دراسات قانونية

المرأة في قانون الميراث البريطاني مقارنة بالإسلام

محمد عبدالرحمن عريف

يعتبر قانون الميراث البريطاني (رقم 8، 14 مارس 1962 مع التعديلات اللاحقة رقم 29/1985، 48/1989، 86/1989، 20/1991، 91/1991، 174/2000)، من بين أكثر قوانين الميراث المعاصرة المتقدمة في أوروبا، لعدة أسباب كما سنرى، وبين أهم هذه الأسباب أن هذا القانون قد حدد الورثة الشرعيين حصرًا، وكذلك بين نصيب كل وارث، ولم يترك مساحة مطلقة للموصي للتصرف بتركته إلا بقدر الثلث، لذا فهو غير قادر على حرمان الورثة الشرعيين من الحصول على حقهم بالميراث من خلال الوصية. وذلك خلافًا لقوانين الميراث ببعض الدول الأوروبية الأخرى، كذلك لقانون الميراث في الولايات المتحدة، حيث يتمتع المواطنون بقدر كبير من المرونة عندما يتعلق الأمر بتوزيع وتخطيط الملكية من خلال الوصية، وبالتالي فإن الموصي يمكنه ترك ممتلكاته إلى أي شخص يريد. وبهذه الطريقة قد يحرم الموصي أو الموصية أبناءهم أو أي من الورثة الشرعيين من الميراث. نصوص قانون الإرث البريطاني، تبدأ بجملة: (الوراثة بالقانون)، وهذا قد يظهر انطباعًا قويًا بأن قواعد الميراث في بريطانيا يحميها القانون ولا يمكن التجاوز عليها، سواء من خلال وصية أو بأي طريقة أخرى كانت.

في الفصل الأول الذي جاء عن الورثة الشرعيين، نلاحظ أن قانون الميراث البريطاني قد اعتبر الإبن غير الشرعي والإبن بالتنبي ممن يبثبت نسبهم وفقا لقانون الأبناء المولودين خارج إطار الزواج، هم ورثة شرعيين، خلافًا لقوانين الميراث في البلدان الإسلامية، والتي تنص على أن الأبناء بالتنبي أو الغير شرعيين لا يعدوا ورثة وإن ثبت النسب الجيني (الحامض النووي).

يتناول الفصل الثاني من القانون البريطاني للميراث (القانون رقم 48/1989)، الأوضاع المالية والعقارية، وحق الورثة بالتمتع أوالإستفادة القانونية من العقارات والأموال التي خلفها المورث قبل وأثناء التقسيم النهائي للتركة، والفصل يعطينا لمحة عامة عن أهمية كتابة الوصية بتحديد نصيب الورثة من التركة، ومدى الصلاحيات الممنوحة لكل وريث للتمتع والإستفادة من الأموال والعقارات التي يتركها الموصي قبل وبعد تقسيم التركة، والتي قد تجنب الورثة العديد من المشاكل القانونية بعد وفاة المورث الموصي.

فقبل أن نتكلم عن هجمة الغرب على أحكام الإرث في الإسلام، لا بد أن نعرف تاريخ المرأة مع الإرث في المجتمعات والأديان الأخرى، فقد كانت حالتها حالة مؤلمة، كانت المرأة لا ترث في اليهودية عند وجود إخوة لها من الذكور، وعند الصينيين واليابانيين لا ترث شيئًا فيما مضى، وعند النصارى لا يحق لها أن تملك المال بصفة مستقلة، وكانت بعض القوانين الأوروبية إلى وقت قريب لا تورث المرأة.

بل إن المرأة الفرنسية كانت إلى سنة 1942م محرومة من حق التقاضي عن مالها، وكما كانت محرومة من عقد التصرفات والعقود ما لم تحصل على إذن خطي من زوجها؛ (المادة 217 من القانون الفرنسي قبل تعديله سنة 1942).

ولا تزال القوانين الحديثة إلى الآن في الدول العظمى قاصرة كل القصور عن تنظيم أحوال الميراث، وكانت المرأة عند العرب محرومة من الإرث في زمن الجاهلية، وكان الإرث للولد الأكبر.

كان العرب يورثون من يلاقي العدو، ولا يرون المرأة أهلًا للإرث من أقاربها؛ لأنها لا تدافع عن قبيلة، ولا تغزو، ويخشون على المال أن ينتقل إلى الغريب إن هي تزوَّجته، فحرموها الإرث، وكانوا لا يورثون الصبيان من أبناء الميت، فلما أشرقت شمس الإسلام زالت هذه الجاهلية.

قال سعيد بن جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئًا، فأنزل الله: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]؛ أي: الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله تعالى لكل منهم.

بل كانت العرب قبل الإسلام ترث النساء كرهًا؛ ففي صحيح الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوَّجها، وإن شاؤوا زوَّجوها، وإن شاؤوا لم يزوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ [النساء: 19]؛ رواه البخاري برقم: “4579”، فلمَّا أشرقت شمس الإسلام زالت هذه الجاهلية كلها.

فأثبت القرآن حق الأم في الإرث، فقال سبحانه: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11].

وأثبت حق الزوجة، فقال سبحانه: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ [النساء: 12].

وأثبت حق البنت، فقال سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء: 11].

وأثبت حق الأخت، فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ [النساء: 12].

فجاءت أحكام الميراث مفصلة في بيان بليغ، وتفصيل دقيق، وحكم عظيمة، في اختيار للورثة عجيب، من أبناء وبنات، وأب وأم، وجد وجدة، وإخوة وأخوات، ولاحَظ بعض الباحثين في الإرث أن الأجيال التي تستقبل الحياة، وتستعد لتحمُّل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، فبنت المتوفَّى مثلًا ترث أكثر من أمِّه – وكلتاهما أنثى – وترث البنت أكثر من الأب، وابن المتوفى يرث أكثر من أبيه، وأحكام وحِكَم الإرث كثيرة، يعجِز المقام عن ذكرها.

بعد مرور ألف وأربعمائة سنة، أو ألف وثلاثمائة سنة، استيقظت بعض المجتمعات الكافرة من نومهم، وأصبحوا يورثون المرأة، وبالَغوا في ذلك، فأصبح بعضهم يجعل المرأة كالرجل في الإرث، والتفت الغرب إلى المسلمين قائلين: لماذا للذكر مثل حظ الأنثيين؟.

يبقىى في النهاية أنه من الخلل النظر إلى مساواة الرجل بالمرأة دون النظر إلى الحقوق والواجبات التي على الرجل، فالمساواة في العطاء لا بد أن يكون معها مساواة في التكليف. فلابد من النظر إلى الالتزامات التي على الرجل، أما أن يساوَى بالمرأة بدون النظر إلى الالتزامات التي يقوم بها، فهذا من الخلل.

الابن عليه مشاق وتكاليف ومسؤوليات مالية أكثر من البنت، بل لا تقارن بمسؤوليات البنت المالية؛ يدفع مهر الزَّوجة، ويلزم بالنفقة عليها وعلى الأولاد من طعام وملبسٍ ومسكن، ونحو ذلك. كذلك الابن يدفع المهر، والبنت تأخذ من زوجها المهر، الابن ينفق على بيته، والبنت ينفق عليها، فلا يلزمها إنفاق أبدًا.

كل هذا يلزم الرجل دفْعُه دون المرأة شرعًا وقضاءً، تأخذ ولا تُعطي، وتدَّخر دون أن تدفع شيئًا من النَّفقات، أو تشارك الرَّجل في تكاليف ومُتطلَّبات الحياة، حتى ولو كانت المرأة غنيَّة، فيلزَم الزوج الإنفاق عليها؛ لأنَّه هو المكلَّف بالنَّفقة.

فإن دفعت المرأة فهذا إحسان منها، أما شرعًا وقضاءً، فالذي ينفق على الزوجة والأولاد، هو الرجل؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233].

والله جل وعلا يقول: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ [الطلاق: 7]، حتى جاز للزوجة أن تأخذ من زوجها بدون علمه إذا بخِل عليها بالنفقة، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، قال: (خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف)؛ البخاري 5364،

فإذا ساوت المرأة أخاها في الميراث مع إلزام هذا الأخ بالنفقة، انعدم العدل، وانعدمت المساواة الصحيحة.

ومسألة الإرث لا ينظر فيها من جانب، فجوانبها متعددة، لا بد أن ينظر إلى الرجل بأنه يبني أسرة، فأما إذا أريد بالرجل أن يعيش لنفسه، وصار الاجتماع بينه وبين المرأة في الزواج من الخطأ، فحينئذ لا تنقلب آية الميراث وحدَها، بل تنقلب الفطرة على عقبها.

كثير من الناس ينظر إلى تقسيم الإرث دون النظر إلى النتيجة الاجتماعية، فبعضهم قد يصل به التفكير في مساواة الرجل بالمرأة أن يجعل المرأة تدفع المهر، ويكون عليها نصف النفقة، حتى تساويه بالميراث…. وهذا انتكاسة في الفطرة، وظلم للمرأة، ونقل لمسؤولية اجتماعية من كاهل الرجل إلى كاهل المرأة، علاوة على إنجابها للأطفال، ورضاعتها لهم، والقيام بهم.

والمساواة بين الرجل والمرأة بإطلاق قد تعطِّل الرجل عن خصائصه، والمرأة عن خصائصها، وإذا كانت مراعاة الفروق الفردية بين الرجال مطلوبة، فكيف بالفروق بين الرجل والمرأة؟.

قال الشنقيطي رحمه الله في الحكمة في تفضيل الذكر عن الأنثى في الميراث، مع أنهما سواء في القرابة، قال: وهو ما أشار إليه في آية أخرى، بقوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34]؛ ولذلك فإن من الخلل المساواة دون النظر إلى الحقوق والواجبات، فلا بد من النظر إلى ميزان الحقوق والواجبات؛ حتى يكون العطاء في مكانه.

وثَم أمرٌ مهم في هذا الباب، وهو أن مال الإرث ليس جزاءً لعمل، يعني مال الإرث ليس بسبب العمل والكد، أما المال المكتسب، فلا تفرقة فيه بين الرجل والمرأة، لا في الأجر على العمل، ولا في ربح التجارة، ولا في حق التملك. فالذكر ليس له مثل حظ الأنثيين بإطلاق؛ لأن “للذكر مثل حظ الأنثيين” في حالات معينه؛ منها: حالة الأبناء والبنات إذا ورثوا والدهم: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11].

وثَم حالات أخرى ترث المرأة مثل الرجل، وحالات أخرى ترث أكثر من الرجل، ومن حالات إرث المرأة مثل الرجل: إذا مات الابن، فنصيب الأمِّ يتساوى مع نصيب الأب في حالة وجود الفرع الوارث: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 11].

ومن تلك الحالات الجد والجدة، فنصيب الجدة ليس بأقل من نصيب الجد، وفي حال الأخت لأم مع الأخ لأم، فالقول بأن للرجل مثل حظ الأنثيين بإطلاق غير صحيح.

وثَم صورٌ متعددة ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، ومن تلك الصور:

إذا ماتت المرأة عن زوج وبنت، فورثها زوجها وابنتها، فإن البنت لها النصف من التركة، ووالدها الذي هو زوج المتوفاة له الربع، فالأنثى هنا ترث ضِعف ما يرثه الذكر، والصور في هذا الباب كثيرة.

ومن جهة أخرى قد ترث المرأة ويحرم أخوها لو كان مكانها، وهما في مرتبة واحدة في الإرث:

فلو ماتت امرأة عن زوج وأب وأم وبنت؟ فالزوج له الربع، والأم السدس، والأب السدس، والبنت النصف، فلو كان مكان البنت أخوها، لورث أقل من أخته.

وقد ترث الأنثى ويحرم أخوها لو كان محلها، ومثال ذلك: إذا كان الورثة زوجًا، وأختًا شقيقة، وأختًا لأب، فالأخت لأب هنا ترث، فلو كان مكان الأخت لأب أخ لأب لم يرث شيئًا.

وكل هذا لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، والمقصود أن قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، ليس قاعدة مستمرة كل ما اجتمع وارث ذكر ووارثة أنثى.

أيها الإخوة، نحن لا نريد أن نضع الوجهة العامة أن المرأة تساوي الرجل في الإرث…

أو أن نخرج حق المرأة في الإرث بطريقة ترضي الغرب، وإنما نريد أن نفهَم الإرث في الإسلام كما هو، بآياته وأحكامه، بلا تغيير ولا تبديل، لا نريد أن نفهمه بردود أفعال، وإنما نريد أن نفهمه كما هو في النصوص.

نريد أن نضع إرث الرجل والمرأة في المكان الذي وضعه الله، بالتفصيل الذي ذكره الله جل وعلا، وأن نؤمن بأن هذا هو الحق وهو الأنفع للناس، وأن هذه الأحكام لا بد أن تصل إلى الناس.

 تقول: أنى بيزنت مؤلفة كتاب “الأديان المنتشرة في الهند”: لقد وضع – تعني محمدًا صلى الله عليه وسلم – قانونًا لوراثة النساء، وهو قانون أكثر عدلًا، وأوسع حرية من ناحية الاستقلال الذي يَمنحها إياه القانون المسيحي الإنكليزي الذي كان معمولًا به إلى ما قبل نحو عشرين سنة، فما وضعه الإسلام للمرأة يعتبر قانونًا نموذجيًّا، فقد تكفل لحمايتهن في كل ما يَملكْنَه من أقاربهنَّ وإخوانهنَّ وأزواجهنَّ”.

وقال مؤلف كتاب حضارة الغرب غوستاف لوبون: فالقرآن قد منح المرأة حقوقًا إرثية أحسنَ مما في قوانيننا الأوروبية، ومبادئ المواريث التي نص عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والإنصاف… إلى أن قال: ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنكليزية – أن الشريعة الإسلامية منحت الزوجات اللاتي يَزْعُمْنَ أن المسلمين لا يعاشرونهنَّ بالمعروف حقوقًا في المواريث لا نجد مثلها في قوانيننا”.

فحينما نقرأ آيات الميراث، فإننا نتعامل مع عظمة في التشريع، نتعامل مع تشريع تولاه الله بنفسه، وتولى بيانه بنفسه، ولم يترك ذلك لأحد من البشر.

ومن العجائب في باب الميراث أن كل هذه الأحكام الدقيقة التي استنبطها العلماء في المواريث مرجعها إلى أربع آيات وثلاثة أحاديث، وهذا إعجاز عظيم أفرد له العلماء علمًا قائمًا بذاته وهو علم الفرائض (أو علم المواريث)، ومع أنها أربع آيات إلا أنها وضحت تقسيم الإرث بطريقة لافتة.

وعادة ما نقرأ في القرآن الأحكام بإجمال في مثل الصلاة والزكاة والصيام، ونجد في السنة التفصيل، أما أحكام الميراث فجاءت مفصلة في القرآن بوضوح في بيان بليغ، وتفصيل دقيق،لايستطيع البشر أن يهتدوا إليه لولا أن هداهم الله.

والله جل وعلا حينما يشرِّع الأحكام، فإنما يشرعها لحكمة عظيمة، قد يصل الإنسان إلى هذه الحكمة، وقد يصل إلى شيء منها، وقد يصل إلى ذلك بعد أمدٍ.

وختَم الله جل وعلا ثلاث آيات من آيات المواريث بصفة العلم، فقال تعالى: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 11]، وفي الآية الثانية: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 12]، وفي الآية الثالثة: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: 176].

وكثيرًا ما تكون نظرة الإنسان إلى القضايا نظرة بسيطة، لكن كلما تأمَّل في القضية أكثر، وبحث أكثر، ظهر له أن النظرة البسيطة والسطحية بعيدة عن الصواب، وقد تعود للإنسان بمفاسد وعوائقَ وأضرارٍ ولو بعد أمدٍ، وقد تنفع اليوم لكنها تضر غدًا، وقد ذكر بعض الباحثين أن الشريعة في الإرث تراعي عدة أمور:

الاعتبار الأول: درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى، وبين المُوَرث المتوفَّى، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قلَّ النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين، فابنة المتوفى تأخذ مثلًا أكثر من والد المتوفى أو أمه، والأولاد يقدمون في الإرث على الإخوة، وهكذا، ويقدم الأخ الشقيق (من الأب والأم) على الأخ لأب، وهكذا.

الاعتبار الثاني: موقع الوارث من الحياة، فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لتحمُّل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للورثة، فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه – وكلتاهما أنثى – وترث البنت أكثر من الأب! وكذلك يرث الابن أكثر من الأب وكلاهما من الذكور.

الاعتبار الثالث: التكليف المالي الذي يوجبه الشرع على الوارث حيالَ الآخرين، وهذا هو الاعتبار الوحيد الذي يفرِّق فيه بين الذكر والأنثى، ليس باعتبار الجنس، ولكن باعتبار التكليف والأعباء المالية، فإذا ما تساوى الورثة في القرابة، وفي موقعهم من الحياة، فكانوا جيلًا واحدًا كالأخوة أو الأبناء، هنا ينظر الشرع إلى التكاليف والأعباء المالية المناطة بهم.

والشريعة تحرص على العلاقة الاجتماعية في الأسرة، بعيدًا عن الخصومة والعداوة بين الأرحام، وحرصت الشريعة على أن يبقى مال الميت لأهله وأقاربه، وألا يوصي بأكثر من الثلث؛ ففي صحيح البخاري برقم2742: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: “لَا”، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: “لَا”، قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: “فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ”.

ومما يذكر في هذا الباب أن وجود استبداد لبعض الوارثين، وسيطرتهم على حقوق الضعفاء، ليس ذريعة لإقصاء أحكام شرعية واستبدالها بأخرى غربية.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى