دراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

ترمب وسياسته الخارجية المنحرفة "الجديدة"

بعد سلسلة من التحولات الانقلابية في السياسة الخارجية، تداهمنا الآن أحاديث حول دونالد ترمب “الجديد” الذي هو أكثر ميلا إلى استخدام القوة العسكرية من ترمب الذي رأيناه خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016. فقد بدا ترمب الأول وكأنه يعتبر أي استخدام للقوة العسكرية الأميركية في سوريا عملا عبثيا وخطيرا، ودعا الولايات المتحدة إلى الاحتماء خلف جدران جديدة.
والآن، وبلا أي مقدمات، شنت إدارة ترمب هجوما صاروخيا على إحدى قواعد الرئيس السوري بشار الأسد الجوية، وألمحت إلى القيام بعمل عسكري ضد كوريا الشمالية، وأسقطت “أم كل القنابل” على أحد معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في شرق أفغانستان. وكان كل هذا مصحوبا بتغريدات من الرئيس ذاته، الذي أعلن أن الولايات المتحدة سوف تلاحق حلولها الخاصة في التعامل مع قضايا رئيسية إذا لم تعرض دول أخرى المساعدة.
ويبدو أن المجتمع الدولي ــ بما في ذلك الصين ــ يتفهم لماذا تضرب الولايات المتحدة القاعدة الجوية السورية التي أُطلِق منها الهجوم الشنيع باستخدام أسلحة كيميائية. بيد أن إدارة ترمب لا تزال تلاحق أجندة “أميركا أولا”. فبعد أن انتبهت إلى الحقائق العالمية، تعكف الإدارة الآن على تعديل سياساتها، وفي بعض الأحيان على نحو مفاجئ إلى الحد الذي أصبح معه من المعقول أن يشعر المرء بالقلق الشديد أن تكون الدبلوماسية الآن في المرتبة الثالثة بعد القنابل والتغريدات.
ويتعزز هذا القلق بفعل التخفيضات الدرامية في ميزانية وزارة الخارجية الأميركية وتمويل الولايات المتحدة للأمم المتحدة كما اقترح ترمب. وفي الوقت نفسه، تظل مناصب عديدة في الجهاز الدبلوماسي الأميركي غير مشغولة حتى الآن. وحتى أصدقاء أميركا باتوا يدركون الآن أن هذا المسار بالغ الخطورة. فالقنابل لا تُفضي إلا إلى الدمار. وبناء سلام دائم يتطلب التوصل إلى حلول وسط وبناء التحالفات ــ أو بكلمة واحدة، الدبلوماسية.
إن العالَم محاط بعدد كبير من الصراعات، بدءا بسوريا التي سيصبح حل قضيتها أكثر صعوبة في غياب الاهتمام الدبلوماسي من قِبَل الولايات المتحدة. ومن الواضح أن المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة هناك لم تسفر عن أي شيء، جزئيا لأن لا أحد يدري أين تقف الولايات المتحدة في ظل ترمب. وفي مواجهة هذا الخواء القيادي، تتحوط الدول الأخرى في خوض أي رهان وتحرص على رعاية مصالحها الضيقة.
القضية الأخرى التي تحتاج إلى الدبلوماسية هي كوريا الشمالية، التي تعمل على تطوير أسلحة نووية والأسلحة الباليستية العابرة للقارات اللازمة لحمل هذه الأسلحة النووية. وحتى الآن، حاول ترمب إقناع الصين بإيجاد حل، من خلال التهديد باتخاذ إجراء أحادي عنيف إذا فشل الصينيون في كبح جماح كوريا الشمالية. ولكن يظل من غير الواضح ما إذا كانت إدارة ترمب تعمل حقا وفقا لاستراتيجية محددة في التعامل مع كوريا الشمالية، أو ما إذا كانت تملك الوسائل اللازمة لتحقيق هذه الاستراتيجية.
بعيدا عن كوريا الشمالية، حذرت الأمم المتحدة مؤخرا من أن الصراع الدائر في اليمن، والذي نادرا ما تحتل أخباره العناوين الرئيسية، “يدفع البلاد بسرعة نحو الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والمؤسسي”. وقد انحدرت الأوضاع الإنسانية إلى مستويات رهيبة بالفعل لنحو 60% من سكان اليمن البالغ عددهم 30 مليون نسمة: إذ تشير بعض التقديرات إلى أن سبعة ملايين يمني ربما يقتربون من المجاعة؛ وبات نحو 500 ألف طفل عُرضة لسوء التغذية الحاد.
كانت الحرب التي تدور رحاها بين حكومة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي التي تدعمها المملكة العربية السعودية والتحالف الحوثي المتمرد مع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح مستعرة لسنوات، ولا يلوح في الأفق أي اختراق عسكري حقيقي. وقد بذلت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما جهودا متكررة ولكن بلا جدوى في الوساطة من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار؛ ولكنها أيضا دعمت على مضض الحملة الجوية التي تشنها المملكة العربية السعودية بتزويدها بالقنابل. ويبدو أن ترمب على استعداد لتقديم مثل هذا الدعم بقدر أكبر من الحماس.
يتلخص أحد التفسيرات المغرقة في التبسيط للصراع في اليمن في كونه من تصميم إيران. ووفقا لهذا الرأي، فإن التدخل الأميركي السعودي المقصود منه إحباط طموحات الجمهورية الإسلامية الجيوسياسية. والآن بعد أن قَبِل ترمب ضمنا الاتفاق النووي الإيراني، يعتقد بعض مستشاريه أنه من الضروري ممارسة الضغوط على إيران من مكان آخر. ونتيجة لهذا، أصبحت غارات الولايات المتحدة وطلعاتها الجوية في اليمن أكثر تواترا في الأشهر الأخيرة.
ولكن في واقع الأمر، كثيرا ما يُبالَغ في تصوير دعم إيران للحوثيين. وربما ترحب إيران من جانبها بسيناريو حيث تغوص الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في مستنقع اليمن.
من المبررات المحتملة الأخرى لتورط الولايات المتحدة في اليمن أن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وجد موطئ قدم هناك. ولكن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية يزدهر في أي بيئة يغلب عليها الدمار واليأس، ولهذا لن يتسنى لأحد القيام بأي شيء يُذكَر حيال هذه المجموعة ما دامت الحرب تمزق اليمن.
وحتى في حين تصدر الأمم المتحدة تحذيرات صارخة بشأن الكارثة الوشيكة في اليمن، يعد التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن العدة لهجوم الغرض منه الاستيلاء على الساحل حول ميناء الحديدة ــ وهو التحرك الذي حذرت مجموعة الأزمات الدولية من تسببه في تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن.
بدلا من تصعيد القتال، ينبغي للولايات المتحدة أن تواصل بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية وتقديم المساعدات الإنسانية. والواقع أن المساعدات الإنسانية لابد أن تسير جنبا إلى جنب مع الجهود الدبلوماسية. في نهاية المطاف، كان هادي والسعوديون هم الذين رفضوا محاولة الأمم المتحدة الأخيرة للتوسط لوقف إطلاق النار.
لحل هذا الصراع، يتعين على المتمردين والحكومة أن يعودوا على الفور إلى التعاون مع مبعوث الأمم المتحدة الخاص، الذي عرض خريطة طريق للمحادثات. بالإضافة إلى هذا، ينبغي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يقوم بدوره في دعم الحل السياسي، من خلال تبني القرار الذي طال انتظاره والذي يطالب الطرفين بالموافقة على الوقف الفوري لإطلاق النار، وتمكين الوصول إلى المساعدات الإنسانية، والعودة إلى طاولة المفاوضات.
تستلزم الدبلوماسية التنازل من جانب كل الأطراف. والواقع أن لا أحد ــ ربما باستثناء إيران ــ قد يستفيد بأي شيء من المزيد من التصعيد. فإذا أدت الكارثة الإنسانية في اليمن إلى انهيار كامل، فربما يفر الملايين من اليائسين من البلاد، وهو ما من شأنه أن يمكن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وغيره من التنظيمات المتطرفة من الاستفادة من الفوضى واليأس.
ينبغي لنا أن نرحب بعودة أميركا إلى المشاركة مع العالَم، ولكن ليس إذا استمرت إدارة ترمب في النظر إلى الصراعات من خلال عدستها عسكرية فحسب. صحيح أن القتال ضروري في بعض الأحيان؛ ولكن الدبلوماسية ضرورية دوما. وتتجلى هذه الحقيقة بأكبر قدر من الوضوح في أماكن مثل اليمن. فالانهيار الكامل لدولة أخرى هو آخر ما يحتاج إليه العالَم ــ بما في ذلك ترمب.
ترجمة: إبراهيم محمد علي

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى