نظرية العلاقات الدولية

تاريخ واسهامات مدرسة فرانكفورت في حقل العلاقات الدولية

مدرسة فرانكفورت هي مدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفة النقدية مرتبطة بمعهد الأبحاث الاجتماعية في جامعة غوته في مدينة فرانكفورت. ضمّت مدرسة فرانكفورت التي تأسست في جمهورية فايمار (1918-1933) خلال فترة ما بين الحربين العالميتين (1918-1939) المفكرين والأكاديميين والمنشقين السياسيين غير المتفقين مع الأنظمة الاقتصادية-الاجتماعية المعاصرة (الرأسمالية، الفاشية، الشيوعية في ثلاثينيات القرن العشرين. اقترح مفكرو مدرسة فرانكفورت أن النظرية الاجتماعية غير كافية لتفسير الفصائلية السياسية والسياسات الرجعية التي تحدث في المجتمعات الليبرالية الرأسمالية في القرن العشرين. وفي نقدها للرأسمالية وللماركسية اللينينية كأنظمة تنظيم اجتماعي غير مرنة فلسفياً، أشارت أبحاث مدرسة فرانكفورت في النظرية النقدية إلى مسارات بديلة لتحقيق التنمية الاجتماعية للمجتمع وللأمة.[1]

بُني منظور مدرسة فرانكفورت في البحث النقدي (القائم على النقد الذاتي وغير المحدد بأمد) على الأسس الفرويدية والماركسية والهيغلية للفلسفة المثالية[2]. ولإكمال ما أغفلته ماركسية القرن التاسع عشر الكلاسيكية التي لم تعالج مشاكل القرن العشرين الاجتماعية، قام رواد المدرسة بتطبيق علم الاجتماع اللاوضعي لـ التحليل النفسي والفلسفة الوجودية[3]. تم اقتباس أعمال المدرسة في العلوم الاجتماعية من توليفات من الأعمال وثيقة الصلة موضوعياً لـ إيمانويل كانط وجورج فيلهلم فريدريش هيغل وكارل ماركس وسيغموند فرويد وماكس فيبر وجورج سيمل وجورج لوكاش. [4] [5]

وكما فعل كارل ماركس، اهتم أعضاء مدرسة فرانكفورت بالحالات (السياسية والاقتصادية والمجتمعية) التي تسمح بالتغيير الاجتماعي الذي يتحقق عبر المؤسسات الاجتماعية العقلانية[6]. استمد التشديد على المكون النقدي للنظرية الاجتماعية من تجاوز الحدود الايديولوجية للفلسفة الوضعية والمادية والحتمية، من خلال العودة إلى فلسفة كانط النقدية وخلفائه في المثالية الألمانية – بشكل أساسي فلسفة هيغل التي شددت على الديالكتيك والتناقض كخصائص فكرية متأصلة في إدراك الإنسان للواقع المادي. 

ومنذ ستينيات القرن العشرين، قام يورغن هابرماس بتوجيه أبحاث النظرية النقدية لمعهد البحث الاجتماعي في مجالات العقلانية التواصلية واللسانيات والذاتية-المشتركة اللغوية والنهج الفلسفي للحداثة[7]. على الرغم من ذلك، قام الباحثان الاجتماعيان ريموند غويس ونيكولاس كومبريديس بمعارضة اقتراحات هابرماس، زاعمين أنه قام بتقويض أهداف التغيير الاجتماعي الأصلية لمشاكل النظرية النقدية مثل: ما تعريف العقلانية؟ وتحليل وتوسعة الظروف الضرورية لتحقيق التحرر الاجتماعي وكذلك الانتقادات الموجهة صوب الرأسمالية المعاصرة[8].

معهد الأبحاث الاجتماعية

يصف مصطلح مدرسة فرانكفورت بشكل غير رسمي الأعمال البحثية الأكاديمية والمفكرين الذين شكلوا معهد البحوث الاجتماعية (Institut für Sozialforschung)، وهي مؤسسة ملحقة بجامعة غوته في فرانكفورت تأسست عام 1923 من قبل الماركسي كارل غرونبرغ، أستاذ القانون في جامعة فيينا[9]. ولذلك، كانت مدرسة فرانكفورت أول مركز بحثي ماركسي في جامعة ألمانية، وقد تأسست بدعم سخي من الطالب الثري فيلكس ڤيل (1898-1975)[3].

تناول ڤيل في أطروحته للدكتوراه المشاكل العملية لتطبيق الاشتراكية. وفي عام 1922، قام بتنظيم أسبوع العمل الماركسي الأول (Erste Marxistische Arbeitswoche) في محاولة لدمج التيارات الماركسية المختلفة في فلسفة واحدة عملية ومتماسكة. ضمت الندوة الأولى كل من جورج لوكاش وكارل كورش وكارل أوغست فيتفوجل وفريدريش بولوك. حثّ نجاح أسبوع العمل الماركسي الأول على تأسيس معهد دائم للأبحاث الاجتماعية، فقام ڤيل بالتفاوض مع وزير التعليم بغرض وضع أستاذ جامعي كمدير لمعهد الأبحاث الاجتماعية، وبالتالي، الضمان بشكل رسمي أن تكون مدرسة فرانكفورت مؤسسة جامعية.[10]

شارك كل من كورش ولوكاش في أسبوع العمل الذي تضمن دراسة الماركسية والفلسفة (1923) لكارل كورش، لكن عضويتهم في الحزب الشيوعي حالت دون مشاركتهم مشاركة فعّالة في معهد الأبحاث الاجتماعية (مدرسة فرانكفورت). ومع ذلك، شارك كورش في مشاريع المدرسة في النشر. علاوة على ذلك، أظهر الصواب السياسي الذي أجبر به الشيوعيون لوكاش على التبرؤ من كتابه التاريخ والوعي الطبقي (1923) إلى أن الاستقلال السياسي والايديولوجي والفكري عن الحزب الشيوعي كان شرط عمل ضروري لتحقيق الإنتاج المعرفي[10].

ارتبط التقليد الفلسفي في مدرسة فرانكفورت – الإدماج المتعدد التخصصات للعلوم الاجتماعية – بالفيلسوف ماكس هوركهايمر الذي أصبح مدير المعهد عام 1930، وقام بتجنيد مفكرين مثل تيودور أدورنو (فيلسوف، عالم اجتماع، عالم موسيقى) و إريك فروم (محلل نفسي) و هربرت ماركوزه (فيلسوف)[3].

فترة ما بين الحربين العالميتين في أوروبا (1918-1939)

أثر الاضطراب السياسي المستمر في جمهورية فايمار (1918-1933) خلال فترة ما بين الحربين العالميتين (1918-1933) على نمو فلسفة مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية. تأثر الباحثون بشكل خاص بالثورة الألمانية الشيوعية الفاشلة عام 1918-1919 (التي تنبأ بها ماركس) وبصعود النازية (1933-1945) ، وهي نسخة ألمانية من الفاشية. ولتفسير ظهور مثل هذه السياسات الرجعية، قام باحثو المدرسة بتطبيق مختارات نقدية من الفلسفة الماركسية لتأويل وإضاءة وتفسير أصول ودوافع الاقتصادات الاجتماعية الرجعية في أوروبا القرن العشرين (نوع اقتصاد سياسي لم يعرفه ماركس في القرن التاسع عشر). تواصل نمو المدرسة الفكري في الثلاثينيات مع نشر كل من المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام ١٨٤٤ (1932) و الإيديولوجيا الألمانية (1932) اللذان أظهر فيهما كارل ماركس استمرارية منطقية مع الهيغلية كأساس للفلسفة الماركسية. عندما بدأ تحول التهديد النازي المعادي للفكر إلى عنف سياسي، قرر المؤسسون نقل معهد الأبحاث الاجتماعية خارج ألمانيا النازية (1933-1945)[11]. وبعد فترة بسيطة من صعود هتلر إلى السلطة عام 1933، انتقل المعهد اولاً من فرانكفورت إلى جنيف، ومن ثم إلى مدينة نيويورك عام 1935، حيث انضمت مدرسة فرانكفورت إلى جامعة كولومبيا، وتم تغيير اسم الدورية الصادرة عن المدرسة من “مجلة البحث الاجتماعي” إلى “دراسات في الفلسفة والعلوم الاجتماعية”. ومنذ ذلك الوقت، بدأت الفترة الهامة للمدرسة في العمل على النظرية النقدية الماركسية، ونال المنهج البحثي والاستقصائي القبول الأكاديمي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. بحلول الخمسينيات من القرن العشرين، قادت مسارات البحث كل من هوركهايمر و أدورنو وبولوك للعودة إلى ألمانيا الغربية، بينما بقي كل من ماركوزه ولوفنتال وكيركهايمر في الولايات المتحدة. في عام 1953، تمت بشكل رسمي إعادة تأسيس معهد العلوم الاجتماعية (مدرسة فرانكفورت) في مدينة فرانكفورت في ألمانيا الغربية [12].

قائمةالمنظّرين

يشير مصطلح مدرسة فرانكفورت عادة إلى المفكرين ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوزه، وليو لوفنتال وكيركهايمر. على الرغم من كون يورغن هابرماس من دائرة مدرسة فرانكفورت الداخلية، إلا إنه كان أول من افترق عن برنامج هوركهايمر البحثي وشكل بداية جيل جديد من المنظرين النقديين.

تألفت مدرسة فرانكفورت من:

  • ماكس هوركهايمر
  • تيودر أدورنو
  • هربرت ماركوزه
  • فريدريش بولوك
  • إريك فروم
  • أوتو كيركهايمر
  • ليو لوفنتال
  • فرانز ليوبولد نيومان
  • هنريك غروسمان [13]

شركاء معهد فرانكفورت:

  • سيغفريد كريكور
  • ألفريد سون-ريثل
  • والتر بنيامين
  • إرنست بلوخ

المنظرون النقديون في مدرسة فرانكفورت:

  • يورغن هابرماس
  • كلاوس أوف
  • أكسل هونيت
  • أوسكار نيكت
  • ألفريد شميدت
  • ألبريخت فيلمر

النظرية النقدية

تُفهم أعمال مدرسة فرانكفورت في سياق الأهداف الفكرية والعملية للنظرية النقدية. في النظرية التقليدية والنظرية النقدية (1937)، قام ماكس هوركهايمر بتعريف النظرية النقدية على أنها نقد اجتماعي يهدف إلى إحداث تغيير اجتماعي وتحقيق التحرر الفكري من خلال التنوير غير الجامد في افتراضاته.[14] [15] إن الغرض من النظرية النقدية هو تحليل المغزى الحقيقي لتفاهمات الحُكْم (الإيديولوجيا السائدة) المتولدة في المجتمع البرجوازي، من خلال إظهار أن الأيديولوجية المهيمنة تقوم بتشويه فهم كيفية تكون العلاقات الإنسانية في العالم الحقيقي، وكيف تعمل هذه التحريفات الخاطئة في سبيل تبرير وشرعنة هيمنة الرأسمالية على الناس.

في التطبيق العملي للهيمنة الثقافية، الأيديولوجيا الحاكمة هي قصة تسردها الطبقة الحاكمة، تبين فيها أن ما يحدث في المجتمع هو أمر طبيعي. ومع ذلك، تخفي تلك القصة المروية عبر تفاهمات الطبقة الحاكمة بقدر ما تظهر عن المجتمع، وبالتالي، كانت وظيفة مدرسة فرانكفورت هي التحليل والتفسير الاجتماعي لمجالات العلاقات الاجتماعية التي لم يناقشها ماركس في القرن التاسع عشر – وبخاصّة جوانب البنية التحتية والفوقية في المجتمع الرأسمالي. [16]

عارض هوركهايمر وضع النظرية النقدية كَضِدٍّ للنظرية التقليدية، حيث تطبّق كلمة نظرية بالمعنى الوضعي للعلموية، بمعنى أسلوب رصد بحت يؤسس قوانين علمية (تعميمات) عن العالم الحقيقي. ذلك أن العلوم الاجتماعية تختلف عن العلوم الطبيعية بقدر ما تكون التعميمات العلمية غير مستمدة من التجربة بسهولة، لأن فهم الباحث للتجربة الاجتماعية يتشكل دائمًا من الأفكار الموجودة بالفعل في ذهن الباحث. ما لا يفهمه الباحث أو الباحثة هو تواجدهم في سياق تاريخي تّشَكِّل فيه الإيديولوجيا الفكر الإنساني، وبالتالي، ستوافق نتائج اختبار النظرية أفكار الباحث بدلاً أن توافق واقع التجربة الصحيح. كتب هوركهايمر في النظرية التقليدية والنظرية النقدية (1937):

الحقائق التي تقدمها لنا حواسنا تؤدى لنا اجتماعياً بطريقتين: من خلال الصفة التاريخية للشيء المُلاحَظْ ومن خلال الصفة التاريخية للعضو المُلاحِظْ. كلاهما ليس طبيعياً ببساطة: بل يشكلهما النشاط الإنساني، ومع ذلك، يرى الفرد نفسه كمتلقٍ وسلبي في عملية الإدراك. [17]

بالنسبة إلى هوركهايمر، لا يجب أن تقوم مناهج التحري المطبقة على العلوم الاجتماعية أن تقوم بتقليد المناهج العلمية المطبقة على العلوم الطبيعية. ومن هذا المنطلق، فشلت النهج النظرية للوضعية والبراغماتية والكانطية الجديدة والفينومينولوجيا في تجاوز القيود الايديولوجية التي قيدت تطبيقها على العلوم الاجتماعية، لأن التحيّز الرياضي-المنطقي الذي يفصل النظرية عن الحياة الحقيقية، أي أن نهج الاستقصاء تسعى إلى منطق يكون صحيحاً دائماً ومستقل عن ودون اعتبار لاستمرار النشاط الإنساني في المجال الموضوع قيد الدراسة. كانت الاستجابة المناسبة لهذه المعضلة هي تطوير نظرية نقدية للماركسية.[18]

لأن طبيعة المشكلة كانت معرفية، قال هوركهايمر أنه” علينا ألا نعيد النظر في العالِم فقط، بل في الشخص العارف أيضاً بشكل عام.” [19] وعلى عكس الماركسية الأرثوذكسية التي تُطَبِّقُ قالباً جاهزاً في النقد والعمل، فإن النظرية النقدية هي نقد ذاتي لا يطالب بحقيقة مطلقة كلية الطابع. وعلى هذا النحو، لا تمنح النظرية النقدية أولوية للمادّة (المادية) أو للوعي (الإيديولوجيا)، لأن كل نظرية للمعرفة تشوه الواقع الموضوع تحت الدراسة لصالح مجموعة صغيرة. من الناحية العملية، تقع النظرية النقدية خارج القيود الفلسفية للنظرية التقليدية، لكن ومع ذلك، في كونها طريقة تفكير واستعادة للمعرفة الذاتية الإنسانية، تستمد النظرية النقدية نهجها ومواردها الاستقصائية من الماركسية.[15]

حاول المعهد أيضاً إعادة صياغة الديالكتيك كمنهج ملموس. يمكن تتبع تاريخ استخدام المنهج الديالكتيكي إلى فلسفة هيغل، الذي تصوّر الديالكتيك على أنه نزعة المفهوم للمرور عبر نقيضه كنتيجة للصراع بين جوانبه المتأصلة المتناقضة[20]. وفي تعارض مع أنماط تفكير سابقة رأت الأمور بشكلٍ مُجرّدٍ، كل منها بمفردها كما لو حبيت بخصائص ثابتة، للديلاكتيك الهيغلي القدرة على النظر في الأفكار وفقاً لحركتها وتغيرها في الزمن، وكذلك وفق تفاعلها وعلاقاتها المتداخلة.[20]

يسير التاريخ وفقاً لهيغل ويتطور بطريقة ديالكتيكية: يجسّّد الحاضر التوليف العقلاني (بالألمانية: Aufheben، بالإنجليزية: Sublation أو Synthesis) للتناقضات السابقة. وفقاً إلى ذلك، يمكن النظر للتاريخ كعملية مفهومة (يشير إليها هيغل بمصطلح روح العالم، بالألمانية: Weltgeist)، أي الحركة باتجاه حالة محدّدة: الإدراك العقلاني للحرية الإنسانية[21]. مع ذلك، لم يولي هيغل اهتماماً بالاعتبارات المتعلقة بالمستقبل [22] [23]، لأنه ليس بإمكان الفلسفة أن تؤدي دوراً إرشادياً نحوه، لأنها (الفلسفة) تفهم الأمر بعد وقوعه. وهكذا، تكون دراسة التاريخ محدودة بوصف وقائع الماضي والحاضر[23]. لذا بالنسبة إلى هيغل وورثته، يقود الديالكتيك حتماً إلى قبول الوضع الراهن. وبالفعل، كانت فلسفة هيغل بلعب بمثابة مبرر للاهوت المسيحي والدولة البروسية.

كان هذا موضع انتقاد شديد من قبل ماركس وجماعة الهيغليين الشباب، الذين جادلوا بأن هيغل تمادى كثيراً في تعريف مفهومه المجرد “للعقل المطلق” وفشل في ملاحظة “الحقيقي” – أي الظروف المعيشية غير المرغوبة واللاعقلانية للطبقة العاملة. قدم ماركس نظريته الخاصة في المادية الجدلية بقيامه بقلب جدلية هيغل المثالية رأساً على عقل، وجادل: ” لا يقرر وعي البشر كينونتهم، بل وعلى العكس، تقوم كينونتهم الاجتماعية بتحديد وعيهم.”[24] تتبع نظرية ماركس تصوراً مادياً للتاريخ والمكان،[25] حيث يُنظر إلى تطور القوى المنتجة على أنها القوة الدافعة الأولية للتغيير التاريخي، وطبقاً لذلك فإن التناقضات الاجتماعية والمادية المتأصلة في الرأسمالية تؤدي حتماً إلى إلغائها – وبالتالي استبدال الرأسمالية بشكل عقلاني آخر للمجتمع: الشيوعية.[26]

وهكذا اعتمد ماركس بشكل مكثف على شكل من أشكال التحليل الجدلي. هذا المنهج – في معرفة الحقيقة من خلال الكشف عن التناقضات الكامنة في الأفكار السائدة حالياً، وبالتالي، وفي العلاقات الاجتماعية التي ترتبط بها، تقوم بكشف الصراع الأساسي بين القوى المتعارضة. بالنسبة لماركس، لا يمكن للأفراد تحرير أنفسهم والقيام بتغيير النظام الاجتماعي القائم إلا بعد الوعي بالديالكتيك (أي الوعي الطبقي) لهذه القوى المتعارضة في صراعها على السلطة.[27]

من ناحيتهم، سرعان ما أدرك منظّرو مدرسة فرانكفورت أنه لا يمكن تبني نهج جدلي إلا إذا كان من الممكن تطبيقه على نفسه، أي، إذا قاموا بتبني نهج يصحح ذاته بذاته – نهج جدلية يمكنهم من تصحيح التفسيرات الجدلية السابقة الخاطئة. وبناء على لذلك، رفضت النظرية النقدية كلاً من التاريخانية والمادية في الماركسية التقليدية.[28] وبالفعل، لم يعد منظري مدرسة فرانكفورت ينظرون إلى التوترات المادية والصراعات الطبقية التي تحدث عنها ماركس على أنها تملك نفس الإمكانيات الثورية داخل المجتمعات الغربية المعاصرة، وهي ملاحظة أشارت إلى أن تفسيرات ماركس وتنبؤاته الديالكتيكية كانت إما غير مكتملة أو حتى غير صحيحة.

خلافاً للممارسة في الماركسية التقليدية الذي يسعى فقط إلى تطبيق فكرة عن “الشيوعية” غير قابلة للتغيير، رأى المنظرون النقديون أن الممارسة والنظرية في اتباعهما المنهج الديالكتيكي يجب عليهما أن يكونا متداخلين وأن يقوما بالتأثير في بعضهما البعض. عندما صرّح ماركس على نحو شهير في أطروحات حول فيورباخ بأن “الفلاسفة قاموا بتفسير العالم بطرق مختلفة، لكن الفكرة هي في تغييره”، كانت فكرته الحقيقية هي أن شرعية الفلسفة الوحيدة هي في كيفية افادتها للممارسة. سيقوم منظرو مدرسة فرانكفورت بتصحيح هذا بالجدال بأنه عندما تفشل الممارسة، عندها يجب أن تتم مراجعة النظرية التي قامت بتوجيهها. باختصار، يجب أن يعطى الفكر الفلسفي الاشتراكي القدرة على نقد نفسه و”التغلب” على أخطاءه الخاصة. في حين يجب على النظرية أن تفيد الممارسة، على الممارسة أيضاً أن تعطى فرصة لإفادة النظرية.

التأثيرات والأعمال المبكرّة

السياق التاريخي الانتقال من الرأسمالية الصغيرة إلى الرأسمالية الضخمة والإمبريالية؛ الحركة العمالية الاشتراكية تنضج لتصبح حركة إصلاح وتشجع على ظهور دولة الرفاهية؛ الثورة الروسية (1917) وصعود الشيوعية؛ فترة الـ neotechnic؛ ظهور وسائل الاتصال الجماهيري والثقافة الشعبية الجماهيرية؛ الفن الحديث؛ وصعود النازية.
نظرية فيبر التاريخ المقارن للعقلانية الغربية في الرأسمالية، الدولة الحديثة، العقلانية العلمية العلمانية، الثقافة والدين، تحليل أشكال الهيمنة الهرمية والسيطرة البيروقراطية العقلانية-القانونية الحديثة؛ صياغة المنهج التأويلي في العلوم الاجتماعية.
النظرية الفرويدية نقد القمع النفسي في مبدأ الواقع الحضاري المتقدم، وعصاب الحياة اليومية؛ اكتشاف العقل اللاواعي، التفكير عبر العملية الأولية، للتأثير النفسي للقلق الناتج عن عقدة أوديب على الصحة والحياة العقلية للإنسان، تحليلات القواعد النفسية للسلوكيات غير العقلانية للاستبداد.
السلبية نقد الفلسفة الوضعية كفلسفة وكطريقة علمية وكأيديولوجية سياسية وكإمتثال ؛ إعادة تأهيل الديالكتيك السلبي، العودة إلى هيغل؛ الاستيلاء على العناصر الحاسمة من علم الظواهر، التاريخانية ، الوجودية، انتقاد الاتجاهات المثالية غير التاريخية للنظرية الوضعية ؛ نقد الوضعانية المنطقية والبراغماتية.
الحداثة الجمالية نقد التجربة الكاذبة وتجربة التَشيُّؤ عن طريق تحطيم القوالب المعتادة واللغة التقليدية؛ ابراز أساليب بديلة من الوجود والخبرة؛ تحرير اللاوعي، الوعي بالوضع الفريد والحديث؛ الاستيلاء الثقافي على الآليات الأدبية لفرانز كافكا ومارسيل بروست وأرنولد شوينبرغ وأندريه بريتون؛ نقد صناعة الثقافة.
النظرية الماركسية نقد الأيديولوجية البرجوازية؛ نقد نظرية ماركس في الاغتراب (Entfremdung|Alienation)؛ المادية التاريخية، التاريخ كنضال طبقي ومعدل الاستغلال في أنماط الإنتاج المختلفة؛ تحليل نظم الرأسمالية على أساس كونها استخراجاً لفائض العمل؛ نظرية الأزمة المالية، الاشتراكية الديمقراطية، المجتمع الطبقي.
نظرية الثقافة نقد الثقافة الشعبية كقمع وامتصاص للنفي الفردي، وكدمج للشخص الفرد في الوضع القائم؛ نقد الثقافة الغربية كثقافة سيطرة اجتماعية ؛ التفريق الديالكتيكي بين الجوانب التحررية والجوانب القمعية لثقافة النخبة؛ نقد كيركغور للعصر الحالي، مفهوم إعادة تقييم كل القيم عند نيتشه، والتربية الجمالية عند شيلر.

المرحلة الثالثة: إعادة التركيز

بانتهاء الحرب العالمية الثانية تولد مسعي سياسي أكاديمي الي إعادة الحياة في الفكر السابق للنازية وفي هذا السياق تم الاتصال بهوركهايمر للعودة الي فرانكفورت وإعادة فتح المقر الاصلي للمعهد خاصة بعد بروز عديد الأسماء التي تحولت الي مراجع في عالم الفلسفة. وافق هوركهايمر في اطار صفقة يتم بموجبها توفير تمويل حكومي للمعهد وربطه بجامعة فرانكفورت وحث باقي الأعضاء للعودة للمعهد وفي المقابل يتخلى المعهد عن خطه الثوري الراديكالي. تم إعادة فتح المعهد في فراكفورت والتحق به طلبة من بينهم هابرماس كباحث. وفعلا عمد هوركهايمر الي إلغاء الخط الثوري للمعهد واخفاء كل المنشورات السابقة ووجه البحث الي دراسة ظواهر اجتماعية ذات صلة بمنزلة الإنسان في المجتمع المعاصر ذي التركيبة الراسمالية. لكن الخط الأكاديمي هذا سرعان ما تحول إلى دراسة رواسب النازية في الفكر والمجتمع الألماني وكيفية التصدي لها وأصبح رهان المعهد هو رصد هذه النازية الثاوية في فكر الاكادميين والطلبة الالمان ومحاربتها وهو الخط الذي شارك فيه هابرماس كباحث ولكن سرعان ما تخلى عنه وتصادم مع هوركهايمر بسبب تخلي هذا الأخير عن مشروع الثورة ولكنه ظل مع ذلك مساعدا لادرنو ومشاركا في تفكيك آليات الاغتراب والاستيلاب في ظل الراسمالية المنفلة والمجتمع الاستهلاكي الذي ترعاه. هذه المرحلة الثالثة فقط يصح تسميتها بمدرسة فراكفورت وهو الاسم الذي أطلقه عليها خصومها ولكن سرعان ما تبناه اردنو بفخر رغم انه لم يكن يروق لهوركهايمر.

مدرسة فرانكفورت هي حركة فلسفية نشأت بمدينة فرانكفورت سنة 1923. بدأت الحركة في معهد الأبحاث الاجتماعية بالمدينة. وجمعت فلاسفة مثل ماكس هوركهايمر، والتر بنجامين، وهيربرت ماركوز، ويورغن هابرماس وهو الممثّل الأكثر شهرة للجيل الثاني للمدرسة. قد هاجرت الحركة إلى جنيف سنة 1933 مع وصول هتلر للحكم في ألمانيا، ثمّ إلى الولايات المتّحدة أثناء الحرب، قبل أن تعود مجددًا إلى ألمانيا في بداية الخمسينيات. ارتبط اسم مدرسة فرانكفورت بالنظرية النقدية في معناها الفلسفي والذي ينبغي تمييزه بدقة عن الدلالة الرائجة في النقد الأدبي. وينبغي التوضيح ان مدرسة فراكفورت متمايزة عن النظرية التقدية لكون الأولي هي حالة خاصة من النظرية النقدية ولكون هذه الأخيرة لا تقتصر علي مدرسة فراكفورت.

النظرية النقدية الاجتماعية في العلاقات الدولية

البناء المعرفي والنظري للنظرية النقدية الاجتماعية.

الحقيقة أن روبرت كوكس R. Cox بعبــارته الشهيرة Theory is always for someone”and for some purpose”. ” النظرية هي دوما من أجل شخص معين ولهدف ما ” ، ينزع كل موضوعية وعلمية منحت للنظريات التقليدية في العلاقات الدولية، ويعوض قلب النظرية بالمعيارية الذاتـيـة Subjective Normativite، هـذه العبارة تشير بطريقة واضحة للانعكاسية Reflexivity الأنتولوجية، الإبستمولوجية والمنهجية التي تميز النظرية النقدية في الإقتراب للسياسة العالمية، ما جعل ستيف سميث.Smith S يصنفها ضمن صوره الذاتية Self – Images ضمن الحوار ” بعــد- الوضعي” . فكيف تدافع النظرية النقدية عن اختياراتها الأنتولوجية، الإبستمولوجية والمنهجية ؟ وقبل ذلك قـد يكون من المفيد بداية الحديث عن الأصالة المعرفية لهــذه النظرية .

 الأصالة المعرفيــة للنظرية النقدية

لقـد تطورت الدراسات النقدية من مجموعة من الأطر الفلسفية كان على رأسها الفلسفة الماركسية، التي تفترض وجود علاقة جدلية صراعية بين الأطراف الأضعف اجتماعيا والطبقة الأرستقراطية . وكان الفكر الماركسي الغربي أكثر تأثيرا عليها ، والذي تمحور حول دور عاملي الثقافة والإيديولوجيا في تحديد أشكال العلاقة الإجتماعية وأنماط صراع القوى .وحسب النقديين فإن الظاهرة الإجتماعية تفهم في سياقها التاريخي ، وبالتالي فإنه يمكن ملاحظة تأثير واضح للماركسية على النظرية النقدية.رغم أن الفكر الماركسي يتميز أكثر بفكرة المادية التاريخية من أي مفاهيم أخرى.
وحسب كوكس فإنه ضمن الفكر الماركسي يوجد صنفين أساسيين على الأقل ، فهناك من يركزون حصريا على مفهوم المادية التاريخية مثل ( Eric Habsbaum, Gramsci )، وهناك من يقترحون أعمالا مرتكزة على الماركسية البنيوية مثل ( Althusser, Peulantzar )، وهـــذا النوع الأخير يقتسم بعض الخصائص مع النظريات التفسيرية; فهي لا تاريخية وتعتمد ابستمولوجيا وضعية .

إن كوكس يصنف نفسه ضمن الصنف الأول ، حتى أنه يرفض اعتباره كماركسي فماهو إلا تاريخي- مادي ، فأخذه عن جورج سورال G.Sorel يعني تبنيــه للعناصر المنهجيــة الماركسية دون أن يعني بالضرورة استعارته لكل ما في الفكر الماركسي . وإذا كان كوكس يفضل التيار التاريخي فهـذا لأنه يطمح الى نظرية ذات مبادئ عالمية  .
والنظرية النقدية تسمى عادة بالنظرية النيوغرامشية نسبة الى أنها استمدت أفكارها من المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي ، الذي ساهم في شرح فكرة الهيمنة والتي تعني عنده فرض السيطرة على الغالبية وقبول الوضع القائم الذي تهيمن عليه الطبقة المسيطرة . والهيمنة لا تقوم إلا من خلال الإيديولوجيا التي تمثل منظومة فكرية تحدد البنى والممارسات الإجتماعية في المجتمعات ، والتي تجعل من هيمنة القوى الرأسمالية وأنماط العلاقات التي تفرضها أمرا عاديا وطبيعيا لا يثير التساؤل .

والحقيقة أن هــذه الفكرة أدركها ابن خلدون في حديثه عن تقليد المغلوب لغالبه ” المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلتــه…” . وهي نفسها فكرة تطبيع الهيمنة التي تحدثت عنها النظرية النقدية الإجتماعية مع كوكس * .
لقــد انبثقت عن الماركسية مدرسة فلسفية اجتماعية تسمى مدرسة فرانكفورت، وقد تطـورت هذه المدرسة في معهد البحث الإجتماعي بفرانكفورت بألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، في فترة تميزت بزيادة الإنتاج
* في سنة 1996 كتب كوكس : ” Toward a Post- Hegemonic Conceptualization of World Order, Reflection on The Relevancy of Ibn Khaldun” .وتطور وسائل الإعلام والصناعات . وعاش مفكروها تجربة استخدام الثقافة سلاحا سياسيا من طرف النازية .ومن أبرز مفكريها ( أدورنو، هوركايمر، رايخ، ماركييز، هابرماس… ) .

هـــدفت هـذه المدرسة الى توسيع إطار النقد الماركسي ليشمل مجالات عديدة في الحياة الإجتماعية لم تشملها الدراسات الماركسية التي ركزت فقط على الطبقات وتفاعلات الإخضاع والخضوع فيها، لتدرس قضايا أخرى أهمها أثر السلطة على اللاوعي الجماعي، وأنماط الهيمنة السياسية في الظواهر الإجتماعية التي لا تبدوا فيها هذه الهيمنة جلية أو تلك التي يعتقد أن الهيمنة غائبة فيها تماما مثل وسائل الإعلام التي عززت هيمنة السلطة بنشر أشكال ثقافية عميقة تغيب العقل النقدي للمجتمع  .
فمدرسة فرانكفورت تقدم مشروعا نقديا لأسس الحداثة الغربية باسم العقلانية ذاتها التي تأسست عليها ، فهي محاولة جادة لتفكيك النموذج العقلاني الغربي في صورته الاذاتية النفعية من جهة وفي جهته الوضعية العلمية من جهة ثانية . كما أنها أعادت الاعتبار للحداثة والعقلانية في الوقت ذاته انتقدت تجاوزاتها ، وذلك لكي تصبح العقلانية النقدية من صميم العقل الأوربي 3 .
الحقيقة أن النظرية النقدية كمقاربة جديدة لدراسة العلاقات الدولية بدأت معالمها منذ 1976 عندما كتب كوكس ” On The Thinking About The Futur of The World Order ” ، الذي أظهر من خلاله غياب الخاصية النقدية لإسهامات النظريات الوصفية في العلاقات الدولية ، وفي 1981 مع إصـــدار” Social Forces , State , World Order. Beyond IR ” أعاد كوكس طرح السؤال بدقة أكثر ” النظرية هي دوما لشخص ما ومن أجل هدف معين”، حينها اعتبرت الانطلاقة للنظرية النقدية . وفي 1987 أصدر كوكس ” World Order Power and ” الذي صنف كأول مرجع لهذه المقاربة الجديدة، و الحقيقة أن البداية في هذا التحليل كانت بفضل إسهامات أساتذة جامعة يورك الكندية مثل كوكس وجامعة ييل البريطانية و أمستردام الهولندية،ثم توسعت مع بداية التسعينات مع بروز أقطاب جديدة للبحث في اليابان وألمانيا والو م أ ، وقد انضم عدة كتـــاب إلى جانب كوكـس مثـلِِِ (Stephen Gill, Craig Murphy,David Law,Kees Van Der Pils ، Geovani Arrughi).

إن معرفة السياق التاريخي لظهور هـذه النظرية أمر على غاية قصوى من الأهمية، كونه يساعدنا على قدر كبير في فهم التوجهات العامة لهذه النظرية والمواقف التي تتبناها منهجيا وعمليا ، وهنا تدخل الو م أ طرفا حاسما في هذا الحكم ؛ فعلى المستوى المنهجي فنــد النقديون الإدعاء الواقعي من أن استقلال الحق الأكاديمي يضمن للعمل التنظيري أن يكون في منأى عن نقد وتمحيص الباحثين ، حيث يتساءل النقديون عن أي من البحوث هي كلية مجردة من المصالح المادية ، وخاصة في الولايات المتحدة أين الميزانية المخصصة للبحوث في الميدان الأمني مثلا تفوق ميزانية دول أخرى، ما جعل حقل العلاقات الدولية يسجل هيمنة كبيرة للأبحاث الأمريكية . أما على المستوى الواقعي ، فقد تميزت هذه المرحلة بالانحراف في السياسة الخارجية الأمريكية سعيا وراء الهيمنة ، وكذلك وصول المحافظين إلى السلطة في كل من الو م أ ، بريطانيا، ألمانيا . كل هذا أدى بالنظرية النقدية إلى اقتراح البديل على المستويين.

 محاور البحث الأونطولوجي في النظرية النقدية 
ينطلق النقديون من فرضية أساسية بصدد الإقتراب للنظام الدولي القائم، وهو أن النظريات التقليدية في العلاقات الدولية أو نظريات حل المشكلة ” Problem – Solving Theory ” بتعبير كوكس وخاصة النيوواقعية والنيولبرالية ليست نظريات غير متخصصة أو غير فعالة ، لكنها تقلص أوتطولوجيتها في التحليل في الزمان ( تجاهل التفاعلات الإجتماعية- تاريخية، وسائل الإنتاج )والمكان ( اعتبارها الدولة فاعل وحيد و/ أو أساسي)  . وبهذا الصدد يقدم النقديون حجة واقعية على درجة معتبرة من القوة والإقناع؛ عندما عجزت النظريات السابقة عن التنبؤ بأحد أهم التغيرات في النظام العالمي في القرن العشرين وهو انهيار المعسكر الشرقي، وذلك لأن الأنطولوجية Néo-Néo تجاهلت دراسة العلاقات [ داخل – دولتيه ] من جهة ، ومن جهة أخرى كانت غير قادرة على أن تضع في الحسبان التغيرات الإجتماعية للقوى الإجتماعية التي سبقت الإنهيار السوفييتي ، هذا دون الحديث عن عجزها عن التنبؤ بالظهور المذهل لأشكال جديدة من المقاومة غير الدولية ” Non States”
في العلاقات الدولية أمام فاعلين جاهزين ليكونوا قنابل بشرية.

من هكذا منطلق يشكك النقديون في النظريات التقليدية التي تفترض ميزة الديمومة للعالم الإجتماعي ، لأن هــذه الأخيرة لا تهتــم بشروط الظهور الإجتماعية – تاريخية والاجتماعية – لغوية لمفاهيمها 3 ، إنها لا تتساءل عن علاقات التفاعل الإجتماعي، عن طبيعة وأصل المؤسسات How وعن مسارات التغيير التي يمكن أن تحصل ضمنها  . لكن الحقيقة حسب النقديين أنه لا يمكن معرفة الواقع الإجتماعي والدولي ما لم نأخذ في الحسبان دراسة السلوكات اليومية والصراعات التي تقودها القوى الإجتماعية ضمن النظام الإجتماعي،ومن جهة أخرى أخذ هــذا النظام كمركب اجتماعي سياسي واحد ؛ أي أن مسارات البناء والتغيير لمجال معين يجب أن يؤثر على المجالات الأخرى ، ما يعني رفض النقديين لتقسيم المجالات أو تحديد مسبق للمتغيرات ضمن هذه المجالات.
ويشرح R. Cox و S. Gill أنه ليس من الكافي تقديم الوقائع والمعايير ( الواقعية ، السياسية، الفوضى) كنتيجة للبناءات الإجتماعية ( الواقعية البنيوية) ، فما يحدد الحقل السياسي فعلا هو الأخذ في عين الإعتبار أن هذه الوقائع الإجتماعية والمعايير هي نتيجة لعملية تاريخية في إطار ديناميكية أساسية هي مسار الصراع بين القوى الإجتماعية المهيمنة على النظام العالمي والقوى الإجتماعية الأخرى. وهكذا فإن القوى الإجتماعية المهيمنة على النظام العالمي ليست نتيجة لبناءات اجتماعية بل نتيجة لصراعات بين القوى الإجتماعية في فترات سابقة.
ومن خلال ما سبق يبدو بشكل واضح أن النظرية النقدية تتحدى الأنطولوجيا الواقعية بكون الدولة فاعل وحيد ، وحدوي وعقلاني.

لقد استلهمت النظرية النقدية نظرتها السابقة للواقع الدولي من صميم أفكار غرامشي حول الهيمنة داخل الدولة ؛ لقد استعار كوكس مفاهيم هــذا الأخيـر ليطبقها عـلى مستوى السياسـة العالمية ، ليرسم لنا بذلك هيكل النظرية النقدية في العلاقات الدولية التي تتساءل عن طبيعة النظام العالمي المهيمن ، باتخاذ مواقف انعكاسية تجاه هيكل هذا النظام ، وبنفس الطريقة تتساءل عن أصل شرعية المؤسسات السياسية والاجتماعية والطريقة التي تتغير بها هـذه المؤسسات عبر الوقت، وتحاول فهــم مسارات التغيير ضمن كل وأجزاء المركب السياسي – الإجتماعي.
وحسب كوكس فإن كل نظام عالمي يتميز ببنية تجميع خاصة منسجمة وفق تنظيم هرمي لنماذج العلاقات الإجتماعية للإنتاج، بواسطتها فإن الفوائض تتحول من المحيط إلى المركز ، هذه العلاقة محيط – مركز تشير إلى ما يسميه كوكس كتلة تاريخية إيديولوجية Historical Ediological Bloc تخدم قوى اجتماعية معينة على حساب أخرى.

من هـذا المنطلق كرس النقديون دراستهم لنماذج زيادة القوة ، تحول القوة، نجاح الكتل التاريخية، وكل مرحلة هيمنة درست من زاوية دور القوى الإجتماعية في التغيير، هــذه القوى بما تتضمنه من صراعات اجتماعية هي المحرك أو الأساس للنظام . وبهذا الصدد يقترح كوكس دراسة السياقات التاريخية من خلال المكونات الأساسية الثلاث التالية :
1- الشروط الماديــة: تتضمن شروط تطور الإنتاج بواسطة التكنولوجيا الحديثة وكذا سياق الإنتاج والتبادل الـــــــدولي.
2- الأفكـار : وهي نوعين أفكار تذاتانية ، قائمة على أساس طبيعة العلاقات الإجتماعية التي تنشئ عادات حول السلوك الإجتماعي مثل فكرة التنظيم بواسطة دول لها رقابة على الحدود . أفكار اجتماعية ، هي حصيلة رؤى صراعية حول طبيعة وشرعية علاقات السلطة، وضمنها يمكن اكتشاف إمكانية التغيير.
3- المــــؤسسات: هي وسيلة حفظ وضمان استقرار نظام تاريخي ما، وهي تعكس القوة الإجتماعية وتشجع تشكيل أفكار جماعية لوظائفها.
انه في سياق تاريخي يتميز بشروطه المادية ،بأفكاره وبمِِؤسساته،فإنه من المفيد دراسة الحقيقة الإجتماعية بوضع جنبا إلى جنب بنية السياق التاريخي مع البنية الإجتماعية المكونة من قوى اجتماعية وأشكال تنظيم السلطة والنظام العالمي، وانطلاقا من التناقضات بين النظام الإجتماعي والسياق التاريخي نستطيع فهم التطورات التاريخية.لأجل كل هذا يعتقد كوكس أنه إذا ما حدث تغيير ما في النظام الدولي فلن يكون ذلك بسبب تغير القطبية ولا بسبب انهيار الإمبراطوريات، فما سيغير العالم هو نهاية الحلقة الثورية التي تأسست والتي وجهت القوى الإجتماعية، والتي خاصة قبلت لعب دور قواعد السياق التاريخي الواستفالي 3 .
هذه النقاط الأساسية من الأونطولوجيا النقدية يمكن أن تدلنا إلى بعض النتائج العملية حول دراسة العلاقات الدولية ، مثلا إذا ما حاولنا فهم لماذا لم تصبح اليابان قوة مهيمنة لا في الماضي ولا في الحاضر، فإنه من غير المجدي إرجاع ذلك إلى توزيع القوى والخاصية الفوضوية للنظام الدولي، حسب كوكس فإن هـذه الدولة وجدت في سياق تاريخي لم تعرف ولم تستطع في إطـاره تطوير نموذج ثقافي واجتماعي ذو قيم عالمية، بالنسبة له فإن السياق الفكري لفترة زمنية ما أو الثقافة تلعب دور أساسي؛ كل أموال وأسلحة العالم لن تجعل من اليابان قوة مهيمنة لأنها متلقي أكثر من كونها مصدر للقيم الثقافية 4 .

الإبستمولوجيا ” بعد – الوضعيــة ” للنظرية النقدية.

إن النظرية النقدية كمقاربة بديلة للسياسة العالمية ركزت أكثر نقدها على الجوانب الإبستمولوجيا وفلسفة العقل وأنماط المعرفة وعلاقتها بالإيديولوجيا والمصلحة والقوة، فالنقديون يدركون أن المعتقدات التي يحملها بعض المنظرين أثبتت ادعاءاتهم حول الحقيقة، والتي سوف تصبح جزءا من الأنماط الإيديولوجية العالمية لإضفاء الشرعية على ترتيب عالمي معين وتدعيم أجندة مزعومة للسيطرة، تكون مناسبة لتقديم الإيديولوجيات متنكرة في شكل نظريات علمية ، ومهمة هـــذه النظرية النقدية هو إزالة هذا القناع من خلال بناء فهم ومعان أكثر عمقا  .
وفي تبنيها لهكذا افتراضات منهجية لا وضعية للعلوم الإجتماعية ، تأثرت النظرية النقدية بمدرسة فرانكفورت؛ التي انتقدت المشروع الفلسفي للعهد التنويري لأنه قائم على الرغبة في السيطرة على العالمين الطبيعي والاجتماعي ، وإخضاع الفن لقوانين السوق أو ماتسميـــه بالهندسة الاجتماعية Social Engineering ،
وبالنتيجة تصبح النظريات الوضعية تحمل مفهوما للحقيقة يوضع في خدمة رأس المال والتقنية ، ويخضع جميع ميادين النشاط الإنساني لمنطق مادي حسابي يمنع الاحتكام إلى العقل ولا يخدم نهائيا الأهداف الإنعتاقية بقدر ما يهدمها، لكن المعرفة الحقيقية يجب ان تكون آداة تسمح بزيادة استقلالية الأفراد، اما غير هذا فستصبح المعرفة عقيمة ومحكوم عليها بالتأمل في تدميرها الذاتي.
إن أصل الإختلافات الإبستمولوجية التي تميز النظرية النقدية عن النظريات التقليدية ، تكمن ربما في الإجابة التي تقدمها لنا كل منها على السؤال التالي ماهي وظيفة النظرية ؟.
حسب كوكس فإن هدف أي نظرية يكمن في صنفين: وصف أو نقــد .أما بالنسبة للأولى فهي كما يسميها نظرية حل المشكلة Problem – Solving Theory : النظرية هنا هي مجرد إجابة بسيطة عن سؤال مباشر مثل أي مرجع قد يساعد على حل المشاكل المواجهة في شكل وصف  مثل النظريات التي تندرج ضمن المقتربين اللبرالي والواقعي ؛ إنها نظريات تدرك الواقع كمعطى مسبق، والمجتمع المدني كنظام دنيوي يعمل جزئيا باستقلالية عن أفراده، وتعامل الدولة مثل مؤسساتها التقنية والوظيفية ، وبالنتيجة تقلص السياسة في الإدارة والمشاكل السياســية تصبــح مشاكل تقنية ، والسياسة هي حول من يأخذ، مـاذا، مـتى ، وليس لماذا Politics is about Who Get , What , When, and Not Why .

من جهة أخرى عكف النقديون على مساءلة مفاهيم الأساس النيوواقعية، فوجهوا نقدا لاذعا للواقعيين الجدد في زعمهم تقديم نظرية موضوعية علميا وحياديــة معياريا، وبهذا الصــدد كــل من K.Krause و Mc. Williams أن أي مقترب نظري لا يمكن أن يدعي الموضوعية العلمية ما دام حتى في داخله توجـــد معوقات تفسيرية ( واقعة تاريخية واحدة يمكن أن تجد لها تفسيرات مختلفة بين الواقعيين أنفسهم) ؛ فعندما يدرج المنظرون عوامل الرأي والنوايا والإدراكات الخاصة بهم ، ويأخذون في عين الإعتبار القناعات الذاتية لصانعي القرار السياسيين ، وعندما تكون مواضيع البحث نوعا ما غامضة ( أمن الدولة، المصلحة، الفوضى ) فلا يمكن لنا أن ننتظر منهم موضوعية وحيادية، بل أن النظريات التي يقدمونها تتضمن معيارية مستترة تستجيب لمصالح طبقة اجتماعية خاصة 4.وعموما فإن النظريات التقليدية ينقصها حسب كوكــس العناصر التاليــــة:

1- تحليل شروط الظهور التاريخية لبعض مشاكل السياسة العالمية .
2- تقديـم المميزات الإجتماعية وليست الطبيعية لهـذه المشاكل.
3- استقرائها ( المشاكل) من زاوية أنها تخدم قوى اجتماعية معينة وتضر أخرى.
4- عرض هذه المشاكل على العقل المحض وليس أخذها كواقع معطى سلفا .
1- عمــار حجـــار ، السياسة الأمنية الأوربية تجاه جنوبها المتوسط، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية ، فرع العلاقات الدولية ، جامعة باتنة، كلية الحقوق ، قسم العلوم السياسية
5– كل الأصوات التي يمكن أن تقود الى تغيير النظام العالمي يجب أن تخدم هدف اعتاق وتحرير أكبر عدد ممكن من الأفـــــــراد 1.
لقد أدركت النظرية النقدية أن المشكل في النظريات ذات الإبستمولوجيا الوضعية ، أن لها القدرة على الوصف ولكن ليس الفهم والشرح، وإن كانت لها القدرة على الفهم فليست لها القدرة على نقد حدود هذا الفهم، غير ان النظرية النقدية بحسب M. Hoffman من خلال عملية الفهم الذاتي والتفكير الذاتي قادرة على أن توفر بعــد للنظام الإجتماعي القائم ، وأن تضع قدرتها المنبعثة لتغيير وتحقيق النظام المرغوب فيه.
إذا يرفض النقديون ثنائية ديكارت حول انفصام الباحث عن موضوع بحثه، فمسار الإنتاج الفكري ليس محايدا تماما ؛ لأنه ناتج عن الممارسات الإجتماعية التي تساهم في تدعيم أو معارضة علاقات القوة ، فالنظرية النقدية تؤيد فكرة أن الباحث يضطلع بدور ما في انتاج وتفسير الواقع، وحسبها فإن فهما واعيا للواقع الإجتماعي غير ممكن إلا بفهم الروح الإنسانية ، لهذا فإن الواقع الإجتماعي كموضوع للبحث يجب أن يؤخذ كنتيجة للممارسات الإجتماعية؛ بمعنى انه مقسم بطريقة تذاتانية ، ويجب إعادة تعريفه باستمرار نتيجة تغيرات الممارسات الإجتماعية والنظام العالمي، وحول هــذه النقطة فإن النظرية النقدية تفسخ تلك الإستقلالية التي تمنحها الوضعية للباحث ؛ فبمعارضتها للديكارتية الفرنسية والتجربية الإنجليزية والمثالية الكانطية ، تحاول النظرية النقدية أن تضع الباحث في السياق الإجتماعي والتاريخي للموضوع ، وفهم كيف تؤثر الشروط الإجتماعية على تشكيل الظواهر موضوع البحث، إنها تتصور الفكر ، المفاهيم والمعايير كنتيجة لسياق تاريخي محدد بواسطة علاقات الإنتاج 3 .و العمل الإبستمولوجيأو التنظير ليس كاملا ضمن سياقه مهما كان ، من اجل كل هذا لا تتحرج النظرية النقدية من الدعوى الى إعادة انتاج الأعمال التنظيرية باستمرار وأحيانا إرجاعها الى نقطة البداية ، وبذلك فهي تشكل قاعدة مختلفة بما فيه الكفاية عن المواقف الوضعية.

إن ممارسة النظرية النقدية هو بالنتيجة فعل سياسي لأن النظرية النقدية لا تعكس فقط المجتمع ولكنها تحاول بجدية تغييره، وهذا ما يعرف في عرف النقديين بالإنعتاق Emancipation ؛ أي مدى قدرة عدد أكبر من الأفراد ليس فقط في الاستماع وإنما المشاركة ديمقراطيا في مسار صنع القرار السياسي، وعلى المستوى الدولي فإن هـــذا يترجم في صورة إقامة علاقات اجتماعية انطلاقا من مفهوم الهوية الجماعية بواسطة إقامة مجموعات فوق وطنية* تطمح الى تقليص الإقصاء وعلاقات الهيمنة.
ولتأكيد هذا الطابع السياسبي للنظرية النقدية يذهب Bradley. S. Klein الى اعتبار هــذه النظرية كبديل هام للتصور العقلاني كونها مقاربة ” مسيسة” صراحة، هدفها دمقرطة الممارسات الدولية **،ومحاولة ربط مسائل العلاقات العالمية كالمسارات الإجتماعية بالحركات الإجتماعية وبالتحولات في العلاقات الإقتصادية والطبقــية.
** من بين أهم اسهامات النظرية بهـذا الصدد ، هو توسيعــها لمفهوم الأمن الذي يجب أن يتعامل مع أي من التهديدات التي لم تؤخــذ بعين الإعتبار مثل الحرب، الفقــر ، نقص التعليــم…. التي تشكل عائقا أمام مفهوم انعتاق الأفراد، لهذا يدعوا Ken Booth الدراسات الأمنية السابقة الى تجديد لغتها التنظيرية، لأن استخدام مفهوم الأمن مرتبطا بالمصلحة الوطنية خدم كثيرا من جهة في تأمين طبقة السلطة وإيذاء الأخرى ، ومن جهة أخرى أبعد الأفراد من الصراع الإجتماعي وأناط لهم عبء حماية المصلحة الوطنية لصالح السلطة .

 منهج ” المادية التاريخية ” و ” الجدلية ” في النظرية
إن النظرية النقدية تتضمــن – كما سبق شرح ذلك- إمكانية التغيير الدائم بواسطة مجموعة مركبة من القوى الإجتماعية والتاريخية المبنية وغير ممكنة الملاحظة تجريبيا ، هــذا ما يعني أنها وعلى عكس النظريات التقليدية لا تتبنى منهـج ” لا تاريخي” A Historic في التحليل؛ لأنها لا تتساءل عن الأصول فقط لكن أيضا عن المسارات التاريخية المتواصلة للتغيير . هذه المساءلة ناتجة عـن منهج المادية التاريخيةHistorical Materialism
والمنهج الجدلي Dialectic الذي يشكل قطيعة نهائية مع الإبستمولوجية الوضعية التجريبية للمنهج الإستقرائي –
الإستنتاجي- Indictive – Dudective 1 .
لقد شرح كل من ( Krause. K) و ( Mc. Williams ) أن الطرح الواقعي المزعوم حـول ” الفوضى”
وحتى ” المصلحة الوطنية” ليست قوانين طبيعية ، بل مجرد سلسلة من الافتراضات حول الطبيعة السياسية للفاعلين وعلاقتهم بالسيادة ، وفي نفس الاتجاه يذهب كل من ( J. Angnew ) و ( orbidg S.C ) الى التأكيد على أن الدولة والفوضى هي بناءات تاريخية في إطار علاقات اجتماعية عالمية وداخلية ناتجة عن تاذاتانية بين Statehood
والنظام الدولي ، هـذا ما يناقض التقسيم باحث/ موضوع البحث كما تصورته النيوواقعية سلفا.
ودائما حسب ( Krause. K) و ( Mc. Williams ) فإنه ليس المنطق اللاتاريخي هو الذي ينشئ النظام الجيوبوليتيكي ، لكن السلوكات الإجتماعية ، التغيرات التكنلوجية، وتغير الشروط الاقتصادية ، وإدراج السلوكات الإجتماعية المهيمنة في إطار روتيني هي التي تظهر النظام القائم كنظام طبيعي.
وباتباعها لمنهج المادية التاريخية والجدلية ، فإن النظرية النقدية تعتقد أن الظاهرة الإجماعية تأخذ دوما مكانها ضمن سياق تاريخي ، هـذا السياق هو موضوع تحليل النظرية ، وليس الظواهر الفردية التي تأخذ مكانها ضمن هــذا السياق . ثم إدراك هــذا السياق من زاوية يتضمن قوة معارضة اجتماعية بإمكانها خلق نماذج تطوير بديلة للنماذج القائمة.
تعتقــد النظرية النقدية أن الظاهرة الدولية يجب أن تؤخـذ كسياق تاريخي لها بنية وترتيب محدد وشــروط ماديـة وخطط فكــرية ومؤسسات بشرية؛ هذه البنيات لا تـــحدد الفعل الإنسـاني بطــريقة ميكانيكية ، ولكنها تعـرض سياق التقاليد، القيود، الضغوط والإستثناءات التي ضمنها تأخذ الظاهرة الدولية مكـانها ، وهــذه البنية لا يجب تحليلها من الأعلىHaut بالبحث عن شــروط توازنها أو إعادة إنتاجها ( وزن هذا يجرنا نحو ?Theory Problem ) ولكن من الأسفل Bas بالبحث في فهم الصراعات التي تنشأ في الداخل والخارج لإدراك إمكانية تغييرها.
في تبنيها هــكذا منهج مادي تاريخي في الإقتراب للسياسة العالمية تبدو الخلفية الماركسية لهــذه النظرية أكثر وضوحا، لقــد كان ماركس يرفض النظريات التي تحاول إيجاد تبرير شرعي أو أخلاقي لممارسة القوة السلبية ، لأن وظيفة النظرية هي فهم العمليات الإجتماعية التي تتولد عنها ، لهــذا أكد ماركس استحالة دراسة الظاهرة السياسية على أساس أنها نسق مستقل عن بقية أنساق المجتمع أو ما يسميه ماركس ” القالب الموحد للعلاقات الإجتماعية”.
واستطرادا من ذلك فإنه لا يمكن فهم السلوك السياسي ودراسته وتحليله واستنباط أحكامه دون التطرق الى علوم أخرى تؤكد على أنه ليس هناك سوى علم اجتماعي واحد يتضمن بين جنباته كل هــذه العلوم المختلفة ، وهذا العلم هو ما يسميه الماركسيون ” المادية التاريخية ” في الدراسة المنسقة للتكــوينات الإجتماعية المختلفـة ، فمثلا لا يمكن فهم السياسة بدون دراسة عميقة للتاريخ الإجتماعي والإقتصادي.
أما منهـــج المادية الجدليــة ، فإن النقديين وإن تبنوا المنهج الجدلي غي اعتقادهم أن البحث الحقيقي يكون باكتشاف المتناقضات ، فإنهم انتقدوا المادية الماركسية التي تعتقد أن المادة تشرح كل الظواهر في العالم ، وتبنوا الطرح الغرامشي الذي يتمحور حول دور الثقافة والإيديولوجيا في تحديد أشكال العلاقات الإجتماعية وأنماط صراع القوى.
وعمــوما فإن المادية التاريخـية حسب R. Cox تصحح النظـريات التقليدية وخاصة النيوواقعـية
على 3 اعتبارات:
1- ادخال بعد عمودي للسلطة إضافة للبعد الأفقي المتعلق بالصراع بين الدول الذي يعد الانشغال الوحيد للمقترب النيوواقعي.
2- النظرية النقدية توسع المنظور الواقعي للعلاقات بين الدولة والمجتمع المدني ( والذي يعتبر المجتمع المدني ضغطا على عقل الدولة Raison D état ، وعلى عكس ذلك يقترح النقديون عــلاقة متبادلة بين البنية Structure
( العلاقات الإقتصادية) والبنيـة الفوقية Super Structure ( المجال السياسي والأخلاقي) وهذا المركب ،
دولة / مجتمــع يمكن أن يكشف عن نماذج تاريخية خاصة ، وحسب كوكس فإن اســتعمال Structure
Super Structure يجنب التجزيئية الدولتية والتجزيئية الناتجة عن عالم الإنتاج .
3- مجالات النشاط الثلاث ( القوى الإجتماعية، الأشكال الدولتية، الترتيب العالمي ) تبقى مرتبطة فيما بينها بصورة متوازنة لتأثرها بالبنية التاريخية المسيطرة والتي تمثل بدورها قوة للتغيير المستمر باعتبارها نتاج إصلاح وتقويم خاص للقوى ( الأفكار، القدرات المادية، المؤسسات) والتي تشكل كل منها رد فعل عن الأخرى.

التصور النقدي للأمن
احتدام النقاش بين التصورين الواقعي والليبرالي للأمن والتحولات الحديثة أثارت الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن في إطار الأمن النقدي.
هذا المفهوم يجد جذوره في النظرية النقدية التي وضع أسسها منظرو مدرسة فرانكفورت من أمثال “ماكس هوركهاير”، و”تيودور أدورنو” و”يورقن هابرماس”. وتقدم المقاربات النقدية نفسها على أنها أكثر اهتماما بعرض أزمة استعراض الظواهر في الفكر الغربي (التنويري) وبالخصوص القضايا المتعلقة بالأسس، والنهايات، والاختلاف، وسلم المعرفة والرأي، والروايات الكبرى وغيرها، كما تدعي أن لديها الأدوات التحليلية الكفيلة بتوضيح المسار الذي أخذه النقاش حول مفهوم الأمن ليأخذ شكله النهائي من خلال الأمن النقدي.
وفي هذا الصدد يقول “كين بوث” إن: “طريقتي في التعامل مع هذا النقاش النقدي هو أنني أرحب بأية مقاربة تمكننا من مواجهة المعايير المشؤومة للدراسات الاستراتيجية للحرب الباردة، للوصول في نهاية الأمر إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن، طالما أن هناك التزاما بـ”الانعتاق” (مقابل ترك موازين القوة كما هي). وفي هذا الاتجاه، فإن بوث يرى أن الأمن يعني “الانعتاق”. وهكذا فإن التصور المحوري حول أمن العهد الجديد مرادف للانعتاق، والذي يعني، حسب كين بوث، “تحرير الشعوب من القيود التي تعيق مسعاها للمضي قدما في اتجاه تجسيد خياراتها، ومن بين هذه القيود: الحرب، والفقر، والاضطهاد ونقص التعليم وغيرها كثير”.
وبالنتيجة فإن الأمن النقدي يمكنه أن يتعامل مع أي من التهديدات التي لم تؤخذ بعين الاعتبار، مثل الكوارث الطبيعية والفقر، وذلك لأن النقاش الأمني القائم، وبالأخص الواقعية وفكرها الدولاتي–التمركز، لا يمكنها من التعامل مع أي تهديد آخر عدا النزاع بين الدول.

مراجع

  1. ^ Piccone, Paul; Held, David (1983-01). “Introduction to Critical Theory: Horkheimer to Habermas”. Contemporary Sociology12 (1): 109. doi:10.2307/2068241. ISSN 0094-3061. مؤرشف من الأصل في 23 مارس 2020.
  2. ^ Gordon., Finlayson, James (2005). Habermas : a very short introduction. Oxford: Oxford University Press. ISBN 9780191517983. OCLC 99758893. مؤرشف من الأصل في 13 ديسمبر 2019.
  3. ↑ تعدى إلى الأعلى ل:أ ب ت “Frankfurt School | German research group”. Encyclopedia Britannica (باللغة الإنجليزية). مؤرشف من الأصل في 2 أبريل 2019. اطلع عليه بتاريخ 05 مارس 2019.
  4. ^ Held, David (1980). [p16 Introduction to Critical Theory: Horkheimer to Habermas] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). University of California Press.
  5. ^ Jameson, Fredric. [In Nealon, Jeffrey; Irr, Caren. Rethinking the Frankfurt School: Alternative Legacies of Cultural Critique. Albany: pp. 11–30 “The Theoretical Hesitation: Benjamin’s Sociological Predecessor”] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة).
  6. ^ Held, David (1980). [p.14 Introduction to Critical Theory: Horkheimer to Habermas] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة).
  7. ^ Habermas, Jürgen (1987). The Philosophical Discourse of Modernity. MIT Press.
  8. ^ Nikolas., Kompridis, (2006). Critique and disclosure : critical theory between past and future. Cambridge, Mass.: MIT Press. ISBN 026211299X. OCLC 70630574. مؤرشف من الأصل في 13 ديسمبر 2019.
  9. ^ Corradetti, Claudio (٢٠١١). [Internet Encyclopedia of Philosophy “The Frankfurt School and Critical Theory”] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة)https://www.iep.utm.edu. روابط خارجية في |موقع= (مساعدة)
  10. ↑ تعدى إلى الأعلى ل:أ ب “The Frankfurt School”. www.marxists.org. مؤرشف من الأصل في 31 أغسطس 2019. اطلع عليه بتاريخ 05 مارس 2019.
  11. ^ Dubiel, H. (1981-10-01). “The Origins of Critical Theory: An Interview with Leo Lowenthal”. Telos1981 (49): 141–154. doi:10.3817/0981049141. ISSN 0090-6514. مؤرشف من الأصل في 13 ديسمبر 2019.
  12. ^ Held, David (1980). [p14 Introduction to Critical Theory: Horkheimer to Habermas] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). University of California Press.
  13. ^ ), Kuhn, Rick, (1955- (2007). Henryk Grossman and the recovery of Marxism. University of Illinois Press. ISBN 9780252031076. OCLC 750840877. مؤرشف من الأصل في 13 ديسمبر 2019.
  14. ^ Geuss, Raymond (1981). [p58 The Idea of a Critical Theory: Habermas and the Frankfurt school] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). Cambridge University Press.
  15. ↑ تعدى إلى الأعلى ل:أ ب Carr, Adrian (2000-06). “Critical theory and the management of change in organizations”. Journal of Organizational Change Management13 (3): 208–220. doi:10.1108/09534810010330869. ISSN 0953-4814. مؤرشف من الأصل في 13 ديسمبر 2019.
  16. ^ Jay, Martin (1963). [p21 The Dialectical Imagination: A History of the Frankfurt School and the Institute of Social Research 1923–1950] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). London: Heinemann.
  17. ^ Horkheimer, Max (1976). [Critical Sociology: Selected Readings “Traditional and critical theory”] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). p 213: Penguin, Harmondsworth.
  18. ^ Rasmussen, D (1996). [The Handbook of Critical Theory Critical Theory and Philosophy] تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة). Blackwell, Oxford. صفحة 18.
  19. ^ Max., Horkheimer, (1976). Die gesellschaftliche Funktion der Philosophie : ausgewählte Essays. Suhrkamp Verlag. OCLC 857110857. مؤرشف من الأصل في 13 ديسمبر 2019.
  20. ↑ تعدى إلى الأعلى ل:أ ب dialectic. (2009). In Encyclopædia Britannica. Retrieved 19 December 2009, from Encyclopædia Britannica Online: http://www.britannica.com/EBchecked/topic/161174/dialectic نسخة محفوظة 2015-04-29 على موقع واي باك مشين.
  21. ^ Little, D. (2007). “Philosophy of History”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Sun 18 February 2007), {{استشهاد ويب| مسار = http://plato.stanford.edu/entries/history/#HegHis| عنوان =Philosophy of History| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20190926011547/https://plato.stanford.edu/entries/history/ | تاريخ أرشيف = 26 سبتمبر 2019 |عنوان أجنبي=en|تاريخ الوصول=2020-02-07}}
  22. ^ “When philosophy paints its grey on grey, then has a shape of life grown old. (…) The owl of Minerva spreads its wings only with the falling of the dusk” – Hegel, G. W. F. (1821). Grundlinien der Philosophie des Rechts, p.13
  23. ↑ تعدى إلى الأعلى ل:أ ب “Hegel’s philosophy, and in particular his political philosophy, purports to be the rational formulation of a definite historical period, and Hegel refuses to look further ahead into the future.” – Peĺczynski, Z. A. (1971). Hegel’s political philosophy—problems and perspectives: a collection of new essays, CUP Archive. Google Print, p. 200
  24. ^ Karl Marx (1859), Preface to Das Kapital: Kritik der politischen Ökonomie.
  25. ^ Soja, E. (1989). Postmodern Geographies. London: Verso. (esp. pp. 76–93)
  26. ^ Jonathan Wolff, Ph.D. (ed.). “Karl Marx”. Stanford Encyclopedia of Philosophy. Stanford. Retrieved 17 September 2009.
  27. ^ Seiler, Robert M. “Human Communication in the Critical Theory Tradition”, University of Calgary, Online Publication
  28. ^ Bernstein, J. M. (1994) The Frankfurt School: critical assessments, Volume 3, Taylor & Francis, p. 208 (See also pp. 199–202)

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى