تحليل السياسة الخارجيةدراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

تحليل السياسة الخارجية لدول الثورات.. هل تحمي السياسة الثورة؟

في أعقاب الثورات، تنهمك القوى السياسية الفاعلة عادة في الشأن المحلي رغم التداعيات الإقليمية والدولية الخطيرة للثورات، ورغم الانعكاسات الخطيرة لتفاعلات القوى الدولية والإقليمية السائدة وقت الثورات على هذه الثورات، كما أن القوى الجديدة التي تتولى مقاليد السلطة سواء أكانت هذه القوى في مرحلة انتقالية أو بعد انتخابات أولى عقب الثورة إما أن تكون مدركة لهذه التوازنات ولديها رؤي لتوظيفها لخدمة الثورة وأهدافها وترسيخ أقدام السلطة المنبثقة عنها أو أن تكتفي بردات الفعل على ما يصدر من هذه القوى تجاه الثورات.

وفي وقت الربيع العربي كان ثمة توازنات قوى في مرحلة تغير فثمة حضور متعدد للصين وروسيا في قضايا عالمية، وثمة تفاعلات دولية في قضايا جديدة تسيطر على الأجندة الدولية كالمناخ والبيئة وأمن الطاقة والحرب الدولية على الإرهاب، وأفول لأدوار القوى الكبرى في المنطقة لصالح صعود وكلائها أو فاعلين مستقلين من قوى إقليمية كإسرائيل وإيران وتركيا، وتراجع لمصر ودول المغرب العربي لصالح تحول ميزان القوى العربي شرقا نحو الخليج.

وإذا أخذنا مصر كحالة وتم النظر للسياسة الخارجية من منظور اعتبارها سياسة تعبئة موارد خارجية واعتبرنا التمويل الدولي من الموارد الخارجية مؤشرا ذا مصداقية عالية على جهود الداخل في تعبئة هذه الموارد ومواقف الخارج من التطورات الداخلية فإنها تعطينا النتائج التالية:

سياسة المجلس العسكري ردات فعل ضيعت الأثر الإيجابي للثورة:

عشية الثورة كانت مصر دولة محاطة بسياق إقليمي مضطرب ودور إقليمي ودولي متراجع على ميزان الفعل الإقليمي والدولي في القضايا الحيوية كقضية السلام في الشرق الأوسط وقضايا محاربة الإرهاب وحتى على مستوى محيطها الأفريقي كانت غاية في الانسحاب، رغم اعتمادها على الخارج بشكل هيكلي في الاقتصاد والأمن والدفاع، فتحويلات العمالة المصرية في الخارج بالإضافة للسياحة ورسوم العبور في قناة السويس إضافة للاستثمار الأجنبي كانت الأجنحة الرئيسية التي يروج لها النظام باعتبارها قاطرته نحو معدلات النمو الرقمية المرتفعة التي لم تنعكس على معظم المصريين.

وبسبب سياسات خارجية متناقضة مع ذاتها ومع الثورة ولم تدرك جيدا طبيعة الأوضاع الداخلية وكانت تتعامل مع الثورة باعتبارها مؤامرة في مرحلة المجلس الأعلى للقوات المسلحة تم تبديد رصيد مصر من النظرة الإيجابية التي أبدتها معظم دول العالم تجاه الثورة بل واتجهت القوى الكبرى نحو إعلان مشروطياتها بشكل أكثر فجاجة، فقد جاء اقتراح الولايات المتحدة الأمريكية في مايو 2011 بمنح مصر معونات تنموية قدرها 150 مليون دولار لدعم الاقتصاد في مرحلة ما بعد ثورة 25‏ يناير‏علي أن تكون مشفوعة بشروط سياسية تدعم التحول الديمقراطي، تعبيرا عن هذه الشروط الفجة رغم أنه كان من المعطيات في تلك الفترة أن الشعب يريد التحول الديمقراطي ذاتيا وليس بتدخلات خارجية ما أبدى المجلس العسكري رفضه حينها، وفي نفس الوقت كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة أرسل وفدا لواشنطن للتباحث بشأن مسألة ومطالبة الجانب الأمريكي بإلغاء الديون المصرية المستحقة للولايات المتحدة أو منح مصر مساعدات عاجلة تصل إلي7 مليارات دولار، وهو الطلب الذي رفضته واشنطن بحجة أن الموازنة الأمريكية لا تسمح, وتوالت أخبار متضاربة حينها حول الموافقة الأمريكية علي إعفاء مصر من حوالي مليار دولار من إجمالي الديون المصرية، ورغم كون الجيش طرفا أساسيا في العلاقات مع الولايات المتحدة، ارتبطت المعونة الأمريكية بتوقيع معاهدة السلام التي رفعت المعونات المقدمة لمصر من صفر لتصبح ثاني أكبر متلقي للمعونات الأمريكية منذ نهاية السبعينيات وغالبية هذه المعونات عسكرية تقدر بـ1.3مليار دولار سنويا، إلا أن قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وترت العلاقة مع واشنطن، وحولت المعونة الأمريكية المشروطة‏ إلى عقاب لمصر الثورة بتعبير البعض فلم تحصل على المساعدات المطلوبة ولم تلغ الديون.

وانتهت هذه الفترة رغم الجهد الكبير من رئيس الوزراء عصام شرف ووزراء الخارجية المتعاقبين ووزارات المالية والاستثمار والتعاون الدولي، باضطرابات في العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب أزمة منظمات المجتمع المدني حيث احتجزت السلطات المصرية موظفين في بعض المنظمات المصرية والأجنبية ومن ضمنها مؤسسات أمريكية بالأساس واستدعى الأمر إقحام القضاء في مسألة ترتبط بالسياسة الخارجية في معركة وهمية انتهت بإهانة شديدة لمصر عبر إخراج المحتجزين الأمريكيين بطيارة عسكرية أمريكية.

كما لم يبدد التوجس الخليجي والدولي وإن كان بدرجات متفاوتة من صعود الإسلاميين وحضور التيارات السياسية المحسوبة على الثورة والتخوف من احتمالية التقارب مع إيران، فرغم الوعود المكثفة للدول الخليجية بتقديم المزيد من المساعدات والمنح والودائع والقروض لمصر لم يتدفق فعليا إلا النذر اليسير، ما توضحه بيانات البنك المركزي المرتبطة بالتمويل الدولي من الموارد الخارجية على النحو التالي

جدول رقم 1 المصدر: البنك المركزي، المجلة الاقتصادية المجلد 51، العدد 3، 2010/2011

إذ يمكن ملاحظة انخفاض صافي المنح الرسمية إلى ربع ما كانت عليه في نفس الفترة من العام المالي السابق على الثورة كما انخفضت القروض الخارجية انخفاضا حادا إلى حوالي سدس ما كانت عليه في العام المالي السابق للثورة وانهار الاستثمار الأجنبي المباشر لنصف ما كان عليه أيضا وهو أثر الثلاثة شهور الأولى للثورة (يناير- فبراير- مارس) فقط على التمويل الدولي من الموارد الخارجية في ثلاثة أرباع عام مالي من يوليو إلى مارس، إذن تصرف الداخل بارتباك شديد ورد الخارج بعقاب المصريين على الثورة عكس ما تم تداوله من ترحاب شديد بالثورة وفخر بشبابها وسلوكياتهم في الميادين، ظل الوضع كما هو عليه من ضعف التمويل الدولي حتى نهاية حكم المجلس العسكري.

مرسي والتوجه نحو الاقتراض.. استعادة التبعية لأطراف جديدة:

وفي فترة حكم الرئيس مرسي، وهو الرئيس المدني القادم من حزب سياسي تم تأسيسه حديثا لم تكن فيها رؤية السياسة الخارجية أكثر وضوحا إلا في البرنامج الحزبي والانتخابي وإن غلب عليها محاولة طمأنة الخارج، لكن عمليا انتقلت إلى مرحلة إدراك أن المنح والمساعدات المزعومة لن تأتي فتم التوجه للاقتراض سواء عن طريق القروض والودائع التركية والقطرية والليبية أو السعي للاقتراض من مؤسسات التمويل الدولية كما يتضح من الجدول التالي:

جدول رقم2 المصدر: البنك المركزي المصري، المجلة الاقتصادية مج 53 عدد4، 2012/2013، ص90

من مقارنة العامين الماليين في الجدول أعلاه يظهر أن عنصر المنح ظل محدودا رغم تزايده الطفيف لكن القروض والاستثمارات الأجنبية المباشرة والتوجه نحو إصدار أذونات الخزانة هي ما عوضت جزءا مهما من الفجوة التمويلية في الاقتصاد المصري وهي فجوة متوارثة تراكم آثارها السلبية السياسات المالية والاقتصادية الخاطئة وتدفع ثمنها السياسة بمزيد من التبعية.

إذن كانت هناك سياسة خارجية نشطة تحاول التغيير بفواعل وأدوات جديدة وأدوار متغيرة للمؤسسات، لكن التحركات الرئاسية المصحوبة برجال أعمال النظام السابق خلقت حساسية لدى القوى الثورية من غير الإسلاميين بالإضافة لحساسية الأجهزة السيادية لأدوار الفاعلين الجدد في ساحة السياسة الخارجية سواء مستشار الرئيس للشئون الخارجية عصام الحداد أو وزارة الخارجية على حساب الأجهزة التقليدية ربما خلق تأثيرا سلبيا لهذه السياسة في الداخل.

كما أن السلوك السياسي في هذه الفترة لم يبدد المخاوف الخليجية من صعود الإسلاميين ومن فكرة تعاضد الثورات وإمكانية نجاح أحد نماذجها وتصديره إقليميا أو حتى مخاوف التقارب مع إيران رغم أن زيارته الأولي كانت للمملكة العربية السعودية وقال فيها نصا إن “السعودية راعية الإسلام السني الوسطي ومصر حاميته وما بين الراعي والحامي نسب وصهر” وهي المقولة التي حسبت عليه باعتبارها تطييفا للعلاقات الإقليمية وخروجا عن إرث الدولة الوطنية المصرية وتم استغلالها ضده محليا ليأكل الراعي الحامي ويذهب النسب والصهر سدى.

ما بعد ترتيبات الثالث من يوليو من المشروطيات الدولية للمشروطيات الخليجية:

إذا تم سحب نفس المعيار السابق المتعلق بصافي التمويل الدولي من الموارد الخارجية على هذه الفترة نجد تغيرات كبيرة في هذه الفترة حيث طفرة غير مسبوقة في التدفقات تنبيء عن شبكة مصالح وتفاعلات إقليمية ودولية جديدة وتعمل باتجاهات مضادة للثورة المصرية وربما الثورات العربية.

جدول رقم 3 المصدر:البنك المركزي المصري، المجلة الاقتصادية مج55 رقم 4، 2014/2015، صـ92

حيث قفزت المنح الرسمية قفزة غير مسبوقة منذ التسعينات وارتفعت أكثر من 14 ضعف ما كانت عليه في عام حكم الرئيس مرسي لتعكس رغبة إقليمية في تغيير الأوضاع بمصر وتحكم شبه كامل في مدخلات ومخرجات النظام السياسي المصري فهي منح سعودية إماراتية كويتية بالأساس ويسهل ربطها بالتغييرات التي حدثت في تلك الفترة إذ تكثفت الزيارات والتصريحات الرسمية المتبادلة بشكل غير مسبوق بين النظام السياسي المصري الوليد وتلك الدول ومسؤوليها السياسيين والاقتصاديين والأمنيين من كافة المستويات، كما انطلقت القنوات الرسمية المصرية تغني لتلك الدول وملوكها وشعوبها استجداء في 2013/2014 وراحت تكيل لها السباب في فترات التوقف عن الدعم أو تخفيضه عقب انفضاض مؤتمر دعم الاقتصاد المصري مارس 2015 على تدفقات وعود بتمويلات واستثمارات هائلة وتدفقات مالية فعلية محدودة، وهو ما جعل الإرادة السياسية الخارجية المصرية رهن التصرفات الخليجية، وجعل الفعل الخليجي تجاه مصر مرهونا بمواقفها في قضايا اليمن وسوريا والبحرين والإسلاميين والموقف من إيران كما لم يكن مرهونا من قبل.

وفي التحليل الأخير كان هناك نظرة قاصرة مستمرة للسياسة الخارجية باعتبارها سياسة تعبئة موارد بغض النظر عن المقابل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لعملية التعبئة هذه كما أن هذه النظم كانت تتشارك بدرجات متفاوتة نظرة متشائمة للداخل باعتباره مأزوما وعاجزا ومصدرا للعجز الدائم الذي لا يمكن سده سوى من خلال القروض والمنح، وبالتالي كانت السياسة الخارجية المنبنية على تلك الرؤية قاصرة عن حماية النظام السياسي ذاته في أيام حكم المجلس العسكري والرئيس مرسي فضلا عن حماية الثورة، ثم أصبحت هذه السياسة تروج لأن مصر لا تريد دورا رياديا ولا تملك مقوماته وعليها أن ترضي بكونها تابعا لأطراف الأطراف في النظام الدولي وأن تفخر بإنجازها في تجييش القروض والمنح لضمان استقرار النظام السياسي حتى لو كان هذا النظام يعمل ضد الثورة التي يرى فيها مؤامرة كبري حدثت منذ سبعة أو ثماني سنوات ولن يسمح بتكرارها قط.

بقلم  عمر سمير

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى