دراسات سياسية

جدلية حول الأنظمة السياسية

يعتبر الانسان كائن سياسي بطبعه، فهو وبحكم وجوده الطبيعي لا يستطيع أن يتنازل عن وجود قوانين تحدد الحقوق والواجبات والعلاقات بين الأفراد. لهذا فالظاهرة السياسية تحتل منزلة كبيرة في الفكر السياسي والفلسفي، نظرا لما لها من أهمية كبرى في تحديد مصير الشعوب. ولعل مسألة المسائل التي اشتد النقاش حولها مسألة مصدر السلطة السياسية وأنظمة الحكم وهذا منذ التجمعات الإنسانية الأولى مرورا بالإمبراطوريات الشرقية القديمة وصولا إلى ما يعرف – حاليا –بالدولة الوطنية الحديثة، والناظر المتفحص لتاريخ ممارسة السلطة السياسية يلمح لا محالة أن نظام الحكم الفردي والذي يتأسس على سلطة الفرد الواحد قد كان أول شكل من أشكال أنظمة الحكم ظهورا ومع تطور المجتمعات الإنسانية برز نظام الحكم الجماعي الذي يستلهم من سلطة الجماعة مبادئه وأسسه، ومن خلال هذا الاختلاف الظاهر بين النظامين فإن البحث في أنواع الأنظمة قد شكل المحور الرئيسي في الفلسفة السياسية ودفع بالفلاسفة والمفكرين إلى مناقشة مشكلة النظم السياسية. ما أدى إلى بروز اتجاهين متعارضين أحدهما يدعي بأفضلية نظام الحكم الفردي والآخر على النقيض تماما حيث يؤكد أنصاره أن النظام الأصلح للشعوب هو النظام الديمقراطي. من هنا ولرفع هذا التعارض والجدال بين الموقفين حق لنا أن نتساءل: ما هو أفضل نظام حكم هل هو نظام الحكم الفردي أم الجماعي؟ وبتعبير آخر: هل يستمد الحاكم دائما سلطته من إرادة الشعب؟

الموقف الاول
يرى أنصار النزعة الفردية أن الدولة يجب أن تقوم على سلطة الحكم الواحد وسيادة الفرد الواحد. وينقسم هذا الشكل من أنظمة الحكم إلى الحكم الوراثي والحكم الديكتاتوري وفي العصر الحديث بما يعرف بالحكم الملكي. فالحكم الوراثي ارتبط بانتقال الشرعية في الحكم داخل أفراد القبيلة الواحدة أو الأسرة الواحدة. وقد ساد في المجتمعات الكلاسيكية القديمة معبرا عما يسميه “عبد الرحمن بن خلدون” بالعصبية القبلية. فحسبه أن التحيز للعرق هو الذي جعل الحكم توارثا لا يخرج عنه. كما أن الديكتاتورية عبرت عن هذه النزعة الفردية في الحكم باستلهام الجانب الذي يبرز القوة فأصبح الحكم يعبر عن إيديولوجية الطبقة المسيطرة ضد طبقة أخرى مسيطر عليها. وأضحت الدولة أداة هيمنة واستغلال ويمكن أن نستشف ذلك من التاريخ السياسي في أوربا الديكتاتورية النازية على سبيل المثال وقبل ذلك نزعة البراهما عند البوذيين.

أما النظام الملكي فهو لا يختلف كثيرا عن سابقيه إلا انه يرى أحقية الملك في سلطة الحكم وحده لا غير. ويمكن الإشارة إلى نظام الحكم الديني (التيوقراطي) الذي مارسه رجال الدين في أوربا في القرون الوسطى تحت ذريعة “التفويض الإلهي” وبعد عرض أهم أشكال الحكم الفردي نوجز أبرز خصائصه ولعل من أهمها: أن السلطة فيه لا تأخذ بعين الاعتبار وزن الجماعة. ولا يؤمن هذا الشكل من أنظمة الحكم بالتعددية الحزبية والنقابية كما أنه يقيد الحريات بمختلف أشكالها. ولا يفصل بين السلطات الثلاث التشريعية، التنفيذية والقضائية. حيث أن الحاكم هو من يتولى الإشراف على كل السلطات في نطاق واسع.

يعتمد هذا النظام على القوة والسيطرة في تسيير شؤون الدولة. والجدير بالذكر أن هذا الشكل من أنظمة الحكم كان محل قبول وإعجاب لدى بعض الفلاسفة والمفكرين والسياسيين فالفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبز” يعد من أبرز الفلاسفة المدافعين عن هذا النمط من أنظمة الحكم من خلال ما دونه في كتابه الشهير “التنين” كما أن الفيلسوف الإيطالي “نيقولا ميكيافيلي” أوضح في كتابه “الأمير” أنه يجوز للحاكم أن يستخدم كل الوسائل اللاأخلاقية ما دام الهدف هو البقاء في سدة الحكم (الغاية تبرر الوسيلة).

النقد
لكن على الرغم مما قدمه أنصار هذا الاتجاه من أدلة وحجج لتبرير موقفهم، إلا أنهم لم يسلموا من الانتقادات. فعلى الرغم من سيادة هذا الشكل من أنظمة الحكم تاريخيا إلا أنه لم يحقق السيادة الشرعية التي تمنح له البقاء والاستمرار. وخير دليل على تهافت هذا النظام هو مناهضة الوعي الاجتماعي للمزالق التي وقع فيها (الحربين العالمتين) على سبيل المثال. كما أن الصراع الطبقي مقولة أفرزها نظام الحكم الفردي. فضلا على قتل هذا النظام لحق الأفراد في الحرية والتعبير. لهذا لم تعد الشرعية تؤخذ بالقوة ولا تعبر عن سلطة الفرد الواحد.

الموقف الثاني
لهذا يرى أنصار النزعة الجماعية أن الجماعة سابقة بدورها على الفرد، لا من حيث الوجود الطبيعي بل من حيث القيمة ولقد ارتبط نظام حكم الجماعة بالديمقراطية والتي هي كلمة يونانية مركبة وتعني حكم الشعب، وقد عرفت في بلاد اليونان وعرفت مبادئها تطورا خصوصا في العصر الحديث مع فلاسفة العقد الاجتماعي بزعامة الفيلسوف الفرنسي “جون جاك روسو”. فالديمقراطية هي التعبير الحقيقي عن سيادة الشعب في حقوقه التي هي من الأمور الهامة والركائز الأساسية في الحكم الديمقراطي مثل الحق في الحرية والتعبير…الخ. والديمقراطية كنظام سياسي تنقسم إلى قسمين حسب الاتجاه الفلسفي والمعتقد الاقتصادي. الأولى هي الديمقراطية السياسية أو الليبرالية. والتي عبرت عن الرأسمالية المطعمة بالتقنية والعلم. تتميز الديمقراطية السياسية بأنها تقر بحق الأفراد في الحرية سواء كانت سياسية أو شخصية أو اقتصادية أو فكرية. يعتبر “جان جاك روسو” أبرز من أولى أهمية كبرى للديمقراطية، والذي يعتبر مفهوم الديمقراطية عنده، السيادة والحرية والمساواة كحقوق طبيعية للإنسان، فالسيد الحقيقي في الحكم الديمقراطي هو الشعب.

وجوهر الدولة عند “روسو” يكمن في التوفيق بين فكرة الحرية الشخصية للفرد وبين التقيد بنظام اجتماعي معين، أي التوفيق بين الحرية الفردية الطبيعية وبين الإرادة العامة التي هي السيادة أو القانون. هذا الأخير في الديمقراطية السياسية فوق الجميع، وهو يضمن المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات (حكاما كانوا أم محكومين) ويحمي الحريات العامة ( حرية الرأي، المعتقد، التحزب وإنشاء الأحزاب وحرية الانتخابات) ويضمن المنافسة الحرة، كل ذلك يؤدي إلى الاستقرار وازدهار الحياة الاجتماعية وبالتالي الغاية من وجود الدولة. أما النوع الثاني من الديمقراطية فهي الديمقراطية الاجتماعية أو الاشتراكية التي تقوم على أساس المساواة الاجتماعية. وهي على حد تعبير “روزنتال” في موسوعته الفلسفية “تضمن حقوق المواطنين من الناحية التشريعية بضمانات مادية، وعلى سبيل المثال، ففي المجتمع الاشتراكي ليس حق العامل حقا معلنا فحسب، ولكنه معتمد تشريعيا ومضمون على نحو فعال بفعل إزالة الاستغلال وإلغاء البطالة وانعدام أزمات الإنتاج”.
ومعنى ذلك أن المجتمع الوحيد الذي تزدهر فيه الديمقراطية هو ذلك الذي اعتمد العدالة في توزيع الثروة وتحقيق المساواة الاجتماعية والقضاء على استغلال الإنسان للإنسان، وتحرير الفرد من الحاجات الأساسية للحياة. كل ذلك يزيل أسباب الصراع ويحقق استقرار الدولة وازدهار المجتمع.

النقد
لكن ورغم أن نظام الحكم الجماعي (الديمقراطي) استبدل الفرد بالجماعة إلا أنه لم يحقق لها العدالة. فالنظام الديمقراطي الليبرالي مثلا أصبح مبررا لديكتاتورية أشد بلاء من نظام الحكم الفردي وهذا ما يتجلى من خلال سيطرة الطبقة المالكة. فضلا على أن هذا الشكل من أنظمة الحكم يشهد اليوم في فكرنا المعاصر ووقتنا مأزقا حقيقيا (حروب أمريكا على العراق…)، وهو ما جعل “يورغن هابرماس” فيلسوف ألماني معاصر في كتابه “التقنية والعلم كإيديولوجيا” يذهب إلى وصف الحالة التي انتهت إليها السياسة في أوربا بالايديولوجيا فاقدة الشرعية إذ يقول: “إن النظام الديمقراطي نظام عقلاني لكنه لا يعني أنه حكم عاقل” بمعنى أن الديمقراطية تقتصر على العلم لا على الأخلاق. كما أن المساواة السياسية بين الأفراد لا تلغي التفاوت الطبقي، وهو ما يولد الصراع بين الطبقات الاجتماعية، وبالتالي غياب استقرار الدولة وازدهار المجتمع. كما يمكن الإشارة إلى أن الديمقراطية الاجتماعية لا تخلو هي الأخرى من عيوب ومزالق. فحتى وإن كانت تسعى أساسا إلى محاربة الطبقية وتحقيق المساواة الاجتماعية والعدالة، فإنها أهملت طرفا مهما في هذه المعادلة وهو المساواة السياسية بما تتضمنه من حريات عامة. إذن يستحيل قيام عدالة اجتماعية في غياب المساواة السياسية، بحيث أن القضاء على الحرية وتقييدها يؤدي إلى قتل المواهب وغياب المبادرات الفردية، وتفشي روح الاتكال وتبدد الثروة وركود المجتمع في جميع مجالاته.

التركيب
ويبقى الجدال القائم بين أنصار النزعة الفردية وكذا النزعة الجماعية أمر أثبت تهافته. فكلاهما لم يستطع أن يحقق الشرعية والعدالة في أسمى معانيها. غير أن نظام الحكم في الإسلام (الشورى) استطاع أن يكشف عن المزايا الحسنة لكل من النظامين ويتجاوزهما معا في نفس الوقت لأنه مقتضى الفطرة الإنسانية. وعلى هذا الأساس فقد ألزمت الشريعة الإسلامية الحاكم بمبدأ الشورى. يقول تعالى: “وشاورهم في الأمر”، ويقول أيضا: “وأمرهم شورى بينهم”. وبالفعل فقد عمل الرسول الأكرم (ص) بهذا المبدأ. ثم اتخذ الخلفاء الراشدون مبدأ الشورى دستورا لهم. فشاع الحق وعمت العدالة فهو يبقى إذن حكم صالح لكل زمان ومكان. (إبراز الرأي الشخصي).
الخاتمة
ختاما ومما سبق نستنتج أن نجاح الحكم السياسي مشروط بالفهم الموضوعي لبنية النسق الاجتماعي في أبعاده المختلفة. أي خدمة للصالح العام دون أي تحيز، ويبقى نموذج الحكم الإسلامي (الشورى) دون مبالغة واقعا تفرضه أكثر من ضرورة

المصدر

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=169219550416446&id=108439963161072

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى