الدبلوماسية و المنظمات الدوليةنظرية العلاقات الدولية

تطور الدبلوماسية

كان الهدف العام للدبلوماسية القديمة هو الاستقرار الأوروبي وليس المساواة العالمية ، وقد تحقق هذا الهدف من خلال الاتفاق الأوروبي عام 1815 الذي حقق لأوروبا مائة عام تقريباً من السلام ، وكان أبطال هذا الإنجاز هم رجال الدولة الدبلوماسيين مثل بسمارك ومترينخ وكاسترو. غير أننا يجب أن نلاحظ أن هذه المائة عام من السلام قد قامت في ظروف اسثنئاية ونتيجة لسياسة توازن القوى ووجود شبكة من المصالح المتبادلة في التجارة، كما كان عدد الفاعلين في المسرح الدولي قلة، وقدم لهم صغر القارة الأوروبية فرصة التفاعل السريع حيث زادت الإلفة بين رجال الدولة والسفراء والتي تجاوزت الحدود القومية ومع بلاطهم الملكي الذي كان نشطاً بشكل خاص في الدبلوماسية كون رجال الدولة والدبلوماسيون مجتمعاً ارستقراطياً تجاوز القوميات .
غير أنه ومع مطلع القرن العشرين بدا أن النظام الدولي سوف يتميز بالاضطراب العنيف لا بالتناسق والاستقرار، فقد أزاحت الحرب الأولى أربع امبراطوريات كبرى من القوى السبع التي كانت على المسرح الدولي، وكان على الدبلوماسية التقليدية في جوهرها أن تهيئ نفسها وتتكيف مع عصر ثوري جديد وكان التجديد الحاسم في هذا العصر هو إنهاء الاحتكار الأوروبي نتيجة لدخول الولايات المتحدة في المجموعة الصغيرة للأعضاء الكبار في المجتمع الدبلوماسي.
وقد توافق مع هذا التطور بدء تعرض الدبلوماسية القديمة او التقليدية وأساليبها لهجوم مستمر منذ الحرب العالمية الأولى واستمر هذا الهجوم الذي صحبته تطورات جذرية في البيئة الدولية حتى كادت الدبلوماسية القديمة أن تنبذ منذ نهاية الحرب الثانية. ويلخص “هانز مورجانثو” الحجج التي استند عليها الهجوم على الدبلوماسية القديمة في :
1- أنها مسؤولة عن الكوارث السياسية التي حاقت بالبشرية خلال الحقب التي سيطرت فيها أساليبها، والمنطق يقول إن الأساليب التي ثبت عدم صحتها يجب أن تستبدل.
2- أن الدبلوماسية التقليدية إنما تتعارض مع مبادئ الديموقراطية لذلك كان على الدبلوماسية أن تكون مفتوحة ومعرضة للفحص في كل عملياتها.
3- أن الدبلوماسية التقليدية بشكلياتها غير ذات جدوى ومضيعة للوقت ومتعارضة بمساوماتها مع المبادئ الأخلاقية.
أما العوامل الحاسمة التي أدت إلى تراجع الدبلوماسية القديمة ونشوء الدبلوماسية الجديدة فكانت نتيجة لثلاثة تطورات رئيسية : التغيير الذي لحق بتكوين الأسرة الدولية، طبيعة الاهتمامات الدولية ومن ثم أهداف العملية الدبلوماسية ، وأخيراً ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وهي موضوع بحثنا.
• مشكلة البحث:
تتمثل مشكلة البحث في معرفة اثر تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على مهام البعثات الدبلوماسية ودورها في تأسيس العلاقات بين الدول ، حيث كان لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دورا في ترابط وتشابك العالم وتقليص الاعتبارات الجغرافية السياسية للدول الى حد كبير ، ويمكن تلمس ابرز معالم هذا التطور الذي شهدته العلاقات الدولية والدبوماسية بما يلي :
1- أن العلاقات الدولية في عصر (المعلو اتصالات) تتسم بسيادة المعرفة والتقدم التكنولوجي وبما أن المعلومات والمعرفة لا تعترفان بحدود سياسية سيادية للدول فان ادارة العلاقات الدولية تأخذ هذا الامر بالاعتبار وتدار باساليب تتجاوز قيود الفرضيات الدولية التي سادت ابان مرحلة الحرب الباردة.
2- لم يعد بامكان الدول الحديث عن السيادة الاعلامية والتحكم في عملية تدفق المعلومات إلى داخلها والعمل على تشكيل عقول ابناء شعبها وضمان ولائهم التام لصالحها ، أما الان ومع تعاظم فرص الاتصال عن طريق شبكات المعلومات والاتصالات ظهر ضعف الدول في امكانية التحكم على نوع وكم المعلومات بالتالي ضعف قدرة الدول على تصريف شؤونها الخارجية وعلى علاقاتها مع الدول الاخرى.
3- انتشار ثقافة التغريب والميل نحو الاعجاب بثقافات الغرب في (العنف والجنس والشهرة والثروة والقوة وقيم الاستهلاك والوفرة الفردية والانانية) وانحسرت قيم الانتاج والتقشف وروح الجماعة مما اثر على دور الدول في تنمية عقول ابناء شعبها وضعف ايدولوجياتها الشعبية الوطنية أو الدينية .
4- اسهمت الثورة التكنولوجية في احداث التوحد على النطاق العالمي وفق مصلحة الدول الصناعية (المركز) فهي تتسبب في مزيد من التفكك واللامركزية على النطاق المحلي والداخلي للدول.
5- بروز دبلوماسية الاقمار الصناعية والاعلام الكوني في نشر الاخبار والصور مصحوبة بالجمالية والالوان والاثارة والغبن مما تسببه من حرج وضغط للقنوات الرسمية المعتمدة من قبل الدول في ادارة شؤونها الداخلية. حتى أن هذا النوع الجديد في الاعلام الفضائي يسبب للدول شعورا بالقلق والارباك لانها لم تعد قادرة على التحكم الاعلامي والخبري الداخلي وميل ابناء شعبها للثقافات الخارجية المثيرة والمؤثرة.
6- اختراق القنوات الدولية لحدود السيادة الدولية وتراجع مفهوم (السيادة الوطنية) وبعد انتشار الثقافة التلفزيونية المعتمدة على الاقمار الصناعية ، وبالتالي فان الدول سوف تفقد سيطرتها على تدفق المعلومات والاتصالات ذات الطابع الدولي الذي له اثر سلبي مباشر على تماسك الشعب وولائه لدولته التي يقطنها وينتمي اليها. تحت شعارات ترسيخ الثقافة العالمية وترسيخ قيم المعرفة العلمية ونزع مجتمعات الاطراف من ثقافاتها الوطنية.
7- أن قدرة التكنولوجيا الكونية في تهميش دور الدولة – الحكومة على فرض سيطرتها على ابناء شعبها يناظره تهميش لدور الدولة في الحياة الاقتصادية باتجاه افقارها وتدني عائداتها وتراجعها في اداء واجباتها المتعلقة بصيانة امنها القومي ودفاعها الوطني وبروز الرغبة المتزايدة لدى بعض القوى الدولية المهيمنة على الوضع الدولي الجديد إلى اداء ذلك الدور نيابة عن الدول مقابل قدر عال من الكلف المادية بالاضافة إلى تعزيز مستلزمات هيمنتها العالمية وضمان مصالحها الدولية.
فهل الدول قادرة على الثبات والديمومة باستيعاب اسرار ثورة (المعلو اتصالات) ؟ وهل أن هذا الامر يدعوها إلى الانغلاق على الذات بل التعامل مع التكنولوجيا الدولية الجديدة باستفادة من مزاياها المتعددة والا فان (عالم جديد سيظهر إلى الوجود) على انقاض الدولة الوطنية التي رسمت اركانها معاهدة ويستفاليا عام 1648 لرسم معالم علاقات دولية جديدة!
• متغيرات البحث:
تحدد مشكلة البحث متغيرين تفترض وجود علاقة بينهما. الأول وهو المتغير الأساسي المتمثل بالعلاقات الدبلوماسية وتطورها ونشوء الدبلوماسية الحديثة وأبعادها الاقتصادية ، الاجتماعية ، السياسية والثقافية الجديدة . والمتغير الثاني هو ثورة تكنولوجيا المعلومات والإتصالات حيث سينصب البحث على دراسة الأثر الذي سيحدثه هذا المتغير بالمتغير الأساسي الأول .
• أهمية البحث:
تبرز أهمية مشكلة البحث في أنها تلفت النظر الى دور ثورة الاتصالات والمعلومات التي جاءت لكي تحدث تغييراً نوعياً في ظهور الدبلوماسية الحديثة. فالثورة التكنولوجية في مجال النقل والاتصالات أصبحت تسمح بإجراء اتصالات طويلة ومشاورات بالبرقيات والفاكس والخط الساخن الذي يربط بين الرؤساء خاصة ، وأصبح من الممكن عقد مؤتمرات وحوارات عبر الاتصالات السلكية واللاسلكية والأقمار الصناعية ومكن هذا المتفاوضين وهم على مائدة المفاوضات من الاتصال بعواصم بلادهم والحصول على التوجيهات من صناع القرار في عواصمهم . كما كان لثورة المعلومات وسرعة نقلها عبر الشبكات والقنوات التلفزيونية تأثيراً حاسماً على عمل الدبلوماسي وكمية ما هو متاح له من أخبار ومعلومات وتقييمات وجعله في مركز الأحداث العالمية وهو في مكتبه وجعله هذا في سباق مع الزمن لكي يلاحق هذه الاحداث ولا يتخلف عنها.
• أهداف البحث:
يهدف البحث الى التركيز على العلاقات الدولية من خلال البعثات الدبلوماسية وإبراز أثر العولمة والاتصالات بأبعادها المختلفة عليها لتحقيق التالي :
– التعريف بالدبلوماسية الحديثة : المفهوم ، المعوقات وعلاقتها بالسيادة . وتأثير العولمة على العلاقات الدولية والعمل الدبلوماسي .
– التعريف بالسيادة الوطنية بعد تعزيز التشابك الاقتصادي والأمني لمختلف الدول ، وتغير الأجندة السياسية الدولية ، والتغيير الذي رافقه في مصالح الدول على الساحة الدولية وتبدل إمكانيات وسائل تنفيذ سياستهم الخارجية.
– توضيح أثر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على مفهوم “قوة الدولة” والتتغير الحاصل من الاعتماد على القوة العسكرية إلى الاعتماد على تطوير الموارد المالية والاقتصادية والمعلوماتية والفكرية للدولة.
– دور القانون الدولي العام في ظل هذا التطور الغير محصور للعلاقات الدولية في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات .
• فرضيات البحث:
يفترض البحث وجود علاقة اقتران بين العلاقات الدبلوماسية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات . بمعنى أنه كلما زادت مظاهر تكنولوجيا الاتصالات أثر ذلك سلباً على دور البعثات الدبلوماسية التقليدي وزاد من فرصة عولمة العلاقات الدولية .
فلم يعد يقتصر دور الدبلوماسي بممارساته التقليدية من حفلات ومآدب عشاء وغذاء واستقبالات أو بكتابة التقارير والتحليلات والتنبؤات ، إنما أصبح الدبلوماسي اليوم هو الذي يدير وينسق نطاقا عريضا من النشاطات والاهتمامات العريضة للبلد المعتمد فيه وبحيث يمكن القول ان الدبلوماسي الحديث يجب ان يتوقع معالجة كل مظاهر الحياة البشرية إذ أن كل مظهر للوجود البشرى أصبح اليوم تقريبا له بعض الأبعاد الدولية ، الأمر الذي جعل من الدبلوماسية التي كانت يوما ما عملا بسيطا عملية معقدة ليس فقط نتيجة للعدد المتزايد من المشكلات والقضايا المعقدة والمتشابكة التي تواجه الدول والمجتمع الدولي وإنما أيضا نتيجة للعدد المتزايد من الدول.
وقد فرضت هذه المهام الجديدة على الأجهزة الدبلوماسية أن تعيد تنظيم هياكلها وأولوياتها بحيث أصبحت الإدارات والأقسام التي تعالج هذه القضايا لها الأولوية على غيرها من الإدارات التقليدية التي تعالج القضايا السياسية ، وانسحب هذا على الأفراد الذين يتولون هذه المهام ، واصبح هناك تنافس بين أعضاء الأجهزة الدبلوماسية على العمل والتخصص في هذه الأنشطة الجديدة والتي أصبحت تتطلب ثقافة وتكوينا جديدا ، وأصبح ترتيب حضور هذه المؤتمرات وكذلك احتمال تنظيمها موضوعيا وإداريا وفنيا من أهم ما يشغل وزارات الخارجية والتي تتولى مسؤولية هذه المؤتمرات الدولية التي تعقد في بلادها حتى تلك التي تعالج قضايا بعيدة عن القضايا السياسية التقليدية سواء من حيث المشاركة الدولية فيها أو من الناحية التنظيمية ، وإعداد الكوادر الفنية اللازمة : السكرتارية ، الترجمة ومصاحبة الوفود الزائرة.. الخ.
• منهج البحث:
يعتمد البحث في فحص الفرضيات المناهج التالية :
المنهج القانوني : لما كانت طبيعة الدراسة بالأساس تستند الى قواعد القانون الدولي المنظم للعلاقات الدبلوماسية الثنائية سواء اتفاقية فيينا لعام 1961م الخاصة باتفاقية العلاقات الدبلوماسية للدول ، أو لاتفاقيات عام 1975م الخاصة بالمنظمات الدولية ، أو لبعض أحكام اتفاقية فيينا الثانية لعام 1963م الخاصة بالعلاقات القنصلية ، فان استخدام المنهج القانوني في تحليل وتفسير النصوص القانونية الواردة بصلب موضوع العلاقات الدبلوماسية والتمثيل الدبلوماسي، يصبح أمرا في غاية الأهمية لهذه الدراسة ، فضلاً عن ذلك فان أهميته تكمن أيضاً في ضرورة إيجاد التكيّف القانوني لعملية لدور العلاقات الدبلوماسية في بناء العلاقات الدولية في إطار القانون الدولي العام ، بهدف الوصول الى مقارنة ومقاربة بين تفسير تلك النصوص على أرض الواقع من جهة ، والممارسة الدبلوماسية السائدة في التطبيق الدولي من جهة أخرى .
المنهج التاريخي : و ذلك لحصر الأحداث وضبط دوافع التطور و النتائج المترتبة عليها .
المنهج الوصفي : من خلال معرفة أهم الصفات المميزة للدبلوماسية والعلاقات الدولية ، وفي ذات الوقت الصفات المميزة لعصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات .
المنهج الأحصائي : من خلال استبيان يتضمن العديد من التساؤلات حول تأثير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على دور البعثات الدبلوماسية سيوزع على كافة البعثات التمثيلية في بكين لتقديم إجابات واقعية وعملية تكون أساساً لتنبؤات ونتائج البحث.
المنهج التحليلي : وذلك لتحليل الظواهر المترتبة على الثورة التكنولوجية ومحاولة استشراف الرؤية المستقبلة لتأثيرها على مهام البعثات الدبلوماسية و بالنتيجة على العلاقات الدولية .
تنظيم محتويات البحث :
تم تقسيم البحث الى فصل تمهيدي ، إضافة الى ثلاثة فصول رئيسية على النحو التالي :
الفصل التمهيدي : العلاقات الدبلوماسية بين الأصول النظرية والتاريخية :
المبحث الأول : مفهوم العلاقات الدبلوماسية في إطار القانون الدولي العام .
المبحث الثاني : واجبات وحقوق البعثات الدبلوماسية الدائمة .
المبحث الثالث : التطور التاريخي للعلاقات الدبلوماسية .
الفصل الأول : الدبلوماسية الحديثة :
المبحث الأول : مفهوم الدبلوماسية الحديثة وأسباب نشوءها .
المبحث الثاني : أشكال ومعالم الدبلوماسية الحديثة :
أولاً : الدبلوماسية الشاملة .
ثانياً : الدبلوماسية الترابطية .
ثالثاً : الدبلوماسية المتعددة .
المبحث الثالث : العلاقات الدولية في ظل الدبلوماسية الحديثة .
الفصل الثاني : تكنولوجيا المعلومات والإتصالات في العلاقات الدولية :
المبحث الأول : أشكال وظواهر تكنولوجيا المعلومات والإتصالات .
المبحث الثاني : آلية تأثير ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على مهام البعثات الدبلوماسية .
المبحث الثالث : آلية تأثير ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على العلاقات الدولية .
وفي هذا الفصل أيضاً أفردت مبحثاً خاصاً لواقع البعثات التمثيلية في جمهورية الصين الشعبية ، وهو الرابع تحت عنوان ( أثر ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على العلاقات الدولية الدبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية وعلى مهام البعثات التمثيلية في بكين )
المبحث الرابع : أثر ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على العلاقات الدولية الدبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية وعلى مهام البعثات التمثيلية في بكين .
الفصل الثالث : دور القانون الدولي العام في تنظيم العلاقات العلاقات الدبلوماسية الحديثة .
المبحث الأول : التنظيم القانوني لمجال المعلومات والاتصالات .
المبحث الثاني : التنظيم القانوني للعلاقات الدبلوماسية الحديثة .
الخاتمة :

أولاً : النتائج والتنبؤات لمستقبل العلاقات الدبلوماسية في ظل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات .
ثانياً : التوصيات .
المراجع والمصادر
أ – المراجع الاساسية :
أولاً : الوثائق
ثانياً : الدوريات
ثالثاً : الكتب
ب – المراجع الثانوية : –
اولاً : الرسائل الجامعية :
ثانياً : منشورات المؤسسات :
ثالثاً : الصحف :
رابعاً : المواقع الإلكترونية :
العلاقات الدبلوماسية متعدِّدة الأطراف
تختلف بالطبع الدبلوماسية الثنائية عن الدبلوماسية متعددة الأطراف ، ولعل أن أو ما يلفت الانتباه إلى الاختلاف بينهما ، ان الأولى تتم بين الدول فقط ، بينما الثانية تتم بين الدول والمنظمة الدولية ودولة المقر أو الدولة المضيفة ، أي أنها علاقة ثلاثية الترابط ، بيد أن الاختلاف والفروق بينهما أكبر من ذلك بكثير وتُسقط مباشرة على مختلف تفاصيل العلاقة البينية ، وعلى النحو التالي:
أولا : في الدبلوماسية الثنائية تتمثل العلاقة بين دولتين ، الدولة الموفدة والأخرى المستقبلة ، بينما في الدبلوماسية متعددة الأطراف تأخذ العلاقة أبعاد ثلاثية بين الدولتين الموفدة والمستقبلة من جهة ، والمنظمة الدولية من جهة ثانية .
ثانياً : في الدبلوماسية الثنائية لا بد من موافقة كل دولة على رئيس البعثة وباقي أعضاء البعثة الدبلوماسية عن طريق الاستمزاج مسبقاً واعتماده قبل الوصول الى الدولة المستقبلة ، بينما في دبلوماسية المنظمات الدولية لا يوجد مثل هذا التقليد او الوضع القانوني سواء بالنسبة للموظفين الدوليين التابعين للمنظمة او بالنسبة للبعثات الدبلوماسية المعتمدة لديها من قبل الدول، من منطلق ان هذه البعثات ممثلة للدول لدى المنظمة وليس للدولة المضيفة ، رغم تمتعهم بجملة ضمانات دولية تمنح لهم من المنظمة نفسها وعلى حساب سيادة دولة المقر أو الدولة المضيفة .
ثالثاً : من حق الدولة في التمثيل الدبلوماسي الثنائي أن تعلن شخصاً ما شخص غير مرغوب فيه او تقوم بطرده أو طلب سحبه من عضوية البعثة ، بينما –نظريا- لا يتم ذلك في علاقة الدولة مع المنظمة الدولية ، حيث لا تملك دولة المقر او الدولة المضيفة حق طرد او طلب سحب عضو من أعضاء البعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى المنظمة إلا من خلال المنظمة نفسها .
رابعاً : في الدبلوماسية الثنائية تطبق الدول مبدأ المعاملة بالمثل بينهما ، بينما ليس لهذا المبدأ أي دور في العلاقة غير المتكافئة بين الدولة والمنظمة الدولية ، والسبب أن الدولة تملك سلطة تطبيق ما تشاء ويقرره أمنها الوطني على مختلف أجهزة المنظمة الدولية المادية والبشرية ، بينهما المنظمة لا تملك سلطة فعلية –وليس قانونية- للرد بالمثل مقارنة بالدولة صاحبة السيادة والإقليم .
خامساً : وثمة فرق أخر يتمثل في معيار الأسبقية في التمثيل ، إذ في الدبلوماسية الثنائية تكون الأسبقية محددة بمعيار زمني (ساعة وتاريخ وصول رئيس البعثة إلى الدولة المستقبلة أو وقت تقديم أوراق اعتماده ) ، بينما في نطاق الدبلوماسية متعددة الأطراف يكون المعيار ثابت ومحدد في الترتيب الهجائي لأسماء الدول وفقا للنظام الجاري العمل به في المنظمة .
سادساً : في الدبلوماسية الثنائية يكون التمثيل أحادي من كلا الجانبين ، بمعنى ان البعثة بطاقمها البشري جزء واحد في تمثيل مصالح الدولة ، بينما في دبلوماسية المنظمات الدولية تكون الدولة ممثلة بواسطة بعثة دبلوماسية دائمة (لدى) المنظمة ، ويكون لها في نفس الوقت عضوية ممثلة (في)([1])المنظمة من خلال مشاركتها ممثليها في نشاطات أجهزة المنظمة الفرعية، وربما يكون من ذات الدولة موظفين دوليين تابعين للمنظمة ومستقلين في عملهم وارادتهم تبعاً لاستقلال وارادة المنظمة الدولية ، مثل الموظفين المصريين في جامعة الدول العربية في القاهرة ، والموظفين الأمريكيين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك .
سابعاً : الجهاز البشري للدبلوماسية الثنائية بين الدول يتكون من الدبلوماسيين والموظفين الفنيين والإداريين والملحقين ، وهم بالغالب الأعم من أبناء الدولة الموفدة ، بينما يشمل الجهاز البشري تبعا لعلاقات المنظمة ، وكما أشارت إلى ذلك اتفاقية امتيازات وحصانات منظمة الأمم المتحدة لعام 1946.
المتغيرات التي تطرأ على العلاقات الدبلوماسية بين المنظمة والدول الأعضاء
إن العلاقة بين المنظمة الدولية والدول الأعضاء فيها –أو غير الأعضاء- قد تأخذ في بعض الأحيان صورة من صور النزاع والتوتر بينهما ، إذ لا يمكن إغفال النزاعات التي تحصل داخل المنظمات الدولية ، والتي قد تثور بين عدد من الدول الأعضاء أو بينها وبين أحد أجهزة المنظمة ، أو بينها وبين المنظمة ذاتها .
وتعود أسباب النزاع بين الطرفين الى أسباب عديدة ومتنوعة ، منها ادعاء الدولة أن المنظمة أو أحد فروعها قد تعدت حدود اختصاصها أو أن النشاط الذي تمارسه المنظمة أو أحد فروعها وان كان يدخل في صميم عملها إلا انه تنقصه التكييف القانوني اللازم لصحته ، وربما كذلك يأتي النزاع من جانب المنظمة ذاتها أو أحد أجهزتها ، إذ ترى أن الدولة المعنية لم تقم باحترام التزاماتها الدولية المترتبة عليها([2])، أو أنها لم تلتزم بالمبادئ الدولية التي أشار إليها الميثاق وعملت على تهديد الأمن والسلم الدوليين.
وعليه ، فان أي توتر أو نزاع ينشأ بين المنظمة والدولة لا يستوجب رد حاسم في “طرد” الدولة من عضوية هذه المنظمة لمجرد التنازع حول قضية معينه ، فهناك عوامل ومتغيرات عديدة تطرأ على علاقات الطرفين وتدفع بهما الى حافة الهاوية لأسباب كثيرة ، لكنها حتماً لا تؤدي دوما الى استخدام ورقة “الطرد” بإرادة الدول الأعضاء إلا في الظروف الاستثنائية التي يعتبر استمرار وجود الدولة عضواً في المنظمة والسكوت عن سلوكها وتصرفاتها تهديداً لأمن وسلامة العلاقات الدولية ، لذا يجب هنا التمييز بين إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف من جانب المنظمة الممثل في حالة “الطرد” ، وبين متغيرات أخرى تلجأ إليها المنظمة كنوع من العقاب أو الجزاء للدولة ، ومنها تجريد الدولة من مهمة أوكلتها إليها مسبقاً أو وقف المزايا والحصانات التي تتمتع بها ، أو توقيع عقوبات اقتصادية وتجارية عليها بعد إقرار الدول الأعضاء على ذلك كنوع من التأديب الجماعي لانتهاك الدولة المعنية ميثاق المنظمة أو تهديد الأمن والسلم الدوليين ، أو إصدار قرار من المنظمة لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول الأعضاء ودولة معينة.
وقد تنشأ في بعض الأحيان جملة من الظروف أو المتغيرات التي تعكر صفو العلاقات بين المنظمة الدولية والدول الأعضاء فيها ، والتي يترتب عليها لجوء المنظمة الى نظام الجزاءات التي تطبقه على الدولة العضو –وأحيانا غير العضو- بهدف تصويب الوضع بصورة ترضي ميثاق المنظمة والدولة الأعضاء فيها ، وتتمثل أهم هذه المتغيرات في :
تجريد الدولة العضو من مهمة معينة أُوكلت لها مسبقاً .
وقف حق الدولة بالتمتع بالامتيازات والحصانات الخاصة بعضويتها .
فرض عقوبات اقتصادية وتجارية على الدولة .
الحرمان من حق التصويت .
تخفيض حجم البعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى الدول أو المعتمدة لدى المنظمة الدولية.
قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة ما بناءاً على قرار من المنظمة الدولية .
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف
بخلاف التمثيل الدبلوماسي الثنائي ، فان الدبلوماسية متعددة الأطراف تمتاز بحالات قليلة لجأت فيها الدول إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية أو إنهاؤها –الانسحاب- مع المنظمات الدولية ، وذات الشيء بالنسبة لدور المنظمة في قطع أو إنهاء العلاقات الدبلوماسية –الطرد- مع الدول ، وربما يعود ذلك إلى قصر عمر المنظمات الدولية التي لا تتجاوز بداية القرن المنصرم ، ولكن ما يمكن إعادة تأكيده في هذا الصدد ، أن فعالية المنظمة في مجال قطع او إنهاء علاقاتها مع الدول الأعضاء او في فرض عقوبات معينة طبقاً لميثاق واتفاقية المنظمة تخضع دوما لارادة الدول الأعضاء ، لذا قلما ما تسعى المنظمة إلى قطع او إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع الدول ، طمعاً منها في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وفي الحيلولة دون زيادة التوتر بين الدولة المعنية بالإساءة إلى المجتمع الدولي وباقي الدول الأعضاء في المنظمة ، بينما يحفل تاريخ العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف بحالات عديدة لجأت فيها الدول أو هددت بالانسحاب لسبب ما ، إما كوسيلة للضغط باتجاه أمر يعينها أو للاحتجاج والاعتراض على سياسة معينة ، وربما لدفع المنظمة لتقوية وزيادة فعالية عملها والدفع عن حقوق أعضائها بجدية أكبر والالتزام بالسياسات والمبادئ التي قامت على أساسها المنظمة الدولية .
وبغض النظر عن آلية إنهاء العلاقات الدبلوماسية سواء بإرادة الدولة أو بإرادة المنظمة الدولية ، فان هذه العملية تتميز بأربعة خصائص رئيسية وهي ([3]):
عمل انفرادي تلجأ إليه المنظمة (الطرد) أو الدولة (الانسحاب) بمحض إرادتها .
عمل خاضع للسلطة التقديرية للمنظمة أو الدولة المعنية .
وعمل لاحق يتم اللجوء إليه بعد اكتساب الدولة لصفة العضوية .
يترتب عليه إنهاء كامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين ، فلا الدولة تصبح عضوا في المنظمة ، ولا الأخيرة يحق لها تطبيق مبادئ ميثاقها على الدولة .
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف بإرادة المنظمة الدولية (الطرد)
ولعل أن العقوبة الأشد التي تملك المنظمة الدولية اتخاذها بحق دولة ما انتهكت ميثاق المنظمة وخالفت قوانين وأعراف العلاقات الدولية ، هي إعلان طرد الدولة من عضوية المنظمة ، فكما هذا التصرف القانوني الذي تملكه المنظمة مؤشر على جسامة وفداحة الخطأ الذي ارتكبته الدولة ، فهو مؤشرٌ أيضاً على حجم النزاع والتوتر الذي أصاب كبد العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف ، خاصة بين الدولة والمنظمة الدولية ذاتها ، إذ يكون بذلك قد بلغ الطرفين حد إنهاء العلاقات الدبلوماسية بينهما ولكن بإرادة المنظمة نفسها ، دون أن يشمل ذلك رغبة متبادلة من الدولة المعنية .
ويمكن إدراك أهمية هذا المنحى الخطير على العلاقات الدبلوماسية بين الدولة والمنظمة من خلال استعراض معظم دساتير ومواثيق المنظمات الدولية التي حرصت على إدراجه في نصوصها وأنظمتها بهدف تحذير الدول من مغبة القيام بعمل ما يهدد أمن وسلامة الدول الأعضاء أو ينتهك الأسس التي قامت عليها هذه المنظمة أو تلك .
فالمادة السادسة من ميثاق الأمم المتحدة تشير إلى ما يلي([4]): “وإذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق ، جاز للمنظمة أن تفصله من الهيئة بناءا على توصية من مجلس الأمن” .
وعليه فان يشترط لتوقيع عقوبة الطرد أو الفصل أمران : الأول : أن يكون العضو المعني قد أمعن في مخالفة مبادئ الميثاق ، ويلاحظ أن الإمعان هنا جاء بمعنى أن يكون الفعل الذي ارتكبته الدول لا يدخل في نطاق المخالفات البسيطة أو العادية بل يجب أن يكون فيه خرق واضح لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والتي تراعي على حفظ الأمن والسلم الدوليين ، وحل المنازعات الدولية بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة العسكرية إلا في حالة الدفاع عن النفس ، والثاني : أن يصدر قرار الفصل أو الطرد من الجمعية العامة بأغلبية الثلثين بناءاً على توصية من مجلس الأمن .
وطرد دولة ما من الأمم المتحدة يعني فيما يعنيه طردها وفصلها من مختلف الوكالات أو الأجهزة المتخصصة التابعة لها ، فعلى سبيل المثال يشير ميثاق منظمة اليونسكو في الفقرة الرابعة من المادة (2) الى أن طرد دولة عضو في الأمم المتحدة يؤدي تلقائيا الى طردها من منظمة اليونسكو([5]).
وبالانتقال الى جامعة الدول العربية –كمنظمة دولية إقليمية- يجد الباحث أن موضوع الطرد أو الفصل أشارت إليه المادة (18) من ميثاق الجامعة ، إذ نصت على ما يلي ” لمجلس الجامعة أن يعتبر أية دولة لا تقوم بواجبات هذا الميثاق منفصلة عن الجامعة ، وذلك بقرار يصدره بإجماع الدول عدا الدولة المشار إليها”([6]).
ويلاحظ أن جامعة الدول العربية فشلت في تطبيق هذا النص بحذافيره على الدول التي خرقت ميثاق الجامعة ، فهي لم تستطع فعل شيء حيال مصر عند توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1979م ، واكتفت على توقيع عقوبة “تجميد” عضويتها في الجامعة ، ونقل مقر الجامعة من القاهرة الى تونس ، وقد ردت مصر على هذا الإجراء بقولها أن تجميد العضوية غير وارد في ميثاق جامعة الدول العربية ، وأن المادة المعنية أشارت فقط الى عقوبة الطرد وإنهاء العلاقات بإرادة المنظمة ، ولم تنص أو تشير الى هذا الجزاء صراحة ، وهو جزاء أخف وطأة من الفصل أو الطرد أو إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الجامعة ذاتها، وقد استمر تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية مدة عشر سنوات تقريبا ، أي حتى مؤتمر القمة العربي الطارئ في الدار البيضاء بالمغرب في أيار من عام 1989م([7]).
وكذلك لم تدفع باتجاه تطبيق هذا الجزاء أو إنهاء العلاقات بإرادتها مع العراق عام 1990م عند احتلاله لدولة الكويت ، بحجة أن تبقي النزاع الدائر بين أعضاء الجامعة –خاصة دول مجلس التعاون الخليجي- والعراق في دائرة جامعة الدول العربية وعدم تدويل الموقف الى حلبة الصراع الدولي وللحيلولة دون تدخل القوى الكبرى وإفشال الجهود العربية في نزع فتيل الأزمة ، وهو خلاف كل ما حصل بعد ذلك .
ويمكن إيجاد هذه العقوبة والحالة لإنهاء العلاقات الدبلوماسية مع الدولة بإرادة المنظمة الدولية في ميثاق منظمة الأوسيد ، والتي أشارت الى ما يلي([8]): “يجب أن تُعلم المنظمة الدولة العضو التي ارتكبت مخالفة لمبادئ واهداف المنظمة بأنها قامت بتصرف غير مشروع ، وتمنحها فترة لتصويب أوضاعها ، وبعد انقضاء هذه الفترة وإذا لم تنصاع يتم طرد الدولة المخالفة” .
يبقى القول ، أن تقرير منظمة دولية ما على إيقاع عقوبة الفصل أو الطرد لدولة معينة خالفت وأمعنت في انتهاك مبادئ الميثاق وهددت الأمن والسلم الدوليين ، لا يعني إنهاء شامل وكامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين ، خاصة وأن إرادة المنظمة الدولية في عملية الإنهاء جاءت لظرف محدد بموجبه قررت اللجوء إلى فصل الدولة أو إنهاء علاقاته الدبلوماسية والودية معها ، ولكن ذلك لا يحول دون عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما بواسطة بعض الدول المعتدلة في المنظمة ، خاصة إذا ما عدلت الدولة المعنية عن سلوكها وتعهدت في إعادة الأمور إلى نصابها والتزمت بمبادئ الميثاق من جديد .
ولكن هل يمكن أن تعود العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف إلى وضعها الطبيعي إذا ما قررت الدولة نفسها إنهاء وقطع تلك العلاقات ضمن ما يسميه أهل القانون بحق “الانسحاب” من المنظمة الدولية ؟
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعدِّدة الأطراف بإرادة الدولة العضو في المنظمة الدولية (الانسحاب)
يمثل انسحاب الدولة العضو بالمنظمة الدولية منها ، الجزء المكمل للعلاقة التبادلية في إطار إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف ، فانسحاب الدولة من عضوية إحدى المنظمات هو بمثابة إعلان رسمي عن إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الدولة ذاتها ، ومع ذلك فلا يمكن الجزم أن هذا الانسحاب هو إنهاء جذري وشامل ، إذ ممكن أن تستمر الدولة في عضوية بعض الأجهزة الفرعية المنبثقة عن المنظمة الأم ، وممكن أن يحصل العكس ، أي أن تنسحب الدولة من فروع المنظمة الدولية وتبقى عضو قائم وفاعل في المقر الرئيس للمنظمة الدولية ، كما فعلت الولايات المتحدة عندما انسحبت من منظمة اليونسكو عام 1984م ، في الوقت الذي بقيت فيه عضوا فاعلا في باقي فروع وأجهزة الأمم المتحدة .
وتختلف الأسباب التي تدفع الدولة إلى إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع المنظمة الدولية ، إما لاعتقاد الدولة أن المنظمة قد خرجت عن حدود اختصاصها ، أو لأن المنظمة حاولت التدخل في الشؤون الداخلية للدولة([9]) فأرادت الدولة أن تضع حدا لتدخلها غير الشرعي بصورة إنهاء الارتباط الدبلوماسي والسياسي معها ، أو لان المنظمة عدّلت في ميثاقها بما يتنافى ومصالح هذه الدولة أو تلك ، وربما يكون الانسحاب لممارسة نوع من الضغوط على الدول الأعضاء أو المنظمة ذاتها لاتخاذ ما يتماشى مع مصالح هذه الدولة ، خاصة إذا كانت الدولة المتخذة لقرار إنهاء علاقاتها مع المنظمة وانسحابها ذات وزن وثقل استراتيجي في المنظمة ، كأن تكون المُساهمة بحصة الأسد في ميزانية المنظمة الدولية ، وقد يكون السبب في رفض الدولة لسياسة المنظمة تجاه قضية معينة أو اعتراضها واحتجاجها على الضعف الذي يعتري جسد المنظمة وعملها على أرض الواقع .
والواقع أن هناك أسباب أخر قد تؤدي وبشكل طبيعي إلى إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الدولة دون تدخل من جانب المنظمة ذاتها ، وهي أسباب تتعلق بزوال المنظمة أو حلّها وتشكيل أخرى محلها أو بالتوارث بين المنظمات ، فهذه الأسباب خارجة عن إرادة الطرفين من ناحية عملية ومنطقية ، ولكنها بشكل أو بأخر تعتبر من لأسباب التي تؤدي إلى إنهاء العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين من ناحية قانونية.
ليس دوما يعني انسحاب الدولة العضو من المنظمة الدولية تعبيراً عن انزعاج الدولة عن سياسة المنظمة أو قطيعة شبة كاملة للمنظمة أو إحدى أجهزتها ، إذ ربما تنسحب الدولة وتقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إحدى المنظمات الدولية لسبب يتعلق بدولة ما اكتسبت عضوية هذه المنظمة أو أتت ما من شانه تهديدا لمصالح الدولة المعنية دون أن يعني قطعها أو إنهاؤها للعلاقات الدبلوماسية مع المنظمة تعبيراً عن توتر أو نزاعٍ معين بينهما([10]) .
وبخلاف حالة إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة المنظمة ذاتها (الطرد) ، نجد أن هناك اختلاف واضح بين مواثيق المنظمات الدولية حول الإشارة إلى حق الدولة بالانسحاب من المنظمة ، وربما يعود ذلك الى رغبة المنظمة في الحفاظ على العلاقات الودية القائمة بين الطرفين والتعالي على الأزمات التي قد تعصف بهذه العلاقات مهما بلغ مستواها ، بينما أشارت مواثيق أخرى الى هذا الحق ، واعتبرته جزءاً مكملا لسيادة الدولة في الانسحاب أو إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع المنظمة إن رغبت ، كما هو الحال في إرادة المنظمة في “طرد” دولة ما من عضويتها .
فمثلا الاتحاد الأوروبي لم يدرج هذا المبدأ في دستوره المنظّم للعلاقات بين المجموعات الاقتصادية الأوروبية ، واعتبر هذا الأمر ضرب من ضروب الخيال ، حيث لا نية لديه في السماح لأية دولة من الانسحاب من عضوية الاتحاد الذي ظهر أساساً لوضع حد للنزاع والصراع القائم في القارة الأوروبية ، خاصة بين الدول الأوروبية الكبرى المؤسسة لهذه المجموعة ([11]).
وبالمقابل هناك منظمات التزمت الصمت حيال مسألة الانسحاب الاختياري من عضوية المنظمة أو الإنهاء الشامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين من جانب الدولة المعنية، فميثاق الأمم المتحدة الذي تطرق صراحة الى حق المنظمة في فصل عضو معين وإنهاء علاقاتها معه بإرادتها الكاملة ، لم يشر بنفس الصراحة الى حق الدول في إنهاء العلاقات أو الانسحاب من عضوية الأمم المتحدة ، بيد أن ذلك لم يمنع إندونيسيا من الانسحاب وإنهاء علاقاتها مع الأمم المتحدة خلال عامي 1964م و 1966م ، احتجاجاً على انتخاب ماليزيا ، التي كانت على نزاع حاد معها آنذاك ، عضواً في مجلس الأمن ، واعتبرت ذلك بمثابة إهانة لها من قبل الأمم المتحدة ([12]).
وعلى أية حال ، وبغض النظر عن الجدال القانوني في عدم إشارة ميثاق الأمم المتحدة لحق الدول أو عدمه من الانسحاب من المنظمة العالمية ، فان تاريخ الأمم لمتحدة سجل الى اليوم حالة انسحاب وإنهاء علاقات دبلوماسية واحدة، تمثلت في انسحاب إندونيسيا عام 1964، ولكن كثيرا ما يتردد في وسائل الإعلام عن توجه دولة ما للانسحاب من عضوية الأمم المتحدة نتيجة ضعفها في إدارة العلاقات الدولية وفشلها في حل المنازعات بالطرق السلمية ، وارتهان قراراتها الى شرعية النظام الدولي التي تهمين عليه الولايات المتحدة ، فمثلاً العراق أعلن أكثر من مرة خلال التسعينات عن نيته الانسحاب من الأمم المتحدة بحجة اتهام الولايات المتحدة في إدارة الأمم المتحدة بما يتوافق ومصالحها وحسب([13]) ، كما كانت هناك بعض التوجهات غير الرسمية المطروحة لانسحاب الولايات المتحدة من الأمم المتحدة في إطار الحرب الإعلامية والقانونية التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة –خاصة مجلس الأمن- بين الولايات لمتحدة وبريطانيا من جهة ، وفرنسا وروسيا وألمانيا والصين من جهة أخرى خلال العام المنصرم بخصوص الأزمة العراقية ، وفشل واشنطن بانتزاع قرار دولي يسبغ الشرعية على حربها العدوانية الى شنتها على العراق في العشرين من آذار من عام 2003م([14]).
وبالانتقال الى مواثيق منظمات أخرى ، يجد الباحث أن هناك العديد من المنظمات الدولية والإقليمية والمتخصصة التي أشارت الى قضية الانسحاب وحق الدولة في ممارسة سيادتها الفعلية في إنهاء علاقاتها الدبلوماسية متعددة الأطراف ، إذ تشير المعاهدات المنشئة للوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة –باستثناء منظمة الصحة العالمية- الى حق الدول بالانسحاب من أية وكالة متخصصة شريطة أن تقدم الدولة المعنية إشعار خطي قبل سنة من نيتها بالانسحاب ، واستثني من ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والذي يتم الانسحاب منهما بشكل فوري([15]).
ومن الأمثلة البارزة والتي أخذت نقاشاُ مطولاً في الساحة الدولية في هذا الصدد ، انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة اليونسكو في كانون الأول من عام 1984م ، وعودتها إليها بهدوء بعد انقطاع دام تسعة عشر عاماً في أيلول من عام 2003م .
ومن الأمثلة الأخرى على انسحاب دولة من عضوية منظمة دولية ، انسحاب الكويت من عضوية مجلس الوحدة الاقتصادية في آذار 1990م ، وقد بررت الكويت على لسان وزير المالية الكويتي سبب انسحابها الى أكثر من مبرر([16]):
الزيادة غير المعقولة في عدد موظفي المجلس .
محدودية الفاعلية العملية التي حققها المجلس منذ إنشائه .
عدم التزام غالبية الأعضاء في تسديد التزاماتهم المالية .
الازدواجية القائمة بين مجلس الوحدة الاقتصادية العربية والمجلس الاقتصادي العربي.
وعدم العدالة في توزيع الحصص والمساهمات المالية في المجلس ، إذ تتحمل أربع دول فقط ما نسبته 80% من الميزانية ، من أصل 12 عضو ، فيما يتحمل الآخرون الباقي .
وقد واجهت منظمة الوحدة الإفريقية ذات الإشكالية عند انسحاب المغرب منها عام 1984م أثر قبول عضوية
ما يسمى ( الجمهورية العربية الصحراوية) في المنظمة ، فاعتبرت هذه إهانة لسيادة واستقلال المغرب التي تعتبر المنطقة الصحراوية المتنازع عليها مع الجمهورية العربية الصحراوية جزء من سيادتها الوطنية، ورغم أن العاهل المغربي ألمح الى إمكانية عودة المغرب الى منظمة الوحدة الإفريقية في خطاب له عام 1989م([17])، إلا انه لم يحصل أي تقدم يذكر في هذا الصدد .
وبإلقاء الضوء على ميثاق جامعة الدول العربية ، يجد الباحث أنه نص على الانسحاب بصفة عامة وأورد حالة خاصة له ، إذ أشار أنه لكل دولة عضو أن تنسحب من الجامعة العربية إذا أرادت ذلك بشرط أن تبلغ المجس عن عزمها القيام بذلك قبل تنفيذ الانسحاب بسنة، وخلال هذه الفترة تبقى الدولة متمتعة بكافة التزامات العضوية ، بيد أن الميثاق نص على حالة خاصة بالانسحاب وهي حالة تعديل الميثاق دون أن تقبل الدولة المعنية هذا التعديل ، إذ يجوز لها والحالة هذه أن تنسحب من الجامعة دون انتظار مدة السنة ، أي يكون انسحابها فوري وقائم من لحظتها وتزول مباشرة عنها صفة العضوية ، وعليه يكون ميثاق الجامعة العربية –على خلاف باقي دساتير المنظمات الدولية الأخرى- قد أشار إلى حالتين للانسحاب : الأول الانسحاب غير الفوري ، والثانية الانسحاب الفوري([18]).
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف عند زوال أو توارث المنظمات الدولية
ليس هناك ثمة شك في أن المنظمات الدولية –كالدول- تعد شخص من أشخاص القانون الدولي ، ويجري عليها ما يجري على الدول ، فان كانت الأخيرة معرضة للموت والحياة ، أي للزوال وفقدان الشخصية أو للولادة والاستقلال واكتساب الصفة القانونية ، فان المنظمات ومن باب أولى تتعرض لذات الشيء ، إذ من الممكن أن تزول منظمة لسبب معين أو تتوحد مع منظمة دولية أخرى أو تندثر نهائياً وتقوم على أنقاضها منظمة أخرى .
فإذا فشلت المنظمة الدولية في تحقيق أهدافها التي أُنشأت من أجلها ، أو لم تستطع الاستجابة لظروف التغير وتحديات الأحداث الجسام التي تعصف بالعلاقات الدولية ، أو لم تعد قادرة على ترجمة أهدافها على أرض الواقع ، أو فقدت شرعية العمل والتحرك بسبب قيام حرب معينة أو تفكك أطرافها أو انسحاب أعضائها وعدم قدرتهم على تحمل المسؤولية الدولية تجاه هذا التنظيم الدولي أو ذاك … الخ ، فان ذلك قد يدفع الأطراف القائمة على إدارتها للتفكير الجدي في وضع نهاية معينة لهذه المنظمة ، إما بحلها وإزالتها إذا ما كنت عبء على الدول الأعضاء ، أو بتوارثها لمنظمة دولية أخرى ، أو باتحادها مع منظمة أخرى لزيادة فاعليتها وشرعية عملها الإقليمي أو الدولي([19]).
والواقع أن ظاهرة توارث المنظمات الدولية هي ظاهرة حديثة أو أن جاز التعبير إشكالية حديثة في إطار القانون الدولي ، فمن الناحية العملية لا تكاد تذكر الحالات التي حدث فيها توارث بين المنظمات أو زوال تام لمنظمة دولية أو اتحاد بين منظمتين أو أكثر ، فهي حالات نادرة وقليلة جداً ، وربما هذا ما يفسر غياب أو عدم وضوح التصور القانوني الكامل أو الواضح لآلية التعاطي قانونياً مع هذه الظاهرة ، فليس هناك ثمة قواعد قانونية تنظم هذه العملية برمتها .
وبما أن ما يهمنا في هذه الجزئية هو إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف عند توارث أو زوال المنظمة الدولية ، فاننا سنركز على صور التوارث بين المنظمات الدولية وآثاره المترتبة عليه بالنسبة لإنهاء العلاقات الدبلوماسية بصورة طبيعية ، فضلاً عن الآثار الأخرى المتعلقة بالدول الأعضاء فيها وموقع الاتفاقيات التي أبرمتها المنظمة قبل زوالها أو توارثها .
يطرح بعض الخبراء صورتين للتوارث بين المنظمات الدولية ([20]):
الأولى : أن تخلف منظمة دولية منظمة دولية أخرى في ممارسة بعض الوظائف والسلطات ، مع استمرار الأخيرة كشخص من أشخاص القانون الدولي ، ومثال ذلك ما أشار إليه ميثاق اليونسكو في المادة( 11/2) من انه إذا رأى المؤتمر العام للمنظمة أن هناك منظمة أو جهة رسمية أو وكالة متخصصة تسعى إلى أهداف مماثلة لليونسكو أو تمارس أعمال تدخل في صميم عملها ، فمن المرغوب فيه أن تتحول موارد ومهام تلك المنظمة أو الجهة إلى منظمة اليونسكو ، ويجوز للمدير العام أن يعقد بموافقة المؤتمر العام ما يلزم من اتفاقيات يرتضيها الطرفان .
وكذلك يمكن إيجاد نفس النص في ميثاق منظمة الصحة العالمية ، إذ أشارت المادة (72) إلى أنه يجوز لهذه المنظمة أن تخلف أية منظمة أو وكالة دولية أخرى تمارس نفس النشاطات والاهتمامات التي تمارسها منظمة الصحة العالمية ، وذلك من خلال تحويل موارد والتزامات تلك المنظمة أو الهيئة لصالح المنظمة الأولى ، ضمن اتفاق يقبله الطرفين ، ويمكن لمس ذات الشي في ميثاق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (المادة 26) .
ومهما يكن من أمر ، فان العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف في هذه الحالة أو الصورة لا تتعرض لإنهاء من قبل الدول الأعضاء باعتبار أن المنظمة التي تنازلت عن بعض اختصاصاتها لصالح منظمة دولية أخرى ، مازالت قائمة كشخص دولي قانوني ، ولا ينعكس تحويل بعض أعمالها لمنظمة أخرى على علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الأعضاء فيها ، فهذا توارث طبيعي كما يرى أهل القانون الدولي .
الثانية : أن يتم التوارث بين منظمتين دوليتين مع زوال إحداهما ، سواء كانت إحداهما موجودة أو قيد الوجود ، وهو ما حدث بين الأمم المتحدة عندما ورثت عصبة الأمم ، حيث بعد انهيار عصبة الأمم لاسباب كثيرة أهمها الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ، اتفقت دول الحلفاء المنتصرة بالحرب الكونية الأخيرة على إنشاء منظمة الأمم المتحدة لتكون منظمة بديلة عن عصبة الأمم التي فشلت في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين ، وكذلك ما حدث من توارث بين المحكمة الدائمة للعدل الدولي ومحكمة العدل الدولية ، وبين معهد التعاون الذهني واليونسكو ، وبين المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية …الخ ، كل هذه الحالات تم فيها توارث بين المنظمات مع زوال إحداهما ، أي المنظمة القديمة

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى