسياسي في هذه البلدان.

إننا نرى أنه من الواجب علينا القول بأن هذه “المقترحات” التي يقترحها الرأسمال الدولي، لم تتوفر ظروف تطبيقها حتى في البلدان المتطورة نفسها، ولا في أي مرحلة من مراحل تطورها. فتطور هذه البلدان نفسها تم تاريخيا عبر التدخل النشيط للدولة لدعم صناعاتها الحديثة النشأة، ووضعها لسياسات حمائية رادعة أمام دخول أي سلع أجنبية من شأنها تحطيم الصناعات المحلية، حدث هذا في مرحلة أولى في كل من إنجلترا وفرنسا وهولندا وإسبانيا والبرتغال، ثم في مرحلة ثانية في ألمانيا واليابان وحتى في الولايات المتحدة نموذج العالم الحر، والتي صرٌح رئيسها “أوليس غرانت” بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية وبداية مرحلة بناء اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، صرٌح قائلا ([24]):” لقد استفادت إنجلترا منذ قرون من نظام حمائي دفعته إلى أقصى حد، ومن دون شك فإن قوٌتها الحالية تعود لفضل هذا النظام. بعد قرنين من الزمن، تجد إنجلترا أنه من الأحسن تبنٌي التبادل الحر، لأنها ترى بأن الحماية لا تقدم لها شيئا. إذن أيها السادة، الشيء الذي أعرفه عن بلادي يدفعني للاعتقاد أنه بعد قرنين من الزمن، عندما تجني أمريكا كل الفوائد من نظام حمائي، فسوف تتبنٌى هي كذلك التبادل الحر”.

إذن فاقتصاديات كل الدول الرأسمالية قد بُنيت، باختلاف الفترات الزمنية وسرعة كل بلد في تطوير طاقاته المنتجة، عبر سلسلة من الإجراءات التدخلية للدولة لدعم صناعاتها وإنتاجها المحلي وتقديم كل المساعدات للبورجوازية الصاعدة لإيجاد منافذ في الأسواق الخارجية، واضطرت لتحقيق ذلك إلى الدخول في حروب تجارية والقيام بحملات استعمارية لتوسيع أسواقها والحصول على المواد الأولية الرخيصة والمجانية لتطوير صناعاتها. وهذا الوضع سيستمر حتى عندما تنتصر العلاقات الرأسمالية نهائيا في هذه البلدان، عبر السياسات الحمائية ومختلف أشكال الدعم التي تمارسها على منتجاتها. واليوم، تريد هذه البلدان فرض على البلدان النامية إلغاء كل الحواجز الجمركية لأنها تعرف أنه ما عدا في بعض المواد المنجمية والزراعية، فإنها أكثر منافسة وستبقى مادامت إنتاجيتها عالية جدا، وهو ما تحرص دوما على تحقيقه والمحافظة عليه عبر احتكار التكنولوجيا، وعبر بعث دوما لمواد وسلع جديدة تبقى تحافظ بها على تقدمها. لهذا فإن الحديث اليوم عن منافسة منتجات هذه الدول هو وهم وضرب من الخيال، في ظل ميزان القوى الحالي وفي ظل بقاء الفئات الحاكمة في البلدان النامية تخدم، سواء عن وعي أو دون وعي، استراتيجيات الرأسمال الدولي. هذه الأمثلة تجعلنا نتأكد من أن إرادة الرأسمال الدولي هي تكريس التبعية وإحياء نوع من “الاستعمار الحمائي” على بلداننا، كما تجعلنا نرى أنه من المستحيل تحقيق مزايا من الانفتاح الاقتصادي في ظل تشتت القوى التفاوضية، وفي ظل وضع التدهور الذي تعرفه اقتصاديات المنطقة المغاربية، أي في ظل أزمة ديون خانقة وتقلص الاستثمارات والإنتاج الصناعي للقطاع العام والخاص، وفي ظل تقلص السوق الداخلية وانكماش الطلب، وكذلك في ظل مشاكل اجتماعية خانقة، وبطالة مرتفعة، وتهميش وفقر متزايد، وأخيرا في ظل غياب المشاورة الديمقراطية الواسعة حول القضايا المصيرية لبلدان وشعوب المنطقة. ولا نقول هذا من منظور سلبي، بل إننا نرى أن استراتيجية وطنية وجماعية لهذه البلدان، تستطيع أن تقودها وشعوبها إلى تنمية بلدانها، وحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ومنها مشكل البطالة. إنها الإستراتيجية التي تقوم على تجنيد كل الطاقات الوطنية والجهوية، لتدعيم الجهاز الإنتاجي الوطني وتطوير أداءه، الحل الوحيد لبعث التشغيل والرفع من المستوى المعاشي، والقضاء على جيوب الفقر والتهميش، إستراتيجية تؤدي فيها الدولة دور المنظم والموجه، وتفتح المجال واسعا للمشاورة الديمقراطية، والمساهمة الواسعة في مجهود التنمية بتحرير المبادرات والطاقات الكامنة. فالاستمرار في تلك النظرة القدرية والمقدسة لبرامج التعديل الهيكلي، والاستمرار في السياسات الترقيعية والظرفية، هو الاستمرار في المعارك الخلفية والهامشية، التي تترك جانبا المعركة الأساسية الحاسمة، معركة التنمية وحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لبلدننا وشعوبنا، معركة العصرنة والعدالة الاجتماعية.

وفي اعتقادنا، فإن كل هذا لن يتم إلا بإعادة الاعتبار للعلم ومكانته في مجتمعاتنا، ومحاولة اقتراب جديدة لعلم الاقتصاد لا تعتبر هذا الأخير كعلم “خالص” خارج عن نطاق التاريخ والمجتمع، بل هو علم له بعده الاجتماعي والديمقراطي.

الهوامش و المراجع:

[1] – ملف حول العولمة، مجلة Les Echos، ماي 1997. ص 20.

[2] – Alain Minc,¨La Mondialisation heureuse¨, Ed. Plon, Paris, 1997. P5.

[3] – Cité par Susan George, International View point, N° 326, Decembre 2000.  P 51.

[4] – P. Petit, ¨ Les aléas de la croissance dans une économie fondée sur le savoir¨,Revue d’économie industrielle, N°88, 2eme trimestre 1999, P 102.

[5] – J.F.Dortiet, Revue Management et sciences humaines, N°5.AVRIL 1991, P 81.

[6] – H. Boudchon, ¨Une troisième révolution industrielle au Etats-Unis?, Lettre de OFCE, N° 187, juillet 1999, P 96.

[7] – Nouveau dictionnaire économique et social, ED. Sociales, 1981, P.132

[8] – IBID, P 432.

[9] – ملف حول العولمة ، مجلة Les Echos، ماي 1997، ص 23.

[10] – البروفيسور خليف عمر يذكر في مقال له في “مجلة نقد” رقم 12، 1999، عنوان: “مشروع قانون المحروقات الجديد – الأوهام والحقائق” ،أن ” عشرة أيام كانت كافية للشركة البترولية العالمية “إيكسون” “EXXONالتي يبلغ رأسمالها 92 مليار دولار ، لتجنيد 77 مليار دولار وإبتلاع الشركة العالمية   “موبيل” “MOBIL“.

[11]– Susan George, “L’ampleur de la mondialisation aujourd’hui”, International View point, N° 326 Décembre, 2000, P  21.

[12] – تقرير حول التشغيل في العالم سنة 2000 م، مكتب الشغل الدولي، جنييف، ص 56.

[13]فريدريك هايك (1899-1992) إقتصادي نمساوي، من أبرز المفكرين المدافعين عن الليبرلية ومن أشد خصوم كينز، مؤسس جمعية “مونت برلان” سنة 1947 والتي اشتهرت بدفاعها عن اقتصاد السوق الخالص والمنافسة الحرة، وبنشرها للإيديولوجية الليبرالية في شكلها الأكثر تطرفا، درٌس ف. هايك بجامعة شيكاغو ونال جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1974، من أهم مؤلفاته: “الأسعار والإنتاج” (1931)، و”النظرية الخالصة للرأسمال”(1941).

[14]ميلتن فريدمان (1912) اقتصادي أمريكي أستاذ بجامعة شيكاغو، رائد الفكر النيوليبرلي المعاصر وزعيم المدرسة النقدوية المشهورة، عضو جمعية “مونت برلان” وترأسها سنة 1970، مستشار الرئيس نيكسون (1968) ثم ريغان (1980)، نال جائزة نوبل للإقتصاد سنة 1976، من أهم مؤلفاته: “دراسات في النظرية الكمية للنقود” (1953)، و “التاريخ النقدي للولايات المتحدة الأمريكية” (1963)، ، و”التضخم والأنظمة النقدية”(1968)، وكذلك “الرأسمالية والحرية”(1962).

[15]– Michel Beaud & Gilles Dostaler , La pensée économiques depuis Keynes, Ed. du Seuil, 1996, pp 273-276.

[16] – بالنسبة لميلتن فريدمان، معدل البطالة الطبيعي هو البطالة اللاإرادية بالمفهوم النيوكلاسيكي مضافا إليه البطالة المؤقتة الناتجة عن الاختلالات في سوق العمل.

[17]– Michel Beaud & Gilles Dostaler, OP.CIT , 274.

[18] – Milton Friedman , Le rôle de la politique monétaire, The American Economic Review, mars 1968, pp. 1-17.

[19] – IBID , 230.

[20] – مدرسة العرض هي تيار فكري تطور مع بداية السبعينيات واشتهر مع فترة حكم الرئيس ريغن ابتداء من 1980، من أهم روادها:

جورج جيلدر (1941) مفكر اقتصادي أمريكي صاحب كتاب “الفقر والثراء” (1980) الذي يشن فيه هجوما شديد اللهجة ضد السياسات الاجتماعية للدولة، ويمدح فيه مزايا المبادرة الحرة.

آرثر لافر (1941) اقتصادي أمريكي يعتبر منظر هذه المدرسة وصاحب كتاب مشهور” اقتصاد الثورة على الرسوم” (1978).

[21] – Georges Gilder, Richesse et pauvreté, Ed. ALBIN MICHEL, 1981, p.127.

[22] – Michel Beaud & Gilles Dostaler, OP.CIT, p 186

[23] – ج. هيرشليفر، مقال عنوانه “المجال الواسع لعلم الاقتصاد”، المجلة الاقتصادية الأمريكية، المجلد 75، رقم 6، سنة 1985 م، ص 127.

[24] – Jaques Adda ، عولمة الاقتصاد، الجزء الأول، دار القصبة ،الجزائر،1998، ص ص40-41.

الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية و الاستراتيجية

من إعداد:

  • د. عبد الحميد قرومـي
  • أ. عبد القادر شلالـي

معهد العلوم الاقتصادية والتجارية والتسيير، المركز الجامعي “آكلي محند أولحاج” بالبويرة.

البريد الإلكتروني: chel00@maktoob.com

guerroumihamid@yahoo.fr

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى