دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

خصائص الثورة الجزائرية مقارنة بالثورات الكبرى في القرن العشرين

الدكتور عمار بوحوش أستاذ بجامعة الجزائر معهد العلوم السياسية (3)

دراسة منشورة بمجلة الدراسات التاريخية، جامعة الجزائر، العدد رقم 8، 1993-1994، ص 105-115. (**)

شهد العالم في القرن العشرين عدة إنتفاضات ثورية في مختلف القارات، نتج عنها تغيير مجرى التاريخ في البلدان التي حدثت بها هذه الثورات حيث أطاحت هذه الانتفاضات الشعبية بالأنظة السياسية الفاسدة وأقامت بدلا منها أنظمة ثورية جديدة. ونتيجة لهذه الإنتفاضات برزت قوة إجتماعية جديدة وذلك بصفتها مجموعة من الآراء تعبر عن المطامح الإنسانية للجماعات البشرية التي تسعى للتخلص من الأزمات السياسية والإقتصادية التي تتخبط فيها وإستبدالها بنظام جديد يستجيب لرغبات الجماهير المتطلعة لحياة أفضل. وفي العادة تكون هذه الآراء مجسمة لأهداف الجماعات البشرية وموحدة للجهود المشتركة التي تبذلها المنظمات الوطنية والأحزاب بقصد إدخال تغييرات جديدة على الأنظمة السياسية الموجودة، حتى يمكن ردع قوة الشر والطغيان المهيمنة على كل شيء بأي بلد. وفي الغالب تبرز هذه الأفكار الثورية في غمار الأزمات وتتحمس لها العناصر المتطلعة لحياة أفضل وذلك بإرتكاز قادة الحركات الثورية على هذا التيار الثوري الذي تقبله الجماهير الشعبية، وبذلك يحول القادة الثوريون ذلك التأييد إلى إيديولوجية سياسية معبرة عن مطامح الجماهير الشعبية وهادفة إلى تحقيق المساواة والعدالة الإجتماعية في الميادي السياسية و الإقتصادية والثقافية. وبذلك تتحول تلك الأيديولوجية إلى قوة إجتماعية قادرة على فرض قيمها وأساليبها الثورية التي تهدف إلى تغيير الأوضاع الإجتماعية واستبدالها بأوضاع جديدة تحل محل الأنظمة البالية.

ونستخلص من كل ما تقدم أن الأفكار السياسية التي تتحول إلى مذاهب و إيديولوجيات وطنية تحمل في طياتها كافة مظاهر الحياة الروحية والقيم الوطنية والاستراتيجية الجديدة لتغيير أهداف المجتمع و أوضاعه. وإذا سرت فكرة في أوساط جماعة فسرعان ما توحد أشتاتها وتشد أزرها ويتماسك بنياتها، فيقودها إيمانها إلى مجابهة عظائم الأمور بعزم لا يقل .

وعليه، فالقوة السياسية في تنظيم تتبع في الأساس من العمل الوطني المشترك الذي يخدم المصلحة العليا للوطن. والمذهب السياسي ماهو إلا تجسيد للعمل الوطني. وهذا العمل يرتكز بطبيعة الحال، على المذهب السياسي وذلك لتمكين القادة الوطنيين من تعبئة الجماهير وتوجيه طاقات الأفراد المناضلين نحو الأعمال المفيدة للأمة ككل والهادفة لتحقيق حياة أفضل وتلاحما وطنيا قويا. ولهذا ارتكز قادة جميع الثورات على مذاهب سياسية لخدمة وطنهم وتحرير بلدانهم من الفساد والإنحلال السياسي وحماية تراثهم الوطني وشخصيتهم الوطنية من الذوبان والإندثار. ولعل هذا ما كان يخامر أذهان القادة الأوائل في الإسلام الذين أدركوا منذ البداية أن وجود قبائل عربية و إسلامية متناحرة ومتصادة لا يجدي نفعا ولا يحقق أية قوة ومكانة مرموقة للمسلمين والعرب إلا بالتركيز على الإسلام الذي أضحى القوة الفكرية التي استطاع بواسطتها العرب أن يؤثروا تأثير إيجابيا وينشروا لغتهم وثقافتهم في رقعة كبيرة من أراضي آسيا و إفريقيا وأوروبا، وبمجيء الإسلام ظهرت قوة إجتماعية متماسكة إستطاعت أن تغير مجرى الأمور في التاريخ وتخلق إلتحاما أو تماسكا عربيا كان ضائعا في الجاهلية وفي عهد التمزق القبلي. وما قلناه عن المذهب الإسلامي ينطبق أيضا عن الديانة المسيحية حيث نجد أن البولونيين قد إعتنقوا الكاثوليكية ليحموا أنفسهم من الضياع والذوبان في الإمبراطورية الروسية الأرثوكسية. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المذهب الإشتراكي الذي إعتمد عليه المثقفون الروس لكي يتخلصوا من النظام الإقطاعي ومحاولة اللحاق بالغرب في ميدان التصنيع والتفوق عليه في الميدان التكنولوجي، ونفس المنهج سار عليه الجزائريون عندما إستعانوا بالإسلام وباللغة العربية و الشخصية والقيم الوطنية كمعتقدات أساسية للحفاظ على الذاتية الوطنية.

ومن هذا المنطلق، فإن إيديولوجية الثورة الجزائرية كانت إحدى الوسائل التي ارتكز عليها قادة التحرير الوطني لكي يوحدوا كلمة الشعب الجزائري، ويهيئوا الوسط الإجتماعي الصالح لنجاح الفكر الثوري المضاد للسياسة الإستعمارية للبلاد ويتجند الجميع لخوض معارك المصير المشترك و إسترداد السيادة والكرامة للوطن. وقد إستعانت جبهة التحرير بهذه النظريات الثورية التي تشتمل على أساليب ذات فعالية كبيرة لتغيير الأوضاع السائدة قبل أول نوفمبر 1954، وذلك لكي تتمكن الجبهة من إستبدال القوانين الوضعية المعدة لخدمة أغراض الأجانب بقوانين جديدة تكفل العدالة والتقدم و الإرتقاء للمجتمع الجزائري الذي إنغرست في أذهان أبنائه هذه الأفكار الثورية. وبفضل تلك المجموعة من القواعد والإجراءات الثورية التي تضمنتها مواثيق الجبهة و إيديولوجيتها التي حددت معالم الطريق في الحاضر والمستقبل وكيفية تنظيم المجتمع الجزائري، إكتسبت القيادة السياسية للجبهة قوتها وحقها في تنظيم القوة الشعبية وتوزيع تلك القوة واستخدامها لصالح الشعب. وبذلك تجسمت السلطة الوطنية و أصبحت القوة أكثر دواما وتحظى بثقة جميع المواطنين الذين أصبحوا يشعرون أن إيديولوجية الجبهة تحولت إلى سلطة ملزمة، وهي تستحق الولاء والمساندة التامة لأنها تجسم مصالح الجماعات المتطلعة لحياة أفضل وتستجيب لرغباتهم في التخلص من غلاة الإستعمار وتقليص نفوذهم السياسي والإقتصادي بالبلاد.

الضغوط الإستعمارية تولد الإنفجار

إن ثورة الجزائر في عام 1954 ليست إنقلابا ضد نظام وطني بورجوازي، مثل الثورة السوفياتية أو الصينية أو الكوبية، وإنما هي ثورة شعبية ضد الغزاة الأجانب الذين جاءوا من مختلف البلدان والجنسيات للإقامة في الجزائر والاستيلاء على خيراتها وتسليط جميع أنواع الإضطهاد ضد سكان هذا البلد. وخلافا لجميع أنواع الجاليات الموجودة باي بلد تم إستعماره من طرف القوات الأجنبية، فإن المعمرين الأجانب الأبحاث والدراسات المنشورة في مجلات علمية باللغة العربية

بالجزائر قد إعتبروا أنفسهم متفوقين عرقيا وحضاريا وفكريا عن الجزائريين، ولذلك كانت خطتهم تقتضي بأن تكون العلاقات الموجودة بين المعمرين الوافدين إلى الجزائر وأبناء البلد الأصليين، دائما علاقة سيد بعبيده، أو علاقة أسياد بأناس محرومين من السلطة والنفوذ والثروة، وفي حالة شعور هؤلاء الوافدين إلى الجزائر بالضعف كانوا يستنجدون بالنواب الفرنسيين في باريس، ويقوموا بالمناورات و المراوغات التي تبقي الجزائريين باستمرار تحت قبضتهم. ولعل هذه الإستراتيجية توضح لنا أسباب إستنجاد فرنسا نفسها بالحلف الأطلسي وقواته الهائلة لمحاربة الشيوعية الدولية و إبعاد الإتحاد السوفياتي وحلفائه من منطقة شمال إفريقيا!.

والمشكل الأساسي بالنسبة للجزائر هو أن عقلية المعمرين الأجانب كانت عقلية متخلفة لأنهم تعودوا على المناورات البرلمانية والضغوط السياسية والمناورات التي تجري خلف الكواليس وكان يخيل إليهم أنه من الصعب على الجزائريين المضطهدين أن يقوموا بشن حرب إستنزاف وينهكوا قوى فرنسا. وإذا حاول الثوار أن يجلبوا السكان إلى جانب الثورة فبإمكان فرنسا أن تقضي على قيادتهم وتزيلهم مع إيديولوجيتهم الثورية من الوجود. والأوروبيون المقيمون بالجزائر كانوا قد انطلقوا من فكرة وهي أن الجزائر مفتوحة لأية قوة أجنبية قادرة على إخضاع سكان هذه المنطقة السلطتها، أي أن هذه الناحية من شمال إفريقيا عبارة عن منطقة تتداول على حكمها القوات الإستعمارية الغازية وسكانها يتحولون أتوماتكيا إلى رعايا تلك الدولة المستعمرة (بكسر الميم)، و إنطلاقا من هذه الحقيقة كان دور الإدارة الإستعمارية يتمثل في التحكم في السكان الجزائريين وليس تقديم الخدمات لهم. وهذه النظرة إلى الجزائريين من طرف الأوروبيين تعطينا الأ فكرة واضحة عن حتمية الصراع المحتدم بين جميع أبناء الجزائر والغزاة الذين يعتبرون البلاد عبارة عن أرض مفتوحة لمن يريد أن يحصل على ثورة أو يقيم إمبراطورية لنفسه أو يقرض الهيمنة الأوروبية على أبناء ش مال إفريقيا، وكما قال أحد الفرنسيين ذات يوم ” فالمسلمون لا يرغبون في أي شيء ولديهم كل ما يحتاجون والفرنسيون ليست لديهم رغبة أو نية لتقاسم إمتيازاتهم أو سطلتهم مع أجناس يرغبون في أن ينزلو بنا إلى درجة سفلی.

ونتيجة لهذه العقلية والإتجاه الإمبريالي، وإصرار الأقلية الأوروبية على إبقاء | أغلبية الجزائريين تحت قبضتها بحيث تحافظ على جميع إمتيازاتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، فقد تولد الأحباط في نفوس جميع الجزائريين وأصبح كل فرد يسعى بطريقته الخاصة لتأليب الجماعات الأخرى ضد الوجود الأوروبي والدعوة للإعتماد على المواجهة والعنف والقيام بثورة عارمة تعيد للإنسان الجزائري إعتباره في بلده وتحرره من قوى الشر والطغيان. وقد إستفحل الوضع في نهاية القرن التاسع عشر، وبالتحديد يوم1889 / 08 / 23 أحيث تمكن المستوطنون الفرنسيون بالجزائر من الحصول على 6 مقاعد بالجمعية الفرنسية لتمثيلهم فيها، و3 مقاعد في مجلس الشيوخ وذلك للدفاع عن مصالحهم الإقتصادية ونفوذهم السياسي بالجزائر. وفي يوم 16 ديسمبر 1900 تقرر تخفيف نفوذ البيروقراطية الفرنسية بالجزائر وذلك بإنشاء المجلس النيابي الإقتصادي الجزائري المتكون من 48 مستوطن أوروبي، و21 مواطن مسلم جزائري مقسمون إلى 3 فئات : 49 مقاعد منهم يمثلون أبناء البلد الأصليين الذين يعيشون في الأراضي الخاضعة للسيطرة المدنية، و6 يمثلون أبناء الجزائر الذين يقيمون في القطاع التابع للحكم العسكري و6 يمثلون سكان القبائل الكبرى. أما الحاكم العام فكان يقوم بتعيين بقية النواب الذين يعتبرون أصدقاء لفرنسا ولإدارتها في الجزائر (). وعن طريق هذا المجلس الذي كان بمثابة برلمان صغير داخل البرلمان الفرنسي الكبير تمكنت الجالية الأوروبية في الجزائر من التشريع وإصدار القوانين التي تحمي مصالحها الخاصة وإخضاع أبناء البلد الأصليين إلى الأمر الواقع المتمثل في وجود سلطة سياسية داخلية. وبفضل هذه السلطة التشريعية المحلية تمكنت الجالية الأوروبية من التخلص من قيود باريس والحكام العسكريين بالجزائر.

وهكذا مست الإجراءات التعسفية المتخذة من طرف الأوروبيين الحاقدين على الجزائريين جميع المواطنين المسلمين المتواجدين في مختلف القطاعات الإجتماعية والثقافية والزراعية والسياسية، أي لم يسلم من هذه الإجراءات أي أحد من أبناء البلد الأصليين، و إنطلاقا من هذه الحقيقة بدأ رواد الحركة الوطنية الجزائرية يعملون بتكاثف ويبحثون عن مخرج للأزمات التي يواجهونها في بلدهم، وشرعوا في تنظيم أنفسهم الإبلاغ مطالبهم إلى المسؤولين الفرنسيين في باريس، وفي حالة ما إذا لم تجد مطالبهم آذانا صاغية، يتعين عليهم آنذاك أن يخوضوا معارك ثورية بالسلاح ضد الجالية الأوروبية التي تطاردهم في بلدهم وتغلق الأبواب في وجوههم. وكانت الدوافع المشتركة لجميع الجزائريين التوحيد الصف ضد خصمهم المشترك تتمثل في التخلص من الإجراءات والقوانين التعسفية التي كانت مسلطة على جميع أبناء الشعب الجزائري، أما الغاية من هذا التلاحم الوطني فهي تحرير الإنسان والأرض في الجزائر عن طريق القوة والعنف، هذا هو الهدف الأساسي للجميع بالنسبة للمدى البعيد. أما بالنسبة للمدى القصير أو المرحلة الأولى للعمل الثوري، فقد كانت خطة الثوريين تقتضي المطالبة بالمشاركة في الحكم والتوظيف والتمثيل النيابي. كما ارتأى المناضلون الجزائريون ضرورة مقاومة الضغوط الفرنسية والمحاولات الرامية لمسخ الشخصية الجزائرية و إظهار إمتعاضهم و إستيائهم من القوانين المجحفة التي تضر بالجزائريين والتي تمثلت في:

  1.   فرض الخدمة العسكرية (سنة 1912) بدون الحصول على الحقوق الأساسية.
  2.   إستيلاء المعمرين الأوروبيين على الأموال والأراضي التابعة للحبس.
  3.   خلق عقبات في وجه الجمعيات الثقافية التي أنشئت بقصد المحافظة على الثقافة الإسلامية العربية بالجزائر خاصة وأنه لم يعد للمدارس الحرة مصدر لتمويلهاء.
  4.   إحلال قضاة السلام الفرنسيين محل القضاة المسلمين الذين يتبعون الشريعة الإسلامية.
  5.   إجبار أبناء البلد الأصليين على تسجيل أراضيهم وإلقا القبض على الأفراد الذين إحتجوا على هذا الإجراء.
  6. مضايقة الأشخاص الذين يطلبون التصريح لهم من طرف المسؤولين الفرنسيين بالتنقل من مكان إلى آخره
  7.  إقامة محاكم إستثنائية لفرض عقوبات صارمة.
  8. فرض ضرائب تصاعدية على أبنا البلد الأصليين تعرف باسم “الضرائب العربية”
  9. إنعدام أي تمثيل سياسي عادل
  10. إنتشار الأمية بين الجزائريين وصعوبة الحصول على وظائف عالية.
  11. الإحجام عن تصنيع الجزائر حتى تبقى هذه الأخيرة تابعة للاقتصاد الفرنسي
  12.   تضاؤل فرص العمل وتشبع القطاع الزراعي الذي لم يعد قادرا على إستيعاب الطاقات البشرية المتوفرة بكثرة.
  13.   عدم استفادة الجزائريين من القروض و الإعانات المالية المخصصة للتنمية الزراعية
  14.   تطبيق قوانين إستثنائية على الجزائريين و عدم تطبيق معظم القوانين الفرنسية على أبناء البلد الأصليين إلا بعد موافقة الحاكم العام بالجزائر.
  15. القضاء على نشاط المنظمات الثقافية التي كانت سائدة في المجتمع الجزائري).

لقد أتيت على ذكر هذه القرارات التعسفية ضد الجزائريين أيام الإحتلال لكي أوضح أنها كانت تمس بجميع الأفراد والجماعات، وتضرر الجميع منها، وذلك ساعد في تنظيم جبهة مشتركة لتحرير الإنسان والأرض من مظالم الجالية الأوروبية المهيمنة على كل شيء بالجزائر، وما يمكن أن نستخلصه من هذه الظاهرة هو أن الأوروبيين كانوا يحاربون فكرة وجود أي تنظيم محلي قوي يساهم في تنمية البلاد وتقويتها لأن وجود منظمات تعليمية يساعد على خلق وعي، ويقظة الرأي العام الجزائري، ووجود أموال وثروة إقتصادية في يد أبناء الجزائر يقود إلى مساهمتهم في إنتعاش الإقتصاد الجزائري ومنافسة البضائع الفرنسية، وبالتالي بروز شخصيات جزائرية قوية في الساحة السياسية الداخلية.

خصائص ثورة التحرير الجزائرية

إذا كانت إستراتيجية المستوطنين الأوروبيين بالجزائر هي التحكم في أوضاع الجزائريين و إخضاعهم للنفوذ الفرنسي والقضاء على الشخصية الجزائرية، فإن هذه الإستراتيجية كانت خاطئة، إذ أن هذه التصرفات العشوائية هي التي خلقت القاعدة الأساسية و الأرضية المشتركة لجميع الجزائريين الذين أصبحت عندهم قناعة جماعية أن مصيرهم يتوقف على وجود جبهة مشتركة هدفها الأساسي هو “سحق العدو المشترك “، ولتحقيق هذا الهدف تمت دعوة جميع الجزائريين الذين يهمهم زوال النظام الإستعماري إلى الوحدة وذلك بغض النظر عن إتجاهاتهم السياسية ومكانتهم الإجتماعية. فالظروف الصعبة التي أصبحت تمر بها الجزائر لم تعد تسمح بوجود شيء إسمه تعصب و تعلق برأي زعيم سياسي معين. إلا أن الأيديولوجية الثورية للجزائر المقاتلة هي التي تتضمن التراث المشترك لجميع المواطنين الجزائريين، وجبهة التحرير التي برزت إلى الوجود في عام 1954 هي المنظمة الوطنية الوحيدة التي استقطبت جميع الإتجاهات، والبوتقة التي إنصهرت فيها جميع الفئات والهيئات السياسية المتواجدة بالبلاد).

وبإختصار، فإن الثورة قد فتحت الأبواب أمام جميع الجزائريين و أعطتهم الفرصة لكي ينالوا حقوقهم، و أزالت من أذهانهم عقدة العجز والتخوف من قوة فرنسا وأسلحتها الجهنمية، وتميزت هذه الثورة بخصائص واستراتيجيات نابعة من ظروف الجزائر وطبيعة الشخصية الجزائرية، وهذه الخصائص أو المميزات الواضحة المعالم الثورة الجزائرية تتمثل في أنها:

        1، ثورة جماهيرية ولم تكن مسيرة أو موجهة من طرف زعيم واحد أو تهدف إلى تحقيق مطامح فئة إجتماعية أو سياسية في نطاق معين، وهي في هذا تختلف عن الثورات الصينية واليوغوسلافية والسوفياتية والكوبية التي كان يتم توجيهها من طرف قيادات حزبية ذات إيديولوجية سياسية يغلب على قيادتها الطابع الفردي.

  1. ثورة ذات عقيدة إسلامية، فدخول الإسلام إلى الجزائر كان عامل وحدة وجلب عقيدة ساهمت في توحيد السلوك والإتجاهات، ولغة وحدات التفكير والشعور، وبمعنی آخر فالعقيدة الإسلامية خلقت حضارة عربية إسلامية كاملة مكنت الجزائريين من الإلتفات حولها حتى صاروا أقوياء متماسكين. فالإسلام الذي يجسم القيم العليا للشعب الجزائري ساهم في حماية الشخصية الوطنية من الذوبان في الشخصية الأوروبية وحفظ للشعب الجزائري كيانه وشخصيته ومقومات هذه الشخصية. فالإسلام كان مشغل الثورة مبادءه كما قال أحد المؤرخين، فإنه لولا الدعوة إلى الإسلام والإلتفات حول هذه العقيدة وتعاليمه القيمة التي تدعوا إلى مقاومة الإستعمار بإسم الإيمان والجهاد في سبيل الله والوطن لكان في الإمكان ذوبان السكان المحليين المتخلفين في مجتمع الأوروبيين المتقدمين (أ)، وهذه الخاصية غير موجودة في الثورات الكبرى بإستثناء الثورة الإيرانية ضد الشاه والتي كان منطلقها العقيدة الإسلامية.
  2. ثورة قامت على أساس قيادة جماعية وعمل مشترك، فالمسؤولية في الثورة الجزائرية كانت تسند لكل شخص أثبت تفانيه وإخلاصه وتضحيته من أجل نجاح الكفاح المسلح. وفي هذا الإطار يجدر بنا أن نشير إلى أن جبهة التحرير هي الحركة الثورية الوحيدة التي استطاعت أن تجلب إلى صفها الأحزاب الرئيسية بالبلاد التي قبلت بحل نفسها و إنضمام أفرادها إلى حركة ثورية تجسم آمال الجماهير وتعتمد على العمل الجماعي كوسيلة للنظام وقهر العدو المشترك. فالتخلي عن الحزبية و الإنضمام الفردي إلى القيادة الجماعية للجبهة كانت عملية فريدة من نوعها. أما في معظم الثورات الأخرى فإن الأحزاب اليمينية أو المحافظة كانت قد دخلت في حروب مدنية ضد الأحزاب الثورية
  3. ثورة قادتها عناصر وطنية تنتمي إلى الفلاحين والعمال، ولا تنتمي إلى نخبة المثقفين أو البرجوازيون الثائرين على الفساد السياسي الموجود بالبلاد. ففي الجزائر كان العمل الثوري قد سبق التنظير السياسي حيث أن قادة الثورة كانوا من الواطنين المتشبعين بفكرة الثورة على الظلم والإضطهاد تحت النظام الإستعماري. أما المثقفون القليلون الذين صعدوا إلى مركز القيادة في الثورة فقد إنضموا إليها إنضماما بعد أن رأوا فعالية وسلامة إتجاه التيار الثوري).
  4.   ثورة جاءت لتعيد الإعتبار لكل الفئات الوطنية، وتخلق قوات إقتصادية و إجتماعية جزائرية جديدة بحيث تنال كل فئة أو طبقة حقها ونصيبها في الثروة والنفوذ والتحكم في مجرى الأمور، وبكلمة أخرى، فإن الثورة الجزائرية قد أيقظت في الألاف من الناس المحرومين و المعذبين في الأرض آمالا وطموحات لم يكونوا يعرفونها من قبل أو على الأقل لم يكونوا يشعرون أنه في إمكانهم نيلها. وبتعبير آخر، فإن الثورة فرضت تكيفا جديدا للأفكار والأوضاع في الجزائر بما يتفق و الأهداف التي تضمنتها مواثيق الجبهة وكانت النتيجة في نهاية الأمر التخلص من خرافة قوة العدو التي لا تقهر وإزالة عقدة العجز عن مواجهة العدو والتفوق عليه وجبره على الرضوخ للمطالب الشرعية، وهذا الوضع يختلف عن أوضاع الثورات الأخرى التي كانت تسعى التغيير الأوضاع لصالح فئة المحرومين من طبقة معينة وتحديد سلطات البورجوازيين والأثرياء المتواطئون مع الفئات الحاكمة.
  5. ثورة للتخلص من التبعية الأجنبية في الميادين السياسية والإقتصادية، وهذه خاصية تشترك فيها الجزائر مع معظم الثورات التي حصلت في القرن العشرين. وكما لا يخفى على أي قارئ لتاريخ الثورات، فإن الثوريين السوفياتيين واليوغسلافيين والصينيين والكوبيين والجزائريين كانوا يناضلون جميعا من أجل تحرير بلدانهم من المجموعات السياسية و الإقتصادية المتواجدة ببلدانهم والتي كانت تتعامل مع أصحاب رؤوس الأموال الأجانب الذين كان همهم الوحيد هو إستثمار أموالهم والحصول على أرباح خيالية و إبقاء الدول الفقيرة خاضعة لنفوذهم السياسي والمالي.
  6. ومعنى هذا أن الثوريين كانوا يدركون أن تقدم بلدانهم مستحيل في ظل وجود رؤوس أموال أجنبية لا تستعمل من أجل خلق تنمية صناعية حقيقية وإنما تستعمل من أجل إبقاء التحكم في مسار التنمية وتدعيم الخونة الذين يتعاونون مع أسيادهم الأجانب. ولهذا كانت الثورات كلها تدعوا إلى خلق مؤسسات اقتصادية وطنية قادرة على استثمار الثروات المحلية وتوجيه تلك المؤسسات من طرف عناصر محلية متشبعة بالروح الوطنية.
  7.  ثورة قامت على أساس وجود سلطة مركزية صارمة، وهذه الخاصية جعلت ثورة 1954 مختلفة عن بقية الإنتفاضات التي وقعت في الجزائر منذ 1830 لأن الإستعمار الفرنسي تمكن من محاصرة أية منطقة تقع بها الإنتفاضة ويقضي عليها. وبفضل التنسيق والتعاون والتخطيط الإستراتيجي الثورة في عام 1954، إستطاعت الثورة الجزائرية أن تخلق التوازن الوطني وتجند جميع المواطنين (بغض النظر عن العرق أو اللغة التي يتكلمونها) لكي يتعاونوا جميعا من أجل المصلحة المشتركة ويمنعوا الإستعمار من إلحاق أي ضرر بأية منطقة. فإذا تجرأ الإستعمار على حشد قواته في أية ناحية لضرب منطقة معينة، تقوم مجموعة أخرى من الثوار بضربه في مناطق أخرى حتى يخفف الضغط على المناطق المحاصرة أو المتضررة من ضربات القوات الإستعمارية، وهكذا برزت فعالية السلطة المركزية لجبهة التحرير وإستحال علی العدوان أن ينجح في سياسة ” فرق تسد ” أو خلق قوة ثالثة مضادة للثورة.
  1. ثورة ضد التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية لكل بلد، وهذه الحقيقة معروفة عن ثورة الجزائر لأننا مازلنا إلى يومنا هذا تنادي بتقرير المصير لكل الشعوب المضطهدة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل بلد. فيفضل التعلق بهذا المبدأ والإلتزام به، إستطاعت ثورة الجزائر أن تزيل بعض الخرافات والتمويهات مثل إرسال أسلحة الحلف الأطلسي إلى الجزائر لمحاربة الثوار بدعوى محاربة الشيوعية الدولية، وكذلك إبطال حجة فرنسا الموجودة بأوروبا بأن الجزائر الموجودة في إفريقيا جزء لا يتجزأ من أراضيها ولا ينبغي عرض قضيتها على الأمم المتحدة. وقد بلغ الأمر بفرنسا وبريطانيا أن تقوما بهجوم على مصر في عام 1956 وذلك بسبب إقدام مصر العربية على تقديم يد المساعدة للثوار الجزائريين وذلك يعتبر في نظر فرنسا تدخلا في شؤونها الداخلية، لكن المقاومة الشعبية في الجزائر ومصر وعدم موافقة الدول الصديقة والشقيقة على سياسة التدخل في الشؤون الداخلية سواء بالنسبة للجزائر التي هي عربية أو مصر التي تساند بلدا عربيا شقيقا، ساهما في إفشال سياسة تدخل الدول العظمى في الشؤون الداخلية للدول الصغيرة.
  2. الثورة تقيم علاقات إجتماعية جديدة، نقصد بذلك أن الجزائر كان يتم تسييرها من أوربا (وبالتدقيق من باريس) و بالداخل، كان الفرنسيون يتحكمون في المدن الكبرى وعملاؤهم القياد (الذين يأتمرون بأوامر قادة الجالية الفرنسية بالمدن كانوا يحكمون الريف الجزائري، وعليه كانت مراكز القوى الثلاثة تسعى للمحافظة على إمتيازاتها، والجزائريون غير المتواطنون مع قوات الإحتلال كانوا يعيشون على الهامش. وبفضل قيام الثورة، وقعت تغيرات إجتماعية وتوطدت العلاقات بين المواطنين وذابت تلك الفوارق المصطنعة بحيث أصبحت القيادة الثورية تسعى لتقديم الخدمات للجميع وليس التحكم في المواطنين و إستغلالهم مثلما كانت تفعل الإدارة الإستعمارية في السابق.

وبإختصار شديد، فإن ثورة الجزائر قد إمتازت بمقدرتها على الإعتماد على نضال أبنائها في الداخل والخارج والإستعانة بالأشقاء العرب والأصدقاء لدعمها وتمكينها من الإنتصار على الدخلاء الأجانب. كما أن ثورة الجزائر قد إستطاعت بفضل الله وفضل الرجال المخلصين أن تصمد وتقضي في النهاية على النظام البيروقراطي المناهض لها في فرنسا ذاتها. فقد كانت الأحزاب السياسية تتلاعب فيما بينها وتتآمر ضد ثورة الجزائر، حيث كان يحق للنواب الفرنسيين في عهد الجمهورية الرابعة أن يطيحوا بأية حكومة فرنسية تحاول أن تتفاوض مع جبهة التحرير وتعترف بها، وذلك بدون أن يفقد أولئك النواب مقاعدهم النيابية في الجمعية الوطنية الفرنسية. لكن تصميم الجزائريين على استعادة حريتهم و استقلال بلدهم، خلق أزمات سياسية و إقتصادية في فرنسا نفسها، الشيء الذي نتج عنه خضوع فرنسا للأمر الواقع، تحت ضغوط جبهة التحرير، والتخلص من الجمهورية الرابعة و استبدال ذلك النظام البائد بالجمهورية الخامسة، وهكذا أصبح النائب الفرنسي في العهد الجديد يفقد مقعده في البرلمان إن هو أقدم على إسقاط الحكومة. فسقوط الحكومة في الجمهورية الخامسة يعني سقوط البرلمان، وحله، ثم إجراء إنتخابات جديدة قد ينجح فيها النائب وقد يفشل.

الحسابات الخاطئة في إستراتيجية الأوروبيين

  1. لقد تكلمنا عن خصائص الثورة الجزائرية و إستراتيجيتها لتحرير الإنسان والبلاد من الهيمنة الأجنبية، والآن يجدر بنا أن نشير، ولو بإختصار، إلى خطط الجالية الفرنسية في الجزائر ونظرة قادتها إلى كيفية إخماد الثورة ومعاقبة قادتها. فمن جملة التصورات التي كانت تجول بأذهانهم، نخص بالذكر النقاط التالية :
  2. أن إيديولوجية الثورة مستوحاة من الخارج، أي أن جمال عبد الناصر وقادة العالم العربي هم الذين حرضوا قادة الجبهة على القيام بالثورة وطرد فرنسا من ش مال إفريقيا، ولهذا ينبغي القضاء على هذه العناصر الوطنية التي تعتنق إيديولوجية معينة وتطمح للوصول إلى السلطة والإستيلاء على الحكم.
  3. أن إستراتيجية الثورة مبنية على حرب الإستنزاف وإطالة أمد الحرب حتى تنهك قوى فرنسا إقتصاديا وتقبل في النهاية التفاوض مع الجبهة وترك الجزائر لأنها غير قادرة على تحمل الخسائر المالية. ولهذا ينبغي أن تستعمل فرنسا كل قواتها وتهزم الثوار بسرعة.
  4. ، أن خطة جبهة التحرير هي الإعتماد على السكان في الريف وجلبهم إلى صفها وتجنيدهم لخدمة قضيتها ولذلك ينبغي أن تزل فرنسا أشد العقوبات بالقادة الذين يتعاونون مع الجبهة وينشرون ايديولوجيتها في صفوف السكان، وبالتخلص منهم تفقد الثورة تلك العناصر القيادية التي تقوم بعمليتي التوجيه الإيديولوجي والحربي في آن واحد.
  5. أن الحيلة التي تستعملها الجبهة هي الدخول في مفاوضات من أجل السلام، لكن الثوار، في الواقع لا تهمهم المفاوضات ووضع حد للحرب. إنما الشيء الذي يهمهم بالدرجة الأولى هو الإعتراف بالجبهة كقوة سياسية وذلك لكي يحصل الثوار علی مكاسب سياسية ويستولوا على السلطة في النهاية. فالمفاوضات بالنسبة للجالية الأوروبية بالجزائر ما هي إلا مقدمة للإستيلاء على الحكم بطريقة تدريجية(1).
  6. أن الجبهة تحصل على مساعدات من الخارج لتمويل الحرب التحريرية، ولذلك لابد من فرض رقابة قوية على الحدود ومنع هذه المساعدات من التسرب إلى داخل الجزائر، إن الإحتكاك الموجود بين سكان الريف ورجال الجبهة هو الذي يتسبب في إنتشار الثورة وتمويل الثوار وتزويدهم بأخبار تحركات القوات الفرنسية. لهذا ينبغي نقل السكان من ديارهم وجمعهم في محتشدات تكون مراقبة ومحمية من طرف الجيش الفرنسي وبذلك يمكن حماية السكان من دعاية الجبهة وتهديد رجالها لهم بالقتل، إن هم إمتنعوا عن تقديم المساعدة لها.
  7. أن القادة الذين يقعون في قبضة قوات الأمن والجيش الفرنسي لابد أنهم تعرضوا المغالطات ودعاية جبهة التحرير ولهذا فمن الواجب إعادة تربيتهم وتوجيههم توجيها صحيحاء
  8. بما أن الجزائر بالنسبة لفرنسا جزء لا يتجزأ منها، فقد طالب المستوطنون الفرنسيون بالبحث عن ايديولوجية جديدة لفرنسا في العالم. وتقوم هذه الإيديولوجية على أساس حماية الجزائر و إنقاذها من السقوط في مخططات الوحدة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج.
  9. أن الجيش الفرنسي هو رمز قوة هذه الدولة العظمى. وعليه، فلا بد أن يكسب هذه المعركة بالجزائر ويستعيد مكانته المحترمة في المجتمع الفرنسي.
  10. أن تواجد الجيش الفرنسي بكثرة في الجزائر يكلف الدولة ثمنا باهظا، ولذلك لابد أن يعتمد المستوطنون الأوروبيون بالجزائر على أنفسهم ويقوموا بالمهام المسندة إليهم والدفاع عن أنفسهم دون الإعتماد على الجيش .

هذه هي الخطط المضادة للثورة الجزائرية التي أعدها قادة الجالية الأوروبية بالجزائر لخنق الثورة والتغلب على 8 ملايين جزائري والمحافظة على إمتيازاتهم السياسية و الإقتصادية بشمال إفريقيا. ولكن هذه الحسابات والإستراتيجيات كانت خاطئة و غير ناجعة لأن المحتلين الأجانب أساؤا التقدير وتجاهلوا مقدرة شعب على تنظيم أبنائه وتوجيه ضربات قاضية لمجموعة من المغامرين الأوروبيين الذين عاشوا في الأرض فسادا و استطاعوا أن يقنعوا فرنسا بأنهم يشكلون النخبة التي تديم وجودها بالجزائر، وهذه إحدى الغلطات الفادحة التي ارتكبتها السلطات الفرنسية بالجزائر حيث سمحت لمجموعة من المعمرين أن يتصرفوا كما يحلوا لهم، ولم تجبرهم على إقامة مؤسسات دستورية و أجهزة إدارية قادرة على تقديم الخدمات والإستجابة لرغبات المواطنين الجزائريين، كما أن هذه الإستراتيجيات قد فشلت لأن التحالف بين السلطات الفرنسية في باريس والجالية الأوروبية في الجزائر كان وثيقا ولم يبق أي مجال للجزائريين سوى التحالف فيما بينهم وتكوين جبهة مشتركة ضد الطرفين الأوروبيين المصممين على إذلالهم و إهانتهم.

فالمستوطنون الفرنسيون كانوا لا يثقون في الجزائريين و إمكانية العمل الجماعي والحوار والتفاهم بشأن خدمة البلاد كانت معدومة. كما أن الأوروبيين كانوا يوجهون الضربات بطريقة عمياء إلى كل الجزائريين وذلك في حالة تعرضهم لأي ضرر أو هجوم مفاجئ. كما فشلت خططهم، أيضا، بسبب المحاولات المبذولة لإبقاء الجزائر متخلفة وغير مصنعة حتى لا تكون هناك منافسة للبضائع الفرنسية في الجزائر ويستمر الجزائريون في العمل بأجور زهيدة سواء في الزراعة أو في أعمال أخرى يقوم بها المعمرون الأوروبيون. ثم أن المليون أوروبي المتواجدون بالجزائر عند قيام الثورة في عام 1954 كانوا يحلمون بالإحتفاظ بميراث كبير وسلطات واسعة، ويحتكرون المناصب السياسية العليا، في حين أن عددهم صغير مقارنة بثمانية ملايين من الجزائريين، وقوتهم الحقيقية كانت لاتضاهي مطالبهم وليس في إمكانهم الدفاع عن أنفسهم في حالة قيام مجابهة حقيقية بينهم وبين أبناء البلد الأصليين الذين يفوقونهم قوة وعددا.

خلاصة وإستنتاجات

إن فكرة الثورة في الجزائر كانت موجودة في أذهان الجزائريين منذ اليوم الأول الذي وطئت فيه أقدام الفرنسيين أراضيهم. وقد كانت الأعمال الثورية عبارة عن إنتفاضات في جهات ومناطق معينة، كان في إمكان الفرنسيين تطويق تلك الجهات والقضاء عليها وتسليط أشد العقوبات على كل من تجرأ أن يتمرد على فرنسا. لكن الوضع تغير في عام 1954 حيث إنطلقت الثورة على المستوى الوطني وأخذت طابعا شموليا وتنسيقيا محكما وتعذر على القوات الفرنسية أن تحاصرها وتقضي عليها… كما أصبحت فكرة الثورة في عام 1954 عبارة عن إيديولوجية قوية تستمد جذورها من الواقع الجزائري ومن الأوضاع العامة المتدهورة، وساعدت تلك الإيديولوجية الوطنية قادة الثورة في تفجير الثورة وتحويل النظريات إلى مناهج عمل لتحرير الإنسان والأرض وإستعادة السيادة الوطنية عن طريق العنف والقوة لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بنفس الطريقة، وقد أصبحت الإيديولوجية الثورية للجزائر هي السند الفكري لجبهة التحرير التي إعتمدت على تلك الأراء الثورية لكي تطيح بالنظام الإستعماري الفاسد، وتوحد آراء جميع الجزائريين وتجعل منهم شعبا متحدا، يشترك جميع أبنائه في خوض معركة المصير المشترك، وتخليص الوطن من الهيمنة الإستعمارية.

إن ثورة الجزائر قد عبرت عن آمال كل إنسان مضطهد في الجزائر، وخلقت قناعات عامة بأن الأسلوب الثوري هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن كل فرد من المساهمة في تغيير الأوضاع لصالحه ولصالح المجموعات المحرومة مثله. فالثورة بالنسبة للمواطن الجزائري أصبحت هي الوسيلة الوحيدة لإعادة الإعتبار إليه وتمكينه من تشييد حياة أفضل و إعطائه القرص الذهبية لتحقيق ما يصبوا إليه من رفاهية وحياة كريمة. إن الشعور المشترك بالظلم قد دفع بالجزائريين أن يقيموا علاقات جديدة فيما بينهم تقوم على أساس التعاون والإعتماد على القرآن وقواعد العمل الإسلامية و التشاور فيما بينهم بشأن خلق التنظيم الإجتماعي الذي يليق بالجزائر في أوقات الحرب وأوقات السلم، وبمضي الوقت تحولت الإيديولوجية السياسية لجبهة التحرير بلي قواعد وإجراءات عمل لتدعيم الجهاز المركزي للدولة الجزائرية، ووسيلة فعالة لتنظيم القوة التي إكتسبها الشعب الجزائري من خلال مساندته المطلقة للكفاح المسلح لإسترداد الحرية والكرامة لكل مواطن جزائري. وقد نجحت الثورة بفضل وعي الجماهير ورغبتها القوية في حمل السلاح وتحقيق الأهداف المشتركة للجميع. لقد طالت الحرب وتحمل الجزائريون جميع أنواع الإضطهاد والحرمان والتشريد خلال سنوات طويلة، لكن إنتصروا في النهاية لأنهم كانوا مقتنعين في قرارات أنفسهم بأنهم على حق وخصمهم على باطل، كما أنهم برهنوا من خلال تحليهم بالصبر ووجود عزائم قوية لا توهن، عن أصالتهم الثورية الإسلامية والعربية لأنه كان عندهم إيمان بعدالة مطالبهم و إيمان قوي يحركه الشعور بالظلم.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى