دراسات تاريخية

خطايا يوليو وصلاح سالم في حق السودان

محمد عبدالرحمن عريف

   هي مذكرات أحد أبرز أعضاء مجلس قيادة الحركة المصرية التي إندلعت في 23 يوليو 1952 والتي أسقطت النظام الملكي. الصاغ صلاح سالم. وقد قام صاحب الدراسة والتي تناولت سياق الشخصية من منظور تاريخي بالتناول الوافي للأحداث التاريخية ومعالجتها في منظور موضوعي لتناول تلك الحقبة التاريخية من تاريخ مصر والتي لا زالت أصدائها مدوية حتى الان.

    تأتي أهمية مذكرات صلاح سالم من عدة نواح، أولها كونه عضوًا في مجلس قيادة 23 يوليو 1952، حيث لعبه أخطر الأدوار في الاطاحة بمحمد نجيب لصالح عبد الناصر، وثانيها إنه كان عضوًا نشطًا وفاعلًا بل والمسؤول الأول عن السودان في فترة من أخطر فترات التاريخ الحديث، وما جرى في السودان من استفتاء للفصل بين شماله وجنوبه تمتد جذورة لتلك الفترة، وهي نفس الفترة التي شهدت بداية تراجع الدور المصري في دول حوض النيل حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.

   تقدم لنا هذه المذكرات صورة بالغة الأهمية عن مصر وعلاقتها بالقوى السياسية المختلفة داخل السودان وكيفية التعامل معها والاخطاء التي ارتكبت في هذه التعاملات، مما قد يفيدنا في الوقت الحاضر، كما إنها تصور لنا كيف كانت تتخذ أخطر القرارات المصيرية، فهي تصور جزء مهم من الحياة السياسية لمصر في تلك الفترة.

    هذه المذكرات مثل غيرها يلجأ صاحبها في كثير من الأحيان للتبرير والدفاع عن النفس فيما تم أتخاذه من قرارات ظهر خطؤها، وهو ما حاولنا تقييمة من خلال المراجع العلمية المختلفة، غير أنه مما يؤكد مصداقية الكثير مما جاء في المذكرات أنها نشرت قريبة العهد من الأحداث وشخوص الذين تحدث عنهم احياء ولم يردوا مما يعطى مصداقية كبيرة لها، ومما يؤكد هذه المصداقية أن القرب من الأحداث جعلها حية في ذهن كاتبها لم ينس منها شيئًا، ولكننا نرى فيها محاولات مستميتة لادعاء البطولة وتضخيم الذات.

   أصدرت حركة يوليو عدة جرائد ومجلات للتعبير عن توجهاتها والدفاع عنها أمام الرأي العام، كانت أول جريدة هي الجمهورية التي رأس تحريرها عضو مجلس قيادة الحركة “أنور السادات”، وكانت جريدة الشعب هي ثاني صحيفة يومية تصدرها الحركة في يونيو 1956 برئاسة تحرير صلاح سالم الذى كان أيضاً رئيساً لمجلس الإدارة، وكان يوقع مقالاته فيها بأسمه وأحياناً بإسم صلاح وأحياناً بتوقيع صاد.

    ابتداء من 4 يونيو 1956 بدأ صلاح سالم في كتابة مذكراته ونشرها وكانت الحلقة الأولى بعنوان ”لماذا استقلت من مجلس الثورة ومجلس الوزراء”، وتتابعت المذكرات يومياً في الصفحة الخامسة من الصحيفة فيما عدا مرة واحدة يوم 22 يونيو 1956 كانت في الصفحة الثالثة، وتتابعت المذكرات بشكل يومي فيما عدا يومي 20يونيه، و21 يونيه لم ينشر فيهما حلقات المذكرات وتتابعت بعد ذلك بشكل طبيعي حتى كانت الحلقة الثلاثون يوم 6 يوليو 1956عن “ازمة الجندي المصري والجاويش السودني”. وأعلنت الصحيفة يوم السبت 7 يوليو 1956 أن مذكرات صلاح سالم سيتم استئنافها يوم الأثنين 9 يوليو، ولكن ذلك لم يحدث في ذلك اليوم أو في الأيام التالية، وتوقفت المذكرات تماماً ولا نعرف السبب الحقيقي وراء التوقف، وإن كنا نخمن أن نشر المذكرات قد سبب حرج للقيادة بما بدأ يفشيه من معلومات لم يكن معظمها معروف حتى أذاعها، في الوقت ذاته أعلن أن هناك كثير من المعلومات سوف يعلنها للناس، وهو ما سوف يوقع الكثيرون في مشاكل، أضف إلى ذلك تلميحاته لعدد كبير من رجال السلطة والملتصقين بهم  وهي تلميحات ذات معنى،

   في الحلقة الأولى من المذكرات كتب صلاح سالم ”سأكتب لك كل شئ.. لن أخفى عنك شيئاً… ولن أضع في أعتباري إلا التاريخ… تاريخ بلدك وبلدي، فإننا نشعر دائماً بحاجتنا إلى الحقائق… كل الحقائق.. فأنا لا أكتب تاريخ صلاح سالم، ولكن أكتب تاريخ فترة عشتها ومست حياة وطني.. فترة من أعصب فترات تاريخنا”، وأعتقد أن الفقرة السابقة  كانت نوعاً من التهديد لقادة الحركة وعلى رأسهم عبدالناصر نفسه، فهي تشبه ما فعله عبد الحكيم عامر عندما اختلف مع عبدالناصر وطالب بالديمقراطية. فهي نوع من الابتزاز السياسي.

   في موضع آخر من المذكرات يؤكد أنه سيتحدث عن ”سأكتب لك عن محنة الأخلاق كثيراً، تلك المحنة التي عانيت وستعاني منها كثيراً ربما أكثر مما عانيت من محنة الأحتلال الطويل والاستعمار البشع”. وأرى أن تلك الفقرة نوعاً من التهديد والتلويح بفضح الكثير من الأسرار لزملائه الحكام الجدد والذى اعتقد صلاح سالم أنهم خانوه وأبعدوه إلى الظل بعيداً عن مواقعه التى كان يشغلها وكان يعتقد أنه أحق بالرئاسة من عبدالناصر، لذا نعتقد أن ما كتبه صلاح سالم كان من أهم الأسباب الدافعة لوقف نشر المذكرات.

    لكل هذه الأسباب توقفت المذكرات التى دارات في معظمها حول السودان وما دار من مفاوضات بشأنه سواء مع الإنجليز أو مع السودانيين أنفسهم حتى أعلن استقلال السودان، وتعود أهمية هذه المعلومات في أن بعضها جديد علينا وهي تؤكد على عدة حقائق لعل أهمها غياب الوعي السياسي عند قادة يوليو فيما يتعلق بالسودان الذي يمثل العمق الاستراتيجى المصري، والذي أضعناه دون وعي، كما تؤكد هذه المذكرات غياب النظرية والرؤية عند مجموعة يوليو وتخبطهم في قراراتهم لعدم قدرتهم على اتخاذ القرار؛ لغياب الثقافة والفكر عنهم، فبعضهم وبإعتراف صلاح سالم نفسه: ”أنه لم يكن قد قرأ سطر واحد عن السودان قبل أن يتولى شؤون السودان”.

   يشعر الإنسان في أحايين كثيرة أثناء قراءة هذه المذكرات بالصبغة العسكرية تسيطر على الكاتب بعيداً عما صار اليه من العمل المدني وما يجب أن يتحلى به من الصفات الدبلوماسية في التعامل مع الآخرين خصوصاً إذا كان هؤلاء الآخرين ساسة غير مصريين، على سبيل المثال عندما أعلن نوري السعيد عن احتفاظه بشريط مسجل لمحادثادته مع صلاح سالم في سرسنك رد عليه سالم قائلاً ”وأعلن أني مستعد لأن أطير إلى بغداد متى أراد السيد نوري السعيد لأحضر حفلاً كبيراً أقترح عليه أن يقيمه ليذيع خلاله الشريط المسجل السالف الذكر”.

مصر والسودان من الوحدة إلى الإنفصال

   كان السودان هو الصخرة التي تتحطم عليها دائماً المفاوضات المصرية البريطانية، كانت النظرة التي توارثتها الحكومات المصرية المتعاقبة حتى 1952 أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، فقد كان هناك فهم واع للأمن القومي المصري وأن السودان يمثل العمق الاستراتيجي لمصر، وكانت بعض الحكومات الموالية للإحتلال تجبر على تقديم بعض التنازلات الخاصة بالسودان، ولكن هذه التنازلات كانت تقف إلى حد معين، ومن خلال متابعة أحداث تاريخ مصر في الفترة من 1882 حتى 1952 لم يكن هناك من يجرؤ على القول بفصل السودان عن مصر.

    بعد حادثة مقتل “السير ستاك ” في 19 نوفمبر 1924 كان من ضمن المطالب التي قدمتها بريطانيا لرئيس وزراء مصر سعد زغلول، سحب الجيش المصري من السودان، رفض سعد زغلول بشدة، وعندما أحتج البرلمان المصري –مجلس النواب- على تصرفات بريطانيا ورفع الأمر إلى عصبة الأمم فجاء في هذا الاجتجاج “إن مجلس النواب المصري يعلن تمسكه التام بالاستقلال لمصر والسودان اللذين يكونان وطناً واحداً لا يقبل التجزئه”، هكذا كان مفهوم السودان بالنسبة لمصر وللمصريين جزء من الوطن المصري، يؤكد ذلك ما قاله فؤاد سراج الدين وزير الداخلية الوفدي وقطب الوفد ”أن فكرة الاستفتاء كانت مستبعدة ومرفوضة، لأنه لا يمكن اقرار استفتاء لأسيوط مثلاً “، هذا يعنى أن الأساس في النظرة المصرية كان وحدة عضوية شاملة لمصر والسودان. لم يكن هذا موقف الوفد فقط فهناك أحمد حسين زعيم مصر الفتاة ورأيه ”السودان جزء من مصر والشعب السوداني هو الشعب المصري”.

   استمرت هذه النظرة خصوصاً من جانب الحكومات الوفدية التي اصرت على ضرورة وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، في حين أصر الجانب البريطاني على ضرورة أن يكون للسودانيين رأي في تقرير مصير بلادهم، وكانت حكومة الوفد تربط بين مسألتي الجلاء والسودان بينما كان الجانب البريطاني يصر على فصل كل من المسألتين عن الأخرى.

   فى مفاوضات (صلاح الدين – بيفين)، فاجأ صلاح الدين الحكومة الوفدية في يناير 1952 قبل سفره لحضور اجتماعات عصبة الأمم بأنه يريد القاء قنبلة يتحدى بها البريطانيين على أساس قبول الاستفتاء اذا خرج الموظفون البريطانيون من السودان، ورفضت حكومة الوفد، وتراجع صلاح الدين، ولكن الوزارة فوجئت بخطابه يوم 23 يناير 1952 يطلب نفس ما قاله سابقاً، واجتمع مجلس الوزراء واتهمه د. طه حسين وزير التعليم ”بالخيانة الوطنية العظمى”  وطالب بمحاكمته وعزله من منصبه وطلب مصطفى النحاس استدعاءه على أول طائرة، ولكنه وصل يوم 27 يناير بعد إقالة الحكومة الوفدية.

    كان من المبادئ الأساسية في فكر النحاس وحدة وادي النيل، وهو ما لم تكن بريطانيا تريده وهي التي تخطط لتقسيم السودان ومناوأة مصر من الجنوب، وكان النحاس يقول ”تقطع يدي ولا يقطع السودان”، جملة قالها من قبله بأكثر من نصف قرن شريف باشا الذي استقال بوزارته في ظل الإحتلال لأنه رفض اخلاء السودان وقال ”اذا تركنا السودان فالسودان لا يتركنا”.

   قامت حكومة الوفد الأخيرة برئاسة النحاس بأصدار مرسوم أعلان الملك فاروق ملكاً لمصر والسودان فأصبح نصاً دستورياً، كما ألحقت ذلك بالقانون رقم 177 لسنة 1951 بمنح الحكم الذاتي الكامل للسودان وقد ورد به “أن يكون للسودان دستور خاص، تعده جمعية تأسيسة، وإنشاء مجلس وزراء من أهل السودان، ويتولى الملك سلطته بواسطة وزارائه، وتقرير مسئولية الوزراء متضامنين لدى الهيئة النيابية، أو لدى المجلس المنتحب على الأقل، عن السياسة العامة للوزارة، وكل منهم من أعمال وزارته”.

   بل أنه قبل مفاوضات (محمد صلاح الدين – بيفين) وفى 24 أبريل 1951، حددت حكومة الوفد من ضمن مطالب مصر وحدة مصر والسودان تحت التاج المصرى، وتمتع السودانيين في نطاق هذه الوحدة وفي مدى عامين بالحكم الذاتي.

    بعد قيام حركة 23 يوليو 1952اختار مجلس القيادة أربعة من أعضائة للإشراف على الجيش المصري وهم اللواء محمد نجيب والصاغ عبد الحكيم عامر والصاغ كمال الدين حسين والصاغ صلاح سالم الذى أسندت إليه شئون الجيش المصري في السودان ومن هنا بدأ ارتباطه بقضية السودان.

     بدأ تدفق الوفود السودانية إلى مصر في محاولة لمعرفة الحكام الجدد وتوجهاتهم، والذين لم يكن من بينهم من هو معروفاً للسودانيين سوى اللواء محمد نجيب الذي كان نصف سوداني، في ذلك الوقت كان حسين ذو الفقار صبري يعمل أركان حرب للقوات المصرية في السودان وعمل على الاتصال بالقيادة في القاهرة ؛ لمعرفة موقف القادة الجدد من السودان، وخصوصاً صلاح سالم الذي وكلت اليه أمور السودان، وذكر صبري أنه شعر بعدم أهمية السودان للقادة الجدد الذين انصرفوا نحو تأمين أوضاعهم الداخلية ”ولكن أعاود الاتصال به في إلحاح، وفي ذهني أن قيام الثورة في مصر يتيح لنا فرصة إعادة النظر في علاقتنا السياسية بأحزاب السودان وأبلغ حسين صبري صلاح سالم بخطورة الموقف في السودان وأن 8 فبراير أخر موعد لإبلاغ الحاكم العام رأي مصر في دستور الحكم الذاتي في السودان، ودار حوار طريف بين الأثنين، قال صلاح سالم لا نجد وقتًا لنستحم، فرد عليه حسين صبري قائلًا: دع القيادة تتخذ إجراء فالمسألة خطيرة وضياع السودان يعني ضياع ماء النيل”، ويبدو أن صلاح سالم أراد التخلص من إلحاح حسين ذو الفقار ففوضه في الإتصال بالأحزاب والشخصيات السودانية “ولكني في غمرة حماسي اعتبرت ذلك تفويضاً من أعلى سلطة في البلاد، فأتحرك ساعياً إلى الاتصال بجميع الجهات مقتحماً طريقي إلى أعلى المستويات، أقبل عليهم بصدر مفتوح، فأفاجأ بمواقف لم تكن على البال”.

    قابل حسين ذو الفقار رجال الأحزاب والهيئات السودانية، وكتب تقرير بذلك ”وطرت إلى القاهرة، حاملاً مذكراتي، تحدوني الآمال، مدفوعاً بحماس أي حماس، فإذا بي أمام حجب كثيفة من أستار… مجلس قيادة الثورة في حالة انعقاد مستمر أو يكاد، دونه أبواب وكانت موصدة بالضبة والمفتاح.

    من المفيد أن نعرض لوصف حسين صبري لموقف مجلس القيادة من السودان ”كنت أحاول شرح أهمية واستعجال المشكلة التي أفكر فيها، والتي أحمل تفاصيلها في حقيبة أوراقي في يدي، غير أن أغلبهم كانوا يبدون مشغولين لدرجة لا يعيرونني فيها أهتمامًا، وكان جمال سالم ينصت لدقيقة أو أثنتين، ثم فجأة يتحرك مبتعدًا بعد بعض الوعود الفاترة بأن يقنع أخاه صلاح سالم بالاهتمام بالأمر، وكان البغدادى يؤكد لي أنه لن يتوانى عن دفع المجلس إلى الأستماع  إلى  فور أن يصبح ذلك ممكنا” وحاولت مرة الانفراد بصلاح سالم -وقد شعرت بأنه قد وكل إليه التصرف في الشئون السودانية وتفرعاتها جميعاً– فأشرح له ما اشتملت عليه مذكرتي من خطوط عامة.. ولكنه في عجلة من أمره وصل متأخر إلى مبنى القيادة، وقد سبقه زملائه إلى قاعة الاجتماعات فهو حريص على المسارعة فلا تتخذ خلال غيبته قرارات، دون أن يدل بدلوه في المناقشات.

    قلب أوراق المذكرة التي سهرت الليالي في تدبيجها، أدفع بها إليه مستجدياً، اتشبث بشخصه خشية أن ينفلت… وتمضي أيام، ثم أسبوع تلو أسبوع، وأنا ذاهب آت من المجلس وإليه… وعدت أدراجى إلى المنزل وقد تملكني ضيق، فمتى ثم متى سوف أتمكن من إثارة موضوع السودان، موضوع مرتبط أشد الارتباط بمصالح مصر الحيوية على المدى البعيد، فأين منه تلك المشاكل الطارئة التى استحوذت على كل هذه الاهتمامات؟ أما كان يمكن أرجاؤها”.

    بعد تدفق الوفود السودانية إلى القاهرة في محاولات للاتصال بالحكام الجدد تم استدعاء حسين ذو الفقار للمثول أمام مجلس القيادة وعرض تقريرة وكان أهم ما اشتمل عليه من نقاط هى:

-عرض نتائج اتصالاته بالهيئات السودانية جميعاً، مع تحليل للإتجاهات التي تحرك سياستها، ثم ما يطرأ على تلك الجبهات إذ جوبهت بمشروع دستور الحكم الذاتي.

-طالب بحق تقرير المصير للسودانيين ولكن في حرية تامة يظلها مناخ من حيدة مطلقة، وهذا لا يتأتى إلا بتقييد سلطان الحاكم العام البريطاني، وأن تخضع الانتخابات المقبلة لإشراف دولي قادر على التصدي لتدخلات الأجهزة الإدارية البريطانية الموجودة في أقاليم السودان.

-سودنة الإدارة في السودان ورأى التقرير أنها من الدعائم الرئيسية اللازمة لإقرار حكم ذاتي سليم، كما أنها الخطوة التي سوف تمكن مصر من ضرب النفوذ البريطاني في السودان.

-رفض فكرة الاستفتاء في السودان حول مستقبل علاقاته مع مصر وذلك لأن هذا الاقتراح ينطوى على الكثير من القيود والأخطار، وإجراء الاستفتاء في المناطق البعيدة المترامية ما كان ليهيئ الفرص لإقناع الأفراد بالحجج والبراهين، ذلك لأن معظمهم واقع تحت مؤثرات محلية طاغية.

    من المفيد أن نترك لقلم حسين ذو الفقار أن يصف لنا وقع استماع مجلس القيادة لتقريره ”… بدا لي أن قد شحنت تقريري بملامح عن أوضاع لم يكن يتصور أحد من السامعين بأن قد بلغت هذا القدر من تعقيد، فألاحظ انصراف البعض إلى أوراقهم الخاصة –وكأن لسان حالهم يقول ”هو احنا يعني ناقصين مشاكل” ويتظاهر البعض الآخر من قدامى الأصدقاء بالإنصات إلى ما أقول، بينما أشعر بأن اهتماماتهم الحقيقية إنما مشدودة “إلى ما كان وكل إليهم من اختصاصات… شعرت بخيبة أمل تتخونني رويداً، فيتبخر الحماس الذي كان يحدوني ولكني أمضي قدماً، وقد خفت صوتي إلى وتيرة من رتابة، وكأنى أكلم نفسي، فقد أنفضت من حولي دائرة الاهتمام.

ووكل إلى محمد نجيب المسألة السودانية يعاونه أثنان هما: صلاح سالم وحسين ذو الفقار باعتباره كاتب التقرير. وعمل حسين ذو الفقار وحامد سلطان وعلي حسني زين العابدين على كتابة المذكرة المصرية للمفاوضات مع بريطانيا حول السودان، وهي تنص على حق تقرير المصير والحكم الذاتي وسودنه الوظائف. كان أبرز ما اشتملت عليه المذكرة المصرية هو إنشاء لجنة خماسية للحد من سلطات الحاكم العام… وهي حجر الزاوية في التعديلات الدستورية، بغية التمهيد للقضاء على النفوذ الإنجليزي في السودان.

   هذه المذكرة  تعتبر تحولاً عن الموقف المصري الجذري والثابت من السودان وهو أن السودان جزء لا يتجزأ من الوطن المصري، لذا أحدثت تلك المذكرة دوياً هائلاً لأنها أول تحرك مصري دولي بعد 23 يوليو 1952 ومن ناحية أخرى لأنها اتسمت بموقف مغاير للثوابت المصرية.

   عمل صلاح سالم على التمهيد للناس حتى يتقبلوا هذا التغيير وكانت الوسيلة في ذلك الصحافة، فكتبت الصحف المصرية التي أصبحت موجهه من مجلس القيادة المقالات والتحليلات في هذا الأمر.

   بعد اعلان المذكرة المصرية طار صلاح سالم وحسين ذو الفقار إلى السودان للحصول على تأييد الأحزاب السودانية للمذكرة المصرية، والتقيا بقادة تلك الأحزاب، ولكنهما يستدعيان سريعاً للقاهرة، لتحديد موعد بدأ المفاوضات مع الجانب البريطانى، وكان صلاح سالم يهدف الى ضرورة الحصول على وثيقة موحدة تحدد مواقف الأحزاب السودانية من المذكرة المصرية، حتى لا يترك الجانب البريطانى يتحجج كلما جوبه بموقف محدد من الجانب المصري، بأن صياغة الأحكام المنظمة للإجراءات التي سوف تعالج التطورات المقترحة، إنما بحاجة إلى مزيد من تشاور مع الهيئات السودانية تبصيراً لهم بما سوف يترتب عليها من عواقب.

    أثناء تلك الزيارة التقى صلاح سالم وحسين صبري مستشار السفارة البريطانية في الخرطوم وأبلغاه أن النظام الجديد يقدم فكرة جديدة تمامًا عن السودان، وقد تخلى عن شعار وحدة وادي النيل، ويعمل على استقلال السودان استقلالًا حقيقيًا، وهو تغيير كبير، واللواء محمد نجيب والحكومة يقومان بجهد حقيقي مخلص للتوصل إلى حل عملي لمشكلة السودان، ولكنهما يخشيان إعطاء مناوئيهما الكثيرين فرصة مواتية للهجوم عليهم.

    بذلك فالنظام الجديد لم يرفع ما رفعه النظام القديم من “ضرورة الجلاء ووحدة وادى النيل، ومن أجل دفع المفاوضات إلى الأمام، قرر العسكريون إسقاط مطالب مصر بشأن الاتحاد مع السودان لصالح الحكم الذاتي للسودانيين، علاوة على هجرهم لتكتيكات النظام القديم التي كانت تربط مسألة السودان بمسألة الدفاع، وقد أستحسنت وسائل الإعلام الغربي الموقف المصري الجديد، فكتبت التايمز في صدر صفحاتها الرئيسية تعليقًا يقول ”على ما يبدو فإن مصر قد قدمت في مسألة السودان أكثر مما قدمه البريطانيون وزيادة”.

أرسل محمد نجيب مذكرة إلى البريطانيين اقترح فيها الآتى:

-تمكين السودانيين من ممارسة الحكم الذاتي الكامل.

-تهيئة الجو الحر المحايد الذي لابد من توافره لتقرير المصير.

    وكان هذا التغير الجذري في أيديولوجية المفاوض المصري مفاجأة تامة للحكومة البريطانية التي لم تجد بداً من الموافقة. وقبل بدء المحادثات حول السودان كتب السفير الأمريكي في القاهرة لحكومته في 12/10/1952 قائلاً ”نجيب وضباطه يدركون بوضوح أنهم يتخلون عن سياسة حكومات مصر الماضية التي كانت تطالب بوحدة وادي النيل، وقال نفس السفير ”ولو أن المصريين قلبوا المائدة على الإنجليز بطرح مقترحات تؤيدها الأحزاب السودانية الرئيسية والتي تهدف إلى إنهاء السيطرة البريطانية على السودان، إلا أن الحقيقة هي أن بريطانيا كسبت معركة أبعاد المصريين من السودان والمصريون يعرفون ذلك.

      لم يستطع السفير البريطاني في القاهرة أن يكتم سعادته بما جاء في المذكرة وأبرق إلى لندن يقول ”أرى من الضرورة الاستفادة إلى أقصى حد من شجاعة اللواء محمد نجيب وبراعته كرجل دولة، في تغيير مسار السياسة المصرية المصرية، الذائعة الصيت، حول وحدة وادي النيل تحت التاج المصري… وقال السفير البريطاني قبول الحكومة المصرية لمبدأ الحكم الذاتي الفوري وتقرير المصير للسودانيين خلال فترة محددة يمثل خطوة للأمام ويقربها أكثر من وجهات نظر الحكومة البريطانية”.

   يرى البعض أن أمريكا أدركت أن رفض بريطانيا لاتحاد مصر والسودان هو رفض نهائي لا سبيل لتذليله، وصادف هذا الموقف البريطاني هو لدى المبشرين الأمريكان والاستعماريين التقليديين في الإدارة الأمريكية من أعداء الامتداد العربي الاسلامي في أفريقيا، والمدرسة الصهيونية التي ترفض أية تقوية لمصر، والتي تعتقد أن الضغط على الشعب المصري أو خنقه داخل حدود مصر هي أفضل وسيلة لانهيار مقاومته وقبوله السيادة الاسرائيلية على المنطقة، أو على الأقل تقليل فعاليته، لذلك كانت الصفقة هي اقناع الانجليز بقبول الجلاء عن السودان مقابل عدم اتحاده مع مصر، واقناع المصريين بالتركيز على تحقيق الجلاء وبناء قوة مصرية بدلاً من الجرى وراء سراب وحدة وادي النيل التي لن يسمح بها الانجليز ابداً، وهو ما قبلته القيادة العسكرية الحاكمة في مصر.

     بدأت المباحاث المصرية البريطانية حول السودان في 20 نوفمبر 1952 وتشكل الوفد المصري برئاسة محمد نجيب وعضوية صلاح سالم وحسين ذو الفقار صبري والدكتور محمود فوزي والدكتور حامد سلطان وعلي زين العابدين بينما كان الوفد البريطاني مكوناً من سير رالف ستيفنسون ومستر كووزويل الوزير المفوض ومستر باورز السكرتير الأول بالسفارة.

    بعد انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات بين الطرفين، سافر صلاح سالم إلى  السودان، ونجح في الحصول على موافقة الأحزاب المتمركزة رئاستها في الشمال على نصوص المذكرة المصرية، في صلب وثيقة موحدة، تم توقيعها في 10 يناير 1953 بعد إدخال تعديلات قليلة عليها، كما حصل على توقيعات الجنوبيين أثناء رحلته إلى الجنوب، ووقع الجميع على الوثيقة الموحدة، في الوقت ذاته عمل صلاح سالم على جمع الأحزاب الوحدوية في حزب واحد هو الحزب الاتحادي.

    بعد مفاوضات استمرت عدة جلسات وقعت اتفاقية تقرير مصير السودان بين مصر وبريطانيا، يوم الخميس 12 فبراير 1953، وقع الاتفاقية عن مصر محمد نجيب وعن الجانب البريطاني ”ورالف ستيفنسون” ونصت على:

-وجود فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، يتم فيها تصفية الإدارة الثنائية: “الأنجلو مصرية”.

-يكون للحاكم العام اثناء فترة الانتقال السلطة الدستورية العليا وفقاً لقانون الحكم الذاتي، تعاونه لجنة خماسية مؤلفة من عضوين سودانيين ومصري وبريطاني وباكستاني، مثل مصر فيه حسين ذو الفقار صبري.

-تأليف جمعية تأسسية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس:-

-أرتباط السودان بمصر على أية صورة

-أو الاستقلال التام والانفصال عن مصر

-أن تنسحب القوات العسكرية المصرية والبريطانية من السودان فور أصدار البرلمان السوداني رغبته في الشروع في اتخاذ التدابير لتقرير المصير.

-تشكيل لجنة لسودنة الوظائف خلال فترة الانتقال وهي تتكون من خمسة أعضاء (عضو مصرى- وعضو بريطاني– وثلاثة أعضاء سودانيين).

    أجريت أول انتخابات سودانية في ظل الاتفاقية، وفاز الحزب الوطني الاتحادي برئاسة إسماعيل الأزهري بأغلبية ساحقة، وتولى الأزهري رئاسة أول وزارة سودانية يوم 9 يناير 1954، وساءت الأحوال بين الأزهري وصلاح سالم، وتحول من الخط الوحدوي إلى المطالبة بالاستقلال عن مصر.

    على الجانب المصري بدأ صلاح سالم يتعرض لهجمات زملائه، بل وبعض ضباط الصف الثاني، وهو الذي كان عنيفاً في هجومه على محمد نجيب، وبدأ مجلس القيادة يحاصر صلاح سالم، وانتقد عبدالناصر سياسة سالم في التعامل مع الزعماء السياسيين السودانيين بأسلوب غلبت عليه روح المنفعة الذاتية، وتقدم صلاح سالم باستقالته للمرة الثانية في سبتمبر 1955، وقبلها المجلس فوراً.

    تولى زكريا محيي الدين مسئولية السودان، وسحبت مصر وبريطانيا جيوشها من السودان، ووجدت حكومة السودان بعد الجلاء أن الأمر لا يحتاج إلى استفتاء بشأن شكل الحكم بعد اتفاق كل الأطراف الحاكمة على معارضة الاتحاد، وأعلنت قيام الجمهورية السودانية في 19 ديسمبر 1955، وتشكيل مجلس قيادة لرئاسة الدولة، وأعلن مجلس قيادة الثورة في مصر استقلال السودان رسمياً في أول يناير 1956.

خطايا يوليو وصلاح سالم في حق السودان

   لاشك أنه ارتكبت العشرات من الأخطاء التي أدت في النهاية إلى الانفصال بين مصر والسودان، ويعتبر صلاح سالم مسؤولاً عن بعضها، ومجلس القيادة عن البعض الآخر، ومن هذه الأخطاء:

-من خلال المصارد المختلفة ومنها حسين ذو الفقار صبري يتضح أن مجلس القيادة كان مشغولاً بأمور أخرى كثيرة بعيداً عن السودان، وفي الاجتماعات كانت ظروف العمل في مجلس القيادة لا تسمح كثيراً بالمناقشة أو المتابعة الدؤوبة، وكانت ثفاقة هؤلاء الضباط عسكرية، ولم تكن لتؤهلهم لتولى أعمال مدنية، ومسؤولية قضايا كبرى ذات أبعاد دولية مثل قضية السودان، وهو أمر يحتاج منذ البداية إلى تنظيم علمي دقيق وهو ما لم يكن متاح لهم.

-أدت كثرة الأعمال داخل مجلس القيادة إلى فرض ظروف ينفرد فيها البعض بمسئوليات تحتاج إلى التشاور، فانفرد صلاح سالم بأخطر ملف، السودان.

-كانت لشخصية محمد نجيب أبعد الأثر في اكتساب ثقة السودانيين على اختلاف طوائفهم، لذا فقد كان للتعامل القاسي وغير الآدمي الذي لقاه محمد نجيب أثر في منتهى السوء في السودان، نظراً  للشعبية الجارفة التي كان يتمتع بها هناك، فقد كان السودانيون يتطلعون إلى الوحدة مع مصر في ظل وجود محمد نجيب، وقد اعتبر السودانيون موقف مجلس القيادة متسماً بعدم الوفاء، مما عكس عليهم هذه الصفة وخلق في نفوس السودانيين حذراً من الاتحاد مع مصر، وقامت المظاهرات تهتف لنجيب فى شوارع المدن السودانية.

-لم يسلك مجلس القيادة اسلوباً حكيماً في التعامل مع السودانيين، ولم يواجه زعماءهم بوجه واحد، وإنما ترك صلاح سالم يتصرف في الأمر وحده بطريقته الخاصة، دون مناقشة جماعية مشتركة، وبغير حرص على الاستفادة من علاقة محمد نجيب الطيبة بكافة الزعماء السياسيين السودانيين.

-تعامل صلاح سالم في مقابلاته مع بعض زعماء السودان بأسلوب الضباط وليس بأسلوب السياسيين، كما أن تجمع بعض ضباط الصف الثاني الذين كونوا شللاً خاصة لكل عضو من أعضاء المجلس حال بينهم وبين الرؤية الكاملة.

     نجد حسين ذو الفقار يصف تصرفات صلاح سالم في أكثر من موضع بقوله ”أصبح صلاح سالم في عجلة من أمره، فينعكس ذلك بآثار على مناخ الاتصالات… تتوتر أعصابه من جهة، فيفقد أسلوبه تلك السلاسة التي كانت حتى اللحظة تستميل الأسماع.. كما بذرت الشكوك في نفوس ممثلي الأحزاب… إذ يلجأ صلاح سالم إلى الحث، وإلى صنوف من إلحاح دونما فرصة لإمهال”.

   في موضع آخر يقول “كثيراً ما كان يندفع إلى بعض الأعمال لمجرد أن يتملكه الشعور بتعدد مجالات الاستغلال.. كانت تستهويه الرمية التي تمنيه بالقدرة على أن يصيب بحجر واحد عشرات العصافير”.

    لجأ صلاح سالم في كثير من الأحيان إلى سياسة الإعانات المالية لتوزيعها على الأحزاب والشخصيات السودانية، وهو ما آثار اعتراضات البعض على ذلك ولكنه سار في طريقه غير عابئ باعتراضات، وسياسة توزيع الأموال على السياسيين كانت في أغلبها مفسدة، وأدت لانهيار السياسة المصرية في السودان ولوصم المتعاملين مع مصر بالرشوة.

    أخذت بذور التناقض تنمو بين الأزهري وصلاح سالم، الذي فقد الكثير من شعبيته في السودان –نتيجة لموقفه المتشدد من محمد نجيب–، وأثار صلاح سالم ضد الأزهري فريقاً من حزبه بقيادة محمد نور الدين نائب رئيس الحزب، وآثار ضده فريقاً من الجنوبيين كقوة ضغط، وفي النهاية خرج الأزهري عن الخط الاتحادي خوفاً من الحكم العسكري في مصر.

    وقع رجال يوليو في خطأ لغوي أدى لمصيبة سياسية فقد جعلوا الاستفتاء ليس بين الوحدة والانفصال بل بين الوحدة والاستقلال كأن الوحدة هي النقيض للإستقلال.

    واضح تماماً وخصوصاً من مذكرات عبداللطيف البغدادى أن النزاع بين عبدالناصر وصلاح سالم كان يقضي باستنزاف الثاني في النزاع مع محمد نجيب ثم اسقاطه في السودان بالانفصال التام عن مصر. وأن هناك مؤامرة كبرى كانت تدبر لعدم اتمام اتحاد مصر والسودان ويشترك في هذه المؤامرة بعض المسؤولين من داخل مجلس القيادة نفسه وبعض عناصر من خارجه واتهم في ذلك علي صبري وزكريا محي الدين وأنور السادات، وبذلك شعر الناس في السودان بوجود جبهتين مصريتين داخل السودان، جبهة عبدالناصر وجبهة صلاح سالم، وكانت الأولى أقوى وأكثر فعالية.

    إضافة لكل ما سبق فقد نتجت حالة كراهية للنظام العسكري المصري لما أصاب الجماعات السياسية العقيدية من عنت رجال يوليو مثل: الإخوان المسلمين ولهم امتداد واسع داخل السودان، والحركة الشيوعية وقد اعتقلوا وشردوا، والشيوعيين السودانيين هم تلاميذ الحركة الشيوعية المصرية للتحرر الوطني ”حدتو”، وعندما أراد صلاح سالم اجتذاب الحركة الشيوعية السودانية لصفه لجأ إلى الشيوعيين المصريين، ولكن بعد فوات الأوان، مما أدى لانسحاب أنصار هذه الجماعات من داخل التيار الوحدوي السوداني.

-السياسة الامريكية الضاغطة على مجلس القيادة للتخلي عن فكرة وحدة وادي النيل، لأن بريطانيا لن تقبل بها بأى حال، في مقابل الخروج النهائي للأنجليز من مصر. وعدم الاستماع لنصائح بعض الخبراء المصريين المحنكين مثل د/ عبد الرازق السنهوري الذي تم أستبعادة من المفاوضات لاصراره على وحدة وادي النيل.

   جاءت الحلقة الأولى من المذكرات بعنوان ”لماذا استقلت من مجلس الثورة ومجلس الوزراء”، فيه يتحدث صلاح سالم إلى المواطنين مؤكداً أنه سوف يحدثهم في كثير من الأمور التي تهمهم والتي حدثت أثناء تولية المسؤولية سواء في مجلس قيادة الثورة أو في مجلس الوزراء، فهي حسب تعبيره فترة من أعصب فترات تاريخنا، ومع ذلك فهو يؤكد أن هناك بعض الحقائق الذي قد يضطر اضطراراً إلى إغفالها حفاظاً على المصلحة العامة، واعتقد أن هذه رسالة بعثها صلاح سالم إلى زملائه السابقين بأنه يمتلك معلومات هامة قد تؤثر عليهم. ذكر صلاح سالم الموضوعات التى سيتحدث فيها ومنها:

-لماذا استقال من الوزارة.

-لماذا استقال من مجلس قيادة الثورة؟ وهل كانت استقالة أم إقالة؟.

-ما هي حقائق المناقشات والمداولات التي لم ينشر عنها حرف للآن والتي دارات داخل مجلس قيادة الثورة؟.

-علاقته بأعضاء مجلس القيادة قبل وبعد خروجه منه.

-أين أمضى الشهور الثمانية التي أعقبت تركه لمنصبه وحتى بدأ في كتابة مذكراته في جريدة الشعب بل وعد بالحديث عن كيفية نشأة الجريدة ومن أين أتى بالأموال لشراء المطبعة.

-وعد بأنه سوف يتحدث عما أشيع عن اختلاسه لأربعة ملايين من الجنيهات، والتى قيل أن زوجته قامت بتهريبها خارج مصر، وتهديد محمود أبو الفتح لحكومة مصر بفضح هذا الأمر بالمستندات.

 

-وعد بالحديث عن عمالقة سياسيين تتحدث عنهم صحف العالم، وأيضاً عن ساسة مغمورين.

-وعد بالحديث عن تفاصيل اتصالاته ومفاوضاته مع القادة والزعماء والملوك والأمراء والثوار، وأهم من ذلك قصة السودان.

   لكن للأسف الشديد فقد توقفت المذكرات قبل أن يحدثنا عن شيء من تلك الموضوعات بإستثناء السودان. وفى الحلقة الثانية من المذكرات تحدث صلاح سالم في عدة موضوعات متفرقة ولكنها تعطينا فكرة عما يدور في كواليس السلطة وكيفية إدارة البلاد آنذاك بيد مجموعة من الشباب العسكريين عديمي الخبرة في الإدارة والحياة المدنية، وكل منهم يتسابق لجمع أكبر عدد ممكن من المصالح والسلطات بين يديه.

    بدأ بالحديث عن السودان وهل حقيقة طرد الأزهري صلاح سالم وهل رفض الأزهري اقتراح بتعيين صلاح سالم سفيراً لمصر في السودان؟ برغم رفض صلاح سالم لهذه الحكايات وتهكمه عليها فإن أحمد حمروش وغيره من المعاصرين والقريبين من الأحداث يؤكد أن الموقف بين الأزهري وصلاح سالم انتهى إلى تناطح حاد بينهما فصلاح سالم الذي اتبع في سياسته بالسودان اسلوباً  يخرب علاقات القوى السياسية ويمزق صلابة الأفراد، حيث استخدم المال وسيلة للإقناع وجذب زعماء القبائل، ولم يجد صلاح سالم سوى محاولة حصار إسماعيل الأزهري بتأليب بعض أعوانه ضده ونشر بعض الحقائق القديمة عنه، وخطب إسماعيل الأزهري في الجماهير يقول ”إن لحم أكتافي من مصر وقد دخلتها لابساً حذاء كاوتش.. ولكن هل يرضيكم أن يحكمنا صلاح سالم والعسكريون في مصر، كما يؤكد حمروش إنه بعد استقلال السودان ذهب صلاح سالم إلى السودان كشخص عادي، ورفض الأزهري أقتراحاً بقبوله أول سفير مصري هناك.

صلاح سالم في ” قصة يوم”

     في هذه الحلقة عرض وبشكل بسيط لحلف بغداد وعد بأنه سيكمل الحكايات عنه فيما بعد، ومن أجل ما حكاه صلاح سالم فى مذكراته ما سماه ” قصة يوم”، وهو يشرح لنا تفصيلات حياته العملية في يوم ويؤكد أن أعماله كانت كثيرة جداً لدرجة أن الأربع والعشرين ساعة لم تكن تكفى، فقد كان علي مقابلة المئات يومياً من سياسيين ورجال أحزاب وتجار وسفراء وطلبة وفنانين وأًصحاب حاجيات ”كل منهم يشعر أن من حقه أن يقابلني مرة وربما مرات وكل هذا ليتحدث إلي في أرائه وأفكاره وإتجاهاته أو في مشاكله… وإن كان من الجنوب فربما أصر قبل أن يدخل في صلب الموضوع الذي جاء من أجله أن يسرد على تاريخ السودان منذ دخله محمد على –على الأقل- إلى أن وصل إسماعيل الأزهري إلى رئاسة الوزراء في الخرطوم، وهو يحكي تفصيلات كثيرة جداً ومعقدة ومتشابكة الأحداث لقصة يومه.

    يلاحظ على صلاح سالم في هذه الحلقة عدة أمور جديرة بالنقاش وهي:– العصبية الشديدة وسيطرة الروح العسكرية عليه وهو نفسه يؤكد ثقل مقابلة الدبلوماسيين ”أحاول طوال الزيارة أن أعتقل أعصابي وأمسك بزمامها حتى لا تفلت”.

    كان صلاح سالم يرى في نفسه القدرة لتولي مناصب أعلا مما هو فيها، وكان مغروراً جداً ”لم أشك يوماً من الإرهاق في العمل الذي تخللته رحلات عديدة مضنية ولكني كنت أشكو دائماً من عقول لا تفهم تبعاتي ولا تعرف حدود منصبي ولا تقدر إمكانياتي، وربما كان هذا الأمر من الأسباب التى عجلت بالإنفصال بين عبد الناصر وصلاح سالم الذي رأى في نفسه قطبًا موازيًا لناصر، يؤكد ذلك ما ذكره ناصر الدين النشاشيبي إنه أثناء مباحاثات سرسنك سأله صلاح سالم قائلاً: قل يا أخ ناصر هل أنت معي أم مع العراق أم مع جمال عبدالناصر؟. وبذلك فقد كان غروره واحساسه أنه قدم خدمات كثيرة وتحمل أعباء أكثر من زملائه، يدفعه للقول أنه مثل عبدالناصر فكان التعجيل بالصراع والانفصال.

    في هذه الحلقة من مذكراته جعلنا صلاح سالم نشعر أنه كان يحكم مصر والسودان ويتولى تسيرر كافة الأمور فيهما من أكبر شيء إلى أقل الأمور تفاهة، من السياسة الخارجية والداخلية إلى تعيين الفراش والتومرجى، ومن إذاعة صوت العرب وتوجيهاته إلى الرقابة على الصحف، ”أمثلة للخليط العجيب من الإختصاصات والمتناقضات والتي حرمتني طويلاً من نعمة الشعور بكيان أسرتي”.

عن أول اتصال بين الثورة وقضية السودان

    في الحلقة الثالثة وهي بعنوان: (أول اتصال بين الثورة وقضية السودان). يتحدث صلاح سالم عن ”الصدفة” التي جعلت منه مسؤولاً عن السودان، فهو يؤكد وبصدق وصراحة أنه لم يكن يعرف شيئاً عن السودان ولا عن تاريخه، كما يعترف أنه وزملائه في مجلس القيادة لم يكونوا قد تناقشوا في أي شيء خاص بالسودان قبل يوليو 1952: “أن أمر هذه القضية –يقصد قضية السودان- لم نتعرض له قط في اجتماعاتنا ومناقشاتنا التي سبقت الثورة”، وهذا يؤكد غياب البعد الاستراتيجي في فكر هؤلاء الشباب الذين ساعدتهم الأقدار إلى الوصول حكم البلاد وهم غير مؤهلين لذلك.

    يحاول صلاح سالم ايهامنا أننا لم نكن نعرف شيئاً عن السودان قبل أن يتولى هو مسؤلية ملف السودان، وهذا القول فيه مبالغة شديدة وتجني على الواقع فالسودان وأهلىه كانوا دائماً حاضرين على طاولة المفاوضات، وفي الصحافة والمناقشات العامة في مصر، وكان هناك دائماً تأثير وتأثر بين القطرين.

    تعود قصة تولي صلاح سالم أمور السودان عندما استقر رأي مجلس القيادة على توزيع الإشراف على قوات الجيش بين عبدالحكيم عامر، وكمال الدين حسين وصلاح سالم، فأصبح سالم هو المشرف على وحدات الجيش في السودان، وبالتالي أصبح مسؤول عن حل كل الأزمات الموجودة في السودان. ”إذ دق أي تليفون من تليفونات القيادة العامة في كوبرى القبة وكان المتكلم من الخرطوم فهم يحولون الخط فوراً إلى مكتبي دون أي تردد حتى ولو من العسكري التليفونجي، أصبحت أخصائياً في قفل الأبواب التي تفتح علينا فجأة من الخرطوم في نظر إخواني وزملائي القاطنين في مبنى القيادة العامة”.

     يثير صلاح سالم قضية رائعة بحق وهي أن كبار الموظفين المصريين وخصوصاً الوزراء كانوا يحملون أوراقهم معهم بعد إنتهاء مدة عملهم أو أحالتهم على المعاش وكأن هذه الأوراق ملكاً لهم وليست ملكاً لمصر.

   يذكر حسين ذو الفقار عن بداية تولي صلاح سالم لملف السودان قائلاً ”تتابعت اتصلاتي التليفونية –من الخرطوم- بمجلس قيادة الثورة عن طريق صلاح سالم وما كنت قد قابلته من قبل وكلت إليه فيما يبدو مسؤولية الإشراف على شئون قواتنا في السودان، ويتضح لي مرة تلو أخرى أنه لم يكن يعنيهم منا غير تأمين أوضاعها ولا يزيد، في خضم ما كان يواحههم من مشاكل عاجلة لا تحتمل تسويفاً… حاولت جهدي أن أقنع صلاح سالم من خلال مكالماتي التليفونية المتكررة بضرورة الاتصال بمختلف الأحزاب والهيئات السودانية، ويبدو أنه قد ضاق آخر الأمر بإلحاحي، فيحاول أن يلهيني حتى انشغل عن ملاحقته”. ”اللي تشوفه، ما فيش مانع… بس أرجوك تحطنا في الصورة، وتجهز لنا تقدير موقف”.. ويتبين لي فيما بعد أن قد قال ما قال دون أهتمام جدي بما سوف تتمخض عنه اتصالاتي، ودون تقيد بالتزام.

   في الوقت ذاته نجد صلاح سالم يتحدث عن بدء علاقته بالسودان حيث أمضي جزء كبير من طفولته هناك حيث كان يعمل أبوه، وتحدث عن علاقته ببعض الضباط والجنود السودانيين الذين أنقذوا حياته في الفالوجا عام 1948، وحديثه هنا تختلط فيه الرغبة في إظهار البطولة الخارقة له والتي بدت في عبور الخطوط والوصول لعبد الناصر ويختلط به أيضاً اعداد القدر له لتحمل مسؤولية السودان لرد الجميل إلى السودانيين وهو في قصته هذه يحاول أن يوهم القراء أنه كان شريكاً لعبدالناصر في التخطيط للحركة منذ اللحظة الأولى لإجتماعهما داخل ”عراق المتشبة” وهو في حديثه عن عبدالناصر لا يقول سوى: جمال.

     عمل صلاح سالم ومنذ البداية على التمهيد بالقول أننا أخطأنا في حق السودان قبل 1952 لأننا لم نكن نعرف أي شيء عنه واكتفى الساسة بترديد بعض الشعارات الجوفاء من وجهة نظره وذلك للاستهلاك المحلي فقط، واعتقد أن ذلك امتداد لما فعله قادة يوليو من محاولة هدم كل شيء قبل 1952 للقول أنهم بدؤا منذ البداية وأن كل ما سبقهم كان باطلاً فهو يؤكد ”وكانت مصر قد خرجت قبل ذلك وبوقت طويل جداً من كل الأبواب في السودان وانفصلت عنه إنفصالاً كاملاً واقعياً في كل شيء، وهو قول يكذبه التاريخ ولكنه يؤكد محاولة تبيض الوجه أمام التاريخ للتخلي عن مسؤوليتهم في انفصال السودان فهو يعمل على الترويج لفكرة أن الساسة المصريون قبل 1952 قد سلموا لبريطانيا بكل ما ارادته في السودان.

    أخطر ما يذكره ”سالم” أن مطالبة الحكومات المصرية قبل 1952 بأن السودان جزء من مصر ولا يحق لبريطانيا أن تقيم فيه كياناً منفصلاً عن مصر هو مجرد شكليات وشعارات للإستهلاك المحلي، ويندرج هذا الكلام أيضاً في إطار التبرير لما قام به “سالم” ورفاقه من خطيئة فصل السودان بل أنه يؤكد أنهم خدموا السودان وساعدوه على الحصول على الاستقلال، وهو يصم السياسة المصرية السابقة لـ 1952 تجاه السودان بالسلبية.

    يبقى أن صلاح سالم شخصية مثيرة للجدل فهو عصبي حاد المزاج جدًا كان يرى في نفسه أنه أحق بالقيادة من ناصر فدخل في صراع أنتهى بازاحته عن السلطة، فهو يتقمص البطولة احيانًا، ومرات أخرى نراه على النقيض تمامًا فهو يطالب في اثتاء حرب 1956 بأن يقوم مجلس القيادة بتسليم نفسه للسفير الانجليزي في القاهرة. لذا فمن المهم أن نقرأ ما كتبه حتى نستطيع تكوين صورة واعية عن أولئك الذين تصدروا قمة المشهد السياسي في وقت ما. ربما نستفيد مما مر بنا من أحداث.

   إن ما حدث في السودان مؤخرًا يجعلنا نفكر جديًا فى إعادة التفكير وتقييم الكثير من المواقف التى اتخذناها بحق السودان، وتساعدنا هذه المذكرات في هذا الأمر فالسودان هو الصخرة التي كانت تتحطم عليها دائماً المفاوضات المصرية البريطانية، وكانت النظرة التي توارثتها الحكومات المصرية المتعاقبة حتى 1952 أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، فقد كان هناك فهم واع للأمن القومي المصري وأن السودان يمثل العمق الاستراتيجي لمصر، وكانت بعض الحكومات الموالية للإحتلال تجبر على تقديم بعض التنازلات الخاصة بالسودان، ولكن هذه التنازلات كانت تقف إلى حد معين، ومن خلال متابعة أحداث تاريخ مصر في الفترة من 1882 حتى 1952، لم يكن هناك من يجرؤ على القول بفصل السودان عن مصر. إلى أن كانت الواقعة الكبرى التى تحدثنا عنها هذه المذكرات.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى