دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينيةنظرية العلاقات الدولية

حرب لا عنفيّة تمارس التأثير على الآخرين بالإقناع: ثقافةُ صناعةِ الصَّديق

د. فتحي المسكيني

تشير عبارة «القوة الناعمة» إلى مصطلح درج في الأدبيات السياسية الأميركية منذ سنة 1990، ألا وهو Soft Power، وذلك على يد أستاذ هارفارد جوزيف ناي في كتاب يحمل عنواناً مثيراً هو: مصمَّم للتأثير: في الطبيعة المتغيّرة للقوة الأميركية (1). لكنّه عمّقه في مؤلّفات لاحقة من قبيل: القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة العالمية (2) أو كتاب: مستقبل القوة (3).

القوّة الناعمة مصمّمة من أجل التأثير أو القدرة على التأثير والإقناع من دون وسائل إكراهية.

وعلينا أوّلاً أن نلاحظ هنا وقع الاستعارة الرقمية: نحن نتحدّث عادة عن الفرق بين «القرص المرن» و«القرص الصلب»، ومن ثمّ فإنّ الأمر يتعلق بالنقاش عن «القوة الناعمة» (soft power) في مقابل «القوة الصلبة» (hard power). ومن السهل تحديد ملامح القوة الصلبة: إنّها قدرة دولة معيّنة على التأثير على دولة أخرى أو على جزء من المجتمع بوسائل إكراهية. وغالباً ما يكون الفاعلون هنا هم الدول. أمّا الوسائل فهي بالتأكيد وسائل عسكرية واقتصادية. وطابعها العام إكراهي يستخدم قوة قسرية، من نوع الحروب أو العقوبات.

في مقابل ذلك تكون «القوة الناعمة» هي قدرة فاعل سياسي على التأثير على سلوك فاعل آخر بوسائل غير إكراهية. وغالباً ما يكون الفاعلون من نوع المنظمات غير الحكومية أو الهيئات المدنية. أمّا الوسائل فهي تعتمد على الرأي العام والثقافة وانتشار الأفكار وأنماط الحياة ونماذج العيش. وطابعها العام هو الحثّ والتأثير والجاذبيّة.
ولو قرأنا الاستعارة الرقمية التي توحي بها «القوة المرنة» فإنّنا نكون عندئذ أمام ترجمة سياسية لاستعارة «القرص المرن»، بحيث يكون المقصود هو نقل المعنى الرقمي للمرن من جهاز الحاسوب (استعمال سهل وناجع للبيانات) إلى تصريف السلطة أو الإدارة (قوة تأثير على سلوك الفاعلين الآخرين أو على تعريفهم لمصالحهم، عبر وسائل غير إكراهية، بل فقط رمزية أو ثقافية أو رمزية).

إنّ القوة الناعمة إذن هي معنى رمزي مركّب من تأثير الموارد أو القدرات غير الملموسة، يشير إلى قوّة غير إكراهية لأنّها تؤثّر ولا تسيطر. وهنا يأتي معنى «النعومة»: إنّها طريقة غير مباشرة، موجبة وسلمية، في استعمال القوة الخالية من الإكراه، تلك التي تعرّف نفسها بالاستناد إلى طاقة معرفية أو رمزية أو مؤسساتية، ومن ثمّ تتحوّل في الأثناء إلى قوّة جذب ثقافية تهدف إلى التشريك الرمزي في الاختيارات العامة لدولة أو إدارة أو شركة معيّنة. وذلك من دون أيّ ممارسة لسلطة عمودية أو قاهرة أو استعمال للعنف مهما كان شرعيّاً.

تأصيل مفاهيمي

بلا ريب قد يبدو للبعض أنّ الأميركي جوزيف ناي لم يخترع مفهوماً جديداً في العلاقات الدولية حين صاغ عبارة «soft power»، بل هو قد أصّل سلوكاً سياسيّاً وثقافيّاً كان معروفاً في التعامل الدولي مع المشاكل الكبرى كانت له قبل ذلك تسميات عدّة: مثلاً تمتّع البريطانيون في الماضي الاستعماري بتأثير واسع عبر مصطلحات من قبيل «الروح الرياضية» (fair-play)، والفرنسيون يتحدّثون في معجم العلاقات الدولية عن «الطريقة اللطيفة» (manière douce) في حلّ الخلافات، لكنّ هذا الانطباع قد يؤدّي إلى إضاعة الدلالة غير المسبوقة لهذا المفهوم.

ذلك أنّ القوّة الناعمة مفهوم مرتبط بنقاش تاريخي خطير حول الشعور بانهيار أو ضعف بعض القوى العظمى وخاصة الولايات المتحدة في أواخر الثمانينات، فقط لأنّها لم تعد تستطيع الاحتفاظ بتفوّق عسكري أو اقتصادي دائم على بقية الدول. وتكمن طرافة الأطروحة التي دافع عنها ناي في أنّه يدعو إلى مراجعة فكرة «القوة» نفسها: أنّه لا يوجد تعريف واحد للقوة. والتعريف العسكري أو الإكراهي قد صار غير مناسب للوضعية الجديدة للعالم. بل إنّ أميركا قد كوّنت نوعاً جديداً من القوّة هو التفوّق النموذجي على بقية الدول. هي نموذج مغر وجذّاب يؤثر في الدول الأخرى دونما حاجة إلى استعمال القوة العسكرية أو الإكراه. هذا النوع من التأثير الخفي هو شكل جديد وغير مسبوق من القوة ومن ثمّ هو يوفّر نوعاً جديداً من السلطة على الدول الأخرى. وكلّ الطرافة هي في نقل معنى القوة من الإكراه إلى الإقناع، وذلك عندما نجح ناي في مراقبة التغيّر الذي وقع في مصادر أو موارد القوة: إنّ تغيّر نوعيّة «التحدّيات» (المرور إلى عالم متعدد الأقطاب) يؤدي إلى التغيّر في نوعية «القوة» (السيطرة العسكرية أو الإكراهية لم تعد ممكنة). إنّ أميركا تستفيد ثقافيّاً من العولمة لكنّها لا تسيطر عليها عسكريّاً. إلاّ أنّ القوة الناعمة قد صارت مبثوثة في المؤسسات القانونية والثقافية العالمية، ومن ثمّ فإنّ التأثير على الدول لم يعد مباشراً، بل صار يتمّ عبر تقاسم شبكة من القيم الكونية أو القابلة للكونية والانخراط فيها والمشاركة الحثيثة في صياغة مفرداتها وخططها طويلة الأمد.
ومن هنا يستشرف ناي أنّ الولايات المتحدة بما تتمتع به من تأثير ثقافي عالمي ومن تكنولوجيات فائقة، سوف تحافظ على قوة ناعمة كافية للتفوق على بقية العالم دونما حاجة إلى محاربته أو السيطرة عليه. لكنّ القوة الناعمة لا يمكن أن تتوطّد إلاّ إذا كان المجتمع الأميركي هو نفسه قد نجح في تربية الناشئة على فكرة القوة الناعمة ذاتها، أي على اعتبار الدور المؤسساتي الخطير والحاسم للإنتاج الثقافي.

إنّ إنتاج المعرفة هو وحده الذي يضمن قوة التأثير الثقافي والرمزي الذي تحتاج إليه الدول كي تقود مجتمعاتها إلى المستقبل. يجب تربية المجتمعات على فكرة إعادة تنظيم القوة الناعمة، القوة الثقافية لشعب من الشعوب بوصفها طاقة غير إكراهية وجذابة، وذلك كأساس جديد لمعنى الوطن.

بين الأمر والاختيار

لو أخذنا الآن في إحصاء أشكال القوة الناعمة لأصبح لدينا ليس فقط خريطة قوى ناعمة لم نكن نعتبرها موجودة لدينا، بل حتى نعثر على مقياس ومؤشّرات لتحديد حظوظ كل دولة من القوة الناعمة، ومن ثمّ إمكانية تقييم قدرتها على استثمار تلك القوة. يتعلق هذا الإحصاء بجملة الوسائل غير الإكراهية المتاحة أمام دولة ما من أجل التأثير على دولة أو دول أخرى أو أجزاء من المجتمع المدني المحلي أو العالمي. هذا الإحصاء يمكن أن يشمل:

= الوسائل المدنية والدبلوماسية، والعمل الجمعيّاتي، والمنظمات غير الحكومية.

= الثقافة، ونعني بذلك منظومة القيم العميقة والبنى المعيارية التي يستمدّ منها الأشخاص أو الشعوب أو المجتمعات مصادر ذاتها، من قبيل قيم الأصالة (الشعوب غير الغربية)، قيم التنوير والحداثة (الدول الأوروبية)، قيم التسامح (المجتمعات الدينية)، نمط الحياة أو نموذج العيش (الولايات المتحدة الأميركية وظاهرة «american way of life»)، السياحة الثقافية (المواقع الأثرية في بلدان الشرق الأوسط الكبير)…

= وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

= المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، وقضايا الديمقراطية والحريات.

= المساعدات الإنسانية والعمل الإنساني بعامة.

= مستوى أنظمة التربية والتعليم.

= معرفة اللغات وإتقانها واستعمالها.

= مستوى المعمار.

= مدى تطوّر المؤسسات القانونية والسياسية.

= الحوكمة الرشيدة في خلق الموارد والتصرّف فيها.

= الابتكارات التكنولوجية.

= التظاهرات الرياضية والميداليات الأولمبية.

= المناسك الدينية (ظواهر الحج والعمرة وزيارة المشاهد والمناطق المقدسة).

إلاّ أنّ ما يجب التركيز عليه في تحديد معنى القوة الناعمة هو طبيعة المشروع الرمزي الذي يختفي وراء هذا المفهوم: إنّ نواة القوة الناعمة هي الثقافة بالمعنى الشامل والعميق، والقصد الأعلى هنا هو تحويل الثقافة إلى قوة ناعمة ولكن قوة ناعمة عملاقة وربما لا تُقهَر. والسؤال الحقيقي هو بلا ريب: كيف يمكن خلق القوة الناعمة وليس فقط تعريفها أو وراثتها؟

ربما يمكننا أن نهتدي هنا بالتمييز الذي وضعه ناي بين القوة الصلبة التي «تأمر» (hard or command power) وبين القوة الناعمة التي «تختار» كما يختار أعضاء اللجنة زميلاً جديداً لهم (co-optive or soft power). إنّ من يأمر هو طرف واحد أو قطب مستوحد ومسيطر، فالأمر هو ظاهرة نحوية وأخلاقية ودينية وقانونية وعسكرية من طبيعة استبدادية، تتأسّس دوماً على استعمال القوة الصلبة. والأمر لا يُناقَش في الغالب لأنّه يقع خارج العلاقة الحرة مع الحقيقة، وهو في الغالب يكرّس نوعاً صنميّاً من الماضي أو الإرث الذي لا يقبل المراجعة. أمّا الاختيار فهو قوة ناعمة لأنّه يقوم دوما على استدعاء الإنسان إلى علاقة ممكنة أو محتملة أو مغرية أو مفضّلة أو مفيدة، وعلى خلاف القوة الآمرة فإنّ القوة المختارة هي علاقة أفقية بالغير، تكفل له قدراً مقبولاً من القدرة على الاختيار. وهي غالباً من طبيعة مستقبليّة.

وهكذا فإنّ الدول سوف تتفاضل في المستقبل بحسب ما تمتلكه من فنون القوة الناعمة، وبحسب نجاحها في استثمارها. إنّ خلق قوة ناعمة سوف يعني ضرورة:

= خلق ثقافة قويّة، نعني جملة من القيم الكونية أو القابلة للكوْنَنة تفتح وعي المجتمعات على ما هو إنساني وما هو عالمي وما هو مشترك دون الانصهار الارتكاسي في تاريخ غريب عنه أو الوقوع تحت إرادة السلطة التي تحرّكه، وتساعد المحلّي على مقاومة الماضي المعطّل داخله والانفتاح على إمكانية الهجرة إلى الإنسانية بطريقة ناعمة وغير إكراهية.

= وضع قصّة أو هوية سردية مغرية ومتماسكة وواعدة، يمكن تعليمها للأجيال بحيث يتحوّلون إلى فاعلين أقوياء ومبدعين لهم ما يضيفونه إلى معجم الإنسانية، من فرط التمرين المستمرّ على استعمال الخاص بشكل كوني، وإعادة إنتاج اختلافهم بوسائل ناعمة وقابلة للكونية.

= الانتشار والحضور الناعم في أنحاء العالم باسم نجاحات رمزية تهمّ نموذج العيش أو القيم الكونية أو تجارب المعنى الخاصة بشعب دون آخر.

= رسم صورة خارجية أو عالمية موجبة واستكشافية عن ثقافة أو حضارة بلد ما تمنح انطباعاً فكرياً أو جمالياً جيّداً.

= المنافسة القوية على استشراف المستقبل – مستقبل الإنسانية في وعي الأفراد أو مستقبل الأفراد في أفق الإنسانية – والمشاركة في اختراع قيم العيش المشترك الذي تصبو إليه جميع الشعوب على الأرض، ذاك الذي بإمكانه وحده أن يضمن حياة قابلة للحياة بالنسبة إلى أيّ شعب كان.

إنّ القصد العام إذن ليس تعريف مفهوم القوة الناعمة – فهو كما يؤكّد صاحبه مفهوم «وصفي» لوضعية تاريخية وليس «معياريّاً» يفرض قيماً جاهزة – بل القصد هو تملّك هذا المفهوم والتمرّن على التفكير بواسطته. إنّ القوة الصلبة لم تعد مقياس القوة بين الدول، بل أخذت مكانها القوة الناعمة: تلك القوة التي اكتشفها الأميركان في شكل السلطة التي بين أيديهم بعد انحسار القوة الصلبة. لكنّ جميع الشعوب اليوم قد انتبهت إلى الأهمية الاستراتيجية لظاهرة القوة الناعمة وأخذت كل دولة تعمل على إنتاجها واستثمارها. إنّ القوة الناعمة هي لا تؤثّر فقط على الفضاء العمومي، بل تطوّر صداقة مغرية معه. القوة الناعمة لا تحتل أحداً، لكنّها تصل إلى ما تريد من دون إكراه. هي في آخر الأمر- فيما أبعد من المفهوم الوصفي الذي ضبطه ناي- نوع جديد من قوة الصداقة: الصداقة مع الأجنبي باسم العيش المشترك (المواطنة العالمية والتكنولوجيا الفائقة هي من أسس سرديات المستقبل)، ولكن أيضاً الصداقة مع المجتمع الأهلي باسم قيم المواطنة النشطة والمشاركة (ترسيخ ثقافة المواطنة والتخلّي عن ثقافة الرعيّة).

وهنا تكمن طرافة مفهوم القوة الناعمة: إنّه يمكن أن يحوّل دلالة الثقافة الشعبية مثلاً، أو المشاعر القومية أو الطقوس الدينية، إلى قوة ناعمة، أي إلى مقوّمات سلمية ومدنية للعيش المشترك بين «المواطنين». هي تحوّل التنافس مع الآخر بعامة إلى تمرين في التثاقف والتعارف وفي احتمالات الغيرية الموجبة والهوية المركّبة.

العقل سيّد القوى

إنّ ما يسمّى «الغرب» هو اليوم مجرد قوة ناعمة فقدت جزءاً كبيراً من قوتها الصلبة وأخذت تبحث بشكل حثيث عن وسائل أخرى للتأثير على نادي الإنسانية الحالية. إنّ القوة الناعمة للغرب هي الثقافة الغربية لا أكثر، من فنون وآداب وموسيقا وعلوم وتصميمات تكنولوجية وموضة ورياضة. وهذه ليست قوة صلبة وليست إكراهية. وقد فهم الغرب أنّ استعمار الآخرين – نعني استعمال القوة الصلبة – هو إرادة كولونيالية بلا مستقبل. ومن ثمّ هو قد عمل على «تغريب» الثقافات الأخرى أو «أوْرَبتها» (كما تفطّن إلى ذلك نيتشه منذ نهاية القرن التاسع عشر) أو «أمْرَكتها» كما صرنا نعرف منذ تسعينيات القرن الماضي. وهذا الاستنتاج أدّى إلى نقد مفهوم القوة الناعمة وبيان حدودها. وهذا النقد هو أيضاً مطلب رشيق في أيّ نقاش عمومي. فقد يُقال لا محالة إنّ بعض الدول لا تفهم إلاّ بوساطة الإكراه والقوة الصلبة، أو أنّه من الصعب التمييز بين القوة الصلبة والقوة الناعمة (منطق التقسيم بين الأعداء والأصدقاء)، أو أنّ القوة الناعمة ليست ناعمة دوماً، فقد تكون تهديداً مبطّناً. أو أنّ القوة الناعمة ترتبط بالعولمة أو هي نسخة لها. وأخيراً أنّ الحلّ الأجدر ربما كان «القوة الذكية» (smart power)، تلك التي تجمع بين الصلبة والناعمة في آن.

لكنّ القوة الناعمة ليست غربية أو أميركية بالضرورة. إنّها مفهوم يمكن لأيّ ثقافة أن تتملّكه. وكلّ الدول الناجحة اليوم لها سياسة مخصوصة في بناء القوة الناعمة واستثمارها. مثلا: فرنسا تبني قوتها الناعمة على تراث الثورة الفرنسية وعلى انتشار اللغة والآداب الفرنسية، وتعتمد ألمانيا على التراث الموسيقي والكتاب الألماني، وعلى الرياضة والدبلوماسية… أمّا العالم العربي فهو يتدرّب بشكل حثيث على خلق قوة ناعمة بالاعتماد خاصة على الثقافة التنويرية وعلى مجتمع مدني قويّ وعلى الجاذبية السياحية. إلاّ أنّه ما زال مدعوّاً إلى مراجعة أفكار كثيرة عن منظومة التربية والتعليم وإنتاج التكنولوجيا ومأسَسة الحريات والفضاء العمومي وقيم المواطنة، وتحديث اللغة العربية، وتسويق الثقافة الشعبية، وترسيخ آداب النقاش، وتطوير المعمار… ولكن أولاً وأخيراً، الاستثمار في قيمة القيم – في عقل الإنسان، هو القوة الناعمة التي تتحكم في جميع القوى أكانت صلبة أم ذكية.

بديل الاستعمار

«الغرب» هو اليوم مجرد قوة ناعمة فقدت جزءًا كبيراً من قوتها الصلبة وأخذت تبحث بشكل حثيث عن وسائل أخرى للتأثير على نادي الإنسانية الحالية. لقد فهم الغرب أنّ استعمار الآخرين هو إرادة كولونيالية بلا مستقبل فعمل على «تغريب» الثقافات الأخرى أو «أوْرَبتها» أو «أمْرَكتها» كما صرنا نعرف منذ تسعينيات القرن الماضي.

سلطة النموذج الخفيّة

أميركا كوّنت نوعاً جديداً من القوّة هو التفوّق النموذجي على بقية الدول. فهي نموذج مغر وجذّاب يؤثر في الدول الأخرى دونما حاجة إلى استعمال القوة العسكرية أو الإكراه. هذا النوع من التأثير الخفي هو شكل جديد وغير مسبوق من القوة ومن ثمّ هو يوفّر نوعاً جديداً من السلطة على الدول الأخرى.

إنّ أميركا تستفيد ثقافيّاً من العولمة لكنّها لا تسيطر عليها عسكريّاً. إلاّ أنّ القوة الناعمة قد صارت مبثوثة في المؤسسات القانونية والثقافية العالمية، ومن ثمّ فإنّ التأثير على الدول لم يعد مباشراً، بل صار يتمّ عبر تقاسم شبكة من القيم الكونية أو القابلة للكونية والانخراط فيها والمشاركة الحثيثة في صياغة مفرداتها وخططها طويلة الأمد.

القوة الصلبة لم تعد مقياس القوة بين الدول بل أخذت مكانها القوة الناعمة: تلك القوة التي اكتشفها الأميركان في شكل السلطة التي بين أيديهم بعد انحسار القوة الصلبة. لكنّ جميع الشعوب اليوم قد انتبهت إلى الأهمية الاستراتيجية لظاهرة القوة الناعمة وأخذت كل دولة تعمل على إنتاجها واستثمارها. إنّ القوة الناعمة هي لا تؤثّر فقط على الفضاء العمومي بل تطوّر صداقة مغرية معه. القوة الناعمة لا تحتل أحداً، لكنّها تصل إلى ما تريد من دون إكراه. هي في آخر الأمر- فيما أبعد من المفهوم الوصفي الذي ضبطه ناي – نوع جديد من قوة الصداقة: الصداقة مع الأجنبي باسم العيش المشترك (المواطنة العالمية والتكنولوجيا الفائقة هي من أسس سرديات المستقبل)، ولكن أيضاً الصداقة مع المجتمع الأهلي باسم قيم المواطنة النشطة والمشاركة (ترسيخ ثقافة المواطنة والتخلّي عن ثقافة الرعيّة).

…………………………………………………..

إحالات

1- Joseph S. Nye, Bound to Lead : The Changing Nature of American Power. New York, Basic Books, 1990.

– 2- J. Nye, Soft Power : the Means to success in World Politics. (2004)

وتُرجم إلى العربية: – جوزيف ناي، كتاب القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية . ترجمة محمد توفيق البجيرمي، مكتبة العبيكان، 2007.

3- J. Nye, The Future of Power (2011).

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى