تصاعد تأثير مؤسسات الاستخبارات في الأزمة الأوكرانية

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

مثَّلت الأنشطة الاستخباراتية “حرب الظل” بالنسبة إلى الأزمة الأوكرانية، خاصةً في ظل الاهتمام الدولي الكبير بجمع وتحليل المعلومات والبيانات المتعلقة بالأزمة، وهو ما تجلَّى في النشاط الاستخباراتي المُكثَّف من جانب الدول الغربية للوقوف على تطورات الأوضاع الميدانية بدقة في أوكرانيا. ومن جانب آخر، تزايد الاعتماد بدرجة كبيرة على الاستخبارات المفتوحة المصدر في خضم الحرب الأوكرانية، خاصةً مع توفير بعض المعلومات من داخل روسيا وأوكرانيا لم تملكها بعض الدول، مثل بعض المعدات العسكرية الروسية المنخرطة في الحرب الأوكرانية.

نشاط استخباراتي دولي

كان هناك نشاط استخباراتي مكثف من جانب الدول قُبيل بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كما استمر ذلك على نحو حثيث عقب العملية العسكرية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1– تحذير استخباراتي أمريكي مبكر من الهجوم الروسي: سلَّطت الاستخبارات الأمريكية، في منتصف فبراير الماضي، الضوء على هجوم روسي وشيك ضد الأراضي الأوكرانية وفق مصادر موثوقة، وهي كانت بمنزلة لحظة مهمة لمجتمع الاستخبارات الأمريكي، خاصةً في ظل المعلومات الاستخباراتية المضللة في أحداث جوهرية مثل حرب العراق، وسوء التقديرات الاستخباراتية حول الانسحاب من أفغانستان، الذي اعتُبر انسحاباً فوضويّاً أضرَّ كثيراً بالصورة الذهنية للولايات المتحدة بين الحلفاء. ومن هنا، شكَّلت المعلومات الاستخباراتية الموثوقة التي توقعت التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا فرصة مهمة لإعادة ثقة صُناع القرار بالأجهزة الاستخباراتية الأمريكية.

2– إدارة مديرية الاستخبارات الفرنسية أزمة أوكرانيا: بالتزامن مع بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، اعتمدت فرنسا على مديرية الاستخبارات العسكرية المجهزة بمحللين ومتخصصين ومترجمين، من أجل إدارة الأزمة الأوكرانية، وقد تم اتخاذ العديد من الخطوات الاستخباراتية تجاه العملية العسكرية الروسية، بما في ذلك اعتماد باريس على بعض العناصر المحلية في أوكرانيا. ومن جانب آخر، عززت الاستخبارات الفرنسية تعاونها مع أجهزة الاستخبارات المناظرة في أمريكا وبريطانيا وألمانيا إزاء تطورات الوضع في أوكرانيا.

3– اعتقال الرئيس الروسي بعض القيادات الاستخباراتية: كشفت صحيفة “تايمز” البريطانية، في 12 مارس 2022 قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتقال بعض قادة أجهزة الاستخبارات الروسية، وأن منهم رئيس فرع المخابرات الخارجية في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي “سيرجي بيسيدا”، ونائبه “أناتولي بوليوخ”، وهو ما يأتي في ظل الترويج لمزاعم حول تقديم معلومات مضللة من جانب الاستخبارات إلى الرئيس الروسي حول الوضع في أوكرانيا قبيل التدخل العسكري. جدير بالذكر أن بيسيدا هو رئيس فرع “الدائرة الخامسة” للمخابرات الخارجية المسؤولة بنسبة أساسية عن جمع المعلومات الاستخباراتية حول أوكرانيا. وفي سياق متصل، أعلنت موسكو في 14 مارس 2022 عن مقتل أول ضابط بجهاز الاستخبارات العسكرية، في الهجوم الذي تشنه على أوكرانيا منذ نحو 3 أسابيع.

4– تقييمات استخباراتية للتطورات الميدانية في أوكرانيا: كثَّفت أجهزة الاستخبارات جهودها لتوضيح تطورات الوضع الميداني في أوكرانيا، سواء القائم أو المحتمل. وفي هذا الإطار، أكدت وزارة الدفاع البريطانية، في 13 مارس 2022، في أحدث تقييم استخباراتي لها، أن القوات الروسية تسعى إلى تطويق القوات الأوكرانية في شرق البلاد، بينما تتقدم من اتجاه خاركيف في الشمال وماريوبول في الجنوب، كما كشفت المعلومات الاستخباراتية مواصلة المقاومة الشديدة من جانب القوات المسلحة الأوكرانية في مقابل دفع روسيا ثمناً باهظاً في ظل الخسائر اليومية المرتبطة بالعمليات العسكرية في أوكرانيا.

الاستخبارات المفتوحة المصدر

عملت الاستخبارات المفتوحة المصدر (Open–source intelligence) على تشكيل الفهم المتعلق بالحرب الأوكرانية بدرجة كبيرة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1– تحول مواقع التواصل إلى منصات استخباراتية: تُعرَّف الاستخبارات المفتوحة المصدر (OSINT) بأنها عملية جمع وتحليل البيانات، من خلال مصادر علنية ومتاحة للجمهور لإنتاج مواد استخباراتية، ويكون ذلك من خلال تتبع البيانات في وسائل الإعلام أو التقارير والبيانات الحكومية العامة أو المنشورات الأكاديمية والعلمية أو حتى البيانات التجارية أو المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. ولعل من أبرز التطورات المتعلقة بالاستخبارات المفتوحة المصدر (OSINT) في الحرب الأوكرانية، اللجوء الملحوظ إلى منصات التواصل الاجتماعي مثل “تيك توك” و”إنستجرام”؛ من أجل الحصول على معلومات وبيانات تتعلق بتطورات الحرب الأوكرانية؛ إذ كانت مقاطع الفيديو المنشورة على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما “تيك توك” الذي يضم أكثر من 40 مليون روسي، مصدراً لتتبع طبيعة المعدات العسكرية التي تنشرها روسيا، حتى إن بعض المهتمين بشؤون الاستخبارات قدروا أن نحو 80% من المعلومات المفتوحة المصدر، تأتي من منصات التواصل الاجتماعي؛ إذ يتم جمع المعلومات المرئية المتاحة من أجل التوصل إلى تقييم استخباراتي.

2– بروز النشاط الاستخباراتي لـ “الفاعل الفرد”: بعيداً عن أنشطة الدول في خضم الحرب الأوكرانية، تحول الأفراد العاديون إلى منصات استخباراتية مهمة للمعلومات حول الحرب الأوكرانية؛ فعلى سبيل المثال، أصبح الطالب الأمريكي “جاستن بيدين” مصدراً للمعلومات حول الحرب الأوكرانية من خلال نشر صور أقمار صناعية ومقاطع فيديو وتفاصيل ميدانية من خلال حسابه على موقع “تيك توك”، وقد وصل عدد المتابعين لمشاركاته إلى نحو 20 مليوناً.

3– تأكيد أو نفي تقييمات استخبارات الدول: منحت الاستخبارات المفتوحة المصدر مصداقية لبعض التقارير الاستخباراتية التي توقعت تدخلاً عسكريّاً روسيّاً في أوكرانيا؛ إذ إنه في الفترة التي سبقت العملية العسكرية الروسية، تم نشر صور الأقمار الصناعية للجمهور على الإنترنت واستخدامها في التقارير الإخبارية، ومنذ ذلك الحين لجأت المؤسسات الإخبارية ومراكز الفكر والمنظمات غير الحكومية، حتى أجهزة الاستخبارات الدولية، إلى الاستفادة من المحتوى الذي يتم نشره عبر المصادر المفتوحة من أجل الوقوف على تقييمات أكثر دقة حول التطورات المتعلقة بالأزمة الأوكرانية.

4– توظيف روسيا الاستخبارات المفتوحة المصدر: لجأت روسيا إلى نشر سلسلة من المعلومات والمزاعم من أجل تبرير تدخلها العسكري في أوكرانيا. ولم تكن الحملة الروسية موجهة للناطقين بالروسية فقط، بل كانت حملة متعددة اللغات، وباستخدام نفس التكتيك على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال نشر بعض المنشورات التي تعزز السردية الروسية المتعلقة بالحرب، وهو ما يعكس إدراكاً روسياً بخطورة الاستخبارات المفتوحة المصدر على مصالحها، بالتزامن مع العملية العسكرية في أوكرانيا. جدير بالذكر أن روسيا تعد أكثر الدول طلباً لحذف محتوى على موقع “تيك توك” خلال السنوات القليلة الماضية، وقد قامت موسكو في 6 مارس 2022 بتعليق خاصية البث المباشر وتحميل المقاطع المصورة على منصة “تيك توك” في روسيا بداعي تطبيق قانون الأخبار الكاذبة الجديد، وبالأساس كان ذلك من أجل منع مشاركة منشورات تتعلق بالعملية العسكرية الروسية.

وختاماً، فإن “الاستخبارات المفتوحة المصدر” قد شكلت ظاهرة من أبرز الظواهر المتعلقة بالحرب الأوكرانية، سواء قبل بدايتها أو بعد أن بدأت، وهو ما عزز اهتمام أجهزة الاستخبارات حول العالم بها بقدر أكبر؛ لكونها من المصادر المهمة للحصول على المعلومات الميدانية، وبما يمكن أن يمثل توجُّهاً متصاعداً في المرحلة المقبلة من جانب الدول، خاصةً في ظل التوظيف والتوظيف المضاد لها في الحرب الأوكرانية.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button