تصاعد سياسات “الاعتراف المنفرد” بعد الدعم الروسي للمناطق الانفصالية الأوكرانية

ثمة إجماع داخل المجتمع الأكاديمي والمؤسسات السياسية الغربية على أن الأزمة الأوكرانية الراهنة سيكون لها ارتدادات وانعكاسات عديدة على مستقبل النظام الدولي القائم والتفاعلات الحاكمة لهذا النظام، وربما تكون فكرة الاعتراف، كشرط من شروط اكتمال عضوية الدولة في النظام الدولي، واحدة من أهم زوايا انعكاسات الأزمة التي دخلت مرحلة جديدة من التصعيد، عقب إعلان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، يوم 21 فبراير الجاري، اعتراف بلاده باستقلال منطقتي لوجانسك ودونيتسك في شرق أوكرانيا. صحيح أن هذا الاعتراف المنفرد من جانب روسيا باستقلال المنطقتين لم يكن الأول من نوعه خلال السنوات الماضية، وخصوصاً مع بزوغ ظاهرة دولة الأمر الواقع de facto state في العلاقات الدولية، إلا أن السياق الراهن يحتمل أن يُفضي إلى تأثيرات ممتدة لهذا القرار الروسي؛ بحيث يتصاعد توظيف فكرة الاعتراف المنفرد في العلاقات بين الدول كأداة للضغط المُتبادَل.

ترتهن فرضية التصاعد المحتمل لتوظيف الاعتراف المنفرد في العلاقات الدولية، بأبعاد التنافس بين عدد من القوى حول إعادة تشكيل النظام الدولي، وهو التنافس الذي يستدعي أدوات عديدة؛ من ضمنها تقديم الدعم لحركات انفصالية، والاعتراف المنفرد بها. واللافت أن هذا التنافس يتماشى مع وجود العديد من المناطق الرخوة عالميّاً المتضمنة مطالب انفصالية، التي قد لا تختلف كثيراً عن مطالب منطقتي لوجانسك ودونيتسك. ومن ثم، قد تصبح السياسة الروسية بمنزلة محفز على إكساب ظاهرة “دولة الأمر الواقع” المزيد من الزخم؛ فالعالم لا يزال، في نهاية المطاف، محكوماً بنظرية تأثير الفراشة. وما يحدث في شرق أوروبا، وأوكرانيا بالتحديد، سيكون له امتدادات على مناطق أخرى في العالم.

دولة الأمر الواقع:

اجترَّ القرار الروسي الاعتراف باستقلال منطقتي لوجانسك ودونيتسك رصيداً هائلاً من الجدل النظري الذي تناول معضلة دولة الأمر الواقع كواحدة من القضايا التي فرضت ضغوطاً على النظام الدولي المستند إلى النموذج الويستفالي الذي يُعلِي من سيادة الدولة؛ فعلى مدار عقود، كان مفهوم السيادة مرتبطاً بوحدة أراضي الدولة وقدرة السلطة الشرعية على بسط سيطرتها وسلطتها على هذه الأراضي. وبمرور الوقت، بدا أن الاستقرار السيادي ووحدة أراضي الدولة ليسا مَصُونَيْن في ظل بزوغ العديد من الحركات الانفصالية التي سعت إلى الخروج من عباءة الدولة وتأسيس دولة جديدة لها كيانها الخاص وتحظى بالاعتراف الدولي. وفي سياق كهذا، تستحضر ظاهرة “دولة الأمر الواقع” ثلاث دلالات رئيسية متمثلة فيما يلي:

1– أبعاد المفهوم: حيث يشير مفهوم دولة الأمر الواقع، طبقاً للأدبيات، إلى عدد من الأبعاد الرئيسية، ربما يكون أهمها أنها تعكس حالات معينة للسلطة، حسب سكوت بيج Scott Pegg؛ حيث توجد “قيادة منظمة صعدت إلى السلطة من خلال درجة معينة من النفوذ المحلي، وتتلقى هذه القيادة دعماً شعبيّاً، كما حققت قدرة كافية على تقديم خدمات حكومية إلى مجموعة سكانية معينة في منطقة ما، وعادةً ما تسعى هذه السلطة، التي أنشأت نمطاً من الحكم المستقل عن الدولة الرئيسية، إلى الاستقلال الكامل والحصول على الاعتراف الدولي الواسع النطاق، باعتبارها دولة ذات سيادة. ومع ذلك، فهي غير قادرة على تحقيق أي درجة من الاعتراف الموضوعي “substantive recognition”.

2– معضلة الاعتراف الدولي: استحضرت ظاهرة دولة الأمر الواقع إشكالية الاعتراف الدولي؛ حيث تضع القوى الانفصالية المُؤسِّسة لحالات حكم الأمر الواقع، قضية الحصول على الاعتراف الدولي الواسع النطاق في مرتبة متقدمة، ولكنها مع ذلك تظل غير قادرة على الحصول على الاعتراف الموضوعي الواسع النطاق، ومن ثم فهي تظل غير شرعية في نظر المجتمع الدولي ولو حصلت على اعتراف بعض الدول المؤيدة لها. ولعل هذا ما أكده Ersun Kurtuluş حينما وصف دولة الأمر الواقع بأنها “كيانات غير معترف بها تتمتع بوضع قانوني غير مُؤكَّد، ومكانة دولية غير مُحدَّدة، ووضع أمني غير مُستقِر في بعض الأحيان”. وعادةً ما ترتبط إشكالية الاعتراف الدولي بمثل هذه الكيانات بالحسابات السياسية للدول القائمة في النظام، وبتخوفات الدول من تأثير الاعتراف بالكيانات الانفصالية على الأمن والسلم الدوليين، وتعريض فكرة سلامة ووحدة أراضي الدول القائمة للتقويض.

3– دور الدول الراعية: بالرغم من الصعوبات التي تواجهها دول الأمر الواقع في الحصول على الاعتراف الدولي، فإن سلوكيات الدول الأخرى تقدم –في بعض الأحيان– مخرجاً للحركات الانفصالية، وخاصةً أن هذه الحركات تعتمد في وجودها واستمرارها –في كثير من الأحيان– على وجود دعم خارجي، أو ما يطلق عليه دول راعية patron states. ويمكن لهذا الدعم أن يوفر لقادة دول الأمر الواقع de facto state leaders مجالاً كبيراً من الحرية في الحفاظ على القاعدة التعبوية لحركتهم، وتوجيه الموارد المادية نحو أنشطة الحكم، والمساعدة على ترسيخ حكمهم وصياغة عقد اجتماعي مع السكان المحليين. ومن ثم، يمكن أن يُترجَم الدعم الخارجي إلى حوافز قوية لبناء مؤسسات الحكم، ناهيك عن الاعتراف الذي تقدمه الدولة الراعية لهؤلاء القادة الذي يمنحهم قدراً، ولو محدوداً، من الشرعية على المستوى الدولي.

تأثيرات محتملة

تُشكِّل ثلاثية (دولة الأمر الواقع – معضلة الاعتراف الدولي – دور الدولة الراعية) مدخلاً مهمّاً لاستقراء التأثيرات المحتملة لقرار روسيا بالاعتراف باستقلال منطقتي لوجانسك ودونيتسك. ويمكن تناول أهم هذه التأثيرات على النحو الآتي:

1– دعم الطموحات الانفصالية: من السمات الرئيسية للنظام الدولي الراهن أنه بات أكثر ترابطاً وتداخلاً. وبقدر ما خلقت العولمة نظاماً وعلاقات قائمة على المنافع المشتركة، أنتجت أيضاً مسارات جديدة لاستنساخ تجارب التفكيك الإقليمي للدول، لا سيما مع التطور الهائل في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، والقدرة على تداول الصورة والحدث بوتيرة متسارعة. وفي مثل هذا السياق، ربما يكون الاعتراف الروسي باستقلال منطقتي لوجانسك ودونيتسك دافعاً إلى تجديد الطموحات الانفصالية المنتشرة على امتداد العالم، سواء في إفريقيا أو آسيا أو حتى أوروبا الغربية؛ حيث ظهرت، خلال السنوات الماضية، نماذج متقدمة لحركات تسعى إلى التأسيس لدولتها المستقلة على غرار إقليم كتالونيا الذي يطمح إلى الانفصال عن إسبانيا بعد الاستفتاء الشعبي الذي جرى في الإقليم، أكتوبر 2017، وانتهى إلى تأييد الانفصال وتأسيس دولة مستقلة.

2– تزايد مؤشرات عدم الاستقرار الإقليمي: وهو أثر مترتِّب على دعم الطموحات الانفصالية؛ فمن جهة قد تؤدي مثل هذه الطموحات إلى تفكيك عدد من الدول، وتعريض وحدتها للتقويض. ومن جهة ثانية، قد تتعرض بعض الدول لأنماط جديدة من النزاعات المُسلَّحة في ظل تحول عدد من الحركات الانفصالية، على غرار الموجودة في بعض دول الشرق الأوسط، إلى المسار العسكري منذ سنوات للضغط على حكومات الدول. ومن جهة ثالثة، يمكن أن تتصاعد التوترات بين الدول في المناطق التي تشهد نشاطاً لحركات انفصالية؛ وذلك في خضم تبادل الاتهامات بين هذه الدول بشأن دعم بعض الحركات، وهو الذي يظهر مثلاً في حالة تركيا التي ظلت لعقود تتهم دولاً خارجية بدعم الحركات الكردية الانفصالية، وخاصةً حزب العمال الكردستاني.

3– تصاعد حضور الإثنية في العلاقات الدولية: كان الدفاع عن الأفراد المنحدرين من أصول روسية واحداً من المبررات التي ساقتها موسكو لتفسير قرارها الاعتراف بمنطقتي لوجانسك ودونيتسك، وهو أمر من المرجح أن يفضي إلى تصاعد حضور الطابع الإثني والعرقي في العلاقات الدولية، وتوظيفه مدخلاً للاعتراف الدولي المنفرد باستقلال دول الأمر الواقع؛ فالعرق والإثنية، لا يزالان –حسب تعبير كل من Kelebogile Zvobgo and Meredith Loken–”جزءاً أساسيّاً في تشكيل تصوُّرات صانعي الدول للتهديدات الدولية والمحلية، وما يترتب على ذلك من سياسة خارجية”. ويعزز تصاعد الإثنية أن الكثير من الدول شهدت في السنوات الأخيرة تزايد نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة التي تدعم مشروعات سياسية ومجتمعية قائمة على انتماءات ضيقة رافضة للآخر المختلف عرقيّاً ودينيّاً.

4– إعادة تشكيل الفضاء السوفييتي: يُحتمَل أن تستمر موسكو في استخدام الاعتراف المنفرد بالمناطق الانفصالية، ضمن استراتيجية إعادة تشكيل الفضاء السوفييتي، وتأكيد نفوذ روسيا في نطاقها التاريخي. فالاعتراف بكل من لوجانسك ودونيتسك في شرق أوكرانيا لم يكن الأول من نوعه؛ فعلى سبيل المثال، اعترفت موسكو، في عام 2008، باستقلال كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا. وهذه السوابق التاريخية تشير إلى إمكانية تكرار التجربة في مناطق أخرى تقع ضمن مناطق الإرث التاريخي للاتحاد السوفييتي؛ وذلك على غرار إقليم ترانسنيستريا الذي أعلن انفصاله عن مولدوفا في عام 1990. وربما يساعد على ذلك، الطابع الرخو في الكثير من هذه المناطق، في ظل مكوناتها الإثنية والدينية، ناهيك عن القدرات الدعائية والسياسية التي تحظى بها موسكو، ويمكن من خلالها دعم تطلعات انفصالية مشابهة لتلك التي نشأت في جورجيا وأوكرانيا.

5– زيادة التنافس على قيادة النظام الدولي: يُحتمَل أن تؤدي السياسة الروسية إلى إكساب فكرة الاعتراف الدولي المنفرد المزيد من الزخم والتوسُّع في استخدامها أداةً من أدوات إدارة التنافس على قيادة النظام الدولي. لقد ظهرت تجليات هذه الفرضية في الحالة الأوكرانية، ومن قبلها جورجيا؛ حيث بدا الاعتراف الروسي المنفرد بالمناطق الانفصالية في الدولتين محاولة من موسكو لتأكيد نفوذها التاريخي، وكبح جماح التمدد الغربي والأمريكي بالتحديد، في المجال الحيوي الروسي. لم تكن قضية الاعتراف الدولي المنفرد (الضمني) بعيدة عن العلاقات الصينية الأمريكية، لا سيما مع الوضع الخاص الذي تحظى به قضية تايوان في العلاقات بين الدولتين. وبالرغم من عدم اعتراف الولايات المتحدة رسميّاً باستقلال تايوان، اعتادت واشنطن خلال العقود الماضية تأكيد انفتاحها على تايوان، واعتمدت في ذلك على عدة أدوات؛ منها “دبلوماسية الفيزا visa diplomacy” والتي كانت أبرز لحظاتها في عام 1995؛ حينما أصدرت الولايات المتحدة تأشيرة دخول للرئيس التايواني آنذاك “لي تنج هوي”. وقد أثار هذا الأمر حفيظة الصين؛ لأنه كان بمنزلة اعتراف أمريكي ضمني بتايوان، كما أن بكين اعتبرت هذا التصرف تدخلًا في شؤونها الداخلية؛ لأنها ترى تايوان امتداداً لها وجزءاً من أراضيها تسعى إلى إعادة التوحد معه.

6– توظيف الاعتراف لإضعاف الخصوم: ربما يكون الاعتراف الدولي المنفرد –ولو بصورة غير مباشرة، من خلال تقديم الدعم الإعلامي والرعاية للمطالب الانفصالية– واحداً من الأدوات المستخدمة من قبل بعض القوى للضغط على أطراف أخرى وإضعافها. وفي هذا الإطار، يمكن –على سبيل المثال– فهم الدعم التركي المتواصل لجمهورية القبارصة الأتراك التي تعتبر أداة مهمة للضغط على اليونان وإضعافها. ويمكن أيضاً أن توظف موسكو أدواتها الدعائية في الفترة القادمة للتركيز على المشاريع الانفصالية المتعددة في أوروبا، مثل المشاريع القائمة في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، والترويج لها بهدف تصدير المزيد من الضغوط لأوروبا وإضعافها، وكذلك إبعادها عن الانشغال بالدول الواقعة في المجال الحيوي لروسيا. ويعزز هذه الفرضية أن ثمة تقارير أشارت خلال السنوات الماضية إلى تقديم روسيا الدعم الإعلامي للحركات الانفصالية في أوروبا، على غرار الحركات الانفصالية في إقليم كتالونيا بإسبانيا، بالإضافة إلى احتضان موسكو العديد من قوى اليمين المتطرف في أوروبا، وسرديتها التي تسهم في تصاعد المشروعات الانفصالية في أوروبا.

خلاصة القول أن السياسة الروسية في أوكرانيا تؤسس لأنماط جديدة من دول الأمر الواقع، باعتبارها ظاهرة حاضرة في النظام الدولي القائم. ولكن مع ذلك، ستظل قضية الاعتراف الدولي المنفرد بهذا النمط من الدول، قضية إشكالية؛ لأن هذه الدول تراهن على دعم رعاة خارجيين لديهم القدرة على الدفاع عن المناطق الانفصالية، واستخدام الديناميات الإثنية والعرقية في هذه المناطق لتبرير الاعتراف المنفرد بها. والأمر المؤكد هنا أن تكلفة دعم المناطق الانفصالية ستتحمَّلها بنسبة كبيرة الدولة الراعية؛ لأن اعترافها المنفرد بهذه المناطق في خضم الأزمات الدولية والصراع على النفوذ؛ عادةً ما يُقابَل بالرفض من قبل الدول الأخرى المنافِسة.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button