دراسات أوروبية-أورومتوسطيةدراسات سياسية

تراجع “الماكرونية”: التداعيات المحتملة للانتخابات التشريعية في فرنسا

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أفرزت الانتخابات التشريعية الفرنسية نتائج لافتة؛ حيث خسر الائتلاف الحاكم “معاً” بزعامة الرئيس إيمانويل ماكرون، الأغلبية المطلقة التي كان يتمتع بها في الجمعية الوطنية، وحقق اليمين المتطرف نجاحاً تاريخياً في الانتخابات، وكذلك الاتحاد الشعبي اليساري بقيادة “جان لوك ميلونشون” الذي أصبح الحزب المعارض الرئيسي داخل الجمعية الوطنية الفرنسية. وسوف تؤثر هذه النتائج، بطبيعة الحال، على مجمل المشهد الفرنسي، سواء داخلياً، أو على مستوى صنع السياسة الخارجية؛ إذ يُرجَّح أن تُفضي نتائج الانتخابات إلى إنتاج نظام “التعايش Cohabitation” للمرة الرابعة في تاريخ الجمهورية الخامسة، الذي يكون فيه رئيس الوزراء من تكتل سياسي أو حزب معارض للرئيس.

تغيرات دراماتيكية

أدت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية إلى تغيرات كبيرة على مستوى الخارطة السياسية في البلاد؛ وذلك على النحو الآتي:

1– فقدان “ماكرون” الأغلبية المطلقة: أسفرت الانتخابات التشريعية عن خسارة مدوية للائتلاف الحاكم “معاً” بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون؛ حيث خسر الأغلبية المطلقة التي كان يتمتع بها في الجمعية الوطنية. وحصل الائتلاف على 245 مقعداً، وهو ما يعني فشل الحزب الحاكم في تأمين الأغلبية المطلقة التي تقتضي الحصول على 289 مقعداً، فضلاً عن أن الانتخابات أسفرت عن خسارة العديد من الشخصيات البارزة المقربة من الرئيس الفرنسي، وعلى رأسهم “بريجيت بورغينيون” وزيرة الصحة، و”جوستين بينان” كاتبة الدولة المكلفة بالبحار، و”أميلي دو منشلان” وزيرة التحول البيئي، كما انهزم رئيس الجمعية الوطنية “ريشار فيران”، و”كريستوف كاستنير” رئيس الكتلة البرلمانية للتحالف الرئاسي في الجمعية نفسها، ووزير الداخلية السابق.

وتُحيل بعض التقديرات هذا الفشل الذي مُني به الحزب الحاكم في فرنسا، إلى تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية التي يعاني منها الفرنسيون، وهو ما انعكس على معدلات المشاركة نفسها؛ فقد تجاوزت نسبة المقاطعة في الجولة الأولى 52%، ثم زادت نسبة المقاطعة في الجولة الثانية إلى 54%، وهو المؤشر الذي عبَّر عن فقدان الثقة بقدرة الأحزاب الفرنسية على حل مشاكل البلاد، وخصوصاً الحزب الحاكم.

2– فوز تاريخي لليمين المتطرف: أحد النتائج المهمة التي أفرزتها الانتخابات الفرنسية، تمثلت في النتائج التاريخية التي حققها حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان؛ حيث حصل الحزب على 89 مقعداً في الجمعية الوطنية المقبلة، وهي نتيجة لم يسبق أن حققها هذا الحزب منذ تأسيسه في مطلع سبعينيات القرن الماضي. جدير بالذكر أن صعود اليمين المتطرف في فرنسا كان أمراً متوقعاً من قبل العديد من الدوائر؛ وذلك كجزء من حالة الصعود التي يشهدها هذا التيار في كافَّة الأقطار الأوروبية، وفي ضوء ما سبَّبته الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من فقدان الثقة بالنخب الحاكمة، والانحياز إلى الخطابات الشعبوية لليمين المتطرف.

3– صعود لليسار وتراجع لليمين الفرنسي: تمثلت المفاجأة الثالثة التي أفرزتها الانتخابات الفرنسية في تحقيق “ائتلاف نوبيس” NUPES الذي يضم عدة أحزاب من اليسار وأقصى اليسار، كحركة “فرنسا الأبية” بقيادة “جان لوك ميلونشون”، والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب البيئة، على 131 مقعداً، ليصبح أبرز قطب معارض للرئيس ماكرون. ومن جانبه، اعتبر زعيم المعارضة اليسارية في فرنسا “جان لوك ميلونشون” أن فقدان الائتلاف الانتخابي للرئيس إيمانويل ماكرون الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية، هو “قبل كل شيء فشل انتخابي” للرئيس الفرنسي، فيما جاء حزب “الجمهوريون” اليميني في المرتبة الرابعة بـ61 مقعداً ليُواصِل تراجعه في الساحة السياسية الفرنسية، ويفقد تدريجياً الشعبية التي كان يتمتع بها في السابق.

التداعيات المحتملة

يُحتمَل أن تدفع نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية باتجاه حدوث تغيرات عميقة في المشهد الفرنسي؛ وذلك على النحو الآتي:

1– تصاعد أزمة تشكيل الحكومة: فشلت نتائج الانتخابات التشريعية في إعطاء الأغلبية لأي حزب سياسي، وهو الأمر الذي سيُضفي العديد من التعقيدات والتحديات على المشهد السياسي الفرنسي. وأول التحديات التي ستترتب على هذا الوضع سوف ترتبط بملف تشكيل الحكومة؛ فـ”ماكرون” الآن مُخير بين تشكيل حكومة بأغلبية نسبية، أو تشكيل أحزاب المعارضة حكومة أقلية، لكن شكل التحالفات الداخلية في المرحلة المقبلة، سوف يحسم هذا الملف؛ فمن المرجح أن يسعى التحالف الرئاسي إلى استقطاب نواب مستقلين أو محسوبين على الجمهوريين.

2– تعطيل إصلاحات وسياسات الرئيس الفرنسي: سوف يحظى اليمين المتطرف وتحالف اليسار بامتيازات داخل الجمعية الوطنية، في ضوء الانتصارات التي حققاها، خصوصاً تحالف اليسار بقيادة “جان لوك ميلونشون”، الذي أصبح زعيماً للمعارضة؛ ما سيعطيه امتيازات عديدة داخل الجمعية، أهمها رئاسة لجنة المالية، وامتياز تقديم لوائح النقد ضد الحكومة، وهو ما يعني أن هذا التحالف قد يُعطِّل تنفيذ خطط الرئيس “ماكرون” وإصلاحاته، خصوصاً الاقتصادية. ومن أهم هذه المشاريع، مشروع الإبقاء على حزمة الضرائب المفروضة على الوقود كما هي، وقانون دعم القوة الشرائية للفرنسيين.

3– تزايد معاداة السياسة الخارجية لـ”ماكرون”: على الرغم من أن الدستور الفرنسي يمنح الرئيس صلاحيات واسعة في قضايا السياسة الخارجية وقضايا الدفاع؛ ما يعني أن الرئيس الفرنسي سوف يسعى إلى استكمال الضغط على روسيا، ودعم أوكرانيا، وتعزيز الدور الأوروبي لفرنسا؛ فإن صعود اليمين المتطرف، وتحالف اليسار الذي يسيطر عليه حالياً اليسار المتطرف، سوف يمثل أحد العوائق التي قد تُقيِّد حركة الرئيس “إيمانويل ماكرون” على المستوى الخارجي، خصوصاً أن هذه الاتجاهات الفرنسية تعترض على طريقة إدارة “ماكرون” للسياسة الخارجية، لا سيما على مستوى التحالفات مع الاتحاد الأوروبي، والعلاقات والدور الفرنسي في حلف شمال الأطلسي، والموقف من روسيا.

في الختام، يمكن القول إن أبرز مخرجات الانتخابات التشريعية الفرنسية تتمثل في إعادة هندسة المشهد السياسي الداخلي في فرنسا، وإعادة توزيع مراكز القوة والحضور بين القوى السياسية الفرنسية، وهو ما تجسد في الصعود الكبير لليمين المتطرف، وتحالف اليسار، وهو الصعود الذي سيكون له تأثير ملحوظ على المشهد السياسي ككل، خصوصاً على مستوى عرقلة مشاريع الرئيس “ماكرون” الداخلية، مع بعض التأثيرات المحدودة على السياسة الخارجية للبلاد؛ وذلك في ضوء ما يتيحه الدستور من صلاحيات واسعة للرئيس في هذا الملف.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى