تدخل الطرف الثالث في النزاعات الإثنية: فحص افتراضات وإسهامات المداخل النظرية

    سيتم في هذه الورقة فحص الافتراضات التي ترتكز عليها أهم المقاربات النظرية، ومدى مساهمتها في تزويدنا بفهم جيد حول تدخل الطرف الثالث في النزاعات الإثنية، وسيتم إدراجها ضمن إحدى أنماط التحليل الثلاثة بحسب استنادها إلى المنطق العقلاني؛ أو المؤسساتي؛ أو البنائي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المسعى البحثي استعراضي وليس حصري، بحيث يتم انتقاء الطروحات ذات الصلة بموضوع الدراسة، وملاحظة مدى مطابقتها لواقع الممارسة الدولية في مجال إدارة النزاعات في فترة ما بعد الحرب الباردة، بدءا بالمقاربات المنتمية للنمط العقلاني، وأهمها النيوواقعية، والنيوليبرالية، والنيوماركسية. بدء بالنيوواقعية التي تعجز، حسب Simbanis، حتى عن مجرد تزويدنا بفهم حول سبب قيام الحروب الإثنية، لأنها تفترض سلفا أن الدولة فاعل موحد ومتماسك unitary and cohesive actor ، وينسحب هذا التماسك على دورها وقراراتها، لأن الواقعيين ينظرون إليها كصندوق أسود لا يهم ما يحصل بداخله. وفي هذا الصدد يرد Lim على هذا الطرح بأنه إذا افترضنا أن صناديق موصولة ببعضها البعض تطفو فوق سطح عائم، بحيث تتباين مدة طفوها بحسب وزنها، فإن النتيجة المنطقية الأكيدة هي وأنه في حالة غرق أي من هذه الصناديق، فإن ذلك وفي أحسن الأحوال يضر بتلك الموصولة بها.

            ويمكن الخروج من هذه المحاكاة بنتيجتين على الأقل:

1 – إن ظاهرة الجوار السيئ bad neighboring  التي جاء بها Brown كإحدى العناصر الأساسية في الإتيولوجيا التي تقف وراء انتشار تغذية التوترات والصدمات الإثنية، تعتبر إحدى المتغيرات الحاسمة التي ينبغي للأطراف الثالثة التركيز عليها سواء بإشراك دول الجوار في مفاوضات بناءة لفض النزاعات الإثنية الداخلية وعدم إغفال الدور الإيجابي الذي يمكن أن تقوم به في حالة استثمار إمكانياتها؛ أو حتى بمجرد تحييد الآثار السلبية المترتبة عن مجاراتها للدولة المستهدفة بالتدخل عن طريق ممارسة ضغوط أو فرض عقوبات على الجيران السيئين. وفي هذه النقطة بالذات فإن النيوواقعية تقدم استبصارات مفيدة جدا خاصة من خلال تصورها لدور القوة المهيمنة the hegemon.

2 – إن ترابط التصعيد الإثني مع ظاهرة الدول العاجزة يتيح للنيوواقعية تحليل ديناميكية الحرب، ومن ثمة اقتراح الآليات المناسبة للتحكم بها. إذ وباستخدام نوع من المحاكاة فإن فرضية الفوضى في النظام الدولي، يمكن أن تنسحب على الدول التي تعيش الحرب الإثنية. فالفوضى تعني بالأساس غياب التسلسلية حيث يتمتع كل فاعل بحق الاعتراض ويسعى لتنفيذ خياراته بشكل منفرد، مما يؤدي إلى صورة من صور المأزق الأمني security dilemma بين أقطاب مجتمعيين يتقاسمون إقليما مشتركا.

            ويعتبر مفهوم المأزق الأمني الناجم عن الإدراكات السيئة misperception والتي يطرحها Jervis   إحدى المفاهيم الواقعية الرائدة. فعندما يدرك الأفراد أن الحكومة عاجزة أو أنها تفتقد لإرادة حماية الجميع، فإنهم يلجئون إلى شكل تنظيمي آخر وهو المجموعة الإثنية، كإطار يتكفل بالدفاع عنهم في وجه التهديدات التي تستهدف بقاءهم واستمرارهم. وفي ظل مأزق كهذا فإن محاولة أية مجموعة إثنية تعزيز أمنها، يتم تفسيرها من قبل المجموعات الأخرى على أنها خطوة عدائية باتجاه التصعيد، ومثل هذه الحركية حسب Barry Posen تزيد من فرص التعبئة لأغراض غير دفاعية وتقوي احتمالات الحرب الوقائية. حيث تشن مجموعة إثنية الهجوم بغية حماية بعض الجيوب التي يقطنها أفراد من نفس الإثنية، وذلك بذريعة الدفاع عنها قبل أن يقوم الخصم بتصفيتها وهو ما يؤدي في واقع الأمر إلى الحرب الشاملة، وذلك ما أبرزته تجربة ما بعد الحرب الباردة خاصة في البوسنة.

            وإزاء واقع كهذا، فإن المهمة الأكثر إلحاحا بالنسبة للطرف الثالث تتمثل في فصل الإثنيات عن بعضها لتقليص فرص الاحتكاك، وتخفيف حدة المأزق الأمني. إلا أن فرض مثل هذه الحلول سوف لن يؤدي سوى إلى تجميد الصدام بدل إنهائه، لأن ذلك يخلق سـلاما سلبـيا. وهذا التركيز على الرافعة من طرف النيوواقعيين، يتناسب مع مقاربة الإدارة بالتسوية إلا انه لا يخدم الأهداف بعيدة المدى للتدخل. وزيادة على ذلك، فإن متغير الفوضى التي يركز عليها التحليل الواقعي لم يتم توظيفه بشكل دقيق في محاكاة الوضع داخل الدول التي تعيش النزاعات الإثنية بالفوضى البنيوية في النظام الدولي، ففي هذه الأخيرة تعتبر معطى مسبقا، أما في الحالة الأولى فهي تنشأ داخليا. ومن ثمة فإن إخفاق النيوواقعية في فهم الدوافع والاستعدادات المسبقة المؤدية إلى الظاهرة تحول دون تمكنها من اقتراح آليات استباقية للطرف الثالث.

            وخلافا للنيوواقعيين، فإن النيوليبراليين يقدمون فهما أفضل حول إتيولوجيا النزاعات الإثنية. إذ يرى الاتجاه المثالي الفردي أنه عندما تتطابق الحدود الدولية مع الهويات الوطنية والمجموعاتية، يسود التعايش والاعتراف المتبادل. وإذا ما تم إسقاط هذه الافتراضات على الواقع الدولي، فإنه يمكن فهم قيام النزاعات، ومطالبة المجموعات بحقها في تقرير المصير، لأن العالم اليوم يضم أزيد من 1000 إثنية تتوزع على أقل من 200 دولة، وهكذا فإن النيوليبرالية، بمختلف اتجاهاتها، تزودنا بفهم أفضل حول نشوء النزاع، كما تفسر بشكل جيد دور الشبكات والمجموعات الإثنية والإيديولوجية والحوافز التي تدفع بهما نحو تبني خيارات تنازعية.

فرواد مقاربة الإعتماد المتبادل، على سبيل المثال، يوضحون إمكانيات الحؤول دون انتشار النزاعات الإثنية عبر الدول، من خلال التأثير في الدور الذي تلعبه مجموعات الشتات باتجاه تحسين العلاقات بين المجموعات وممارسة الضغط على المجموعات التي تميل نحو العنف، وذلك بدل لعب دور عرَّاب لمصالح إثنيتها. وفي ذات الاتجاه، ومن منظور المجتمع العالمي، فإن ظاهرة التدفقات عبر الدولية يفترض استثمارها لتعزيز ثقافة الحوار البناء والتعايش بين الإثنيات، من خلال تبادل وجهات النظر واستشفاف آليات تضمن الاحترام المتبادل والرفاه للجميع.

وعلى هذا المستوى توضح الليبرالية البنيوية كيفية تفعيل منظومة احترام حقوق الأقليات عبر التركيز على دور الأبعاد الأقلية الهرمية في تعزيز قيم السلام والتعاون، ومثال ذلك، استغلال التدفقات عبر الدولية لإزالة الإدراكات السيئة بين مختلف المجموعات من خلال إقامة اتصالات بين أعضاء فئة اجتماعية متماثلة كرؤساء الطوائف الدينية، رجال الأعمال المحليين وصغار المقاولين، وهذا لخلق فرص تنسيق وتعاون تزيد من هامش الولاءات عبر الإثنية بالموازاة مع تقليص المكاسب المرجوة من التصعيد.

وبخصوص متغير الولاء، تفترض النيوليبرالية التجارية أن النمو الاقتصادي يصاحب ظهور مقاولين ينشئون شبكات أعمال على قاعدة الانتماء الإثني، وذلك لأنها تزيد من الثقة وتقلص تكاليف فرض الاتفاقيات التجارية، كما تقلص من فرص التملص منها، إلا أن ذلك كله يكون على حساب المجموعات الأخرى، ويبرز صدامات بينها وبين المجموعات الأخرى المتنافسة حول الموارد التي تتعرض للاستنفاذ، فإن مثل هذه النزاعات يصعب إدارتها، لأن المجموعات الإثنية تتميز بانخفاض كبير لتكاليف التنسيق الداخلي، وسهولة تجنيد مقاتلين جدد. وفي ظل وضع كهذا فإن دور الطرف الثالث يجب أن يتجه نحو دعم التمردات الداخلية،وتجنب مباشرة تدخلات غير فعالة لأنها تحسن من قدرة المتمردين على التجنيد.

وفي سياق المداخل العقلانية ذاتها، تندرج أيضا الطروحات المتمحورة حول الاقتصاد السياسي، وبخصوص موضوع الدراسة فإن الافتراضات التبعية والنيوماركسية تأخذ اتجاهين أساسيين الوسائلي والبنيوي. يرى الوسائليين instrumentalists أن دول المركز تمارس مختلف أشكال العنف المباشر، كالتدخلات العسكرية، وتشجيع العنف الإثني، وذلك لتمرير سياسات النخب الحاكمة والحفاظ على مصالحها الاقتصادية في دول المحيط. وأكثر من ذلك، فهي ترى أن مصالح هذه النخب تتطابق مع مصالح النخب الحاكمة في دول المحيط. وبالتالي فإن الفئات المجتمعية هي التي تتضرر من إحياء النعرات الإثنية واستغلالها كوسيلة للحفاظ على الوضع القائم (البقاء في السلطة) أو للوصول إلى السلطة. أما البنيويين فيرون أن العنف البنيوي الذي يغذيه واقع اللاتكافؤ بين المركز والمحيط هو العامل الذي أدى إلى انتشار الفقر والتخلف، والتي تعتبر كفيلة بتصعيد حدة النزاعات الإثنية وتغذية الاختلاف.

 ومن خلال هذا المنظور فإن رصيد الأطراف الثالثة كان سلبيا، فالدول الغربية التي يمكنها التدخل، عملت بشكل انتقائي بحسب التهديد الذي تشكله النزاعات الإثنية لمصالحها.

غير أن الطروحات المندرجة ضمن النمط المؤسساتي لا توافق هذا الطرح، فـAxelrod  يرى أن تكتيك “واحدة بواحدة”، والذي يساهم في تطوير النسق ومن ثمة إنشاء وتطوير المؤسسات الوطنية والدولية، يؤدي إلى تعظيم المكاسب الجماعية، وباستعمال منطق المباريات التكرارية، فإن إحدى شروط نجاح استراتيجية الفاعلين هي تحول اللعبة تحت ظلال  المستقبل، وبذلك فإنهم وبالموازاة مع سعيهم لتعظيم المكاسب الجماعية، فهم يهتمون بتقليص الهوة في الثروة والقوة للحفاظ على قدر من النظام. إلا أن الاعتبارات المستقبلية ينظر إليها بشكل مختلف في ظل نظام تسلسلي عما هو الأمر في ظل نظام فوضوي، فالأول يسهل التعاون بينما يعمل الثاني ضده.

وبناء على هذه الافتراضات العقلانية الإجرائية، ينطلق “المؤسساتيون” من النسق المعرفي للأفراد إلى النسق الدولي والمنظمات الدولية لتفسير سلوكات الفاعلين والكيفية التي يمكن أن تلعب من خلالها الأنساق دورا في التحكم بها بشكل إيجابي. ويعرف Krasner الأنساق الدولية بأنها “مجموعة المبادئ والضوابط وإجراءات صناعة القرارات الصريحة أو الضمنية، والتي تتقارب حولها آمال الفاعلين في مجال معين للعلاقات بين الدول”.

وفي فترة ما بعد الحرب الباردة، فقد صدقت افتراضات المؤسساتيين إلى حد كبير، إذ أنه تم مأسسة العديد من انساق حماية حقوق الإنسان والأقليات سواء إقليميا أو عالميا، وتم إنشاء محكمة دولية خاصة بمجرمي الحرب، كما تم تحويل دور الناتو على نحو يتلاءم مع طبيعة هذه التهديدات في هذه الفترة، بحيث لعب دورا متميزا في حماية ألبان كوسوفو وفي ردع مخططي التصفيات الإثنية. كما طورت منطقة الأمن والتعاون في أوربا مجموعة آليات للتعامل مع خروقات حقوق الإنسان، بربطها بين استيفاء شروط الحكم الراشد وبين زيادة فرص دخول دول أوربا الشرقية والجنوبية إلى الاتحاد الأوربي، فقد ساهمت في إبعاد اهتمام القيادات عن استغلال الاختلافات الإثنية لتحقيق مكاسب سياسية.

أما على المستوى الوطني، فإن المؤسساتية تزودنا بآليات عملية على صعيد تغيير السياق المؤسساتي بما يتلائم وتقاسم السلطة بزيادة مستوى الضمانات الملموسة لكل أطراف النزاع بتوزيع متناسق للموارد الحكومية والوظائف. لكن وإذا كانت مختلف هذه الأطر المؤسساتية التعاونية تقيد من سلوكات أعضائها، فإن ما أخفق النمط المؤسساتي في تفسيره يتمثل في السبب الذي يقف وراء إخفاق المجموعات الإثنية في حل خلافاتها في الإطار المؤسساتي ولجوئها إلى قنوات بديلة، إضافة إلى السبب الذي يدعو القوى العظمى للتملص من التزاماتها الدولية تجاه حماية الأقليات.

وإذا كان التفسير الواقعي القاضي بأن تغيير سياق القوة هو ما يقف وراء وضع كهذا، فإن ذلك يجيب جزئيا عن التساؤل، إذ أن بروز الإثنية ذاته كإطار للعمل السياسي يوجد خارج نطاق التفسيرات العقلانية ككل، وهنا تكمن جوانب القوة الأساسية للمقاربات البنائية، من حيث قدرتها على تزويدنا بفهم لفترات التحول في العلاقات الدولية، وذلك مقابل الفهم الستاتيكي الذي يميز نظريات الفاعل العقلاني. ويعود ذلك إلى اقتراحاتهم المتعلقة بالتأثير المتبادل بين البنية structrure والعضو agent. بحيث يمكن إسقاط هذا التصور على الدولة كبنية، والمجموعات الإثنية المتضمنة كأعضاء أو وحدات. وعلى المستوى النظمي يتم المقاربة للدول كوحدات في حين يمثل النظام الدولي والمؤسساتي والأنساق الدولية بمثابة البُنَى.

وبناءا على ذلك، فإن التصور البنائي يقوم على تفكيك النمط الثنائي الذي يسير المناهج الوضعية العقلانية ويقوم بتشريح علاقة التأثير المتبادل بين طرفي الثنائية (البنية والعضو في هذه الحالة)، ويماثل ذلك دخول الفيروس إلى الجسم البشري، فتكوين الجسم يمكن لنفاذ الفيروس إلى داخله ويقيد حركته في الوقت ذاته من خلال مقاومته. وباستعمال المنطق ذاته، فإنه يمكن تفهم ظهور النزاع بين مجموعات تعيش مأزقا أمنيا. ذلك أن غياب أطر تعاونية لفض الخلافات تسهل نشوء النزاع، غير أن هذه البيئة ذاتها تتميز بوجود اعتبارات موضوعية وذاتية، وأبعاد أخلاقية، وضوابط وأنساق دولية، تقيد مجتمعة العمل التصعيدي وتوفر فرصا مهمة لتدخل الأطراف الثالثة.

وينسحب هذا التحليل على الهوية التي تمثل المتغير الحاسم في استقطاب الأطراف كونها تؤطر العمل المجموعاتي. وفي هذه النقطة بالذات يتبين مدى صدقية الافتراضات البنائية التي تقضي بأن الهوية وكغيرها من الظواهر تعتبر بناءا مستمر التشكل عبر التفاعل الاجتماعي مع الوحدات ذات الصلة. فقد تصاعدت حدة النزاعات الإثنية التي تتمحور حول متغير الهوية لفترة ما بعد الحرب الباردة بشكل مميز مقارنة لفترة الحرب الباردة، ذلك أن المصلحة حسب التحليل البنائي، تتحدد بشكل مرتبط بالهوية. فعندما تخفق الدولة في أن تكون بمثابة إطار لهوية مشتركة تؤطر شخصية جميع مواطنيها فإنهم يلجئون إلى أطر بديلة. وعلى هذا المستوى، فإن إطار القرابة والانتماء الإثني الواسع يعتبر البديل الأقل تكلفة والأكثر فعالية من حيث التنسيق الداخلي. إلا أن التفاعل بين مختلف المجموعات الإثنية يؤدي إلى نشوء المأزق الأمني المجتمعي. وينجم ذلك عن إعادة صياغة مفهوم الهوية بشكل يضفي الطابع الأمني على العلاقات مع الآخر، بافتراض أن نمط العلاقات البينية تقوم على لعبة صفرية.

وبخلاف المقاربة النشوئية primordialists التي تؤصل النزاع الإثني في الضغائن والأحقاد التاريخية التي ترسخت في ذاكرة الأفراد. فإن البنائيين يرون أن التوجه التنازعي للهوية الإثنية ليس معطى مسبقا، بل تحكمي، يديره القادة (الاتجاه الوسائلي) أو الأنظمة الاجتماعية أو الظروف، وفي هذا الصدد يقول Fearon أن بناء الهوية على أسس تنازعية تتحكم فيه ثلاثة عوامل: المنطق الخطابي السائد، الاتجاهات أو الميول النخبوية، والكيفية التي يتم بها تفسير العمل الجماهيري، إضافة إلى طبيعة التفاعل مع المجموعات الأخرى. وتقوم هذه العوامل كلها على القوة في شقها المعرفي، والتي تتحكم بها النخب الإثنية التي تسعى لتحقيق مصالح خاصة، وهم يعتمدون في عملهم على الإطار الإثني، لأنه يسهل التنسيق الداخلي، يقلص مستوى اللايقينية في توجهات عمل المجموعة، يتميز بانخفاض تكاليف عقد الصفقات وفرض الاتفاقات. وعلى هذا الأساس تقوم النخب بإعادة بناء الهوية بشكل يبرز عمق الاختلافات الإثنية، بحيث يتزايد الاحتكاك السلبي مع الآخر. وهكذا فإن الهوية تعتبر مجرد سلاح إيديولوجي في أيدي النخب تشكلها اعتمادا على أساطير تؤسس لعلاقات تنازعية مع الآخر.

فالهوية التي تعتبر بناء اجتماعيا يتشكل باستمرار عبر الخطابات الاجتماعية النافذة، يقوم المنظمون بالتحكم بها باستدعاء الأساطير وإعادة صياغة المفاهيم، وإعادة تفسير حقائق سابقة، بل وحتى تلفيق قصص خيالية يدعمون بها وجهات نظرهم. ويستعمل المتطرفون هذه العملية لتصعيد النزاع بحيث يمكن تبرير نفوذهم وسلطتهم المطلقة، وعندما تصبح سياسة المجموعة مجرد تنافس بين المتشددين، فإن العلاقات مع المجموعات الأخرى تدخل حلقة العنف.

هذا التشريح العميق للنزاعات الإثنية ساعد الطروحات البنائية على تزويدنا بإحدى اكثر برامج إدارة النزاعات طموحا، وهو الإدارة بتحويل النزاع، وذلك عبر إقناع الإثنيات المتعددة بأن هويتها تتحدد وفق انتماءات واسعة. وفي البوسنة نجح ذلك بإقناع الجميع أنهم أوربيون قبل أن يكونوا مسلمين أو كروات أو صرب. غير أن المشكلة تتمثل في صعوبة إعادة توجيه الولاءات بالنظر إلى أن المعاناة اليومية تحول دون إيجاد النداءات المسالمة لطريقها نحو التجسيد. ولهذا فإن تدخل الطرف الثالث في مهمة تتضمن تبني إقرار السلام ولو بشكل مؤقت، سيسمح للأجنحة المسالمة بإعادة بناء تصورات المجموعة نحو تبني عقلية التعايش عبر إبعاد الهوية الإثنية التي تقوم على إقصاء الآخر واستبدالها بهوية مدنية إدماجية تحتوي الآخر. وعلاوة على ذلك يندرج ضمن البرنامج البحثي البنائي المقاربة لإدارة النزاعات عبر تحليل دور المجموعات الابستيمولوجية إضافة إلى تحويل النزاع بناء على طروحات المقاربات النسوية.

المجموعة الابستيمولوجية هي شبكة معرفية تضمن خبراء يتقاسمون تصورات مشتركة إزاء العلاقات السببية التي تحكم ظاهرة معينة، كما يتقاسمون قيما ومبادئ وأهداف مشتركة تتمحور حول تحقيق الرفاه الإنساني، وبخلاف المجموعات العلمية التي تستند على مرجعية قانونية مهنية فإن المجموعات الابستيمولوجية تحتكم إلى المبادئ وتعمل بالاستناد إليها للتأثير في مواقف صنّاع القرار بخصوص قضية معينة.

وبناء على هذه الافتراضات فقد قام الخبراء على مختلف المستويات (المنظمات الدولية غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني الوطنية) ومن خلال تقديمها للاستشارات وعبر احتكاكها بشكل غير رسمي مع الموظفين الدوليين وأعضاء الوفود الوطنية، قاموا بتمرير وجهات نظرهم التي تقضي بإضفاء الطابع الأمني على النزاعات الإثنية. وبضرورة اتخاذ مواقف أكثر حزما إزاء الصِّدامات الإثنية عبر توسيع دور الأطراف الثالثة ونطاق تدخلاتها. وفعلا فقد انعكست هذه الجهود في النصوص والقرارات الدولية فضلا عن ردود الفعل المنظماتية تجاه الأزمات الإنسانية والمجتمعية. وهكذا تم تبني الإعلان الأممي حول الأقليات في ديسمبر 1992، كما قامت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بإنشاء المحافظة السامية لشؤون الأقليات الوطنية. وعلى الصعيد الوطني فقد ساهمت هذه المجموعات في لفت انتباه حكومات الدول الكبرى إلى ضرورة التعامل بشكل أكثر إيجابية مع التوترات الإثنية، عبر تفعيل القنوات الدبلوماسية وأعمال الإغاثة الإنسانية في رواندا، والتدخل العسكري في الصومال.

ومن جهتها فقد حاولت المجموعات المستندة إلى المقاربات النسوية على إبراز فرص تحويل النزاع عبر إدارة التوازنات القائمة بين الرجل والمرأة لصالح تطوير بنى السّلام. وكبديل للسلام الديمقراطي تفترض المقاربات النسوية أن زيادة مستويات نفاذ المرأة إلى المراكز السلطوية سواء ضمن الحكومة أو المجموعات الإثنية يقلل من احتمالات اللجوء إلى تصعيد الخلافات باتجاه العنف، غير أن ذلك يتوقف على معدلات الإنجاب فكلما كانت منخفضة، ساهم ذلك في إيجاد فرص أكبر للمرأة في العمل السياسي، وكلما قل عدد الأبناء، فإن هذا يحرر المرأة، ويمنحها المزيد من الوقت لتكرسه للمشاركة السياسية ما يقلص من احتمالات اللجوء إلى الحرب، لأن النساء اللواتي ليس لديهن سوى طفل واحد سيمتنعن نسبيا عن اتخاذ قرار يقضي بإشراك أبنائهن في عمل عسكري.

وباستعراض مختلف الاستبصارات التي تزودنا بها المقاربات النظرية حول إدارة النزاعات يبدو واضحا أن كلا منهما تمتع بقوة تفسيرية في جوانب معينة من الظاهرة أو على مستوى تحليلي معين أو لمرحلة معينة من النزاع، ومن ثمة فهي تقدم توصيات متباينة، يتوقف على السياق الفكري للمدخل النظري من جهة، ويرتبط بالسياق الواقعي في الميدان من جهة أخرى، وبهذا فإن على أي مسعى بحثي لتصميم إطار تحليلي متكامل للمقاربة لدور الطرف الثالث أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الخاصية السياقية على أن يتم توظيف مختلف الاستبصارات النظرية بناء على منطق تقسيم العمل بينها.

عـادل زقاغ

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button