نظرية العلاقات الدولية

تطور اتجاهات المدرسـة الواقعــية في تحليــل العلاقات الدولية

رفت الواقعية منذ ظهورها مسار تطوري أدى إلى ظهور العديد من الاتجاهات داخل المنظور الواقعي، فالبداية الفعلية لظهور الواقعية كانت مع إسهامات Morgenthau فيما عرفت بالواقعية التقليدية ، ثم عدلت الواقعية التقليدية لاحقا نتيجة تحــولات عرفتها بنــية البيئة الدولية ، و أضيفت إليها قطع نظرية جديدة طورتها في شكل الواقعـية الجديدة البنيوية مع Kenneth Waltz ، و إحدى الإسهامات المهمة داخل المنظور الواقعي تمثلت في ظهور التوجهين الهجومي-الدفاعي في إطار ما عرفت بالواقعية النيوكلاسيكية.

الأستاذ: بولمكاحل إبراهيم

(قسم العلوم السياسية – جامعة قسنطينة)

حاولت الواقعية على اختلاف مسمياتها ( تقليدية، جديدة/بنيوية، نيوكلاسيكية)، تقديم تفسيرات مقبولة لما يحدث في العلاقات الدولية، و نقطة الاشتراك بينهم هي القول بتأثير معطيات البيئة الدولية على سلوكات الفواعل الخارجية، غير أن ما يمكن ملاحظته في ما يتعلق بمواقفهم حول طبيعة الفصل ما بين السياسة الداخلية و الخارجية هو اختلاف حدة هذا الفصل، بحيث نجده صلبا مطلقا عند أنصار الواقعية التقليدية و كذلك الجديدة البنيوية مع Kenneth Waltz ، في حين يذهب أنصار الواقعية النيوكلاسيكية إلى تخفيف حدة هذا الفصل، و القول بتأثير المحددات الداخلية للدولة و أهميتها في فهم السلوك الخارجي إلى جانب المحددات الخارجية.
لذا سنحاول من خلال هذا العنصر تبيين هذا الاختلاف في مواقف الواقعيين من قضية الفصل أو الربط بين البيئتين الداخلية و الخارجية .

ينطلق أنصار هذا الاتجاه التنظيري في حقل السياسة الخارجية لتحريك التساؤل الذي يقول: لماذا دول متشابهة المكانة في النظام الدولي تسلك سلوكات متشابهة بالرغم من اختلافاتها الداخلية؟”( ) .
و كذلك الاستفسار حول: ما الذي يبرر الاستمرار في السياسات الخارجية للدول، رغم التبديل الذي يلحق بالزعامات السياسية، أو التحول الذي يصيب نمط الإيديولوجيات المسيطرة، أو نماذج القيم السياسية و الاجتماعية السائدة؟
تصنف الواقعية في دراستهـا للسلوك الخارجي للدول نحو بعضها البعض من المقاربات الفوقية ” top-down approaches “، أي أنها تنظر لسلوك الدول من منظور النظام الدولي كمفتاح لفهم سلوك الدول ، ووفقا لهذه النظرية الحوافز والقيود ، أو معايير السلوك هي خارجة عن أي فاعل، وبالتـالي هي في الأصل نسقية (2).
يعتبر موقف K.Waltz حول قضية الفصل بين الداخل و الخارج امتداد لما ساد قبله عند الواقعيين التقليدين، لذا سنعرج على عرض أهم المنطلقات للنظرية الواقعية التقليدية حتى يتسنى لنا فهم مقترحات الواقية الجديدة لاحقا.

الواقعية الكلاسيكية/ Classical Realism:

ظهرت الواقعية في البداية من خلال شكلها التقليدي مع إسهامات Hans Morgenthau و Carr ، Niebuhr ، و غيرهم من المفكرين الواقعيين الأوائل الذين حاولوا التكيف بفكرهم مع أحداث القرن العشرين التي صاحبتها الكثير من مظاهر الاضطراب و اللاأمن و تفاقم حدة الصراعات والحروب، فجاءت كتاباتهم لتعبر عن ذلك و قد هيمن هذا المنظور على حقل العلاقات الدولية خلال فترة الحرب الباردة.
و تفترض الواقعية أن الشؤون الدولية عبارة عن صراع من أجل القوة بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد (3).
عموما يمكن تلخيص مرتكزات الواقعية الكلاسيكية و تصوراتها حول السياسة الدولية في هذه النقاط(4):
1- استقيت الرؤى الواقعية من الكتابات القديمة لمفكرين مثل: سان تسو، ثوسيديديس، و هوبز.
2- الواقعية صراع من أجل القوة في العلاقات الدولية لأنه لا وجود لقوة فوقية.
3- تعتبر الدول، من المنظور الواقعي، أهم الفاعلين على الإطلاق.
4- تحتاج الدول للأمن (القومي) لحماية مصالحها الوطنية ويدخل ضمن هذا الإطار سعيها لاكتساب القوة.
5- الدول فواعل عقلانيون يسعون لتعظيم الفوائد وتقليص التكاليف المتلازمة مع سعيها لتحقيق أهدافها.
6- تعتبر الدولة فاعل وحدوي لأغراض تحليلية، حيث تواجه الدولة العالم الخارجي كوحدة مندمجة. كرات البليارد” (Billiard-ball ) أي أن دول في تصادم دائم.
اعتمدت الواقعية الكلاسيكية على مفاهيم خاصة لفهم و تفسير مختلف الظواهر المعقدة في السياسة الدولية بما فيها ظاهرة السياسة الخارجية، و تعتبر مفهوم القوة، المصلحة الوطنية، تعظيم المكاسب، المساعدة الذاتية، العقلانية، الفوضى الدولية…من المفاهيم المفتاحية التي اعتمدتها هذه المقاربة لتفسير السلوك الخارجي للدول.
فمنهاج التحليل الذي اعتمده مورغنتو Morgenthau ينظر إلى عملية صنع السياسة الخارجية على أنها – باستمرار- عملية ترشيدية ( عقلانية) Rational، بمعنى أنها لا تخرج عن كونها عملية توفيق بين الوسائل المتاحة وبين الأهداف التي هي ثابتة(5)، لذا فكل سياسة خارجية هي عقلانية لأنها تسعى دائما لتعظيم القــوة و المصلحة الوطنية.
و حينما يتم الاعتماد على مفهوم ” المصلحة القومية ” القائل بأن تحقيق المصلحة القومية للدولة هو الهدف النهائي المستمر لسياستها الخارجية، فإن السياسـة القوميــة تكون هي محور الارتكاز، أو القوة الرئيسية المحركة للسياسة الخارجية لأي دولة من الدول، مما يضمن عددا من المزايا:
أولا: يجرد اعتمادنا على مفهوم “المصلحة القومية” أهداف السياسة الخارجية للدول من التبريرات المفتعلة، أو غير الواقعية.
ثانيا: إن مفهوم “المصلحة القومية” يوضح جانب الاستمرار في السياسات الخارجية للدول، رغم التبديل الذي يلحق بالزعامات السياسية، أو التحول الذي يصيب نمط الإيديولوجيات المسيطرة، أو نماذج القيم السياسية و الاجتماعية السائدة(6).
و في الإجابة عن السؤال : كيف تدير الدولة شؤونها في علاقاتها مع الأمم التي تنافسها؟ يرى بعض الواقعيين أمثال “مورغنتو” أنه على المستوى الدولي، و في ثنايا النظام بين الدول، لن تعثر على قوة أو قانون يضمن النظام و يصون الأخلاق، و أن ما يقع من مظالم للدولة في علاقتها مع غيرها، لن يزال إلا بالقوة، و في ظل النظام الدولي لا يمكن لغير الدولة أن تفعل ذلك، و طالما أن حالة النظام الدولي هي حالة الفوضى و الحرب، فإنه يجب على الدولة أن تتكيف مع معطيات ذلك النظام(7).
فالتحليل الواقعي للظاهرة الدولية لا يعتمد مستوى التحليل الداخلي بما فيه العوامـل المجتمعية و العوامل الثقافية السائدة داخل المجتمع، فهي تحاول إعطاءنا تفسير لسلوك الدولة داخـــل النسق أو المسار الدولي و السياسة الدولية ، و ليس اعتماد سلوكاتها كوحدة منفردة (8).
فالواقعية تفضل التعامل مع سلوكيات الفواعل و الوحدات على أنها نتاج تفاعلات خارجية نابعة من طبيعة السياسة الدولية و نمط التفاعل و شكل العلاقات فيها، و هي بذلك تنطلق من مبـدأ التكافؤ و التشابه في السياسات الخارجية لبعض الدول المتقاربة أو حتى المتشابهة من حيث مكانتها في النظام الدولي رغم الاختلاف الكبير و التباين في المكونات الداخلية لهذه الدول ، و هذا ما لا يترك مجال أمام التفسيرات الجزئية أو الداخلية(9). و يؤكد هذا الفصل التام بين البيئة الداخلية و الخارجية ما ذهب إليه H.Kissinger حينما قال:” تبدأ السياسة الخارجية حينما تنتهي السياسة الداخلية”(10).

الواقعية البنيوية الجديدة/ Neo-Realism

في السبعينيات انتقدت أطروحات الواقعية التقليدية، بسبب منهجيتها السلوكية، التي تمحورت حول سلوك الدولة –العنصر الأساسي في تقديرها- في السياسة الدولية، و أخفقت في استيعاب الواقع الحقيقي على أنه “نظام” له بنيته أو كيانه المميز، و بالغت في تفسيرها للمصلحة، و مفـــهوم القوة، و أغفلت سلوك المؤسسات الدولية، و أطر علاقاتها الاعتمادية في جوانبها الاقتصادية(11).
و بغية تكييف الواقعية التقليدية مع التطورات في السياسة الدولية،ظهرت الواقعية الجديدة و هي اتجاه داخل الواقعية طوره K.Waltz و أطلق عليه اسم الواقعية البنيوية، أثار فيه العديد من الأسئلة الإضافية التي لم تكن الواقعية التقليدية قد عنيت بها(12).
لم تختلف الواقعية في شكلها الجديد عن الواقعية التقليدية في خصوص اعتبار العوامل النابعة من البيئة الخارجية كمحدد رئيسي للسلوك الخارجي للدول، و ذلك انطلاقا من الأساس الذي يؤكد ندرة الأمن و فوضوية النظام الدولي، و من هذا المنطلق فإن جل اهتمام الوحدات السياسية هي كيفية الحفاظ على وجودها.
إذاً، والتز يدافع عن منظور منظومي systémique، بعبارة أخرى، عن رؤية تنطلق من منظومة ما، أي من مجمل المنظومة الدولية التي تفرض طريقة معينة على شكل وحدات المنظومة وتصرفاتها عن طريق مظاهرها الضاغطة والصائغة. إذاً، فالمنظومة الدولية هي بنية تفرض نفسها على وحداتها(13)، يقول والتز بأن: “بنية النظام الدولي هي التي تشكل كل خيارات السياسة الخارجية للدولة(14).
و يتطلع K.Waltz إلى بناء نظريته على افتراض أن الواقعيين التقليديين حددوا موطن الحرب في مستوى واحد من اثنين، أو كلاهما، و هما الفرد، و المجتمع أو الدولة، و الصواب هو وجوب الفصل بين مستوى النظام و وحداته، و يرى K.Waltz أن تاريخ العلاقات، من الحروب الدينية إلى الحرب الباردة، يكشف أن ثمة أنماط و تكرار و انتظام في هذه التفاعلات. و يشير إلى ظاهرة علاقة الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفييتي في نظام توازن القوى، كما عرفته الحرب الباردة، فعلى الرغم من اختلاف البنية السياسية للدولتين، و عدم تطابق الإيديولوجيتين، سلكت القوتان وفقا لأنماط متشابهة في البحث عن نفوذ و تأثير و بسط هيمنة و تحقيق مكاسب، فما هو السر في ذلك؟
و يجيب من خلال دراسته للبنية النظامية على المستوى الدولي، حيث يرى وجود تغييرات على أفعال القوى أشد تأثيرا من تلك النابعة من السياسة الداخلية(15).

و على هذا الأساس يمكن تلخيص أهم مبادئ و مرتكزات الواقعية الجديدة في تفسيرها النسقي للسلوك الخارجي للدول، من خلال النقاط التالية:
أ- الدولة كفاعل أساسي، وحدوي و عقلاني: فالدولة هي الفاعل الأساسي في السياسة الدولية بسبب امتلاكها لوسائل العنف المنظم. خاصة و أن الدول تتجه إلى فهم بيئتها الدوليـة و ليس الداخلية. و هذا ما أشار إليه H.Kissinger حينما قال:” تبدأ السياسة الخارجية حينما تنتهي السياسة الداخلية”(16). ​

شهد العالم مع بداية الثمانينيات تزايدا كبيرا لفواعل جديدة في النظام الدولي، من الشركات المتعددة الجنسية، وكدا المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، مما جعل الواقعية افتراض الواقعية الكلاسيكية أمام وضع يستحيل فيه تجاهل هذا التواجد الأنطولوجي على الأقل (دون النظر إلى مدى فعاليته) لهذه الفواعل الجديدة، لذلك نجد الواقعية الجديدة حاولت التعامل مع هذا النقص في عملية تعديلية ضمت فيه هذه الفواعل واعتبارها جزء في التحليل دون أن تكون ذات فعالة أو استقلالية عن سياسات الدول و أهدافها، وكما يقول والتز” …فعلى مر التاريخ تغيرت الدول في أشكال كثيرة لكن طبيعة الحياة الدولية ظلت هي دوما نفسها صراع و تعاون…”.
أما الأمر الأهم الذي جاء به والتز في هذا الجانب، انه بين أن تفاعل هذه الفواعل من دول ومنظمات وشركات …الخ فيما بينها يشكل لنا فاعل جديد مستقل عن الأطراف المشكلة له، وهو البنية النظام الدولي ، وما يثبت هذا التواجد الأنطولوجي هو الاستدلال على طبيعة هذا النظام الفوضوية التي تؤثر في سلوكيات الدول.
أيضا تعتبر الدول حسب هذا الاتجاه مجرد شخصيات مجازية مزودة بأهداف عقلانية، فالواقعية الجديدة تعتبر من المقاربات التي تعتمد على نموذج الرجل الاقتصادي the model of homo oeconomicus ، في تحديد أهداف الدولة العقلانية، فهي تتصور و تفهم الفواعل كـفواعل أنانية (أو بشكل أعم ، موجهة الأهداف goal-oriented) الأفراد أو المنظمات سلوكاتهم ناتجة عن حسابات عقلانية للتكاليف والفوائد. تتابع الفواعل بوعي و إدراك الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها بأدنى حد من التكاليف. من بين الخيارات السلوكيه فهم يختارون واحد هو الأمثل يفضلونه بالنظر إلى النتائج والعقبات التي يواجهونها. فالواقعية الجديدة تحاول عادة تفسير و توضـيح أهداف الفواعل و رغباتها على أنها خارجية بدلا من كونها ذاتية النشوء(17).

ب- الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي هي التي تحدد سلوك الفواعل:
تنطلق الواقعية الجديدة من القول بأن بنية النظام الفوضوية تفرض على الدول داخل النظام الدول نمط السلوك المتبع في بيئة المساعدة الذاتية و اللاأمن، و الدول في هذه الوضعية تكون مبرمجة للعب دور محدد تمليه إملاءات ترتيبها في سلم القوى الدولي(18).
و تعرف الفوضوية بأنها تعبر عن حالة “غياب الحكومة” على المستوى الدولي. و بالمعنى الرسمي فإنها تشير إلى عدم وجود سلطة مركزية. و بهذا المعنى فإنها بالتأكيد سمة من سمات النظام الدولي وتحدد الإطار الاجتماعي/ السياسي الذي تحدث فيه العلاقات الدولية. و من حيث الظاهر نجد أن منطق الفوضوية حاسم، فالدول هي العناصر الفاعلة الرئيسية الموجودة في بيئة المساعدة الذاتية والتي تكون فيها المعضلة الأمنية ملحة.لذا نجد أن الواقعية الجديدة تسعى للعمل ضمن حدود الفوضوية البنيوية(19).
و التي تظل الدول فيها عاجزة على الثقة في الدول الأخرى، و يبقى هدفها الرئيسي ليس زيادة القوة كما اعتقد الواقعيون التقليديون، بل العمل على حفظ البقاء أو المحافظة على الذات Self-preservation ، و هذا ما يصيغه K.Waltz ، في معادلة أن الفوضى تؤدي إلى الاهتمام بحفظ البقاء، و هذا الاهتمام يؤدي إلى البحث عن المصلحة و القوة و الهدوء(20).

ج- العوامل الداخلية ليست عاملا مهما في السياسة الدولية: يتمسك الواقعيون الجدد بطرح صلب جدا بخصوص فصل السياسة الداخلية عن الخارجية و نفي أية علاقة بينهما، و هذا ما دافع عنه K.Waltz بقوله:
” نظرية العلاقات الدولية تفقد طبيعتها عندما تتدخل الخصائص القطرية للدول كأداة تفسيرية للسلوك الخارجي”(21).
لذا ينفون أية أهمية أو قيمة للعوامل الداخلية في تفسير و فهم السلوك الخارجي للدول، بحيث تختصر السياسة الخارجية ضمن الطروحات النسقية الدولية، باعتبار أن النسق الدولي هو الذي يحدد طبيعة السلوك الخارجي للفواعل الدولية.

إذا يبدو أن الواقعيين و خصوصا واقعية والتز البنيوية تفصل و تنفي أي تأثير و أهمية للسياسة الداخلية في تقديم أطر تفسيرية للسلوكات الخارجية للفواعل.ما دفع البعض لوصفها بـ”النظرية النيواقعية النسقية الصرفة Purely systemic neorealist Theory، و ذلك بسبب نفيها لأي تأثير للعوامل الداخلية على صنع السياسة الخارجية.
غير أن هذه الطروحات الصلبة داخل الواقعية، لم تلقى قبولا من كل الواقعيين، وخاصة أنصار الواقعية النيوكلاسيكية في شقها المتعلق بتصورات الواقعية الدفاعية حول مدى صحة و انحصار تفسير السلوكات الخارجية للدولة في حدود معطيات البيئة الدولية و بنيتها الفوضوية. و هذا ما أدى بالنتيجة إلى انقسام أنصار هذا النموذج التفسيري إلى موقفين وفق معيار تأثير أو عدم تأثير السياسة الداخلية على السياسة الخارجية. و هذا ما سنتطرق له في العنصر الموالي.

الواقعية التقليدية الجديدة / Neo-Classical Realism​
– أهمية العوامل الداخلية عند الواقعية التقليدية الجديدة في تفسير السياسة الخارجية:

بعد النفي التام لتدخل العوامل الداخلية في تفسير السلوك الخارجي، حاولت “الواقعية التقليدية الجديدة” “Neo-Classical Realism” تخفيف حدة الفصل بين البيئتين الداخلية و الخارجية، بحيث قدمت مواقف وصفت بالمعتدلة. لتشكل بذلك مبادرة إيجابية لإعادة النظر في مستويات التحليل المعتمدة في تفسير السلوك الخارجي و إعطاء أهمية للمحددات الداخلية إلى جانب المحددات النسقية.
و تنقسم الواقعية النيوكلاسيكية بدورها إلى ما يعرف بالواقعية الدفاعية و الواقعية الهجومية. فكلاهما يعترف و يقر بدور وتأثير البنية الداخلية و إدراكات صانع القرار على توجهات و أهداف السياسة الخارجية، غير أن هذا لا يمنع من وجود فوارق بينهما، سنحاول تبيينها فيما يلي:

أ- الواقعية الدفاعية: The Defensive Theory أهم روادها : Stephen Van Evara/ Robert Jervis/ Joseph Grieco
تفترض الواقعية الدفاعية أن فوضوية النسق الدولي أقل خطورة، و بأن الأمن متوفر أكثر من كونه مفقودا، و هي بهذا تقدم تنازلا نظريا بتقليصها للحوافز النسقية الدولية، و جعلها لا تتحكم في سلوكات جميع الدول، إنها بدأت تقر بوجود سياسات خارجية متميزة، و بالتالي الاعتراف بالآثار الضئيلة للبنيات الداخلية على السلوك الخارجية(22).
فعندما تكون القدرات الدفاعية أكثر تيسرا من القدرات الهجومية فإنه يسود الأمن وتزول حوافز النزعة التوسعية. و عندما تسود النزعة الدفاعية، ستتمكن الدول من التمييز بين الأسلحة الدفاعية والأسلحة
ذات الطابع الهجومي، آنئذ يمكن للدول امتلاك الوسائل الكفيلة بالدفاع عن نفسها دون تهديد الآخرين، وهي بذلك تقلص من آثار الطابع الفوضوي للساحة الدولية(23)، و بالتالي تخفف من حدة تأثير هذه البنية الفوضوية على سلوكات الفواعل. فالقادة السياسيون لا يحاولون وضع دبلوماسية عنيفة و إستراتيجية هجومية إلا في حالة الإحساس بالخطر، و بالتالي في غياب الأخطار الخارجية، الدول ليس لها دوافع آلية إلى إتباع هذه السياسات العنيفة(24).
و عليه فقد طورت الواقعية الدفاعية فرضياتها لتبين مـن خلالها أثر البنيات الداخلية للدولة في تحديد طبيعة التوجه الخارجي للدول، ففي حالة وجود خطر خارجي، الدولة تجند مجموع القدرات العسكرية، الاقتصادية و البشرية، و إدراك هذا الخطر مرتبط بذاتية القادة السياسيين، الذين يحدون من الوسائل المستعملة إلى الدفاع عن المصالح الحيوية فقط، و أكبر مصلحة حيوية هي الأمن.
إذا يبدو واضحا أن الحديث عن إدراكات صناع القرار، طرح جديد للواقعية الدفاعية، على عكس ما تم تداوله سابقا لدى الواقعية البنيوية لوالتز،فتوزيع القوى و التحولات الدولية مرتبط أساسا بإدراكات القادة الوطنيين، و يؤكدون ذلك انطلاقا من تشبيهات تاريخية و أخرى إدراكية، فدور إدراك الأخطار عند القادة السياسيين هو المؤدي إلى الاستقرار المنتظر حسب الواقعية الدفاعية.
و لقد أتت الواقعية الدفاعية بمصطلح ” الواقعية التعاونية Cooperative Realism “المشجع و المؤكد على فوضى ناضجة عوض فوضى مطلقة، و هذا من أجل تفادي الحرب بوضع سياسات مشتركة لذلك(25). و مع تراجع حالة الفوضى في النظام الدولي، سيتراجع بذلك أهم محدد لتفسير السلوك الخارجي بالنسبة لواقعية والتز و نتجه أكثر فأكثر لإثبات دور المحددات الداخلية في تفسير السلوك الخارجي ( إدراك صانع القرار للبيئة الخارجية).

ب- الواقعية الهجومية: The Offensive Theory أهم روادها: John J.Mearsheimer/ Stephen Walt/ Farid Zakaria
ظهرت الواقعية الهجومية كرد فعل للواقعية الدفاعية، حيث انتقدتها حول المرتكز الأساسي لها في أن الدولة و في إطار الفوضى الدولية تبحث فقط عن أمنها، حيث ترى عكس ذلك بأن الفوضى تفرض باستمرار على الدول تعظيم و زيادة القوة(26)، لذا يعتقدون بتزايد احتمالات الحرب بين الدول كلما كانت لدى بعضها القدرة على غزو دولة أخرى بسهولة(27)، و بالتالي استمرار حالة الفوضى المطلقة.غير أن ما يميز هذا الطرح عن واقعية والتز هو عدم الإقرار بأن تفسير السياسات الخارجية و المخرجات الدولية لمختلف الدول يكون مبنيا على فكرة الفوضى، و هذا ما ترفضه الواقعية الهجومية كعامل واحد، فكما يؤكد ” فريد زكرياء” من أن التركيز على السياسة الخارجية للدول يجب أن يضم المتغيرات الداخلــية و النسقية و التأثيرات الأخرى مخصصة و محددة مظاهر السياسة الدولية التي يمكن تفسيرها بهذه المتغيرات(28).
شكلت هذه المواقف الجديدة بالنسبة للواقعية النيوكلاسيكية، تحولا عميقا لدى المدرسة الواقعية فيما يتعلق بالحدود الفاصلة بين ما هو داخلي و ما هو خارجي. لتفتح المجال أمام ضرورة إعادة النظر حول تأثير المحددات الداخلية في توجيه السياسة الخارجية، و إزالة ذلك الفصل الصلب بينهما.
بالإضافة لهذا فقد شكلت التطورات الجديدة على مستوى التفاعلات الدولية و التطور العلمي الذي عرفته الدول بداخلها، كذلك زيادة الاهتمام الشعبي و الرأي العام بقضايا العلاقات الدولية، و زيادة عدد الدول المستقلة، حيث أدى تنوع هذه الدول الجديدة و اختلاف تركيبتها و بالتالي سلوكياتها إلى فتح مجال الاهتمام لدرس و مراقبة علاقاتها ببعضها البعض(29)، وفق مقاربات جديدة قادرة على استيعاب مختلف المتغيرات المؤثرة في السياسة الخارجية خارج إطار المتغيرات النسقية. إذا و نتيجة لهذه المستجدات لم تعد العلاقات بين الدول، و بالتالي التأثير المتبادل حكرا على المستوى الحكومي، بل تعدى ذلك ليشمل العلاقات و التأثير المتبادل على المستوى المجتمعي و لو بدرجات متفاوتة حسب بنية الدول المعنية. ساهم هذا كله في زيادة الاهتمام الشعبي بالعلاقات الدولية و بالتالي السياسة الخارجية بعد أن كانت وقفا من حيث الاهتمام على قطاعات معينة نخبوية في كل دولة(30).

كل هذا طرح إشكالية القدرة التفسيرية للمقاربات التي حاولت تفسير السلوك الخارجي بالعودة إلى البنية النسقية للنظام الدولي، حتى من حتى من قبل العديد من الواقعيين و على رأسهم Christensen الذي قال بأن: ” الموروث الواقعي يمكن أن يكون له قدرة تفسيرية في وقت ما، و لكن مع ذلك فإن بعض التوجهات الجديدة يمكن تفسيرها بنظريات السياسة الداخلية، مثل الاختلافات الإيديولوجية، الضغوطات السياسية الداخلية، أو حتى الجانب السيكولوجي للقيادات المختلفة”(31). ( ).
و أدى هذا إلى بروز نماذج نظرية تأخــذ بعين الاعتبار مختلف المتغيرات الداخلية في فهم و تفسير السلوك الخارجي، و هذا ما سنعرج على ذكره و التفصيل في جوانبه فيما تبقى من هذا المدخل النظري للدراسة.

المراجع:
1) James D.fearon, Domestic Politics. Foreign Policy and Theories of International Relations, In site internet:HUIT Sites Hosting Johnston / gov2880/fearon.pdf. p 12.
2) Volker Rittberger. “Approaches to the study of Foreign Policy derived from international relations theories”, In site internet: http://www.isanet.or…rittberger.html.
3) ستيفن وولت ،”العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة”،ترجمة: زقاغ عادل و زيدان زياني، نقلا عن موقع: http://www.geocities…/adelzeggagh/IR
4) تاكايوكي يامامورا، “مفهوم الأمن في العلاقات الدولية”، ترجمة: عادل زقاغ، نقلا عن موقع: http://www.geocities…gagh/secpt.html
5) جهاد عودة، النظام الدولي…نظريات و إشكاليات ، (دار الهدى للنشر و التوزيع، مصر، ط1،2005)، ص 30 .
6) المرجع نفسه، ص ص 31- 32.
7) المرجع نفسه، ص 40.
8) جون بيليس و ستيف سميث، عولمة السياسة العالمية، ترجمة: مركز الخليج للأبحاث، (الإمارات العربية المتحدة، ط01، 2004)،ص 245.
9) James D . fearon, , Op.cit, p 297.
10 ) James N.Rosenau, International politics and foreign policy, the free press, New-York, 1969,p 261.
11) جهاد عودة، مرجع سبق ذكره، ص ص 43- 44.
12) المرجع نفسه، ص 44.
13) اكزافييه غيّوم ،ترجمة: قاسم المقداد ،”العلاقات الدولية” ،مجلة الفكر السياسي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب العدد 11-12 مزدوج، دمشق سنة 2003. نقلا عن موقع:http://www.awu-dam.o…kr11-12-004.htm
14) مبروك غضبان، المدخل للعلاقات الدولية، (شركة باتنيت للمعلومات و الخدمات المكتبية، باتنة، الجزائر)،ص 327.
15) جهاد عودة، مرجع سبق ذكره ، ص 44.
16 ) James N.Rosenau, op.cit,p261.
17) Volker Rittberger, op.cit.
18 ) السعيد ملاح،.تأثير الأزمة الداخلية على السياسة الخارجية الجزائرية،مذكرة لنيل شهادة ماجستير علاقات دولية، جامعة قسنطينة،2005، ص 25.
19 ) غراهام ايفانز و جيفري نوينهام ،” الفوضى”، قاموس بنغوين للعلاقات الدولية، نقلا عن موقع: http://elibrary.grc….in/page_1_8.htm
20 ( James D.Fearon, op.cit, p 294.

21 ) Ibid.p 160.
22 ( Giden Rose, “Neoclassical realism and theories of foreign policy”, World politics, vol 51,1998,p p146-149.
23 ) ستيفن وولت ،مرجع سبق ذكره.
24 ) Jean- Jack Roche. Theories des Relation Internationles.5 eme Edition (Editions motchrestien,Paris, 2004)p 62.
25 ) عبد السلام يخلف، محاضرة: التبويب النظري للعلاقات الدولية عند “ستيفن وولت”، (قسم العلوم السياسية ، جامعة منتوري ، قسنطينة، 2004).
26 ) المرجع نفسه.
27 ) ستيفن وولت ،”العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة”،مرجع سبق ذكره.
28 ) John- Mearsheimer. Realism.The Real World And Academia. (University Of Chicago, 2000)p 01.
29 ) ناصيف يوسف حتي،النظرية في العلاقات الدولية، (دار الكتاب العربي. بيروت، ط1،1985).ص 192.
30 ) المرجع نفسه ،ص193.
31 ) Giden Rose, op.cit, P 156.​

5/5 - (1 صوت واحد)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى