دراسات اقتصادية

دروس من تنامي الاقتصاد الفيتنامي!

في هذه المرحلة الحرجة التي يقف فيها عالمنا العربي على عتبات مستقبل مليء بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية، حريٌ بنا أن نتأمل ونتفكر مليا في التجارب الدولية التي سبقتنا على مضمار التصنيع والتقدم الاقتصادي. وكما هو معلوم، فإن التأمل في هذه التجارب ليس من قبيل الترف الفكري الذي يقع فيه المتكاسلون، ولا هو هدف في حد ذاته؛ بل هو الطريقة المثلى لتحديد مكامن الخلل في تجاربنا الاقتصادية العربية مقارنة بهذه التجارب الناجحة؛ وبه نستلهم العبر ونشحذ الهمم في طريقنا التنموي الشاق.
وقارة آسيا مازالت تبهرنا بقصصها حول النجاح الاقتصادي؛ إذ تزخر بالعديد من القصص اللامعة قديما وحديثا. فمن كوريا الجنوبية إلى الصين، مرورا بهونج كونج؛ ومن سنغافورة إلى ماليزيا، وصولا إلى فيتنام؛ صرنا أمام رقعة جغرافية هي الأبرز في الصعودي التصنيعي في عالمنا المعاصر، وهي الأسرع في إنجاز التراكم والنمو الاقتصادي. والقصة الآسيوية التي سنحاول ثبرها فيما يلي تدور حول تنامي الاقتصاد الفيتنامي.
هناك أسباب متنوعة دفعتني للكتابة عن تجربة فيتنام الاقتصادية. أولها أنها-أي فيتنام-قريبة الشبه، في خلفياتها الاجتماعية والسياسية، من واقعنا العربي؛ وهذا التشابه يجعلها جديرة بالدراسة وملائمة للمحاكاة. وثانيها أن الاقتصاد الفيتنامي، وإن كان يسير بخطى سريعة نحو التحول من اقتصاد شبه صناعي لاقتصاد صناعي معتمد على ذاته، لكنه لم يتجاوز بعد هذه المرحلة التنموية؛ أي أنه لا يبعد كثيرا عن واقعنا الاقتصادي العربي. وثالثها أن مؤشرات الإنجاز التي حققها هذا الاقتصاد وهو في طور التحول الاقتصادي غنية بالدروس التي يمكن لعالمنا العربي الاستفادة منها في تطوير سياسات تنموية-قُطرية وقومية-كفيلة بإقالته من عثراته الاقتصادية المتعددة.
على أن الإنجاز التنموي الذي يمكن لأي تجربة ناجحة أن تحققه يكمن في ثلاثة مقومات؛ ففي خصائص البشر، وفي البنيان الاقتصادي وقوى الإنتاج، وفي استدامة النمو الاقتصادي تتألف هذه المقومات الثلاثة. فأما عن خصائص القوى البشرية في فيتنام الراهنة، فاعتمادا على مؤشرات التنمية العالمية التي يرصدها وينشرها البنك الدولي، فإن سكان هذا البلد الساحلي قد استفادوا كثيرا من تسارع معدلات التنمية المحققة. فبعدما كان الفيتنامي يعيش عمرا متوقعا عند ميلاده متوسطه أقل من 60 عام خلال ستينيات القرن الماضي، زاد هذا المتوسط ليصل إلى 75 عام حاليا. وهو متوسط يزيد عن نظيره العربي، ويقترب من المستوى المحقق في الدول المتقدمة وعالية الدخل. والتحسن في خصائص القوى البشرية لم يحدث في متوسط العمر المتوقع عن الميلاد فقط، لكنه شمل أيضا جودة هذا العمر من الناحية التعليمية والناحية الصحية، للتوسع الملحوظ في قدرات الحكومة الفيتنامية على إشباع هذه الخدمات الاجتماعية. ونظرة سريعة على مؤشرات الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة كفيلة بإثبات هذه الحقيقة. فحصة التعليم والصحة من جملة الانفاق الحكومي تدور حول ربع هذا الإنفاق بكامله خلال العقد الماضي؛ ونسبة الأمية في صفوف الكبار لا تزيد حالياً عن 5% من جملة السكان فوق 15 عام، بينما تبلغ هذه النسبة عربيا 25% تقريبا!
وإذا كان الاقتصاد الفيتنامي يتبنى النهج الاشتراكي المتصالح مع السوق، فيمكننا القول، وبثقة كبيرة، أن ما تحقق من تحسن في خصائص قواه البشرية يعود لتنامي قدراته التصنيعية وتحوله من اقتصاد زراعي لاقتصاد شبه صناعي. فنحن نؤمن يقينا أن التصنيع التنموي هو عماد التقدم الاقتصادي والاجتماعي. فإذا نظرت مثلا لمساهمة الصناعة التحويلية في الاقتصاد الفيتنامي، فسترى ما يبهرك. فمن منتصف ثمانينيات القرن الماضي، والتسارع التصنيعي الفيتنامي يأخذ بالألباب. فبينما نمت قدرات العرب التصنيعية بمعدل متوسطه 3% سنويا من حيث القيمة المضافة، كان هذا المعدل في فيتنام يبلغ 9%. وما لبثت أن انعكست آثار هذا التقدم الصناعي على هيكل التجارة الخارجية الفيتنامي باختفاء العجز من حسابه الجاري وتحوله لحالة الفائض. فمن حيث الكم، تفوقت الصادرات الصناعية على الواردات الصناعية باستمرار؛ وحازت الصادرات المُصنعة على معظم صادراته بنسبة وصلت 85% تقريبا من جملة الصادرات السلعية، مع تراجع شديد في حصة المواد الخام منها. ومن حيث نوعية الصادرات، فإن الصناعات عالية التقنية تشكل 40% من جملة صادراتها المصنعة، بقيمة 83 مليار دولار تقريبا في العام 2018. وإذا قارنا ذلك بعالمنا العربي، وإذا علمنا بأن صادرات كل العرب من الصناعات عالية التقنية بلغت فقط 4.5 مليار دولار في العام 2017، وأن هذه الصادرات مثلت 5% تقريبا من جملة الصادرات العربية السلعية، سنعلم حينها حجم الإنجاز التصنيعي الذي حققته فيتنام!
ومن غير المستغرب، ومعدل التوسع والنمو الاقتصادي الفيتنامي المستمر منذ ثمانينيات القرن الماضي يدور حول معدل بالغ السرعة يبلغ 7% سنويا في المتوسط، أن يتحقق لهذا الاقتصاد الأمن الغذائي، بتفوق ما ينتجه من غذاء على ما يستهلكه؛ وأن يتحسن أداء أغلب المؤشرات الكلية المالية والنقدية، باستقرار معدلات التضخم وعجز الموازنة العامة والمديونية؛ وأن تتراجع مؤشرات البطالة والفقر، ناهيك عن التراجع الواضح في معدل النمو السكاني، ليبلغ عدد سكان فيتنام حاليا حوالي 96 مليون نسمة تقريبا. وككل التجارب التصنيعية الناجحة، تقدم لنا تجربة فيتنام دليلا جديدا على الحقيقة التي نصدح بها دائما حول العلاقة السببية بين السكان والتنمية. إذ لا يصح لدينا القول بأن نمو السكان هو المعطل للنمو الاقتصادي. ولأننا نعلم يقينا أن المشكلة السكانية هي نتيجة للمشكلة الاقتصادية وليست سببا فيها، فعندما يتسارع النمو الاقتصادي يتراجع عدد السكان، وتختفي المشكلة السكانية كما يحدث حاليا في فيتنام، وكما حدث مرارا وتكرارا في تجارب الدول الصناعية الرئيسية!
إننا نرد هذا الإنجاز الفيتنامي الباهر للنجاح في صياغة وتطبيق خطة وطنية في الاعتماد على الذات، وسليمة في تحديد الغايات، ودقيقة في اختيار بدائل التطوير والتحديث الصناعي، وذكية في اقتفاء أثر القدوات، وكفؤة في استغلال الموارد الاقتصادية الاستغلال الأمثل. ولذلك، وفي تفسيرنا لهذا الإنجاز، نرى تضافر عوامل داخلية وإقليمية ودولية مواتية للنجاح الاقتصادي. فأما عن العوامل الداخلية، نذكر اتباع فيتنام لسياسات صناعية زادت من الاقتدار الصناعي الوطني، وموجهة بالأساس للصناعات عالية القيمة المضافة المكونة محليا. وهو ما انعكس في الفائض المحقق في الميزان الصناعي التكنولوجي. والسياسات الصناعية السليمة استدعت سياسات مالية ونقدية تؤازرها ولا تعارضها، وتطلبت توسعا في الإنفاق على البحث العلمي، وهو عين ما شهده الاقتصاد الفيتنامي إبان نهوضه الصناعي الحالي. وكان من نتائج جهود تذليل كافة العقبات أمام أنشطة التصدير التنموي، أن نمت التجارة الخارجية الفيتنامية وانتشرت حول العالم، وتقبلت الأسواق العالمية المنتجات الفيتنامية بقبولٍ حسن. وقد أحسنت السياسات الاقتصادية الفيتنامية صنعاً حينما ركزت على تعزيز كفاءة استغلال الموارد الاقتصادية. من ذلك مثلا أنها توسعت-كما أسلفنا-في الاستثمار في القدرات البشرية الوطنية تعليما ورعاية طبية واجتماعية؛ وأنها لم تعمد إلى السياسة السهلة لاستنضاب مواردها الطبيعية بالتصدير الجائر تارة، وبالإهمال تارة أخرى؛ بل نجدها تمكنت من توسيع مساحة الرقعة الصالحة للزراعة، الواسعة أصلا.
وبالتزامن مع تهيئة السياسات الصناعية الداخلية، اتجهت جهود التنمية في فيتنام لاقتناص الفرص المحيطة بالإقليم الجغرافي المحيط بها، وفطنت سريعا لأهمية وأثر الاستثمارات الكورية في صناعة تنمية محلية. فها هي الثمرات الطبية تتساقط من شجرة الاستثمارات الصناعية الكورية في فيتنام، ليتشكل العامل الثاني من عوامل تنميتها. ولأنها تعي دروس التنمية جيدا، فالسياسات الصناعية الفيتنامية الوطنية تجدها تسير الآن على خطى كوريا الجنوبية خطوة بخطوة، وتراها لا تكتفي بمجرد القيام ببعض الأنشطة التجميعية الخفيفة للمنتجات التكنولوجية الكورية عالية التكنولوجيا. وتظهر هذه الإرادة التنموية جلية في هيكل الصادرات الواردات الفيتنامية. كما نلمس في تجربة فيتنام تطبيقا عمليا للمثل القائل بأن من جاور السعيد يناله قسط من السعادة. فلقد فتحت جيرة فيتنام للصين الباب على مصارعيه أمام الاستثمارات الصينية، وأمام الاستثمارات الخارجة من الصين، وأمام الاستثمارات التي لم تستطع دخول الصين لكنها تستهدف سوق الصين الواسع. ونتيجة لهذه الجيرة الطيبة، ولأنها أحسنت وفادتها، تدفقت خلال الخمس سنوات الماضية عشرات المليارات من الدولارات في شكل رؤوس أموال أجنبية للتوطن في أنشطة استثمارية إنتاجية؛ وكان نصيب العام 2018 وحده ما قيمته 15 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وبلا ريب، فلقد عززت هذه الاستثمارات المتدفقة من الإنجاز الفيتنامي في مجالات التجارة الخارجية، ونقلت صناعتها الوطنية نقلة كبيرة في طريق التحديث والتميز؛ ومن ثم، تصبح هذه الاستثمارات الأجنبية التنموية ثالث ثلاثة من العوامل المسؤولة عن تنامي الاقتصاد الفيتنامي.
إنك إذ تتأمل في نتائج التجربة الفيتنامية المتميزة في النجاح التصنيعي، لن يسعك إلا أن تتساءل عن فرص تكرارها في واحدة أو أكثر من دولنا العربية، وعن الدروس التي يتعين على العرب-فرادى وجماعات-أن يستخلصوها من مثل هذه التجارب. أفلا تمتلك الاقتصادات العربية من المقومات المحلية والإقليمية والدولية ما يجعلها رائدة في مجالات التصنيع التنموي؟! أوليست أسواق العرب هي الرئة الواسعة التي تتنفس منها الدول الصناعية في عالمنا المعاصر؟! ألا يمكن استغلال الموارد البشرية العربية في صناعة نهضة اقتصادية عمادها التصنيع؟! أولم نتأكد بالتجربة أن البرامج الاقتصادية التي لا تضع التصنيع في مصاف أهدافها هي مجرد برامج للتثبيت والتكيف مع الاقتصاد العالمي الجائر؟! وإلى متى يمكن للعرب أن يتركوا همّ التصنيع لغيره من الهموم، مهما بلغت درجة إلحاحه؟!
إننا إذ نعتقد أن تداعي مؤشرات الاقتدار الصناعي في أي اقتصاد لا يجد له أي مبرر أو حجة في عالم تحقق فيه دولة كفيتنام نهضتها الصناعية، رغم ميراثها الثقيل من المشكلات العويصة؛ فإذا أقرّ الجميع بذلك، فما على دولنا العربية إلا أن تعيد النظر في سلامة سياساتها الاقتصادية المحلية وفي كفاءة وفاعلية برامجها التكاملية؛ لا بحثاً عن ضالتنا في غايات تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، فهي واضحة وضوح الشمس؛ بل استدراكا لما فاتنا من إمكانات وفرص قد لا تتكرر في المستقبل!
الدكتور محمد يوسف

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى