دراسات استراتيجيةدراسات اقتصاديةدراسات شرق أوسطية

بروز دور تركيا في إفريقيا الصاعدة

لا شك في أنّ التغيرات السريعة والعميقة، التي تجري في عدد من بلدان القارة الأفريقية في القرن الحادي والعشرين، أسهمت وتسهم في تغيير شكل ومصير القارة وتوسّع شبكة علاقاتها الخارجية التي تزداد تعقيدا مع دخول أطراف فاعلة جديدة على خطّ العلاقات مع البلدان الأفريقية. فبالإضافة إلى القوى الغربية الحاضرة بقوة في القارة السمراء، نجد أن الصين واليابان والهند وروسيا قد بدأت، أيضا، في السنوات القليلة الماضية تسعى لتأكيد حضورها في القارة الأفريقية. هذا دون أن نُغفل بروز دور قوى إقليمية شرق أوسطية أخرى مثل قطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران وإسرائيل في عدد من دول القارة الأفريقية. أما عن الدوافع الكامنة خلف هذا الحراك الدولي الذي تشهده إفريقيا  فتتمثل في السعي إلى خلق منطقة نفوذ لتلك القوى تسمح لها بفرض سيطرتها على مصادر دول إفريقيا  الطبيعية أو أسواقها أو مواقعها الاستراتيجية، وذلك عبر ضخ قروض ذات تكلفة منخفضة أو استثمارات مالية أو تسويق منتجاتها النهائية. وقد أدى كل ما تقدّم إلى تحول إفريقيا  إلى قبلة جديدة لعقد القمم والمنتديات، التي عادة ما تُعتبر من الأدوات الضرورية لتعزيز التفاعل مع إفريقيا .  

في هذا السياق، وكما أشار إليه بعض الأكاديميين مثل بيدريغ كارمودي، فإن التّعقيد الجديد الذي تعيشه ارتباطات الدول الأفريقية الخارجية قد تكون صياغته اليوم تجري في إطار مفهوم “التدافع الجديد نحو إفريقيا ” الذي يشبه ما كان من تدافع “استعماري نحو إفريقيا ” ْفي القرن التاسع عشر، أو تشبه “حربا باردة جديدة” كتلك التي كانت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال حقبة الحرب الباردة(1). وسواء أكان ذلك في السياق الاستعماري أم في سياق الحرب الباردة، فإن الواقع المتمثل في جذب إفريقيا  لمختلف القوى الدولية سيظل حقيقة تستدعي الخوض في نقاشات كثيرة.

وعلى غرار البلدان الجارة للقارة، فإن تركيا ليست بعيدة جدا عن نشر نفوذها وإحداث التأثير في إفريقيا . ففي الفترة الماضية، سعت تركيا لتعزيز نفوذها في القارة عبر قيام بعثات تركية بجولات في إفريقيا  وعقد مؤتمرات قمة ومنتديات في عدد من بلدانها. وتتوقع تركيا الاضطلاع بدور أنشط على الساحة الدولية، وترى إمكانيات وفرصا هامة في تعاونها مع إفريقيا . ولذلك، تنهج تركيا سياسة أفريقية مكثّفة منذ عام 2005، وهو ما جعل من الوجود التركي في القارة، خلال القرن الماضي، أكثر وضوحا مما كان عليه في الماضي. وقد استضافت إسطنبول التركية، حتى الآن، ثلاث قمم أفريقية، كان آخرها في الفترة ما بين 16- 18 ديسمبر/كانون الأول 2021.

تبحث هذه الورقة في واقع الوجود التركي في القارة وفي ديناميات التفاعل التركي- الأفريقي.

نهضة إفريقيا  والأطراف الدولية الفاعلة في القارة

إفريقيا  قارة عملاقة تعيش فيها شعوب أفقر دول العالم رغم ما لديها من غنى في الموارد الطبيعية، وهو ما يعكس تناقضا كبيرا. فللقارة مخزونات هائلة من النفط والغاز والمعادن الطبيعية الأخرى مثل الكوبالت والذهب والماس، بالإضافة إلى منتجاتها الزراعية مثل زيت النخيل والكاكاو والشاي والبن والفانيلا، التي تعتبر كلها مواد خام ضرورية للإنتاج الصناعي. وبالتالي، فإن تزايد الطلب على إمدادات المواد الضرورية للصناعة يخلق ضغطاً إضافياً على موارد إفريقيا ، خاصة بعد تكثيف بعض القوى الآسيوية علاقاتها مع إفريقيا  في منتصف عقد التسعينيات من القرن المنصرم.

تتّسم قارة إفريقيا  التي يقطنها أكثر من 1.3 بليون نسمة بدينامية نشطة للغاية، ويتّسع حجم سوقها باطراد وبالتوازي مع الزيادة الديمغرافية المسجّلة فيها وارتفاع القدرة الشرائية لطبقاتها الشعبية متوسطة الدخل. وفي هذا الصدد، ما فتئ التصور المنتقص من قدرات إفريقيا  يتغير بشكل إيجابي أكثر في الفترة الأخيرة على مستوى العالم. يبدو ذلك واضحا في سعي الشركات العالمية لوضع استراتيجيات تسويق جديدة وفقا لأنجع الطرق التي تتناسب مع السوق الأفريقية، بالإضافة إلى ضخّ بعض الشركات العابرة للقارات، مثل غوغل، مزيدا من الاستثمارات في مجال التحوّل الرّقَمي للقارة. وبكل تأكيد، فقد بات يُنظر إلى القارة العملاقة كمركز جديد للتكنولوجيا. ومن هذا المنطلق، فإن دخول السوق وبيع المزيد من المنتجات إلى الأفارقة باتا يعتبران هدفين هامين للشركات العالمية. ومع هذا الجذب للاهتمام المتزايد الذي تتسم به السوق الأفريقية فإنها تجذب، أيضا، مزيدا من الأطراف الفاعلة إلى ساحتها.

وبعد تحقّق كل ما تقدّم تأتي سردية “إفريقيا  الصاعدة” التي تشير إلى تزايد تأثير إفريقيا  على المسرح العالمي على المستوى السياسي والأداء الاقتصادي. وفي حين يرى البعض أن ذلك لا يعدو سوى أن يكون مجرد خرافة، لأن هناك حقيقة تشير إلى أن الملايين من الناس ما زالوا يكافحون للخروج من الفقر ويفتقرون إلى الكهرباء ويضطرون إلى العيش في ظروف سيئة، فإن المتفائلين يرون في مقولة “إفريقيا  الصاعدة” حقيقة نقية تعكس تحول القارة في العديد من الاتجاهات بطريقة إيجابية أكثر.

في الفقرات القادمة سنناقش مدى حقيقة هذه السردية. لكن المؤكد هو أن إفريقيا  باتت تجذب قوى عالمية لا تتوانى في توظيف هذه السردية في صياغة سياساتها الأفريقية.

لا شك في أن تنويع العلاقات الخارجية الأفريقية يخلق تناقضا بين وجهات النظر على نحو ما. فالصين، مثلا، تعتبر مستثمرا عملاقا، لكن ثمرة استثماراتها ذهبت في الاتجاه المعاكس، حيث يُنظر إليها على أنها قوة استعمارية جديدة تستخدم استراتيجية فخّ الديون. وفي هذا السياق، فإن أنغولا وإثيوبيا وكينيا أُرهقت جميعها من ثقل سداد قروضها للصين. فهذه البلدان تواجه تحديات تتمثل في دفع قروضها في شكل إمدادات نفطية، أو عبر التخلي عن موانئ بحرية أو مطارات هامة لصالح المستثمرين الصينيين. ومن ناحية أخرى، فإن البلدان الأفريقية تبدو مستعدة للتغاضي عن السياسات الإسرائيلية غير القانونية ضد المهاجرين والفلسطينيين من أجل جذب المزيد من المستثمرين الإسرائيليين. لكن، وعلى الرغم من وجود مخاطر جسيمة، فإننا نرى الولايات المتحدة والقوى الأوروبية والهند والصين واليابان، فضلاً عن كوريا الجنوبية وتايوان وروسيا والبرازيل وتركيا وإسرائيل وإيران وقطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، قد باتت اليوم تتّبع سياسات أفريقية خاصة لتعزيز وجودها في القارة إما في مجال التجارة والأعمال التجارية أو في الدوائر السياسية والثقافية. وبالتالي، فإن وجود أطراف فاعلة متعددة يخلق بيئة تتعارض فيها وتتصادم، في بعض الأحيان، مصالح القوى الآسيوية مع القوى الغربية والقوى الإقليمية في الشرق الأوسط.

بروز دور تركيا في إفريقيا

إذا كانت نهضة إفريقيا  حقيقة واقعة، فإن بروز دور تركيا فيها أمر لا مراء فيه أيضا، حيث نشهد اليوم تفاعلا ديناميا ومكثفا بين تركيا والبلدان الأفريقية في مجالات التجارة والأعمال والدبلوماسية على الرغم من وجود منافسين آخرين على الساحة. لقد أصبحت تركيا اليوم طرفاً مؤثرا بوضوح في إفريقيا ، ولها مكانة فريدة بحكم ما حققته سياستها الخارجية، متعددة الأبعاد، من سبق على هذا المستوى خلال السنوات الخمس عشرة الماضية. وما تزال تركيا تسعى إلى زيادة نفوذها في القارة باستخدام كل القنوات الدبلوماسية والتجارية والاستثمارية والتعليمية والصحية والتعاون الأمني والعسكري، إلى جانب توظيفها أدوات القوة الناعمة المتمثلة في الثقافة والتاريخ(2).

أما في الجانب المقابل، فقد أصبح حضور إفريقيا  الآن أكثر وضوحا في تركيا أيضا، حيث وفدت أعداد كبيرة من الأفارقة بين رجال أعمال وطلبة وسياح ومهاجرين على مختلف أرجاء تركيا. كما أصبح حضور الجاليات الصومالية والسودانية والليبية والمصرية والتونسية والجزائرية والسنغالية والنيجيرية في المدن الكبرى في تركيا أكثر وضوحا اليوم. وعلاوة على ذلك، فقد قفز عدد السفارات الأفريقية في أنقرة من 10 سفارات في عام 2008 إلى 37 سفارة في عام 2021.

كل هذه المعطيات والحقائق تدعو لضرورة مقاربة واقع العلاقات التركية-الأفريقية الحالية من زاوية متعدّدة الأبعاد بدلا من المقاربة أحادية النّهج.

يعود التاريخ التركي في القارة الأفريقية إلى القرن السادس عشر عندما دخل العثمانيون القارة لأول مرة عبر شمالها. ثم استمر التوسع العثماني يمتد عبر شواطئ البحر الأحمر ومرورا بالبحر الأبيض المتوسط وصولا إلى الأراضي الواقعة في اتجاه منطقة الساحل الأفريقي. وقد ظل العثمانيون في إفريقيا  قوة حاكمة لأربعة قرون، وأسسوا خمس إدارات منفصلة تركزت في الجزائر وتونس وليبيا ومصر وإريتريا. غير أن القوات العثمانية انسحبت من القارة بعد ذلك تاركة معاقلها الإدارية للقوى الاستعمارية الأوروبية. ورغم أن الإرث التاريخي العثماني في القارة الأفريقية ما يزال غنياً جدا، إلا أنه ما يزال أيضا غير مستكشف من قِبَل الأكاديميين، حيث كانت بوصلة تركيا، في العهد الجمهوري، موجّهة عادة إلى الغرب.

وإذا ما استثنينا هذه الفترة العثمانية الطويلة، فإن علاقة تركيا الحديثة مع إفريقيا  بدأت في العام 2005 مع إعلان أنقرة عام 2005 “سنة إفريقيا “، ومن ثمّ اعتمد صانع القرار التركي خطة سياسة ملموسة جديدة عنوانها “الانفتاح على إفريقيا “. ومنذ ذلك التاريخ انطلق المشروع الدبلوماسي التركي في القارة الإفريقية. ووفقا لوزارة الخارجية التركية، فإن العلاقات مع إفريقيا  تقع ضمن الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية التركية، وأن فتح ممثليات دبلوماسية جديدة من شأنه تعزيز علاقات تركيا بالقارة. واليوم لدى تركيا 43 سفارة تنشط في جميع أنحاء القارة بعد أن كان عددها، قبل عقدين، لا يتجاوز 12 سفارة. وبذلك باتت تركيا تحتل المركز الرابع من بين الدول الأكثر تمثيلاً في القارة الأفريقية بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا.

وفي سياق تعزيز العلاقات التركية-الأفريقية، مُنحت تركيا عضوية الاتحاد الأفريقي عام 2005 بصفة عضو مراقب، ثم سريعا ما أصبحت شريكاً استراتيجياً للاتحاد الأفريقي عام 2008 قبل عقدها أول قمة للشراكة التركية-الأفريقية في إسطنبول في نفس العام. وقد كانت أهم شعارات مؤتمر قمة إسطنبول هي “المستقبل المشترك” و “التعاون” و “التضامن” بين الأطراف المشاركة فيه(3). وبالإضافة إلى ذلك، اتفقت تركيا وشركائها الأفارقة على تنفيذ برنامج عمل ملموس مؤسّس على المساواة والاحترام المتبادل والمنافع المتبادلة. وعُقد مؤتمر قمة الشراكة التركية-الأفريقية الثانية في مالابو عاصمة غينيا الاستوائية في عام 2014، وذلك وفقا لآلية المتابعة الواردة في إعلان إسطنبول، التي حددت عقد مؤتمرات القمة المستقبلية مرة كل 5 سنوات بينما تُعقد مؤتمرات المتابعة الوزارية مرة كل ثلاث سنوات. وقد صادق المشاركون في مؤتمر مالابو على خطة التنفيذ المشتركة للفترة ما بين 2015-2019.

لا تقتصر سياسة تركيا في إفريقيا  على مؤتمرات القمة الدورية، بل تلعب الزيارات الرسمية التركية إلى البلدان الأفريقية دورا هاما في تطوير التعاون التركي-الأفريقي أيضا. وفي هذا الصدد، كان الرئيس التركي أردوغان حريصا على تأدية زيارات منتظمة للقارة حيث زار، في السنوات الخمس عشرة الماضية، ثلاثين دولة أفريقية مختلفة، بينها زيارتان للصومال الذي مزقته الحرب، ويعتبر هذا العدد من الزيارات للقارة الأفريقية هو الأعلى لزعيم غير أفريقي(4). وبعد عامين من الغياب بسبب تفشي وباء كورونا، عاد الرئيس أردوغان مجددا، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى القارة الأفريقية في جولة بدأها من أنغولا ثم توغو فنيجيريا-عملاق إفريقيا .

هذا ويحظى التعاون الاقتصادي والعلاقات التجارية مع قارة إفريقيا  بمكانة أولوية في أجندة تركيا. ولتطوير تلك العلاقات تنظم تركيا بصفة دورية “منتديات اقتصادية وأعمال تجارية تركية-أفريقية” بالشراكة مع الاتحاد الأفريقي من أجل تنظيم وتطوير العلاقات التجارية بين تركيا والقارة الأفريقية. وقد شهدت إسطنبول في العام 2016 انعقاد المنتدى الأول، الذي جمع وزراء التجارة والاقتصاد من 42 بلدا إفريقيا  وأكثر من ألفي رجل أعمال، وعُقد المنتدى الثاني في العام 2018 تحت عنوان “معا من أجل الاستثمار في مستقبل مستدام”.

أما على الصعيد الإقليمي، ومن أجل تعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا وبلدان غرب إفريقيا ، فقد قررت تركيا، في العام نفسه، إطلاق تنظيم “منتدى الأعمال التجارية والاقتصادية بين تركيا والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “(5) أو المنتدى المعروف تحت مسمى: “Turkey-ECOWAS Business and Economic Forum” وقد عُقد آخر منتدى اقتصادي وتجاري في إسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر 2021.

لدى (مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي DEIK) 45 مجلس أعمال موزّعة في البلدان الأفريقية تهدف إلى تعزيز التجارة الثنائية والاستثمار المتبادل. وقد ارتفع حجم التجارة الإجمالي مع إفريقيا  من 3 بلايين دولار في عام 2003 إلى 26 بليون دولار في عام 2021. أما الاستثمار الأجنبي التركي المباشر(FDI) في إفريقيا  فبات يقترب من 10 مليارات دولار. كما تقوم الشركات التركية الخاصة أيضا برصد ما قد يتاح لها من فرص للاستثمار والأعمال التجارية في إفريقيا . وعلى سبيل المثال، فإن شركة الخطوط الجوية التركية، التي تحمل علم تركيا، تسيّر اليوم رحلاتها إلى61 وجهة تشمل 40 دولة أفريقية.

ثمة أيضا مجال آخر للتعاون التركي-الأفريقي وهو مجال الطاقة الذي يبشّر بمزيد من التطوّر، حيث تستورد تركيا النفط والغاز الطبيعي المسال من الأسواق الأفريقية. وتمثل الجزائر رابع أكبر مصدر للغاز إلى تركيا، في حين يشكل الاستيراد التركي من الغاز الطبيعي النيجيري 90% من حجم التجارة الثنائية بين نيجيريا وتركيا(6). وفي عام 2017، دعت دولة تشاد، الغنية بالنفط والمعادن، الشركات التركية لاستخراج النفط التشادي. كما دعا الصومال، بدوره، تركيا لاستكشاف النفط في بحار البلاد. وبالإضافة إلى كل ذلك، وقّعت تركيا صفقة بحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها كانت ثمرتها إنشاء منطقة اقتصادية خالصة تمتدّ من الساحل الشمالي الشرقي لليبيا لتصل إلى الساحل الجنوبي الشرقي لتركيا، إلى جانب اتفاقات لاستكشاف النفط.

على مستوى آخر، تعتبر تركيا قطاع الزراعة قطاعا استراتيجيا لتحسين علاقاتها مع البلدان الأفريقية. وفي هذا الصدد، نظمت تركيا سنة 2017، في مدينة أنطاليا، لأول مرة “ملتقى وزراء الزراعة في تركيا وإفريقيا  ومنتدى الأعمال التجارية الزراعية”، وأبرمت أنقرة صفقات مع ستّة بلدان أفريقية في مجال الزراعة وصيد الأسماك وتربية الماشية. وقد شارك في هذا الحدث، الذي ناقشت خلاله الأطراف المعنية مسائل الأمن الغذائي والتغذية والتمويل وفرص الائتمان والصناعة الزراعية والتطورات بهدف تحسين التعاون بين تركيا وإفريقيا ، 40 وزيرا للزراعة من 54 بلدا إفريقيا  إلى جانب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) ومفوضية الاتحاد الأفريقي(7). ويوفّر هذا المشروع التنفيذي المشترك لمكاتب الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا”(TIKA) ، التابعة لوكالة التنمية الرسمية التركية في إفريقيا ، الأدوات الزراعية والبذور والأسمدة ومبيدات الحشرات للمزارعين المحليين من أجل تحسين قدراتهم الزراعية.

من جهة أخرى، تعتبر المعونات المقدمة من أجل التنمية والشؤون الإنسانية، أيضا، إحدى الدعامات الأساسية للوجود التركي في القارة نظرا للفجوة الإنمائية الكبيرة القائمة بين إفريقيا  وبقية العالم. فعلى سبيل المثال، لا يزال الوصول إلى المياه النظيفة والكهرباء حلما بعيد المنال بالنسبة لملايين الأفارقة في القارة. وفي هذا الصدد، تولي تركيا اهتماما خاصا للمشاريع الإنمائية في القارة. ولدى الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” مكاتب تنسيق في 22 دولة أفريقية، كما تنشط منظمات المجتمع المدني التركية غير الحكومية في مجال تقديم المساعدات التنموية والإنسانية في إفريقيا ، حيث تموّل مشاريع بناء المدارس والكتاتيب القرآنية والمستشفيات والعيادات الطبية مختلفة الأحجام.

وفي إطار دعم تركيا للمشاريع الإنمائية، فإن حالة الصومال يمكن أن تقدّم مثالا جيدا للدراسة. فعلى الرغم من الصراعات الداخلية والمجاعة القاتلة المنتشرة في البلاد، كان التدخل التركي في الصومال، في عام 2011، بدوافع إنسانية؛ ومنذ ذلك الحين، نفّذت تركيا عددا كبيرا من المشاريع الإنمائية في الصومال. وعلى سبيل المثال فإن تركيا تمتلك أكبر مركز للتدريب العسكري وأكبر مجمع للسفارات في العاصمة الصومالية، مقديشيو، التي دمّرتها الحرب. كما تتولى الشركات التركية إدارة الميناء البحري الرئيسي والمطار الأكبر في مقديشو، والذين يدرّان 80% من إجمالي عائدات الحكومة الصومالية(8). وعلى مستوى آخر، أسهمت تركيا بمبلغ 2.4 مليون دولار لتخفيف ديون الصومال لدى صندوق النقد الدولي. أما عسكريا، فإنّ القوات المسلحة التركية تقدّم للقوات الوطنية الصومالية تدريبات مختلفة في مقديشو وفي تركيا، على حد سواء. وفي المجال الصحي، تدير وزارتا الصحة التركية ووزارة الصحة الصومالية معاً أكبر مجمع للمستشفيات في القرن الأفريقي أطلق عليه اسم مستشفى أردوغان للتدريب والبحث.

وبمناسبة دبلوماسية الصحّة التركية في القارة الأفريقية فإنها لا تقتصر فقط على الصومال، فوزارتا الصحة التركية ونظيرتها السودانية تديران معا مجمعا إقليميا للمستشفيات في منطقة دارفور السودانية، وهو المجمّع الاستشفائي الذي شيّدته أيضا الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا”. وفي هذا الإطار أيضا، يمكن ضرب أمثلة أخرى على الدعم التركي لقطاع الصحة في القارة الأفريقية ومن بينها مستشفى معيتيقة العسكري في العاصمة الليبية طرابلس الذي تديره القوات المسلحة التركية(9).

بات قطاع التعليم عنصرا هاما في دعم تركيا لتطوير قدرات الشباب في إفريقيا  وتنمية مهاراتهم. فالدولة التركية تدير، من خلال مؤسسة معاريف، 175 مدرسة في مختلف مدن 26 بلدا في القارة، كما أتاحت تركيا، في السنوات الأخيرة، عددا أكبر من فرص المنح الدراسية للطلبة الأفارقة ووفّرت لهم تعليما عاليا مجانيا في مراحل الماجستير والدكتوراه. ووفقًا لمصادر متاحة للعموم، حصل حوالي 15,000 طالب أفريقي على منحة دراسية كاملة من الدولة التركية منذ عام 1992، مع ملاحظة أن أغلب تلك المنح كانت في السنوات الأخيرة. وكبديل عن وجهات التعليم العالي الأوروبية فإن طلبة البلدان الأفريقية يفضلون الجامعات التركية. وبحسب بيانات الرئاسة للأتراك في الخارج والمجتمعات ذات الصلة، فقد استفاد 5.259 طالب من البلدان الأفريقية من برنامج المنح الدراسية التركية خلال الفترة ما بين 2010-2019، في حين حصل 1.147 طالب أفريقي على منح دراسية في العام 2019 وحده. وفضلاً عن ذلك، يمتلك معهد يونس إمري في تركيا عشرة مراكز ثقافية في القارة تنظم دورات تدريبية في مجال اللغة وبرامج التبادل الثقافي.

أما على مستوى الإعلام، فقد أسست تركيا مكتباً قاريا لوكالة الأناضول للأنباء في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. جاءت هذه الخطوة كمحاولة لتجاوز ارتهان وسائل الإعلام التركية واعتمادها الكامل، فيما تستورده من الأخبار والصور القادمة من إفريقيا ، على ما تحصل عليه من مختلف قنوات وسائل الإعلام الغربية مثل بي بي سي، وسي إن إن، وقناة فرنسا 24، ووكالة الأنباء الفرنسية، ورويترز. وقد أثمر هذا التوجه نتائج جيدة، حيث أصبحت شركات صناعة الإعلام التركية موجودة في أديس أبابا وداكار ونيروبي وجوهانسبرغ وكيب تاون والخرطوم وأبوجا، وتقدّم محتوى إعلاميا متميزا. وبالإضافة إلى ذلك، تنظم وكالة الأناضول للأنباء برامج تدريبية للصحفيين الأفارقة تجمع بين الممارسة والمحاضرات النظرية في مجال الصحافة ووسائط الإعلام الرقمية.

على مستوى آخر، بلغت مغامرة تركيا في القارة الأفريقية إلى حدّ ولوج مجال التعاون الأمني والعسكري أيضا. وفي هذا الإطار، فإن القوات المسلحة التركية تنفّذ برامج تدريبية للقوات المسلحة الوطنية في كل من ليبيا والصومال؛ هذا في حين انضمت القوات التركية إلى بعثات حفظ السلام في جمهورية إفريقيا  الوسطى ومالي. أما عن الإنجازات الكبيرة التي حققتها تركيا على مستوى حفظ السلام والأمن، فيمكن سوق مثال بناء تركيا مركزا للتدريب العسكري، تحت مسمى TURKSOM، في العاصمة الصومالية مقديشو بتكلفة بلغت 50 مليون دولار أميركي، ويقدم المركز التدريبي التركي تدريبات للجيش الوطني الصومالي ولعناصر بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال لمساعدتهم على تطوير مهاراتهم القتالية في مواجهة تنظيم الشباب. ووفقا لسفير تركيا لدى مقديشو، فقد تم حتى الآن تدريب أكثر من 15,000 من القوات العسكرية الصومالية على يد عسكريين أتراك منذ أن بدأ المركز نشاطه في العام 2017. وعلاوة على ذلك، تقدم تركيا، أيضا، تدريباً خاصاً لبعض وحدات الجيش الصومالي في مدينة إسبرطة التركية(10). وفي العام 2018، أعلنت تركيا دعمها لقوة الساحل G-5 التي تتألف من خمس دول تكافح الإرهاب والاتجار بالبشر في منطقة الساحل بمبلغ 5 ملايين دولار. وفي وقت لاحق، وقعت قوة الساحل G5 مع تركيا صفقة دفاعية خلال معرض الدفاع الدولي التركي الذي أقيم في إسطنبول(11).

واصلت تركيا تقديم الدعم لإفريقيا ، خلال انتشار وباء كورونا، حيث أقامت جسرا جويا وسيّرت عددا كبيرا من الرحلات الجوية حملت مواد طبية إلى مختلف بلدان القارة. وخلال انتشار وباء كورونا، قدّمت تركيا معونات صحية طارئة لعدد من الدول الأفريقية من بينها جنوب إفريقيا  والصومال والسودان وأوغندا وموزامبيق وبوتسوانا ورواندا وناميبيا ومملكة إسواتيني (سوازيلاند سابقا) وزامبيا وأنغولا وجنوب السودان. وفي هذا الصدد، أرسلت تركيا جوا شحنات تحمل أقنعة وأجهزة أوكسيجين، وغيرها من المواد الطبية اللازمة، لمساعدة دول أفريقية عديدة في مكافحة فيروس كورونا. وفيما يتعلق بإنتاج الأقنعة الطبية الواقية على المستوى المحلي، فقد أرسلت وكالة المعونة التركية، التي تديرها الدولة، آلات خياطة وأقمشة إلى موزمبيق ومملكة إسواتيني لتصنيع الأقنعة(12). وعلى الرغم من القيود المفروضة على تنقل الأفراد والإغلاقات بسبب الوباء، إلا أن منظمات تركية غير حكومية تمكنت من تقديم معونات للبلدان الأفريقية لمساعدتها على مواجهة الوباء.

 بالعودة إلى العقدين الماضيين، يبدو أن السياسة الخارجية الجديدة التي تنتهجها تركيا في إفريقيا  يمكن تقسيمها إلى مرحلتين رئيسيتين: ففي المرحلة الأولى التي بدأت في عام 2005، نفذت تركيا سياسات مبادرة نحو إفريقيا  للتعريف بنفسها داخل القارة. أما المرحلة الثانية، التي تلت عام 2014، فقد شهدت سعي تركيا إلى تعزيز مؤسساتها وشراكاتها في إفريقيا  من خلال اعتماد سياسات الشراكة التركية-الأفريقية(13). وها هي تركيا اليوم تستضيف قمة الشراكة التركية-الأفريقية الثالثة، التي ينتظر منها وضع أسس مستقبل تركيا في القارة من الآن فصاعدا.

وبوصفها شريكا استراتيجيا للاتحاد الأفريقي منذ العام 2008، فإن نهج تركيا تجاه إفريقيا  يتشكل عادة عبر الإعلانات المتبادلة الواردة في قمتي الشراكة التركية-الأفريقية وتمّ قبولها من الجانبين التركي والأفريقي. وهكذا، تتقدم تركيا في إفريقيا  وفقا لخطط تنفيذ مشتركة قبلتها الأطراف ووقّعتها خلال مؤتمرات قمم الشراكة التركية-الأفريقية. ومن المؤكد وجود ترابط قوي بين ما تنفذه تركيا فعليا على الأرض وبين ما تؤطره إعلانات مؤتمرات قمم الشراكة من إسهامات تركيا في القارة السمراء.

لا مراء في حقيقة أن تركيا لم تُظهر، طيلة العهد الجمهوري، أداء جيدا في القارة الأفريقية إلا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، الذي تولى السلطة عام 2002. ومع ذلك، فلا مجال لتأكيد أن نهج تركيا تجاه إفريقيا  ناجح تماما وأنه يمضي قدما دون أيّ عقبات، فهناك تحديات كبيرة أمام سياسة تركيا في إفريقيا  تطرحها قضايا محلية وأخرى دولية. فمن ناحية أولى، يلعب الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي لتركيا دوراً حاسماً في استمرار انخراط تركيا في إفريقيا ، لأن التنمية والمعونة الإنسانية لا تزالان تمثلان أقوى مجالين لتركيا في القارة. ومن جهة ثانية، نجد أن قوى مثل فرنسا وروسيا والصين والإمارات العربية المتحدة تتحدى الوجود التركي القوي في إفريقيا  بسبب مخاوفها الاستراتيجية.

لكن، ومع وجود جملة من التحديات، فإن المؤشر الرئيسي لسياسة تركيا في إفريقيا  هو التفاعل بين تركيا وإفريقيا  الذي ما فتئ يتطور بين الطرفين بشكل متبادل خلال العقد الماضي. فالوجود التركي في إفريقيا  بات اليوم أكثر وضوحا وأصبح يلفت انتباه الأفارقة بشكل أكبر. فعلى سبيل المثال، فتحت 37 دولة أفريقية سفاراتها في أنقرة، ونجد اليوم آلاف الطلاب الأفارقة يدرسون في تركيا. وبالنسبة للعمل والتعليم والتجارة والاستثمار أو السياحة، فإن الأفارقة باتوا يفضلون الآن تركيا كوجهة جذب جديدة. كما نلحظ تزايدا في أعداد الجاليات الصومالية والسودانية والمصرية والتونسية والسنغالية وحتى النيجيرية يوما بعد يوم داخل تركيا. وإذا ما تحدثنا عن صعود تركيا في إفريقيا ، فمن الحقائق أيضا أن نؤكد أيضا على صعود إفريقيا  في تركيا.

ترجمه إلى العربية الدكتور كريم الماجري.

(1)- Carmody, P. (2011). The New Scramble for Africa. UK: Polity.

(2)- Unveren, B. (2021), Turkey seeks to strengthen Africa relations with ‘benevolence’. DW, https://www.dw.com/en/turkey-seeks-to-strengthen-africa-relations-with-…;

(3)– – MFA (2008), إعلان اسطنبول المعتمد في 19 آب/أغسطس 2008 في مؤتمر قمة التعاون بين تركيا وأفريقيا في إسطنبول.

http://afrika.mfa.gov.tr/istanbul-declaration-adopted-on-19-august-2008…

(4)- Akca, A. (2019). Neo-Ottomanism: Turkey’s foreign policy approach to Africa. New Perspectives in Foreign Policy. CSIS Issue 17, https://www.csis.org/neo-ottomanism-turkeys-foreign-policy-approach-afr…;

(5)- AA (2018). Turkey-ECOWAS forum set to begin in Istanbul. https://www.aa.com.tr/en/africa/turkey-ecowas-forum-set-to-begin-in-ist…

(6)-  Kalehsar, O. S. (2020). Turkey’s focus on Africa: energy security, political influence and economic growth. https://uwidata.com/8052-turkeys-focus-on-africa-energy-security-politi…

(7)-  FAO (2017). FAO buttresses growing cooperation between Turkey and Africa. http://www.fao.org/europe/news/detail-news/en/c/883161/

(8)-  Wasuge, M. (2016). Turkey’s Assistance Model in Somalia: Achieving Much With Little, The Heritage Institute (HIPS). Mogadishu

(9)-  Aydemir, M. (2020). Turkish Hospital in Libya serves security forces 7/24. AA, https://www.aa.com.tr/en/africa/turkish-hospital-in-libya-serves-securi…

(10)-  AA (2021). Turkey provides commando training to Somali soldiers. https://www.aa.com.tr/en/africa/turkey-provides-commando-training-to-so…

(11)- G5 Sahel (2021). Signature entre le G5 Sahel et la présidence de l’industrie de Défence turque d’un contrat de soutien à la Force Conjointe. https://www.g5sahel.org/signature-entre-le-g5-sahel-et-la-presidence-de…

(12)- AA (2020). Turkey’s help combating COVID-19 in Africa. https://www.aa.com.tr/en/africa/turkey-s-help-combating-covid-19-in-afr…

(13)- MFA. Turkey-Africa Relations. https://www.mfa.gov.tr/turkey-africa-relations.en.mfa 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى