تفكيك المشهد الاستراتيجي بين الدولي والاقليمي: الشرق الأوسط نموذجا

يُسلم اغلب علماء العلاقات الدولية بأن نموذج “كرة البلياردو” يتراجع وبشكل لا لُبس فيه امام نموذج “شبكة العنكبوت”، اي أن العالم يشهد تحولا من النمط التاريخي القائم على محدودية تأثير الوحدات الدولية على بعضها (كرة البلياردو) الى العجز عن ضبط التأثير المتداخل بين الوحدات على بعضها(نموذج شبكة العنكبوت)، بل إن تعيين حدود ما هو داخلي وما هو خارجي اصبح أمرا في غاية التعقيد من ناحية ، كما ان مساحة المصالح المشتركة جعلت النموذج الصفري في تحليل العلاقات الدولية يتوارى لصالح المنظور غير الصفري حيث المصالح المشتركة بين الاعداء تفوق احيانا حجم المصالح المتناقضة من ناحية ثانية، ويكفي الاشارة الى ان العدو الاول للولايات المتحدة هي الصين لكنها هي شريكها التجاري الاول، وتايوان عدوها الاول هو الصين لكن شريكها التجاري الاول هو الصين، وكوريا الجنوبية تعتبر الصين ضمن اهم خصومها لكن هذا الخصم هو شريكها التجاري الاول…فكيف يمكن توصيف هذه العلاقة، وهو نموذج متكرر للكثير من الدول الاخرى..

ولعل تنامي التنظيمات الاقليمية الحكومية وغير الحكومية التي تساهم في نسيج شبكة العلاقات الدولية( حوالي 54 الف تنظيم غير حكومي وحوالي 300 تنظيم دولي واقليمي) هو المؤشر على اننا نعيش مرحلة انتقالية تستدعي التخلي عن مناهج تحليل العلاقات التقليدية ، ولعل السمة المركزية لذلك هي انضواء الدولة القومية في أطر اقليمية او عابرة للحدود لضمان مصالحها مقابل بعض التنازل عن مبدا السيادة كما كرسه جان بودان.

المشهد الشرق اوسطي:

دعونا نتوقف عند ثلاث وقائع تساهم في توضيح المشهد الشرق اأوسطي ببعده الاستراتيجي وبنموذج شبكة العنكبوت :

1- مؤتمر مجلس حلف الناتو في براغ عام 2003 ، وفي هذا المجلس طرح المندوب الامريكي في مجلس الناتو وليم بيرنز المشروع التالي حرفيا : ” إذا كانت مهمة الناتو هي الدفاع عن اوروبا وامريكا الشمالية، فإننا نعتقد بان ذلك غير ممكن إذا بقينا في اوروبا الغربية، او اوروبا الشرقية او امريكا الشمالية، علينا أن نتجه لنشر قواتنا العسكرية جنوبا وشرقا ، فمستقبل الناتو هو في الشرق والجنوب ..انه في الشرق الاوسط الكبير”.

وهنا يأتي التساؤل :لماذا الشرق الاوسط الكبير( من المغرب الى اطراف باكستان وآسيا الوسطى طبقا للتعريف الامريكي )؟ انه لتشديد الحصار على روسيا (وهو ما ظهر في اتفاقية الشراكة من أجل السلام بين الناتو وكازخستان ثم اقامة قاعدة في قرغيزيا ثم محاولة ضم اذربيجان وجورجيا للحلف ) والعمل على التسلل باتجاه الاقليات الروسية (أكثر من 20 مليون نسمة) ثم التواجد في قواعد في سوريا والعراق ناهيك عن التواجد في تركيا بفعل عضوية هذه الدولة في الناتو.

الدافع الثاني للتوسع شرقا وجنوبا هو لتطويق ايران بقواعد في الخليج وفي اذربيجان وتركيا ، وهو ما ادركته روسيا . وقد ادركت روسيا وايران الابعاد الاستراتيجية لهذا التوسع فبدأت تنسق خطواتها معا ، وهنا تشابكت المصالح الروسية والايرانية ومصالح محور المقاومة ، ولكل غايته التي لا يستطيع خدمتها منفردا.

2- قرار القيادة الامريكية في يناير 2021 بنقل اسرائيل من منطقة عمليات القيادة الاوروبية للقوات الامريكية الى منطقة عمليات القيادة المركزية(سينتكوم) التي يغطي عملها “الشرق الاوسط الكبير”، ومن الضروري التنبه الى ان تشكيل القيادة المركزية كان قد اعلن بعد قيام الثورة الايرانية والتدخل السوفييتي في افغانستان ، اي ان انشاء هذه القيادة هو استكمال لقرارات براغ ، وهو ما يعني تلاقي المصلحة الامريكية الاسرائيلية لتحطيم ايران لانها حليف لروسيا من منظور المصلحة الامريكية ولأنها دعامة محور المقاومة من منظور اسرائيل طبقا لأولويات كل من امريكا واسرائيل في ترتيب المصالح.وما يعزز ما ذهبنا اليه هو قرار امريكيا عام 2004(زمن الرئيس بوش) باعتبار سوريا ولبنان ضمن منطقة عمليات القيادة المركزية التي تم لاحقا نقل اسرائيل لها.

3- استكمال اتفاقيات التطبيع العربي مع اسرائيل باتفاقات “ابرهام” من عام 2020، وبدء اجراء تدريبات عسكرية مشتركة وفتح اول مكاتب الاتصال للناتو في الاردن ، وهو ما يعني استكمال بنية تحتية للناتو لتادية وظائف ثلاث هي: تاسيس بنية تحتية للناتو لخنق ما يمكن اعتباره اقرب الى التحالف الايراني الروسي وحماية اسرائيل ، وطي موضوع القضية الفلسطينية عبر تحويل العلاقات العربية من صفرية الى غير صفرية.

الرد الروسي الايراني:

لن اتوقف عند جبهة آسيا الوسطى لتفاصيلها الكبيرة، ولكني اشير الى تمكن روسيا من لجم شراكة الناتو مع كازخستان، واضطرار قرغيزيا لاغلاق قاعدة مناس الامريكية ، وطي بعض طلبات القفقاس للانضمام للناتو، ثم جاء تدخلها العسكري في سوريا بحوالي اكثر من 60 الف جندي تناوبوا على الاراضي السورية ، بقي منهم حوالي 4 آلاف ينتشرون في عشرات الموقع في الجغرافيا الروسية .

لكن الضرورة تقتضي التنبه لطرف ثالث يزداد انغماسا في شؤون المنطقة وهو الطرف الصيني ، فللصين علاقات تاريخية مع المنطقة لكن مشروع “الحزام والطريق” هو الاهم حاليا، ويبدو أن الولايات المتحدة لعبت دورا في دفع الهند للشروع في مشروعها ” الممر الاقتصادي الاوروبي الهندي” الذي يزاحم في اهدافة وطرقه ومحطاته المشروع الصيني، وهو ما يفتح المجال امام عسكرة متبادلة للمشروعين قد يغرق الخليج فيما لا تحمد عقباه.

اذن اصبح المشهد الشرق اوسطي كالتالي:

1- ناتو يتسع باتجاه منطقتنا لكنه قد يواجه مشكلات قد تودي به بخاصة في التقاطع بين اولويات اوروبا واولويات امريكا ، ولعل مواقف هنغاريا وتركيا تشي ببعض التشقق.

2- دأبٌ روسي لمنع استقرار الناتو تحت إبطها في الشرق الاوسط الكبير

3- عسكرة صينية مستقبلية لمشروعها بدأ في جيبوتي وقد تسعى الهند للمسار ذاته مما سينعكس على الاستقرار السياسي والاجتماعي والعسكري في الخليج.

نموذج شبكة العنكبوت:

من الواضح ان الاطراف المتصارعة تسعى لبناء تكتلات تشكل سندا لها من ناحية ومصداً للخصوم من ناحية ثانية، واكتفي بعرض بعض المشاهد:

أ‌- تلتقي كل من الهند والصين في منظمة البريكس ذات الطابع الاقتصادي وشنغهاي ذات الطابع الأمني ، فهل هذه أطر لإدارة الصراع بين الدولتين من منظور غير صفري؟ ام هي أطر لتوظيف المنظمة لصالحها ضد العضو الآخر؟ تلك هي تعقيدات الحياة الدولية

ب‌- كيف تناشد دولة كتركيا البريكس لقبولها عضوا في الوقت الذي هي عضو في الناتو؟ بل انها اصبحت “شريك حوار” في منظمة شنغهاي مع انها عضو في الناتو ، فكيف ستدير علاقاتها بين الخصمين؟

ت‌- كيف ستوفق الصين علاقاتها المتصاعدة مع اسرائيل بينما تمثل ايران احد اهم مزودي الصين بالطاقة ؟

ان المشهد السابق يشير الى ان ما يجري في غزة ليس منفصلا عن شبكة العنكبوت التي اشرت لها، وليس صدفة ان اعلى اقاليم عدم الاستقرار في العالم هو في منطقتنا، ومن ينتظر استقرارا قريبا هو اقرب “للواهم”، وسيطال عدم الاستقرار الغني والفقر والقوى والضعيف والاصيل والطارئ…..ربما.

Walid Abdulhay
Walid Abdulhay

كاتب باحث أكاديمي أردني عمل في عدد من الجامعات العربية، وعمل رئيسًا لقسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك، ومستشارا للمجلس الأعلى للإعلام ...

المقالات: 168

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *