دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

دوافع التوجه التركي نحو إصلاح العلاقات مع إسرائيل

تزايدت التحركات التركية نحو تحسين العلاقة مع تل أبيب، وهي تحركات تمثل أهم مظاهرها في احتفاء أنقرة، في 26 يناير 2022، بذكرى الهولوكوست، فضلاً عن إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن زيارة مؤكدة للرئيس الإسرائيلي؛ إسحاق هرتسوج، إلى تركيا، في فبراير 2022، كما أجرى “أردوغان” ثلاث مكالمات هاتفية مع نظيره الإسرائيلي. وثمة العديد من الاعتبارات التي تدفع أنقرة نحو ترطيب العلاقة مع إسرائيل؛ فبالإضافة إلى المصالح الاقتصادية ومواكبة التغيرات التي أنتجتها عمليات السلام الإسرائيلي مع دول الإقليم؛ تسعى أنقرة إلى تعزيز مشاريع الطاقة مع تل أبيب، خاصةً بعد التحفظ الأمريكي على مشروع “إيست ميد”. ورغم النقلة النوعية في العلاقات بين البلدين، فإن ثمة العديد من التحديات التي قد تعوق هذا الاتجاه التصالحي بين الجانبين، أبرزها رفض تل أبيب احتضان أنقرة عناصرَ حركة حماس الفلسطينية، والترقب التركي الحذر لتحالف إسرائيل مع خصوم أنقرة في إقليم شرق المتوسط، وخاصةً اليونان وقبرص.

مؤشرات دالة

تسعى تركيا إلى تحسين علاقاتها بإسرائيل، التي شهدت تدهوراً كبيراً في عام 2018، عشية قيام تركيا بترحيل السفير الإسرائيلي وإهانته بفحص أمني رداً على مقتل 61 فلسطينياً خلال الاحتجاجات على طول الحدود مع غزة. وثمة العديد من المؤشرات التي تكشف عن حرص أنقرة على دفع العلاقات قدماً مع تل أبيب، وهو ما يمكن رصد أبرز مؤشراته على النحو التالي:

1- تزايُد زخم الاتصالات التركية الإسرائيلية: وآخرها دعوة الرئيس التركي نظيره الإسرائيلي إلى زيارة تركيا، وهي الزيارة التي تقرر لها منتصف فبراير المقبل، وسبق هذه الدعوة اتصال أردوغان بالرئيس الإسرائيلي في 13 يناير 2021 لتعزيته في وفاة والدته، ناهيك عن اتصال سابق في 12 يوليو 2021 لتهنئة إسحاق هرتسوج بتوليه منصب الرئاسة. وبالتوازي مع ذلك، تواصل الوزراء والمسؤولون الأتراك خلال الفترة الماضية مع نظرائهم الإسرائيليين؛ وذلك من خلال اتصال وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” بنظيره الإسرائيلي؛ “يائير لابيد”، في 20 يناير 2022، ليتمنى له الشفاء العاجل من فيروس كورونا. وكانت هذه أول مكالمة هاتفية بين وزيري خارجية إسرائيل وتركيا منذ 13 عاماً، وهو ما فُسِّر على أنه محاولة تركية لتجاوز التوتر الحاكم لعلاقة البلدين منذ سنوات.

2- الانفتاح على إسرائيل في المجالات غير التقليدية: لإظهار حسن النوايا تجاه إصلاح العلاقة مع تل أبيب، فبجانب استضافة الرئيس أعضاء من الجالية اليهودية–التركية وتحالف الحاخامات في الدول الإسلامية في القصر الرئاسي في ديسمبر 2021، وتأكيده أن العلاقات التركية–الإسرائيلية حاسمة لاستقرار المنطقة وأمنها، وأنه وجد أن إحياء الحوار بين البلدين أمر مهم، بجانب كل ذلك اختار “أردوغان” في يناير الفائت مستشاراً طبياً إسرائيلياً له هو البروفسور “يتسحاق شابيرا”.

3- استثمار ذكرى الهولوكوست لكسر حدة التوتر مع إسرائيل: حيث أصدرت الخارجية التركية، في 26 يناير 2022، بياناً بالمناسبة عبَّرت فيه عن “قلقها حيال تصاعد معاداة السامية والعنصرية وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا في العالم”. وأضاف البيان أن “تركيا فتحت أبوابها للمئات من اليهود المتضررين من النظام النازي الألماني بزعامة أدولف هتلر عبر التاريخ، وها هي اليوم تضمن الحماية للملايين من الناس الهاربين من الظلم”، كما أشار إلى مشاركة تركيا بصفة مراقب منذ عام 2008 في أنشطة “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست”.

اعتبارات متنوعة

هناك العديد من العوامل المفسرة لدعم تركيا التوجه نحو إصلاح العلاقة مع إسرائيل، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- التكيُّف مع التحولات الجيوسياسية في المنطقة: لا تنفصل المساعي التركية لتعزيز التقارب مع إسرائيل عن التحولات السياسية المفصلية والفارقة التي يشهدها الإقليم، خاصةً بعد إقامة إسرائيل علاقات دبلوماسية رسمية مع عدد واسع من دول المنطقة، في صدارتها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، ناهيك عن احتمال كسر جدار القطيعة، وبناء علاقات رسمية بين تل أبيب ودول عربية وإسلامية أخرى. وتعي تركيا أن الواقع الجديد الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط، يفرض عليها الانخراط مع هذه التحولات، والتعامل بواقعية سياسية مع هذه المستجدات. وهنا، يمكن تفسير التحركات التركية نحو تحسين العلاقات مع تل أبيب.

2- استثمار تحولات موقف واشنطن تجاه “إيست ميد”: صعَّدت الولايات المتحدة ضغوطها على مشروع “إيست ميد” لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر أنبوب يمتد على طول ألفي كيلومتر يبدأ من سواحل إسرائيل مروراً بقبرص ثم جزيرة كريت اليونانية، ومنه يتوزع إلى غرب القارة عبر إيطاليا. وأعلنت إدارة الرئيس جو بايدن، في 11 يناير الحالي، أنها لن تدعم المشروع؛ لا سياسياً ولا مالياً. وتُعوِّل تركيا بدرجة كبيرة على التحفظ الأمريكي على مشروع “إيست ميد” الذي كانت تراهن عليه اليونان وقبرص في تهميش أنقرة في مشاريع الغاز، ومنع تحولها إلى مركز عالمي لنقل الطاقة. وحسَب مراقبين، فإن التحفظات الأمريكية على المشروع تُمثل فرصة كبيرة لتركيا لاستعادة حضورها، وتعظيم نفوذها، وإعادة صياغة خارطة التحالفات في صراع شرق المتوسط لمصلحتها؛ وذلك من خلال تسريع وتيرة التقارب مع تل أبيب، وإمكانية التوصل إلى اتفاق يسمح بنقل الغاز من أراضيها إلى أوروبا عبر تركيا. ويمثل هذا الملف أولوية كبيرة للسياسة التركية؛ حيث يمكن من خلاله توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وتل أبيب، إضافة إلى أن نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، وهو ما يمنح الأخيرة فرصة لتحسين موقعها في الصراع، وتأكيد أهمية موقعها الجيوسياسي، خاصةً في ظل محاولات تقودها اليونان وفرنسا وقبرص لتهميش الدور التركي في شرق المتوسط.

3- التأثير على الموقف الإسرائيلي من دعم اليونان: تُدرك تركيا أن هناك حاجة لتفكيك الدعم الإسرائيلي لليونان في مواجهة التحركات التركية شرق المتوسط، أو على الأقل تحييده، خاصةً في ظل تأثير تل أبيب على موقف واشنطن تجاه دعم اليونان وقبرص مقابل معارضة المطالب التركية. ويشار في هذا الصدد إلى أن إسرائيل أعلنت، عشية زيارة نيكولاس باناجيوتوبولوس وزير الدفاع اليوناني إلى تل أبيب، في 20 يناير الفائت؛ التزامها بالتعاون الأمني مع اليونان، وأن هذا التعاون يستند إلى مصالح وقيم مشتركة. والأرجح أن زيارة وزير الدفاع اليوناني إلى إسرائيل كشفت عن عمق المخاوف التركية من التقارب اليوناني الإسرائيلي، خاصة أن الرئيس التركي يحاول عبر تعزيز العلاقات مع إسرائيل سياسياً إحداث الوقيعة بين التحالف الثلاثي “إسرائيل واليونان وقبرص” شرق المتوسط؛ وذلك بما يخدم المصالح التركية في النهاية.

4- مواجهة دعاوى وانتقادات خصوم الداخل: يتجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تحسين العلاقات مع تل أبيب لتحشيد الداخل، وبناء موقف وطني جامع لمصلحة سياسات حزب العدالة والتنمية، من خلال إفشال دعاوى المعارضة التي طالما تتهم الحزب الحاكم بإفساد علاقات تركيا مع الخارج، وخاصةً تل أبيب التي تمثل ورقة ضاغطة كان يمكن توظيفها في استيعاب الضغوط الأمريكية المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات على تركيا.

5- تعميق التعاون الاقتصادي مع تل أبيب: ترى تركيا –التي تعاني تدهوراً غير مسبوق في عملتها المحلية، وتباطؤاً حاداً في اقتصادها– أن إسرائيل دولة مهمة ومستقرة سياسياً مقابل أوضاع متدهورة في المنطقة؛ لذلك هي تمثل سوقاً اقتصادية مهمة للمنتجات التركية. وقد بلغ حجم التجارة الخارجية بين تركيا وإسرائيل خلال عام 2020 ما يقرب من 6.2 مليار دولار. وفي إجمالي واردات إسرائيل لعام 2020، احتلت تركيا المرتبة الرابعة بنسبة 6.2% بعد الصين والولايات المتحدة وألمانيا. وخلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021، ارتفعت صادرات تركيا إلى إسرائيل إلى مليار و851 مليون دولار بزيادة قدرها 35% عن الفترة المناظرة من عام 2020، لتصبح إسرائيل الدولة الثامنة لصادرات تركيا خلال هذه الفترة. في المقابل، فإن تركيا تعي أن جانباً واسعاً من الاستثمارات الدولية يبقى محكوماً بعلاقات تركيا مع تل أبيب، خاصةً أن الشركات الصناعية الكُبرى في العالم، بالذات في مجال التقنيات الحديثة، لا تستطيع أن تُغامر في بلد ذات علاقات متوترة مع إسرائيل التي تُعتبر قطباً في هذه المجالات الصناعية.

تحول مشروط

ختاماً، يمكن القول إن الانفتاح التركي على إسرائيل، رغم أهميته للأولى، فإنه يظل مرهوناً لدى إسرائيل بوجود تحولات حقيقية في الموقف التركي تجاه القضايا الخلافية بين البلدين، وفي الصدارة منها احتضان أنقرة حركة “حماس” على أراضيها، وقربها من إيران، وهو ما يثير قلق أوساط سياسية في إسرائيل سارعت إلى التحذير من العودة المتسرعة إلى علاقة طبيعية مع أنقرة؛ حيث ترى قيادات نافذة في إسرائيل أن الرئيس التركي شخص غير موثوق به. في المقابل، فإن ثمة قلقاً تركياً من استمرار التحالف الإسرائيلي مع اليونان وقبرص اللتين تعارضان التحركات التركية للتنقيب عن مكامن الطاقة شرق المتوسط.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى