تتفاقم التحديات التي تواجه مالي خلال الفترة الحالية على المستوى الأمني، على خلفية تصاعد الصراع بين الجماعات المسلحة، وتحديداً على مستوى المواجهات بين الفرعين الإقليميين لتنظيمي “داعش والقاعدة” في منطقة الساحل الأفريقي، في إطار التنافس على زعامة مشهد الجهاد العالمي. وشهدت مالي خلال الأيام العشرة الأولى من شهر ديسمبر 2022، مواجهات عنيفة استمرت لأيام، بين فرع “داعش” المعروف بـ “ولاية الساحل”، وفرع “القاعدة” المعروف بـ “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، أسفرت عن مقتل العشرات من المدنيين بمناطق متفرقة في “جاو وميناكا” شمال شرق البلاد، في حين ذهبت بعض التقديرات إلى مقتل ما لا يقل عن 100 مدني.
محددات رئيسية
بالنظر إلى خلفيات الصراع بين تنظيمي “داعش والقاعدة” خلال الأعوام القليلة الماضية في منطقة الساحل، والمواجهات المسلحة بين الطرفين، يمكن الإشارة إلى مُحددات رئيسية، أبرزها:
1- حتمية الصراع الصفري بين “داعش” و”القاعدة”: يعد الصراع بين فرعي “القاعدة وداعش” في مالي، جزءاً من حالة الصراع بين الفرعين في منطقة الساحل بشكل عام، وتحديداً في ثلاث دول: “مالي وبوركينا فاسو والنيجر”، وهي الدول التي تشهد نشاطاً عملياتياً لفرع “داعش”، وهو انعكاس للصراع الأيديولوجي بين التنظيمين على مستوى “القيادة المركزية” المتصاعد منذ عام 2014 بعد إعلان ما يُعرف بـ “الدولة الإسلامية”، وبرزت انعكاساته في أكثر من دولة تشهد نشاطاً عملياتياً للتنظيمين مثل سوريا والصومال واليمن.
وهنا فإن الصراع بين التنظيمين وأفرعهما حتمي، في ظل معادلة “صفرية”؛ إذ يسعى كل تنظيم للسيطرة على زعامة المشهد الجهادي العالمي، بما يعني أن المواجهات المسلحة بين الطرفين ليست موسمية، وإنما تتسم بأنها “طويلة الأمد”، قد تتصاعد أو تتراجع وفقاً لمتغيرات متعددة.
2- هجمات منسقة لـ “داعش” على مناطق نفوذ “القاعدة”: انطلاقاً من المواجهة الحتمية في ضوء الصراع الأيديولوجي، فإن انعكاسات ذلك ميدانياً، تتمثل في التنافس على مناطق النفوذ والسيطرة؛ إذ يسعى كل من تنظيم “ولاية الساحل” و”نصرة الإسلام والمسلمين” لتوسيع نطاق نفوذه على حساب الآخر. وتأسيساً على أسبقية وجود تنظيم “القاعدة” وعلاقاته المتشعبة بالجماعات المسلحة في منطقة الساحل، فإن تنظيم “ولاية الساحل” يسعى لتوسيع مناطق سيطرته على حساب “نصرة الإسلام والمسلمين”، من خلال تنفيذه هجمات لاستهداف العناصر الموالية لـ “القاعدة” أو مناطق نفوذها، وتحديداً شمال مالي في “جاو وميناكا”، للضغط على “نصرة الإسلام والمسلمين” التي تنفذ عمليات ضد قوات الجيش المالي والقوات الأجنبية. ومن ثم فإن المواجهة على أكثر من جانب، وقبل المواجهات الأخيرة في شهر ديسمبر، سبق أن أعلن تنظيم “داعش” استهداف عناصر “القاعدة” خلال شهر نوفمبر الماضي، على الحدود بين مالي وبوركينا فاسو، وقتل نحو 80 عنصراً.
3- تنفيذ “داعش” هجمات ضد “حركة تحرير أزواد”: في سياق محاولات “ولاية الساحل” توسيع النفوذ والسيطرة بعد إعادة الهيكلة وبناء القدرات العملياتية، فإن التنظيم نفذ هجومين على عناصر حركة تحرير أزواد خلال شهري مارس وأبريل الماضيين، زاعماً سقوط عشرات القتلى من عناصر الحركة، وهذا يأتي بعد إعادة هيكلة الفرع الإقليمي وتعزيز القدرات، التي سعى إلى إبرازها في إصدار مرئي خلال شهر ديسمبر الجاري، بعنوان “ولينصرن الله من ينصره”، لإعلان البيعة لزعيم التنظيم الجديد “أبو الحسين الحسيني القرشي”؛ إذ حاول إظهار القدرة على جذب عناصر جديدة من خلال لقطات للعشرات يؤدون البيعة في أكثر من منطقة بدول الساحل الثلاثة (مالي وبوركينا فاسو والنيجر). وبالنظر إلى المواجهات الأخيرة بين عناصر “داعش والقاعدة” في مالي، فإن بعض التقارير أشارت إلى مشاركة عناصر من حركة تحرير أزواد في المواجهات ضد عناصر “داعش”، دون توضيح رسمي من الحركة.
4- علاقة طردية بين هجمات “داعش” وبناء قدراته: رغم نشاط مجموعات تنظيم “داعش” في منطقة الساحل بشكل عام، وتحديداً في مالي، بداية من عام 2016، بعد قبول زعيم التنظيم السابق “أبو بكر البغدادي” بيعة “أبو الوليد الصحراوي” بعد انشقاقه عن مجموعات “القاعدة” في منطقة الساحل، فإن هجمات مجموعات “داعش” على القاعدة لم تظهر إلا بحلول عام 2019، وأخذت منحنى تصاعدياً خلال عام 2020، قبل أن تتراجع خلال عام 2021 وتحديداً بحلول النصف الثاني من العام الماضي، بعد مقتل “الصحراوي” بفعل عملية للقوات الفرنسية. واستعادت مجموعات “داعش” في الساحل نشاطها العملياتي بعد إعادة هيكلة للفرع الإقليمي “ولاية غرب أفريقيا” وفصل مجموعات الساحل عنها تحت اسم “ولاية الساحل”، في مارس 2022، ليبدأ الفرع في استعادة نشاطه ضد عناصر القاعدة، بما يشير إلى وجود علاقة طردية بين استهداف “القاعدة” وبناء القدرات العملياتية.
5- تركيز التنظيمين على استهداف الجيش المالي والقوات الأجنبية: رغم حدة المواجهات بين فرعي “داعش والقاعدة” في مالي، التي تسفر عن خسائر كبيرة في الجانبين، إضافة إلى سقوط عشرات المدنيين، فإنالمواجهات محدودة مقارنة بعمليات فرعي التنظيمين ضد قوات الجيش المالي والقوات الأجنبية؛ إذ لم يُعلن تنظيم “داعش” منذ مارس 2022 حتى 12 ديسمبر 2022، إلا عن ثلاث هجمات لاستهداف عناصر “القاعدة”، بما يشير إلى أنها عمليات “منسقة” وليست عشوائية، تهدف إلى استنزاف “نصرة الإسلام والمسلمين”، وانتزاع سيطرة الجماعة على بعض المناطق، وتحديداً المناطق النائية، فضلاً عن إظهار فرع “القاعدة” غير قادر على الحفاظ على مناطق سيطرته، وهي رسالة إلى المجتمعات المحلية التي تتعرض لهجمات أو تشهد المواجهات بين الطرفين.
تأثيرات محتملة
في ظل تصاعُد حدة المواجهات بين فرعي “داعش والقاعدة” في مالي، التي يتوقع استمرارها خلال الفترة المقبلة، فإن هذا من شأنه أن يزيد تعقيدات الوضع في مالي على أكثر من اتجاه؛ وذلك كالتالي:
1- زيادة وتيرة العنف وتعميق الهشاشة الأمنية: يمكن أن تؤثرالمواجهات بين فرعي “داعش والقاعدة” في مالي،في ضوء احتمالات تكرارها، على زيادة وتيرة العنف في منطقة الساحل بشكل عام، في ظل تمدد فرعي التنظيم عملياتياً في ثلاثة دول “مالي وبوركينا فاسو والنيجر”؛ إذ تشير بعض التقديرات إلى زيادة وتيرة العنف المرتبط بالتنظيمات الإرهابية المتشددة في منطقة الساحل لتسجل نحو 2005 عمليات خلال عام 2022، بما يعني تقريباً تضاعف أعداد الأحداث العنيفة المسجلة عام 2021 بنحو 1180، وتأثيرات ذلك على زيادة العنف ضد المدنيين واحتمالات تسجيل عدد كبير من الوفيات، بما يُعمق أزمة الهشاشة الأمنية التي تشهدها مالي منذ سنوات، في ضوء عدم القدرة على التصدي لخطر التنظيمات الإرهابية، وضعف السيطرة على المناطق النائية الحدودية، واقتصار التأمين على المدن، وباتجاه العاصمة.
2- إرباك سياسات الحكومة المالية في مكافحة الإرهاب: من شأن المواجهات بين “القاعدة وداعش” خلال الفترة المقبلة،لتوسيع السيطرة والنفوذ، إرباك خطط الحكومة في مالي لمكافحة الإرهاب، في ظل عدد من المتغيرات المتعلقة بسياسات السلطة الانتقالية تجاه قوات حفظ السلام الأممية، واتجاه بعض الآراء إلى عرقلة عملها في حماية المدنيين من خلال فرض مزيد من القيود على عملياتها، إضافة إلى اتجاه بعض الدول للانسحاب من البعثة الأممية خلال الأشهر القليلة الماضية، فضلاً عن انسحاب القوات الفرنسية والقوات الأوروبية المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب، بما يعني فقدان ميزة الضربات الجوية المتقدمة، وحداثة مشاركة قوات “فاجنر” في العلميات بمالي.
وهنا فإن مالي تواجه تحركات متداخلة بين مجموعتين إرهابيتين، قد تؤدي إلى ترجيح صانعي السياسات، وتراجع التدخل الحاسم في المواجهات بين الطرفين، لصالح أطروحة أن المواجهات تؤدي إلى أن تضعف كل من المجموعتين الأخرى، ولكن هذا الطرح تقابله تجارب تشير إلى تماسك بعض المجموعات رغم المواجهات بينها، مثل الصراع بين فرع “داعش” المعروف بـ “ولاية غرب أفريقيا” وجماعة “بوكو حرام” في نيجريا، كما أن هذا الطرح يحتاج إلى فترة طويلة من المواجهات بين المجموعات لتحققه.
3- زيادة معدلات النزوح وتفاقُم الضغوط على الحكومة المالية: تشير بعض التقارير الإعلامية إلى نزوح المئات من المدنيين في المناطق التي شهدت مواجهات بين عناصر “القاعدة وداعش” خلال شهر ديسمبر الجاري. ومع تكرار المواجهات فإن معدلات النزوح مرشحة للزيادة بصورة كبيرة خلال الفترة المقبلة، خاصة في ظل تعمد التنظيمات الإرهابية، وتحديداً تنظيم “داعش”، استهداف المدنيين لفرض سيطرته ونفوذه، أو دفعهم إلى النزوح من المناطق التي يسيطر عليها. وبشكل عام، فإن انعكاسات زيادة معدلات النزوح، تُفاقم من أزمة الثقة بين المدنيين والحكومة في مالي؛ لعدم الوفاء بحمايتهم، بما يزيد الضغوط الداخلية على السلطة الانتقالية.
4- احتمالات تعاون غير مباشر بين “القاعدة” و”تحرير أزواد”: في حال صحة التقارير التي تطرقت إلى مشاركة عناصر من حركة تحرير أزواد في مواجهة عناصر “داعش”، فإن من المحتمل أن تشهد الفترة المقبلة، تعاوناً غير مباشر بين جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” وحركة تحرير أزواد على المستوى الميداني، لدفع هجمات تنظيم “داعش”، خاصة أن التنظيم يستهدف الطرفين بشكل متساوٍ تقريباً، منذ مارس الماضي، باعتبارهما أكثر التهديدات الميدانية لمخططات توسيع نفوذه وسيطرته. ولكن احتمالات التعاون ربما تبقى في حدود مواجهة مشتركة لتحركات “داعش” دون الاتجاه إلى إعلان ذلك أو بلورته في صيغة واضحة ومحددة.
5- تفاهُمات محتملة بين الحكومة و”الحركات الأزوادية”: في ضوء تزايد معدلات الهجمات لتنظيم “داعش”، والمواجهات مع تنظيم “القاعدة”، إضافة إلى ضبابية الموقف الرسمي فيما يتعلق باستراتيجية مكافحة الإرهاب وضعف القدرات العسكرية، فإن الحكومة المالية قد تدفع باتجاه التقارب وإنهاء التوترات مع الحركات الأزوادية خلال الفترة المقبلة، وتأكيد تفعيل اتفاق السلام، وتحقيق تفاهمات في ضوء تطلع الحركات الأزوادية إلى الاضطلاع بمهام الدولة بشمال مالي، خاصة أن انهيار اتفاق السلام الموقع برعاية جزائرية، قد يؤدي إلى اندلاع المواجهات مجدداً بين الطرفين، ويزيد من تعقيدات المشهد الأمني.
6- زيادة معدلات استقطاب “داعش” عناصر جديدة: أحد الدوافع الرئيسية في تنفيذ تنظيم “داعش” هجمات على عناصر “القاعدة”، بخلاف توسيع النفوذ، يتمثل في محاولات استقطاب عناصر جديدة، تدعم النشاط العملياتي وخططه التوسعية، وهذا ينطبق على المدنيين في المناطق التي يستهدفها “داعش” من خلال إغراءات بالمال، أو إظهار عدم قدرة مجموعات “القاعدة” أو حركة تحرير أزواد على حمايتهم من هجمات التنظيم، أو من خلال استقطاب عناصر من تنظيم “القاعدة”، في ظل الطبيعة السائلة التي تتسم بها تيارات “السلفية الجهادية”، التي تسمح بانتقال عناصر بين التنظيمات في ضوء التحولات الأيديولوجية، خاصةً أن “داعش” أعلن في شهر يوليو الماضي، مبايعة 11 عنصراً من “القاعدة” لزعيم التنظيم.
مشهد مُعقد
وختاماً، يُشكل فرع تنظيم “داعش” في منطقة الساحل تهديداً أمنياً متزايداً لدولة مالي بشكل خاص، ودول منطقة الساحل بشكل عام، بعد إعادة هيكلته، في ظل قدرته على التماسك بعد مقتل “أبو الوليد الصحراوي”، والتكيف وبناء القدرات منذ النصف الثاني من عام 2021. ومن شأن المواجهات مع تنظيم “القاعدة” في مالي، أن تزيد من تعقيدات المشهد الأمني، في ظل الاضطرابات التي تشهد عمليات مكافحة الإرهاب في مالي، واستمرار التركيز على المقاربات الأمنية فقط.
Mostafa Allam – إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية