التطورات المعاصرة في ظاهرة الإرهاب الدولي: رؤية سياسية قانونية

 د. محمد شوقي عبد العال – الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة-  المركز العربي للبحوث والدراسات –

ليس ثمة شك في أن الإرهاب قد أضحى واحدًا من أخطر الظواهر التي تهدد أمن المجتمع واستقراره على المستويين الداخلي والدولي، وأن ثمة إجماعًا يكاد ينعقد على أنه ظاهرة لا يمكن أن تبررها أية اعتبارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية أو غيرها، وأنه من اللازم أن تتم مكافحته في إطار من التعاون بين أعضاء المجتمع الدولي مع احترام كامل لقواعد القانون الدولي ذات الصلة، وألا يترك أمر مكافحته لدولة أو لدول بعينها. وهي المعاني التي أشار إليها مجلس الأمن الدولي وأكد عليها في قراره رقم 1456 الصادر في اجتماعه المنعقد على مستوى وزراء الخارجية في العشرين من يناير 2003.

أولاً- التكنولوجيا الحديثة وتنامي ظاهرة الإرهاب

ويشير الواقع الدولي إلى أن ثمة عاملين أساسيين كان لهما دور كبير في تزايد الاهتمام بظاهرة الإرهاب على المستوى العالمي. أولهما هو التطور الذي شهدته الظاهرة مع تطور المجتمع الدولي واستخدامه للتكنولوجيا المتقدمة، حيث قام الإرهابيون باستغلال هذه التكنولوجيا في عملياتهم الإرهابية التي انتشرت في أنحاء المعمورة واكتسبت طابعًا دوليًا، كما عرف المجتمع الدولي ظاهرة التنظيمات الإرهابية المتشعبة والمنتشرة في العديد من الدول، والتي أصبح بعضها يمتلك إمكانات قد تفوق إمكانات الدول الصغيرة. أما الآخر فيتمثل في حقيقة أن ارتكاب العمليات الإرهابية لم يعد قاصرًا على الأفراد والجماعات فحسب، بل أصبح سلاحًا تستخدمه الدول فيما بينها كبديل للحروب التقليدية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، في الوقت الذي سعت فيه دول اخرى إلى استغلال هذه الظاهرة كغطاء للتدخل في شئون الدول الأخرى وانتهاك سيادتها تحت دعوى مكافحة الإرهاب(1).

والحق أن خطورة ظاهرة الإرهاب لم تعد تقتصر على ارتفاع عدد العمليات الإرهابية التي ترتكب سنويًا، أو تصاعد قوتها التدميرية، ولكنها تتمثل أيضًا في انتشارها جغرافيًا، وتوسعها بشريًا. فقد امتدت الظاهرة، بشكل أو بآخر، إلى كل القارات ومعظم الدول. وانخرط فيها مواطنون ينتمون إلى عشرات الدول المتقدمة وغير المتقدمة على السواء. فقد أصبحت الجماعات الإرهابية تضم في عضويتها أفرادًا ينتمون إلى جنسيات مختلفة لا تجمعهم بالضرورة أيديولوجية موحدة، أو توجهات سياسية محددة، أو خلفيات اقتصادية واجتماعية متماثلة، وتختلط عندهم الدوافع الدينية والقومية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يجمعهم في هذا السياق سوى قاسم مشترك واحد يتمثل في فكرة المقاومة بالعنف لكل ما يرون أنه مغاير لأهدافهم.

وتفصيل ذلك أن ظاهرة الإرهاب الدولي قد شهدت تطورات عديدة، ترجع في جانب منها إلى ما أتاحته ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي من فرصة للجماعات الإرهابية في الحصول على أسلحة الدمار الشامل – خلاف السلاح النووي حتى الآن – والتكنولوجية الخاصة بها، وترجع في جانب ثان إلى تحولات النظام الدولي، وهو ما يشهده المجتمع الدولي من موجات رفض متزايد للهيمنة الأمريكية عليه، وترجع في جانب ثالث إلى التمييز والاختلال في السياسة الأمريكية تجاه عدد من أقاليم العالم وقضاياه وبالذات منطقة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية. وقد أدى ذلك إلى النتائج التالية(2):

أولًا: أخذ الإرهاب طابعًا عالميًا وأصبح سمة أساسية من سمات النظام الدولي الجديد، حيث أدي انتهاء الصراع الأيديولوجي التقليدي بين الشيوعية والرأسمالية، وما كان يعنيه من انشغال النظام الدولي بحالة الاستقطاب بين المعسكرين المتنازعين في سبيل سعي كل منهما إلى نشر أيديولوجيته على حساب الأيديولوجية المنافسة، إلى ظهور تيار داخل المعسكر الرأسمالي يعتبر أن العدو الجديد للحضارة الغربية هو الإسلام السياسي الذي ينتهج – من وجهة نظرهم – العنف والإرهاب سبيلًا، فانتشر الإرهاب – حقيقة أو زعمًا – في كل ربوع العالم. ومن ثم فقد اتسعت ساحة الإرهاب لتشمل العالم بأسره، فأهداف الإرهاب لم تعد تقتصر على دول أو مناطق بعينها، بل أضحت تشمل كل الدول ناميها ومتقدمها على السواء.

إن ارتكاب العمليات الإرهابية لم يعد قاصرًا على الأفراد والجماعات فحسب، بل أصبح سلاحًا تستخدمه الدول فيما بينها كبديل للحروب التقليدية

ثانيًا: أدي تغير النظام الدولي إلى التغير في مفهوم الإرهاب وأشكاله وأهدافه. حيث كان استخدام العنف خلال السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي متصلًا أساسًا بالنضال ضد الاستعمار والتبعية، واعتبرته حركات التحرر الوطني إحدى وسائلها المشروعة في التخلص منهما، وأقر لها المجتمع الدولي بذلك. أما بعد انتهاء الحرب الباردة، فقد ظهر نوعان جديدان من استخدام العنف، يمكن إدراجهما بسهولة في خانة الأعمال الإرهابية، أحدهما ذلك الذي يمارسه اليمين المتطرف المنتشر في عديد من الدول الغربية، أما الآخر فهو ذلك الذي تمارسه جماعات الإرهاب الديني المتطرف في كثير من بقاع العالم.

ثالثًا: صعوبة مراقبته ومنع انتشاره أو ردعه، وتزايد حدته وارتفاع عدد ضحاياه، لا سيما مع استخدامه لوسائل التكنولوجية الحديثة، كالإنترنت والبريد الإلكتروني والفضائيات.

رابعًا: ونتيجة كل هذا فقد ظهرت آراء فقهية عديدة تدعو إلى مد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل، بالإضافة إلى الجرائم الأربع التي تختص بها، جريمة الإرهاب. والحجة في ذلك أن هذه المحكمة تختص بأشد الجرائم خطورة والتي هي موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وهو ما ينطبق دون أدنى شك على هذه الجريمة (3).

ثانياً- موقع جريمة الإرهاب في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

ولقد كان تحديد ماهية الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة إحدى الإشكالات الشائكة أثناء صياغة النظام الأساسي للمحكمة، ففي مشروع نظام روما الأساسي الذي أعدته لجنة القانون الدولي عام 1994 كان المقترح أن تختص المحكمة – من بين ما تختص به – بنظر جرائم الإرهاب الدولي، إلا أن آراء الوفود قد توزعت بين مؤيد لهذا ومعارض له. حيث رأى المؤيدون أنه من غير المتصور استبعاد جرائم الإرهاب الدولي من اختصاص المحكمة بالنظر لطبيعتها شديدة الخطورة واهتمام المجتمع الدولي بها، فضلًا عن أن إدراجها في اختصاص المحكمة سوف يساعد الدول التي تعاني من الاضطرابات السياسية وتعجز عن تقديم مقترفي هذه الجرائم إلى العدالة الداخلية، من أن تستعين بالمحكمة في تحقيق هذه الغاية، ومن ثم لا يفلت مقترفوها من العقاب. أما المعارضون فقد ذهبوا إلى أن جرائم الإرهاب الواردة في الاتفاقيات الدولية لم تعد بعد جزءًا من القانون الدولي العرفي كغيرها من الجرائم الأساسية التي تختص بها المحكمة، وأن إثقال كاهل الأخيرة بنظر هذه الجرائم الإرهابية قد يتسبب في إفشال مهمتها، فضلًا عن عدم وجود تعريف جامع مانع للإرهاب.

والحق أن جلسات مؤتمر روما الدبلوماسي الذي اعتمد فيه الميثاق المنشئ للمحكمة قد أخذت طابعًا سياسيًا ظاهرًا، ولم يستطع المؤتمرون كبح جماح هذا الاختلاف، مما أدي إلى استبعاد جرائم الإرهاب من اختصاص المحكمة، لعدم القدرة على الوصول إلى اتفاق بخصوصها، لغياب تعريف مسبق لها، وحداثة هذه الجرائم بالنسبة لباقي الجرائم، وعدم الاتفاق حول أعمال حركات التحرر الوطني، وخشية من تسييس المحكمة حال إدراج هذه الجريمة في اختصاصها(4).

على أن بصيصًا من الأمل قد لاح في المادتين 121، و123 من نظام روما الأساسي، حيث سمحتا بتوسيع الاختصاص الموضوعي للمحكمة، وذلك بالنظر في جرائم الإرهاب الدولي بقصد التوصل إلى تعريف مقبول لها وإدراجها في قائمة الجرائم الداخلة ضمن اختصاص المحكمة، في المؤتمر الاستعراضي الذي حدد تاريخ انعقاده بمضي سبع سنوات من تاريخ دخول النظام الأساسي حيز النفاذ. فكان أن تقدمت هولندا في هذا المؤتمر والذي عقد في العاصمة الأوغندية كمبالا عام 2010 باقتراح كان من شأنه التعامل مع جريمة الإرهاب بذات الطريقة التي تم التعامل بها من قبل مع جريمة العدوان، أي إدراج جرائم الإرهاب الدولي في قائمة الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة الخامسة من النظام الأساسي مع إرجاء ممارسة الاختصاص القضائي في شأنها إلى حين التوصل إلى تعريف وشروط لممارسة هذا الاختصاص يكونا مقبولين من جانب المجتمع الدولي ممثلا ًفي موافقة ثلثي الدول الأطراف في النظام الأساسي.

وبعبارة أخرى فقد اقترحت هولندا في هذا السياق أنه بعد اتفاق المؤتمرين على تعريف العدوان وحذف الفقرة ( 2 ) من المادة ( 5 ) فإن الفقرة الجديدة المقترحة بديلا ًعن الفقرة المحذوفة سيكون نصها كالآتي ” تمارس المحكمة الاختصاص على جريمة الإرهاب متي اعتمد حكم بهذا الشأن وفقًا للمادتين 121 و123 يعرف جريمة الإرهاب ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة، ويجب أن يكون هذا الحكم متسقًا مع الأحكام ذات الصلة في ميثاق الأمم المتحدة “. وهكذا تكون هولندا قد اقترحت إضافة جريمة خامسة إلى الجرائم الأربع محل اختصاص المحكمة، كما اقترحت إنشاء فريق عامل غير رسمي معني بجريمة الإرهاب مكلف بدراسة مدي حاجة النظام الأساسي إلى أي تعديلات نتيجة إدراج جرائم الإرهاب ضمن اختصاص المحكمة دون تدخله في الجهود الرامية إلى التوصل إلى تعريف في سياق الاتفاقية الشاملة المعنية بالإرهاب(5).

أصبحت الجماعات الإرهابية تضم في عضويتها أفرادًا ينتمون إلى جنسيات مختلفة لا تجمعهم بالضرورة أيديولوجية موحدة

ولقد كان الإرهاب السياسي يعد حتى أواخر ستينيات القرن الماضي من قضايا السياسة الداخلية للدول، ولكنه تحول تدريجيًا مع بداية عقد السبعينات من ذلك القرن إلى ظاهرة دولية خطيرة بسبب تورط الدول، بشكل مباشر أو غير مباشر، في التخطيط لها، وفي تمويلها، بل وفي تنفيذها أحيانًا بحيث أصبح وسيلة من وسائل التعامل بين الدول وبعضها البعض. ومن ثم فقد أصبح الإرهاب الدولي من الظواهر الخطيرة التي تهدد أمن واستقرار العديد من الدول، بل وتهدد السلم والأمن الدوليين، وهو ما يفسر استناد مجلس الأمن الدولي في العقدين الأخيرين إلى الفصل السابع من الميثاق الخاص بالأمن الجماعي الدولي في سياق مكافحته لهذه الظاهرة.

ويشير الواقع الدولي إلى حالات عديدة لجأت فيها بعض الدول إلى اتخاذ تدابير عسكرية ضد دول اخرى بدعوي مكافحة الإرهاب الدولي، ومن ذلك على سبيل المثال ما قامت به جنوب أفريقيا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين تجاه بعض الدول المجاورة لها، وعلى وجه التحديد بتسوانا وزيمبابوي وزامبيا وأنجولا، بحجة ضرب قواعد التنظيمات الإرهابية الموجودة على أقاليم هذه الدول. وما قامت به إسرائيل عام 1975 من توجيه ضربات عسكرية إلى المعسكرات الفلسطينية في لبنان، وعام 1985 حينما شنت غارة جوية على تونس، وذلك بزعم أن هاتين الدولتين تؤويان جماعات إرهابية فلسطينية. أما الولايات المتحدة الأمريكية فتأتي على رأس الدول التي لجأت إلى اتخاذ تدابير من هذا القبيل ضد دول أخرى بزعم مكافحة الإرهاب الدولي، وقد شملت تدابيرها هذه دولًا عديدة في قارات مختلفة، حيث شنت في الرابع عشر من أبريل 1986 هجومًا عسكريًا جويًا على مدينتي طرابلس وبنغازي الليبيتين بدعوي تورط ليبيا في حادث تفجير ملهى ليلي في برلين يرتاده عسكريون أمريكيون نتج عنه مقتل جندي أمريكي، وقامت في عام 1998 باتخاذ تدابير عسكرية ضد كل من السودان وأفغانستان متهمة إياهما بتدبير العمليات الإرهابية ضد سفارتيها في نيروبي ودار السلام، وقامت في السابع من أكتوبر 2001 بغزو أفغانستان في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما تقدمت الإشارة، وكان من المبررات التي استندت إليها في غزوها للعراق واحتلالها إياه بدءًا من مارس 2003 أن العراق يساند الإرهاب الدولي، وأن محاربته تأتي في إطار الحرب الشاملة ضد الإرهاب(6).

ثالثًا- تعريف الإرهاب ..خلاف وغموض مستمر

والحق أن مفهوم الإرهاب – دوليًا كان أم محليًا – يعد واحدًا من أكثر المفاهيم السياسية المعاصرة، إثارة للجدل والخلاف، فمن ناحية التعريف ليس هناك اتفاق- في الفقه والممارسة- على معني محدد له، الأمر الذي يعني أنه بإمكان البعض إضفاء صفة الإرهاب على أعمال هي أبعد ما تكون عن الإرهاب، كأعمال المقاومة المسلحة التي تمارسها حركات التحرر الوطني من أجل الاستقلال وتقرير المصير، وأنه بإمكان الآخرين نزع هذه الصفة عن أعمال هي أقرب ما تكون إلى الإرهاب، كالأعمال الإرهابية التي قد تمارسها الدولة ضد معارضيها السياسيين، أو تلك التي يمارسها المحتل ضد شعب الإقليم الخاضع للاحتلال، فيما يعرف بإرهاب الدولة. وبعبارة أخرى فإن ثمة اختلافًا كبيرًا في وجهات النظر بين غالبية الدول الغربية وبعض الدول الاستعمارية الأخرى كإسرائيل من جهة، ودول العالم الثالث ومن يدعمونها من جهة أخرى، حول التكييف القانوني لأعمال العنف التي ترتكبها الشعوب خلال حروبها المشروعة من أجل تقرير المصير. فإذا كانت الطائفة الأولى من هذه الدول تعتبر مثل تلك الأعمال أعمالًا إرهابية يجب ملاحقة مرتكبيها ومعاقبتهم، فإن الطائفة الثانية منها تعتبرها – وبحق – أعمال مقاومة مشروعة ولازمة لتحقيق هدفها نحو الاستقلال وتقرير المصير(7).

ومن ناحية الأسباب هناك من يرجعه دون وجه حق إلى تعاليم دين معين أو ممارسات حضارة بعينها، من قبيل محاولات بعض مفكري الغرب وبعض حكوماته إلصاق تهمة الإرهاب بالحضارة الإسلامية وتعاليم الدين الإسلامي، على حين يرجعه آخرون- بحق- إلى اعتبارات سياسية، كالاضطهاد السياسي والاحتلال الأجنبي، أو أسباب اقتصادية كالتفاوت الطبقي والاحتكارات العالمية، أو اجتماعية كانتشار الجهل والأمية والممارسات العنصرية الصارخة، أو إليها جميعها بدرجات ونسب متفاوتة.

ظهرت آراء فقهية عديدة تدعو إلى مد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل، بالإضافة إلى الجرائم الأربع التي تختص بها، جريمة الإرهاب.

ومن ناحية وسائل العلاج والمواجهة، هناك من يركز على الجوانب الأمنية والعسكرية فحسب، على نحو ما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية داخليًا وخارجيًا، في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وهناك من يرون وجوب إزالة كل الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لضمان المواجهة الفاعلة لهذه الظاهرة(8).

والحق أنه منذ بروزه كواحدة من أهم القضايا التي شغلت المجتمع الدولي، فقد تعددت المحاولات الخاصة بتعريف الإرهاب باعتبار أن ذلك هو السبيل إلى حل كثير من الإشكاليات العملية والنظرية المتعلقة بهذه الظاهرة، وعلى وجه التحديد ما يتعلق منها بالتنسيق بين الدول لمكافحته. وهي المحاولات التي صادفت مشكلات عدة حالت دون توصل المجتمع الدولي إلى تعريف محدد متفق عليه لمفهوم الإرهاب. وقد ارتبط جوهر الخلاف حول هذا المفهوم دائمًا بالرؤى المتباينة لما يعتبر نشاطًا يستوجب الإدانة، وما يعتبر كفاحًا مشروعًا يستحق الدعم والتشجيع، بشكل أضحت معه كلمة الإرهاب محل خلاف كبير وتحوي في طياتها قدرًا هائلًا من الخلط والتشويش وازدواجية المعايير.

ولعل من بداءة الأمور أن الوصول إلى تعريف موحد للإرهاب الدولي يحقق فوائد جمة على الصعيد الدولي. إذ ستتمكن بمقتضاه الهيئات الدولية ذات الصلة من اعتماد مرجعية قانونية موحدة، ويؤدي إلى توحيد المعيار النظري لهذه الظاهرة، وهو ما سيضع الأمور في نصابها الصحيح بعيدًا عن الاعتبارات السياسية المتعارضة للدول، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى ظهور اتفاقيات دولية عامة تقنن جريمة الإرهاب وفق عناصر موضوعية محددة، كما سيساعد ذلك على احترام مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعدالة، وعدم ازدواج المعايير واحترام الحقوق المشروعة للشعوب، فضلًا عن توحيد الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.

ورغم هذه الأهمية الكبيرة فقد بدا من الصعوبة بمكان وضع تعريف موحد مرض للجميع، وذلك بالنظر إلى الطبيعة المتغيرة لظاهرة الإرهاب والتعقيدات المرتبطة بها. وقد دفع هذا بعض الباحثين إلى الاكتفاء بوصف خصائص الإرهاب والإرهابيين، ومنهم من رأى أنه ليس من الحكمة البحث عن تعريف لهذه الظاهرة، وشكك آخرون في دقة النظريات المقدمة لتعريف الإرهاب، وانتهى الأمر بهم – إجمالًا – إلى القول باستحالة الاتفاق على تعريف للإرهاب، أو حتى على إطار عام للتعريف.

والحق أن هذا الجدل الفقهي لا يقلل بحال من أهمية المحاولات التي بذلت على المستويين الرسمي والفقهي للوصول إلى تعريف محدد ومتفق عليه لمفهوم الإرهاب الدولي، حيث أسهمت هذه المحاولات في بلورة العديد من العناصر الموضوعية التي يمكن اتخاذها أساسًا للوصول إلى تعريف موضوعي صحيح لهذا المفهوم.    

وإذا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي تعد أخطر ما عرفه العالم في تاريخه من أعمال الإرهاب الدولي حتى ذلك الحين، نظرًا لما انطوت عليه من قوة تدميرية هائلة، ولأنها أصابت قلب أكبر قوة عظمى في العالم التي لا تفتقر – بداهة – إلى وسائل الوقاية الأكثر تقدمًا من أخطار الإرهاب. فإنها تمثل نقطة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة، حيث ترتبت عليها نتائج شديدة الخطورة كان على رأسها انفراد الولايات المتحدة الأمريكية برفع راية ” الحرب الدولية ضد الإرهاب”، ومحاولتها فرض مفهومها للإرهاب وطريقة مواجهته على غيرها من دول العالم، ثم ما أعقب ذلك من شنها حربًا شرسة- أو إن شئت الدقة فقل عدوانًا – ضد أفغانستان تحت ادعاء أن نظام الحكم فيها هو المسئول عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدعمه وحمايته لتنظيم القاعدة الذي تتهمه الولايات المتحدة بالمسئولية عن هذه الأحداث. فإنها كانت واحدة من أهم الحلقات في سلسلة مساعي الولايات المتحدة الأمريكية الحثيثة لتعديل قواعد القانون الدولي المستقرة بما يتوافق مع مصالحها وأهدافها. وذلك إلى الحد الذي دفع بعض المتخصصين إلى القول بأن الولايات المتحدة تسعى إلى تأصيل شرعية جديدة موازية للشرعية الدولية، وصفها بأنها ” شرعية القوة “، مؤكدًا أن قرارات مجلس الأمن بشأن الإرهاب الصادرة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ( أرقام 1368 – 1373 – 1390 )، تمثل سابقة دولية خطيرة تفسح المجال ” لنهاية القانون الدولي “، حيث جاءت جملة الإجراءات والممارسات التي استندت إليها تمثل تحديا ًخطيرًا لأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وانتهاكًا صريحًا لمبدأ الشرعية الدولية، ” مما يوشك أن يخلق بالتراكم واقعًا قانونيًا جديدًا… من خلال نشوء أعراف وممارسات مناقضة لهذه الشرعية في كل مجالات العلاقات الدولية “(9).  

تقدمت هولندا في 2010 باقتراح كان من شأنه التعامل مع جريمة الإرهاب بذات الطريقة التي تم التعامل بها من قبل مع جريمة العدوان

وهكذا فقد جاءت الحملة – أو الحرب كما كان يحلو للولايات المتحدة أن تطلق عليها – الدولية لمكافحة الإرهاب، التي قادتها الولايات المتحدة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011، بمثابة الاختبار الحاسم للعلاقة بين الإرهاب وحقوق الإنسان. فقد خلفت هذه الحملة آثارًا بالغة على المنظومة القيمية والأخلاقية لحقوق الإنسان المستقرة في العالم. وشكلت تحديًا خطيرًا للقواعد والمبادئ القانونية والأسس والاعتبارات الإنسانية التي تنهض عليها هذه المنظومة. وقد صاحب ذلك ” الإطاحة بالعديد من مبادئ القانون الدولي، بترسيخ مبدأ الحرب الاستباقية، وتنحية الشرعية الدولية، وتفتيت مبدأ السيادة الوطنية، والإطاحة بنظم الحكم بالعمل العسكري المباشر، تحت دعوي مكافحة الإرهاب. وبحيث تحول شعار الحرب على الإرهاب إلى مسوغ لانتهاك القانون الدولي وقواعد الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، ليس فقط على صعيد الفعل والممارسة، بل على صعيد الفكر والتنظير أيضًا. في حرب تستهدف المستوي المفاهيمي والقيمي تدور رحاها في عقول الناس وأدمغتهم قبل أن تتجسد على أرض الواقع”(10).

وعود إلى موضوع تعريف الإرهاب فإنه إذا كان استخدام العنف أو القوة المسلحة هو القاسم المشترك بين التعريفات المختلفة بصدد الإرهاب، فإن ثمة تباينًا كبيرًا فيما وراء ذلك بين من تصدون للتعريف به، ولعل مرد ذلك إلى اختلاف المصالح والأهداف والأهواء السياسية للأطراف المختلفة(11). حيث تصف الحكومات أعمال معارضيها العنيفة بالإرهاب، ويصف به الآخرون ممارسات حكوماتهم ضدهم. وفي مجال العلاقات الدولية كثيرًا ما تصف كل دولة، خصم في نزاع معين، أعمال الدولة الأخرى في صدد هذا النزاع بأنها من قبيل الأعمال الإرهابية. ليس هذا فحسب، بل إن مصطلح الإرهاب يستعمل لوصف أعمال الكفاح الذي تخوضه حركات التحرر الوطني والمقاومة الشعبية المسلحة في صراعها ضد الاحتلال الأجنبي والممارسات العنصرية الصارخة بغية انتزاع حقها- المشروع- في الاستقلال والحرية وتقرير المصير، كما يستعمل لوصف ما قد تقدمه دولة من الدول من دعم لهذه الحركات في كفاحها المشروع هذا.

ومن ثم فإنه على الرغم من الإجماع على إدانة الإرهاب باعتباره خطرًا يهدد أمن البشرية واستقرارها، والإجماع على وجوب مواجهته بكافة السبل للحيلولة دون تفاقم آثاره بالغة الخطورة على المستويين الوطني والدولي. فإن هذا الإجماع يبقي شكليًا فحسب بالنظر إلى نسبية مفهوم الإرهاب والخلاف حول تحديده بشكل قاطع يرضي عنه الجميع أو ترضي عنه الأغلبية على الأقل. وهو الخلاف الذي واكب كل المحاولات التي جرت لمناقشة موضوع الإرهاب ووقف عقبة كؤدًا أمام كل الاعتبارات والمعايير القانونية الصحيحة فيما يتعلق بتحديد مصطلح الإرهاب(12).

ولقد كان لانهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم أثر كبير في هذا السياق. فقد غدت الأعمال المعادية للولايات المتحدة وسياساتها هي فقط التي توسم بالإرهاب، في الوقت الذي لا يمكن أن تعد فيه من هذا القبيل أعمالها وأعمال حلفائها وأصدقائها حول العالم، رغم المعاناة التي سببتها لملايين البشر، فمن يملك القوة هو من يحدد في النهاية ماهية الأعمال المشروعة وغير المشروعة.

 والحق أن هذا إنما يعكس بوضوح الطبيعة السياسية المتغيرة لظاهرة الإرهاب. فغياب التعريف المحدد للمفهوم يجعل كل دولة تحاول توظيفه لصالحها من خلال الإدعاء بأن ما يقوم به أعداؤها هو الإرهاب، وأن ما تقوم به هي ليس سوي مكافحة لهذا الإرهاب المقيت. وبدهي أنه كلما كانت هذه الدولة أكثر قوة ونفوذًا، كلما استطاعت أن توظف هذا المفهوم الغامض بشكل أفضل لخدمة مصالحها السياسية. أو إن شئت فقل إن المصلحة السياسية هي التي تحدد من هو الإرهابي ومن هو المناضل ضد الإرهاب. فمن يعتبر إرهابيًا من وجهة نظر أحدهم يعتبر بطلًا قوميًا ومناضلًا في سبيل الحرية من وجهة نظر آخر. فرجال المقاومة الفلسطينية، على سبيل المثال، هم مناضلون من وجهة نظر شعبهم وباقي الشعوب العربية، ولكنهم من وجهة نظر إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إرهابيون. وقد دفع هذا البعض أن يقرر ” إن معايير الإرهاب مزدوجة وتختلف النظرة إليه بحسب مقام الناظر ومصالحه، وهو أمر أسهمت في تكريسه السياسة الغربية المتناقضة والمتقلبة تجاه هذه الظاهرة، فالأكراد مجاهدون من أجل الحرية في العراق وإرهابيون في تركيا، والإرهابي المنبوذ ” أحمدي نجاد ” يصبح شريفًا فاضلًا في محادثات السلام، وعلى حين يغدو ” أسامة بن لادن ” الذي مولته المخابرات المركزية الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتي الإرهابي الأول في العالم، يحصل الإرهابي السابق ” مناحم بيجين ” على جائزة نوبل للسلام”(13).

إن مفهوم الإرهاب – دوليًا كان أم محليًا – يعد واحدًا من أكثر المفاهيم السياسية المعاصرة، إثارة للجدل والخلاف

وبشكل عام فإنه، ورغم التعدد الواسع في التعريفات المقدمة لمفهوم الإرهاب على المستويين الرسمي والفقهي، والتباين الواضح فيما بينها، فإن ثمة مجموعة من العناصر الأساسية التي تتفق عليها أغلب هذه التعريفات، والتي يمكن اتخاذها أساسًا للوصول إلى تعريف موحد مقبول عالميًا، وتتمثل هذه العناصر في(14):

1 – أن الإرهاب يتضمن استخدامًا مقصودًا للعنف أو التهديد به. والعنف المقصود هنا هو ذلك العنف الذي يفتقر إلى المشروعية الداخلية أو الدولية. وتشمل أعمال العنف التي تقوم بها الجماعات الإرهابية التفجيرات، والاغتيالات، وخطف الطائرات، وأخذ الرهائن..إلخ.

2 – أن الإرهاب تحركه في الغالب دوافع سياسية، فالإرهاب ذاته هو ظاهرة سياسية، وهو غالبًا ما يصاحب الصراعات السياسية ويمثل امتدادًا لها. وهذه الدوافع السياسية هي التي تميز الأعمال الإرهابية عن الأعمال الإجرامية الفردية أو المنظمة الأخرى.

3 – أن الإرهاب يهدف إلى خلق حالة من الرعب تتعدى الضحايا وتمتد إلى جميع أفراد الفئة المستهدفة، تؤدي إلى إرغام الطرف المستهدف على القيام أو الامتناع عن القيام بعمل معين.

ورغم هذه العناصر المشتركة في معظم التعريفات المقدمة للإرهاب، فإنها تتباين في المقابل في الكثير من الأمور التي ما زالت تعوق الوصول إلى تعريف محدد له. ولعل من أبرز هذه العناصر:

1 – الاختلاف حول ما إذا كان الإرهاب ينطبق فقط على الأعمال التي تستهدف المدنيين أم يشمل الأعمال التي تستهدف العسكريين كذلك.

2 – الاختلاف حول ما إذا كان مفهوم الإرهاب يمكن أن يطلق على الأفعال التي تقوم بها الدول أيضًا، وهو ما يعرف بإرهاب الدولة، أم يقتصر فقط على تلك التي يقوم بها الأفراد والجماعات، وقد خلت الاتفاقيات الدولية في شأن الإرهاب من أي معيار يشير إلى وصم الدولة بالإرهاب. وإن كان ثمة اتجاه واسع في الفقه والممارسة يصر على تصنيف الممارسات القمعية التي تقوم بها بعض الدول على أنها أعمال إرهابية.

3 – الاختلاف حول ما إذا كانت الأعمال التي تقوم بها حركات التحرر الوطني إرهابًا أم مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الأجنبي. ويعتبر هذا الخلط بين المقاومة المشروعة للاحتلال والإرهاب الدولي من أكثر النقاط المثيرة للخلاف حول مفهوم الإرهاب الدولي وطبيعته.

غير أن ما تقدم من خلافات واختلافات لا ينفي بحال أن جهودًا مضنية قد بذلت في سبيل تحديد مفهوم الإرهاب من الناحية القانونية. وهي جهود أخذت مسارات عدة كان من بينها مؤتمرات واتفاقيات دولية عقدت في هذا الصدد، كما كان من بينها الجهود المكثفة التي بذلتها الأمم المتحدة في قرارات جمعيتها العامة، وفي مناقشات وأعمال اللجنة السادسة التابعة لها، بالإضافة إلى جهود اللجنة الخاصة التي كلفتها الجمعية بدراسة موضوع الإرهاب الدولي ومحاولة تعريفه، وتحديد الأسباب الكامنة خلفه، وسبل الوقاية منه ومكافحته، علاوة على الجهود الفقهية العديدة التي بذلت في ذات السبيل(15).

ودون الخوض في التعريفات الفقهية الكثيرة التي قيل بها لتحديد مفهوم الإرهاب بصفة عامة(1)، فإننا نكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى ما توصلت إليه اللجنة الخاصة التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 51/210 الصادر في السابع عشر من ديسمبر 1996 بغرض إعداد اتفاقية دولية لقمع العمليات الإرهابية بالقنابل، واتفاقية دولية أخرى لقمع أعمال الإرهاب النووي في أكتوبر 2002، والتي انتهت إلى تعريف للإرهاب يقضي بأنه ” يعتبر مرتكبًا لجريمة الإرهاب كل شخص يقوم، بأية وسيلة كانت وبشكل غير مشروع وبإرادته، بقتل شخص آخر أو إصابته بجروح بدنية جسيمة حينما يهدف بهذا الفعل، بطبيعته أو وفقًا للظروف المحيطة به، إلى ترويع السكان أو إجبار حكومة أو منظمة دولية على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل أيًا كان “
إذا كان استخدام العنف أو القوة المسلحة هو القاسم المشترك بين التعريفات المختلفة بصدد الإرهاب، فإن ثمة تباينًا كبيرًا فيما وراء ذلك بين من تصدون للتعريف به
رابعًا- محاولات أممية للوصول لاتفاقية لقمع الإرهاب
وجدير بالذكر في هذا الصدد أن غياب نص قانوني دولي يحدد معني الإرهاب بشكل محدد وقاطع، لم يمنع ظهور نصوص دولية تجرم بعض الأفعال التي اتفق على كونها من قبيل الأعمال الإرهابية كاختطاف الطائرات أو الاعتداء على الأشخاص المتمتعين بحماية دولية كرؤساء الدول، وقد أبرمت هذه الاتفاقيات كرد فعل لصور معينة من أعمال الإرهاب حدثت على أرض الواقع. على أنه مما يؤخذ على القواعد التي وضعتها هذه الاتفاقيات الخاصة في هذا المقام أنها تتسم بالنسبية، سواء من حيث نوعية الأعمال التي تحظرها، أو من حيث المخاطبين بها، أي الدول الأطراف التي تلتزم بها، ومن ثم فهي محدودة الأثر موضوعيًا وشخصيًا على السواء.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أنه في عام 1975 ناقش مؤتمر الأمم المتحدة الخامس لمنع الجريمة ومعاملة المدنيين في مدينة جنيف مشكلة الإرهاب الدولي، واقترح في محاولة لتحديد مفهومه وجوب التمييز بين نوعين من أعمال العنف، أعمال يرتكبها فرد أو جماعة بهدف تحقيق مكاسب شخصية أو مادية، كاختطاف الطائرات للابتزاز، وأخذ الرهائن للحصول على فدية مالية، وهذه أعمال إرهابية دون مراء، وأعمال لا ترتكب لتحقيق غايات شخصية أو مكاسب مادية لمرتكبيها، وإنما خدمة لقضية يؤمنون بها ويشعرون بالالتزام تجاهها، مثل أعمال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي والنظم التي تمارس تفرقة عنصرية صارخة ضد جزء من الشعب الخاضع لها، وهذه لا يمكن أن تعد من قبيل الأعمال الإرهابية بحال، بل هي أعمال مشروعة بموجب أحكام القانون الدولي المعاصر(2). وفي سبيل تحقيق التمييز بين هذين النوعين من الأعمال رأى بعض المشاركين في المؤتمر أن يكون الدافع من وراء العمل هو العنصر الحاسم والمعيار المميز، على حين رأى آخرون أن تكون براءة الضحية هي هذا المعيار. ولعل النقطة العملية التي تستحق التقدير في أعمال هذا المؤتمر، هي عدم إغفاله لظاهرة الإرهاب الرسمي المنظم، أو ما يسمى بإرهاب الدولة الذي تمارسه الدول الاستعمارية والنظم الاستبدادية، والتي تقف على رأس الأسباب المحركة والدافعة لتزايد وتنامي ظاهرة العنف السياسي الداخلي والعابر للحدود على السواء.
والحق أن المعيار القانوني السليم في التمييز بين أعمال العنف المشروعة، والتي تمارسها حركات التحرر الوطني على سبيل المثال وبين الإرهاب(3)، إنما يقوم على أساس مشروعية استعمال القوة أو عدم مشروعيته، حيث نكون في الحالة الأولي أمام وضع يحميه القانون ويرفع عنه صفة الجريمة، ونكون على العكس من ذلك في الحالة الثانية(4). وما الخلاف حول هذا المعيار إلا نتيجة للخلط المتعمد من جانب عدد من الدول بين مفهوم الكفاح المسلح، والذي يندرج من الناحية القانونية تحت أحكام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والبروتوكول الإضافي المكمل لها لعام 1977، وبين الأعمال الإرهابية التي لا ترقى في أهدافها إلى مستوي المقاومة المسلحة بمعناها القانوني السليم.
والواقع أننا ما إذا استعرضنا الجهود التي قامت بها الأمم المتحدة في العقود الأخيرة في مجال التصدي لظاهرة الإرهاب، لوجدنا أساسًا صلبًا يمكن البناء عليه، يتمثل في مجموعة من المعاهدات التي تشكل سلاحًا مهمًا في الحرب الدائرة ضد الإرهاب، يبلغ عددها اثنتي عشرة معاهدة تتناول كل منها جانبًا محددًا من جوانب الجهود الرامية إلى القضاء على الإرهاب. وقد دأبت الأمم المتحدة – من خلال أجهزتها المعنية – على الإدانة الكاملة لإرهاب الدولة أيًا كانت صوره أو بواعثه(5)، وألقت التزامًا على عاتق الدول بالامتناع عن دعم الأنشطة الإرهابية أو التحريض عليها أو تيسيرها أو تمويلها أو التغاضي عنها، وبالالتزام باتخاذ كل التدابير العملية الملائمة لضمان عدم استخدام أقاليم كل منها لإقامة منشآت إرهابية أو معسكرات لتدريب الإرهابيين، أو في تحضير أو تنظيم الأعمال الإرهابية التي تنتوي ارتكابها ضد الدول الأخرى أو مواطنيها. ويبدو هذا واضحًا من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن ذات الصلة. ففي قرارها رقم 2625 الخاص بإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول الصادر في الرابع والعشرين من أكتوبر 1970، أكدت الجمعية العامة على وجود مبدأ يقضي بأن على كل دولة ” واجب الامتناع عن تنظيم أعمال الحرب الأهلية أو الأعمال الإرهابية في دولة أخري، أو التحريض عليها، أو المساعدة أو المشاركة فيها، أو قبول تنظيم نشاطات في داخل إقليمها تكون موجهة إلى ارتكاب مثل هذه الأعمال عندما تكون الأعمال المشار إليها منطوية على تهديد باستعمال القوة أو على استعمال لها “. كذلك فقد أكدت الجمعية العامة في قرارها رقم 42/159 الصادر في التاسع من ديسمبر 1987 والخاص بزيادة فاعلية مبدأ الامتناع عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها في العلاقات الدولية، أن على الدول أن ” تفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي بالامتناع عن تنظيم أعمال شبه عسكرية أو إرهابية أو تخريبية أو التحريض على مثل هذه الأعمال أو المساعدة أو المشاركة فيها، بما في ذلك أعمال المرتزقة في الدول الأخرى، أو السكوت على أنشطة داخل أراضيها تكون موجهة نحو ارتكاب مثل هذه الأعمال “. هذا بالإضافة إلى الإعلان الصادر عن الدورة التاسعة والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1994 بشأن التدابير الرامية للقضاء على الإرهاب الدولي، وهو الإعلان الذي تضمن، رغم عدم تعريفه للإرهاب الدولي تعريفًا محددًا، مجموعة من المبادئ والإجراءات والتوصيات التي تخاطب مختلف الدول بإدانة قاطعة لجميع أعمال الإرهاب وأساليبه وممارساته والتي تشكل انتهاكًا صارخًا وخطيرًا لمقاصد وأهداف ومبادئ الأمم المتحدة.
بلغت الجهود التي قامت بها الأمم المتحدة في مجال التصدي لظاهرة الإرهاب اثنتي عشرة معاهدة تتناول كل منها جانبًا محددًا من جوانب الجهود الرامية إلى القضاء على الإرهاب
ومن جانبه فقد أكد مجلس الأمن في العديد من قراراته على ضرورة امتناع الدول عن تنظيم أو التحريض على ممارسة الأعمال الإرهابية على أقاليم الدول الأخرى. ففي قراره رقم 748 لعام 1992 بخصوص أزمة لوكيربي أشار المجلس إلى أنه ” يؤكد من جديد أن من واجب كل دولة، بموجب المبدأ الوارد في المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة، الامتناع عن تنظيم أعمال إرهابية في دول أخرى، أو الحض عليها، أو المساعدة أو المشاركة فيها، أو القبول بأنشطة منظمة داخل إقليمها تكون موجهة لارتكاب مثل هذه الأعمال، عندما تنطوي هذه الأعمال على تهديد باستخدام القوة أو استخدامها بالفعل”. هذا فضلًا عما ورد في هذا الخصوص في قراراته التالية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وهكذا فإن الإرهاب الذي تمارسه الدول، مباشرًا كان أم غير مباشر، كان محورًا لاهتمام الجمعية العامة ومجلس الأمن نظرًا لما يترتب عليه من تهديد للسلم والأمن الدوليين، ولما يحمله من معنى التعارض مع قواعد القانون الدولي وأحكام الميثاق ذات الصلة(6).
وغني عن البيان أن بروز ظاهرة الإرهاب الدولي كأحد أهم مصادر تهديد السلم والأمن الدوليين، ومن ثم ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة لمواجهته والحيلولة دون تصديره عالميًا، جعلت مجلس الأمن الدولي يتخلى عن سياسته القديمة في إدانة العمليات الإرهابية بعد وقوعها، وهي السياسة التي ظل يجري عليها لعقود طويلة، ليسلك منذ بدايات العقد الأخير من القرن العشرين مسالك يقوم على التدخل بتدابير الفصل السابع من الميثاق واتخاذ قرارات ملزمة في هذا الشأن، وقد تضمنت هذه القرارات فرض عقوبات واسعة المدى على الدول التي تشجع الإرهاب أو تقدم له الدعم والمساعدة. وبذلك يكون المجلس قد وسع كثيرا ًفيما يعتبر داخلًا في اختصاصه وفقًا لأحكام الفصل السابع من الميثاق.
ولقد تمت صياغة هذه التوجهات الجديدة لمجلس الأمن في البيان الرئاسي الصادر عن رئيس مجلس الأمن باسم الدول الأعضاء في المجلس مجتمعًا على مستوى رؤساء الدول والحكومات والخاص بمسئولية مجلس الأمن عن صون السلم والأمن الدوليين، وهو الاجتماع الذي تم في مقر الأمم المتحدة بنيويورك في الحادي والثلاثين من يناير 1992، وكان مما تضمنه هذا البيان، والذي جاء تحت عنوان ” الالتزام بالأمن الدولي “، ” وإذ يلاحظ أعضاء المجلس أن مهام الأمم المتحدة لحفظ السلام قد زادت واتسع نطاقها بشكل كبير في السنوات الأخيرة. فعمليات مراقبة الانتخابات، والتحقق من احترام حقوق الإنسان، وإعادة اللاجئين إلى أوطانهم، جزء لا يتجزأ من الجهود التي يبذلها المجلس لصون السلم والأمن الدوليين وفي تسوية المنازعات الإقليمية بناءً على طلب الأطراف المعنية أو بموافقتها….وأن عدم نشوب الحروب والمنازعات العسكرية بين الدول ليس في حد ذاته ضمانًا للسلم والأمن الدوليين. فقد أصبحت المصادر غير العسكرية لعدم الاستقرار في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والأيكولوجية تشكل تهديدًا للسلم والأمن. ومن الضروري أن تولي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ككل أولوية للتعامل مع هذه المشكلات من خلال العمل عن طريق الأجهزة المناسبة…ويتعهد أعضاء المجلس بالالتزام بالقانون الدولي وبميثاق الأمم المتحدة…ويعرب المجلس عن بالغ القلق إزاء أعمال الإرهاب الدولي ويؤكدون الحاجة إلى قيام المجتمع الدولي بالتصدي لجميع هذه الأعمال على نحو فعال “.
كذلك فقد ركز المجلس تركيزًا خاصًا على مشكلة الإرهاب الدولي باعتبارها من المشكلات التي يجب أن تحظي بأولوية خاصة من المجتمع الدولي لما تشكله من تهديد للسلم والأمن الدوليين. ولعل قرارات مجلس الأمن الصادرة في تلك الفترة ضد ليبيا بصدد أزمة لوكيربي خير دليل على إعادة ترتيب أولويات العمل الجماعي الدولي لكي يحتل الإرهاب واحدة من أعلي وأهم هذه الأولويات.
وإذا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد شكلت – كما تقدمت الإشارة – نقلة نوعية وكمية كبيرة في الطرق والوسائل التي تستخدمها الجماعات الإرهابية لضرب الأهداف المدنية، وكذلك في حجم ونطاق ما خلفته من دمار، وما أثارته من رعب وفزع في نفوس المدنيين، الأمر الذي جعل هذه الهجمات – بالنظر إلى ما خلفته من دمار في المنشآت المدنية وما خلفته من قتلي وجرحي – تفوق في جسامتها بعض حالات العدوان المسلح، على الرغم من أنها قد تمت باستخدام طائرات مدنية وليست عسكرية. فإن هذا قد حدا ببعض الفقه إلى القول بأنها عمل من أعمال الحرب، وأضفي عليها صفة العدوان أو الهجوم المسلح. وحدا بالبعض الآخر منه أن يقرر أنه نظرًا لشدة وجسامة هذه الهجمات، فإن قواعد القانون الدولي الحالية غير قابلة للتطبيق عليها، وأنه أمام هذا النقص في قواعد القانون الدولي القائمة فإنه ليس أمامنا سوي تطبيق القواعد القانونية التقليدية، والتي يمكن من خلالها التأكيد على مشروعية الحرب ضد الإرهاب(7).  
ولقد أعادت قرارات الأمم المتحدة التالية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التأكيد على ذات المعاني، ففي اليوم التالي للأحداث أكد مجلس الأمن في قراره رقم 1368 على خطورة هذه الأحداث الإرهابية وعلى كونها تشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، مقرًا للولايات المتحدة الأمريكية بحق الدفاع الشرعي في هذا الصدد، مطالبًا الدول الأخرى بالعمل على تقديم مرتكبي هذه الجريمة إلى العدالة. ومن ثم كانت الحرب على أفغانستان تستند في شرعيتها إلى مضمون هذا القرار، وإلى خطاب الرئيس الأمريكي إلى مجلس الأمن الدولي في الثامن من أكتوبر 2001، الذي يبلغه فيه بعزمه على توسيع بلاده مجال عملياتها العسكرية إلى تنظيمات إرهابية ودول أخرى تأوي الإرهاب أو تقصر في مكافحته.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن قرار مجلس الأمن رقم 1368 هذا لم يعرف الإرهاب تعريفاُ دقيقًا، ولم يميز بينه وبين الحق المشروع في مقاومة الاحتلال، ومن ثم يبقى التصور الأمريكي له هو الفيصل في تحديد ما يعد إرهابًا من عدمه، وفي تحديد الدول المستهدفة بالإجراءات الأمريكية المتخذة في إطار ما منحها القرار من حق ” الدفاع الشرعي ” عن النفس، وفي إدراج ما تراه من حركات سياسية- ولو كانت حركات تحرر وطني مشروعة وفقًا لقواعد القانون الدولي المستقرة- في قائمة الحركات الإرهابية التي يتعين القضاء عليها.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن قرار المجلس المذكور في إشارته إلى حق الولايات المتحدة في الدفاع الشرعي عن النفس قد تجاوز ما انتهى إليه الفقه الدولي المعاصر من شروط حالة الدفاع الشرعي، حيث يتعين أن يكون فعل العدوان- الذي يبرر الدفاع — حالًا، وأن يوجه فعل الدفاع إلى مصدر العدوان ذاته، وأن يكون ثمة تناسب بين فعل الدفاع وفعل العدوان(8).
وفيما يتعلق بوجوب أن يكون فعل العدوان حالًا ليبرر الدفاع، فقد ثار في الفقه تساؤل له ما يبرره حول ما إذا كان يجب على الدولة المعتدي عليها أن ترد بصفة مباشرة ودون انتظار على العمليات الإرهابية المسلحة الموجهة إليها وإلا فقدت حقها في الدفاع الشرعي، أم أنه يمكنها على العكس من ذلك الانتظار مدة معقولة للتفكير في كيفية الرد والتحضير له. وقد تصارع في الإجابة عن هذا التساؤل اتجاهان، ذهب أولهما إلى أن الرد على العدوان المسلح ينبغي أن يكون مباشرًا دون انتظار وإلا أصبحنا في مواجهة تدابير انتقامية غير مشروعة وليس دفاعًا شرعيًا عن النفس، وذهب الآخر إلى أنه من غير المقبول أو المعقول حرمان الدولة المعتدى عليها من حقها الطبيعي في الدفاع الشرعي عن نفسها لمجرد أنها لم تشرع في الرد على العدوان الإرهابي المسلح مباشرة وفضلت الانتظار قليلًا للتحضير له والتفكير في الأسلوب الأمثل والأكثر فاعلية في اتمامه بما يحقق الهدف المرجو منه، سيما وأن الدفاع هنا يواجه عدوانًا غير تقليدي.
والحق أن المادة الحادية والخمسين من الميثاق جاءت صريحة في الترخيص للدولة المعتدي عليها بأن تدافع عن نفسها دفاعًا شرعيًا فرديًا أو جماعيًا ” إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين “. ومن ثم فقد ذهب بعض الفقه إلى أن الدولة لا تلتزم بالضرورة بممارسة حقها في الدفاع الشرعي فور وقوع العدوان المسلح، وإنما يمكنها ممارسته في أي وقت خلال الفترة الزمنية التي تقع بين تاريخ وقوع العدوان المسلح، وتاريخ اتخاذ مجلس الأمن ما يلزم من التدابير والإجراءات اللازمة لإنهاء العدوان وما ترتب عليه من نتائج، وذلك بغض النظر عن طول هذه الفترة الزمنية أو قصرها. والقول بغير ذلك يعني – لدي هذا الفريق من الفقه – أننا نسلب الدولة حقها الذي منحه إياها القانون الدولي في الدفاع شرعيًا عن نفسها في مواجهة العمليات الإرهابية المسلحة متى ثبتت جسامة هذه العمليات وثبتت نسبتها إلى دولة محددة، وهو – أي الإثبات – ما يقتضي الانتظار بعض الوقت لجمع الأدلة والتحقق منها، ومحاولة إقناع الدولة المتهمة بتسليم المجرمين وتفكيك البنية التحتية للجماعات الإرهابية المتواجدة على إقليمها.
على أن جانبًا آخر – نميل إليه ونراه أولي بالتأييد – من الفقه ذهب إلى اشتراط أن يكون فعل الدفاع الشرعي فوريًا، حيث إن الهدف من إباحة استخدام القوة المسلحة في هذه الحالة، باعتباره استثناءً على المبدأ العام الذي يحظر استخدام القوة المسلحة أو مجرد التهديد بها في العلاقات الدولية، يتمثل في تمكين الدولة المعتدي عليها من صد العدوان أو الهجوم المسلح الموجه إليها، وهو ما يقتضي – منطقًا وبداهةً – أن تكون هناك ضرورة ملحة للجوء إلى استخدام القوة المسلحة، وفي ظروف لا يكون للدولة المعتدى عليها فرصة لاختيار وسيلة أخرى مناسبة لصد هذا الهجوم أو العدوان إلا باللجوء إلى القوة المسلحة. ذلك أنه إذا كان نص المادة الحادية والخمسين من الميثاق قد جاء خاليًا من أية إشارة واضحة لضرورة أن يكون استخدام القوة المسلحة فوريًا وحالًا في حالة الدفاع الشرعي، فإن القواعد العامة في تفسير المعاهدات الدولية بشكل عام تقرر أن يتم هذا التفسير بحسن نية طبقًا للمعني العادي لألفاظ المعاهدة في الإطار الخاص بها وفي ضوء موضوعها والغرض منها. ومن ثم فإنه يمكننا القول إن موضوع المادة المذكورة والغرض منها يحتم أن يتم استخدام القوة المسلحة في حالة الدفاع الشرعي في إطار الغرض الذي  شرع من أجله وهو صد العدوان أو الهجوم المسلح الموجه إلى الدولة المعتدي عليها، وحماية سيادتها واستقلالها السياسي. فإذا انتهى هذا العدوان أو الهجوم المسلح، فلا محل هنا لاستخدام القوة المسلحة بحجة الدفاع عن النفس، وإنما ينتقل الأمر إلى مجلس الأمن الذي يكون له اتخاذ كل الإجراءات التي يراها ضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين وإعادتهما إلى نصابهما. ويكون كل استخدام للقوة المسلحة بعد انتهاء العدوان أو الهجوم المسلح بمثابة أعمال عسكرية انتقامية غير مشروعة لتعارضها مع الهدف الذي تقرر من أجله الدفاع الشرعي في المادة الحادية والخمسين من الميثاق(9). أما القول بأن نص هذه المادة يرخص صراحة للدولة المعتدى عليها أن تدافع عن نفسها دفاعًا شرعيًا فرديًا أو جماعيًا إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، بما يعطيها الحق في ممارسة الدفاع الشرعي في أي وقت خلال الفترة الواقعة بين حدوث العدوان المسلح وتاريخ اتخاذ مجلس الأمن تدابير الأمن الجماعي بغض النظر عن طول أو قصر هذه الفترة، فإنه – أي هذا القول – لا ينطبق إلا على الاعتداءات المسلحة المستمرة، حيث يكون للدولة المعتدى عليها في هذه الحالة استخدام القوة المسلحة استنادًا لحقها في الدفاع الشرعي، ويستمر هذا الحق الطبيعي قائمًا طالما استمر العدوان المسلح، فإذا ما اضطلع مجلس الأمن بمهامه التي أناطها به الميثاق وفقًا لنظام الأمن الجماعي، أو انتهي العدوان المسلح، وجب على الدولة المعتدي عليها أن تنهي عملياتها العسكرية الموجهة لصد هذا العدوان، وإلا عد كل استخدام منها للقوة بعد ذلك بمثابة عمل عسكري غير مشروع.
أما فيما يتعلق بوجوب أن يوجه فعل الدفاع إلى مصدر العدوان، وأن يكون هناك تناسب بين فعلي الدفاع والعدوان، وهي الشروط والقيود التي ينبغي على الدولة ضحية الإرهاب الدولي أن تلتزم بها، متى توافرت الشروط والضوابط الأخرى السابق الإشارة إليها، وهي تتخذ ما يلزم من التدابير العسكرية في إطار الدفاع الشرعي عن النفس ضد الدولة التي ثبت بالفعل مساندتها للعمليات الإرهابية المسلحة التي مورست بحقها، وأن تخضع التدابير العسكرية المتخذة من جانب الدولة التي تمارس الدفاع الشرعي عن النفس لرقابة مجلس الأمن الدولي، فإن هذا جميعه مما لا ينطبق بحال على الحرب الأمريكية ضد أفغانستان. فمن ناحية أولى لم يكن فعل العدوان- بفرض ثبوت مسئولية أفغانستان عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر- حالًا، فلقد تم وانتهي ولم يعد ثمة مبرر للدفاع في مواجهته من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، حيث أنه كان بمكنة مجلس الأمن أن يشرع في اتخاذ ما يراه لازمًا في هذا الصدد في إطار نظام الأمن الجماعي. ذلك أنه ليس من حق الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدولة ضحية العمليات الإرهابية في هذه الحالة، أن تختار بين نظام الأمن الجماعي والدفاع الشرعي للرد على هذه العمليات، فالدولة لا تستطيع، وفقًا لنصوص الميثاق، أن تلجأ إلى الدفاع الشرعي إلا حينما يعجز مجلس الأمن عن إعمال نظام الأمن الجماعي في الوقت المناسب، ثم هي ملزمة في حالة اللجوء إلى الدفاع الشرعي أن تتوقف عن ممارسته في الوقت الذي يتمكن فيه المجلس من اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين.
أكدت الجمعية العامة في قرارها رقم 42/159 الصادر في 9 ديسمبر 1987 والخاص بزيادة فاعلية مبدأ الامتناع عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها في العلاقات الدولية
خامسًا- الولايات المتحدة وتعزيز الإرهاب الدولي
ولما كان مجلس الأمن قد نهض مبكرًا، كما سلفت الإشارة، بتحمل مسئولياته تجاه أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكان من الممكن من الناحية القانونية وفي إطار الفصل السابع من الميثاق حصول الولايات المتحدة الأمريكية على تفويض منه باستعمال القوة المسلحة ضد الدولة التي تثبت – بعد الفحص والتحقق – مسئوليتها عن العمليات الإرهابية التي تعرضت لها، فإن تجاهلها لنظام الأمن الجماعي وسلوكها سبيل الدفاع الشرعي هو أمر لا مسوغ له من الناحية القانونية. فلقد كان رد فعل مجلس الأمن على أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليس سريعًا فحسب، وإنما فاعلًا أيضًا، حيث أبدى المجلس استعداده الكامل لاتخاذ جميع التدابير اللازمة للرد على هذه الأحداث بما فيها بطبيعة الحال تدابير الأمن الجماعي المنصوص عليها في الفصل السابع من الميثاق، بل وشرع بالفعل في اتخاذ بعض هذه التدابير، عندما أشار في قراره 1368 إلى عزمه على مواجهة ما تسببه الأعمال الإرهابية من تهديد للسلم والأمن الدوليين، معتبرًا أحداث الحادي عشر من سبتمبر هذه بمثابة تهديد حقيقي لهما، مطالبًا جميع الدول بالعمل معًا على وجه السرعة لتقديم مرتكبي هذه الأحداث الإرهابية ومنظميها والمحرضين عليها للعدالة، منبهًا إلى مسئولية كل من يثبت قيامه بمساعدة أو مساندة أو إيواء أي من هؤلاء الأشخاص. غير أن مجلس الأمن لم يحرك ساكنًا إزاء التجاهل الأمريكي له ولنظام الأمن الجماعي في هذا الصدد، بل أسهم هو ذاته، من خلال بعض العبارات الغامضة الواردة في قراراته ذات الصلة، في إضفاء شرعية على هذا التجاهل الأمريكي والتمادي فيه، وذلك من خلال الإشارة الصريحة في قراري المجلس المتعلقين بالأحداث إلى الحق في الدفاع الشرعي. إذ على الرغم من الاختلاف حول طبيعة هذه الإشارة الواردة في قراري المجلس 1368 و 1373 إلى الحق في الدفاع الشرعي، فإنه مما لا شك فيه أن هذه الإشارة مثلت سندًا للإدارة الأمريكية في إدعاءها بثبوت حقها في الدفاع الشرعي، وأن الأمم المتحدة تقر لها بإمكان مباشرة هذا الحق في مواجهة الدولة المسئولة عن هذه الأحداث.
ومن ناحية أخرى فإن فعل الدفاع ـ بفرض أن الحرب الأمريكية ضد أفغانستان هي مما يدخل في إطار الدفاع الشرعي ـ لم يوجه ضد مصدر العدوان ذاته، فالغارات الأمريكية ضد أفغانستان طالت الشعب الأفغاني في مجمله ولم تترك أخضر ولا يابس إلا أتت عليه. ناهيك عن أن التناسب ( Proportionality ) بين فعلي الدفاع والعدوان تناسب معدوم جملة وتفصيلًا، ذلك أن الولايات المتحدة في حربها هذه، والتي استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة التقليدية وجانبًا من الأسلحة غير التقليدية، لم تراع الضوابط المتعلقة بضرورة التناسب بين الإجراءات اللازمة لصد الهجوم، والهجوم الذي تعرضت له، الأمر الذي يشكل تجاوزًا واضحًا لحدود الدفاع الشرعي، ويدخل هذه الإجراءات العسكرية في إطار أعمال الثأر والانتقام غير المشروعة.
وإذا كانت المادة الحادية والخمسون من الميثاق لم تشر إلى شرط التناسب هذا، فإن العرف الدولي المستقر يقر به معتبرًا أن الخروج عليه يبعد الدفاع الشرعي عن هدفه الرئيسي ويحوله إلى نوع من الانتقام والعدوان، وهو ما أكدت عليه محكمة العدل الدولية في حكمها في قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكارجوا عام 1986. وإعمال شرط التناسب على هذا النحو لا يعني بالضرورة التناسب في الأسلحة المستخدمة في كل من العدوان وفعل الدفاع الشرعي، ولا بين الأضرار التي يسببها هذا وذاك، وإنما بين وسائل الدفاع وما يترتب عليها من جهة والهدف الذي من أجله أقر الميثاق حق الدفاع الشرعي وهو رد العدوان المسلح من جهة أخرى.
أضف إلى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تبلغ مجلس الأمن ـ في رسالة بوش سالفة الإشارة ـ بما اتخذته من إجراءات في إطار ” الدفاع الشرعي” عن النفس، على نحو ما افترضت المادة الحادية والخمسون من الميثاق، وإنما بما تزمع أن تتخذه في المستقبل، وهي جميعها مما يتعارض وشروط حالة الدفاع الشرعي المشار إليها آنفًا.
ورغم هذا لم تلق رسالة بوش إلى مجلس الأمن هذه تعليقًا- أو بالأحرى تفنيدًا من المجلس أو من الأمين العام للأمم المتحدة – ليس هذا فحسب، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية قد أدعت أن القيود التي حددها ميثاق الأمم المتحدة بشأن استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية لم تعد تتناسب مع التطورات الدولية الراهنة، وهو ما يستلزم من وجهة نظرها تغييرًا في شروط الدفاع الشرعي خاصة الشرط المتعلق بوجوب أن يكون هناك هجوم حال أو شيك، وذلك لتبرير ادعاءاتها بفكرة الدفاع الشرعي الوقائي أو الاستباقي، أضف إلى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استغلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب ضد أفغانستان لتعلن أنها لن تلتزم بمبدأ السيادة الوطنية في صورته العتيقة، لتنهي بذلك مبدأ من المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها القانون الدولي المعاصر. ومن ثم فقد قامت في هذا السياق بانتهاك سيادة أفغانستان ودولًا أخرى تحت دعاوى حماية حقوق الإنسان والتدخل لاعتبارات إنسانية ولنشر الديمقراطية الأمر الذي يبدو على درجة كبيرة من الخطورة لأنه يتعلق بإرساء سوابق دولية يمكن تكرارها في العمل الدولي بما يمهد السبيل لإرساء قواعد عرفية جديدة تنسخ القواعد القانونية المستقرة، وتؤدي إلى نشأة قانون دولي جديد أمريكي النزعة يختلف في أسسه ومنطلقاته عن القانون الدولي الذي تواتر المجتمع الدولي على العمل بموجبه والانصياع لأحكامه(10).
ومن ناحية ثالثة فإنه يتعين على الدولة المعتدي عليها وهي تمارس حقها في الدفاع الشرعي عن النفس بضوابطه سالفة البيان، ووفقًا للأحكام الصريحة التي حوتها المادة الحادية والخمسون من الميثاق، أن تبلغ مجلس الأمن فورًا بالتدابير التي اتخذتها في هذا الصدد، دون أن تؤثر هذه التدابير على سلطات المجلس التي تخوله الحق في اتخاذ ما يلزم من التدابير والإجراءات الأخرى لإعادة السلم والأمن الدوليين إلى نصابهما. ومن ثم فإنه إذا كان للدولة المعتدي عليها أن تلجأ إلى الدفاع الشرعي بصفة تلقائية ودون اشتراط الحصول على إذن مسبق من مجلس الأمن، فإن الطبيعة الاستثنائية الخالصة لهذا الحق تحتم فرض نوع من الرقابة اللاحقة على التدابير والأعمال التي تتخذها الدولة أثناء ممارسته، بهدف التأكد من عدم تعسف الدولة المعتدي عليها في استعمال الحق في الدفاع الشرعي واتخاذه ذريعة للانتقام من المعتدي. وهو ما لم تمتثل به الولايات المتحدة الأمريكية فيما اتخذته من تدابير عسكرية في حملتها على أفغانستان.
وعلى ذات الدرب سار قرار مجلس الأمن رقم 1373 الصادر في الثامن والعشرين من سبتمبر 2001، والذي لم يعرف الإرهاب واكتفى بالحديث عن الإجراءات المطلوبة لمكافحتها داخليًا ودوليًا. حيث أعاد التأكيد على قراري مجلس الأمن 1269 الصادر في التاسع عشر من أكتوبر 1999، و1368 الصادر في الثاني عشر من سبتمبر 2001. وأدان الهجمات الإرهابية، مؤكدًا الحق الراسخ للفرد والجماعة في الدفاع عن النفس، ومؤكدًا أيضًا على التصدي بجميع الوسائل للتهديدات التي توجهها الأعمال الإرهابية للسلم والأمن الدوليين، مشددًا على ضرورة التعاون الدولي بتدابير إضافية لمنع ووقف تمويل أي أعمال إرهابية أو الإعداد لها في أراضيها بجميع الوسائل القانونية.
ومما تقدم يبين أن مجلس الأمن بقراريه 1368 و1373 هذين قد خطا خطوات واسعة نحو آفاق جديدة ليستخدم لأول مرة سلطاته وفقًا لأحكام الفصل السابع من الميثاق لإلزام الدول عمومًا، الأعضاء منها في الأمم المتحدة وغير الأعضاء على السواء، باتخاذ إجراءات وتدابير معينة والامتناع عن أخرى في سياق يتجاوز حدود معاقبة دولة معينة، وهو ما حدا ببعض الفقه الدولي إلى الحديث عن بزوغ دور تشريعي حقيقي للمجلس يتخطى إرادة الدول في معناها التقليدي وللمرة الأولى في تاريخ قرارات مجلس الأمن وممارساته.   
وهكذا وتحت دعوى محاربة الإرهاب، وبقبول صريح أو ضمني من الغالبية العظمى من دول العالم خوفًا أو طمعًا، وبغطاء من شرعية دولية تمثلت في قرار مجلس الأمن 1368، والذي اعتبر أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمثابة تهديد للسلم والأمن الدوليين، مانحًا الولايات المتحدة الأمريكية الحق في الدفاع الشرعي عن النفس في مواجهة مثل هذه الأعمال ومعاقبة مرتكبيها، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على الإرهاب في أفغانستان في أكتوبر 2001، بهدف إسقاط نظام حكم طالبان والقضاء على تنظيم القاعدة الذي تتهمه بالمسئولية الكاملة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
ودون دخول في مزيد من التفاصيل حول مشروعية هذه الحرب، حيث لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية دليلًا واحدًا مؤكدًا على مسئولية تنظيم القاعدة، ونظام حكم طالبان الذي يوفر له الملجأ والحماية عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما لم تثبت أن مرتكبي هذه الأحداث كانوا يتصرفون بناءً على تعليمات من دولة أفغانستان أو تحت إشرافها ورقابتها أو بمساعدتها، بل إن الإدارة الأمريكية ذاتها لم تدع مطلقا ًأن جماعة طالبان، وهي التي كانت تحكم أفغانستان في ذلك الوقت، هي التي ارتكبت هذه الأحداث أو أسهمت بشكل مباشر في ارتكابها، وإنما ادعت أن تنظيم القاعدة هو الذي ارتكبها، ومع تسليمنا بأن حكومة طالبان كانت تأوي بالفعل تنظيم القاعدة وقدمت لأعضائه مساعدات كثيرة ربما تكون قد مكنتهم من ارتكاب العديد من العمليات الإرهابية ضد أهداف أمريكية وغير أمريكية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقدم على الرغم من ذلك دليلًا واحدًا على اشتراك طالبان والقاعدة في تنفيذ هذه الأحداث، ولا على قيام أي منهما منفردًا بهذا الأمر.
والواقع أن الغالب من الفقه يرى أنه لا بد من توافر شروط عدة حتى يكون اللجوء إلى القوة المسلحة في مواجهة الإرهابيين مبررًا. أولها أن يرقي الفعل الإرهابي، سواء تم داخل الدولة أو خارجها، إلى مستوى الهجوم المسلح، بمعنى أن تتساوى شدة ونطاق الضرر الناتج عن الفعل الإرهابي مع ما قد ينتج عن هجوم مسلح يشن من قبل قوات نظامية لإحدى الدول. وثانيها أن تكون أعمال الإرهابيين قابلة لأن تنسب لدولة مضيفة، وهو ما أشارت إليه المادة الثامنة من مشروع لجنة القانون الدولي بشأن ” مسئولية الدولة ” حين قررت أنه ” يعتبر سلوك شخص أو جماعة من الأشخاص فعلًا للدولة وفقًا للقانون الدولي إذا كان الشخص أو جماعة الأشخاص يعملون فعليًا بتعليمات من، أو تحت توجيه أو سيطرة تلك الدولة في تنفيذ ذلك السلوك “. ومن اللازم في هذا المقام إثبات وجود رابطة حقيقية بين الدولة والفاعلين غير الدوليين. أما ثالثها فهو وجوب التناسب في استخدام القوة ردًا على الفعل الإرهابي، فالأفعال المتخذة دفاعًا عن النفس يجب ألا تتعدى في أسلوبها وهدفها الضرورة التي استدعتها فلا تكون غير معقولة أو مبالغًا فيها، وأن تستخدم فقط للقضاء على مصدر الهجوم.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن محكمة العدل الدولية كانت قد تعرضت لمسألة مدى اعتبار مساندة الدولة للجماعات المسلحة بمثابة عدوان مسلح يكفل الدفاع الشرعي وفقًا للمادة الحادية والخمسين من الميثاق، وذلك في حكمها في قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراجوا، عندما ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أمام المحكمة أن نيكاراجوا قد ساندت وشجعت أعمال العنف التي ارتكبتها بعض الجماعات المسلحة في السلفادور، وقامت باعتداءات عسكرية ضد هندوراس وكوستاريكا، وأن الولايات المتحدة قد استجابت للطلب المقدم لها من جانب كل من الدول الثلاث لاتخاذ إجراءات الدفاع الشرعي الجماعي ضد اعتداءات نيكارجوا. وقد انتهت المحكمة إلى رفض حجة الدفاع الشرعي الجماعي التي قالت بها الولايات المتحدة الأمريكية، لأن الأخيرة لم تستطع إثبات تورط نيكاراجوا في دعم المعارضة المسلحة السلفادورية بشكل مباشر أو غير مباشر وعلا نحو مؤثر.
وقد أكدت المحكمة هذا مرة أخرى في حكمها في قضية الأنشطة الحربية على إقليم الكونغو الصادر في التاسع عشر من ديسمبر 2005، والذي أشارت فيه المحكمة إلى أنه لكي تنسب الأفعال والأنشطة العسكرية التي قامت بها حركة تحرير الكونغو على إقليم الكونغو إلى دولة أوغندا فإنه يتعين أن تكون هذه الحركة قد تصرفت بناءً على أوامر أو توجيهات أو تحت سيطرة السلطات الأوغندية، وهو ما لم تتمكن المحكمة من التوصل إلى توافره في هذه الحالة.
وعلى ذات النهج سار كل من مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، فعلى الرغم من تعدد الحالات التي عرضت على كل منهما والتي تمسكت فيها الدولة المعتدية بأنها في حالة دفاع شرعي عن النفس ضد إرهاب دولة أخرى، وعلى الرغم من عدم وضوح السبب الذي من أجله انتهي كل من المجلس والجمعية إلى إدانة سلوك الدولة المعتدية وعدم الاعتداد بادعائها الدفاع الشرعي عن النفس، وسواء أكان ذلك لأن إرهاب الدولة – المفترض والمدعي به – لا يعد من وجهة نظرهما عدوانًا مسلحًا يبرر الدفاع الشرعي وفقًا للمادة الحادية والخمسين من الميثاق، أم لتخلف أحد شروط الدفاع الشرعي في الحالات المعروضة، فإن النتيجة التي تعنينا في هذا السياق هي أن كلًا من المجلس والجمعية قد انتهى إلى إدانة سلوك الدولة المعتدية رافضًا الاستناد إلى حجة الدفاع الشرعي لتبريره.
أصبحت الحرب ضد الإرهاب العامل الأساسي في صياغة التفاعلات السياسية الدولية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر
والحق أنه إذا ما أخذنا في الاعتبار، من ناحية، الحجة التي تسوقها الدول المعتدية لتبرير ما تتخذه من تدابير عسكرية ضد دولة أخري، أي أنها في حالة دفاع شرعي ضد الإرهاب الذي تمارسه في حقها الأخيرة، ومن ناحية أخرى، ما قام به مجلس الأمن والجمعية العامة من رفض لمثل هذه الحجة. فإنه يمكننا – من ثم – أن نستنبط أن هذين الجهازين يرفضان التسوية بين إرهاب الدولة الدولي والعدوان المسلح لتخلف أحد شرطي هذه التسوية أو كليهما(11) فقد رفض مجلس الأمن بقراريه 508 و509 الصادرين في الخامس والسادس من يونيو 1982 على التوالي الحجة التي ساقتها إسرائيل لتبرير عدوانها المسلح على لبنان تحت إدعاء مساندة الأخيرة للجماعات الإرهابية الفلسطينية، وهو ما يعد – من وجهة نظر إسرائيل – عدوانًا مسلحًا غير مباشر يبرر لإسرائيل استخدام القوة في إطار الدفاع الشرعي عن النفس. كذلك فقد رفض المجلس أيضًا في قراره رقم 573 الصادر في الرابع من أكتوبر 1985 ذات الحجة عندما قدمتها إسرائيل لتبرير عدوانها العسكري على تونس في الأول من الشهر ذاته، مقررًا في فقرتيه الأولي والثانية أن المجلس يدين بقوة العدوان المسلح الذي اقترفته إسرائيل على الأراضي التونسية في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي الأخرى، وأنه يطالب إسرائيل بالامتناع عن القيام بأعمال عدوانية مماثلة أو التهديد بها. وإذا كان مجلس الأمن لم يستطع في ذات الشأن، نتيجة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عليه، إلا أن يتخذ موقفًا صامتًا تجاه التدابير العسكرية التي اتخذتها هذه الأخيرة ضد كل من السودان وأفغانستان عام 1998 مدعية أنها تستخدم حقها في الدفاع الشرعي عن نفسها ضد الدولتين لمواجهة العمليات الإرهابية التي أصابت سفارتيها في نيروبي ودار السلام بمساعدة هاتين الدولتين، فإن هذا هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها.
الخاتمة
وهكذا فقد كان للإرهاب الدولي أثره الكبير على دور مجلس الأمن وأدائه لوظيفته الأساسية في حفظ السلم والأمن الدوليين، وهو ما يظهر في نمط تعامله مع الإرهاب، سواء في معالجته القانونية، أو تعامله الواقعي والفعلي. حيث تميزت هذه المعالجة من جانب المجلس لقضية الإرهاب بالتوسع في استخدام الفصل السابع والاستناد إليه في فرض تدابير قسرية ضد الدول والجماعات التي ترعى الإرهاب، متأثرًا بالهيمنة الأمريكية، وهو ما أثار  – كما بان آنفًا – قضية مدي مشروعية هذا التوسع في استخدام الفصل المذكور.
وقد انتهى هذا بالبعض، في ضوء حقيقة عدم سعي المجلس في قراراته المتعددة إلى وضع تعريف جامع مانع للإرهاب، وتركه الأمر عرضة للخلط والالتباس بين الإرهاب والمقاومة المسلحة المشروعة، وهو ما يؤكد غلبة الاعتبارات السياسية على الاعتبارات القانونية في هذا الصدد، أن يقرر – أي هذا البعض – أن مجلس الأمن قد لعب دورًا هامًا في هذا الصدد بتوافقه مع توجهات الولايات المتحدة وحربها على الإرهاب، بحيث بات واضحًا أن قانونًا دوليًا جديدًا سيقوم على هذه القرارات يوشك أن يتبلور وتحقق واشنطن من خلاله سطوتها على العالم.   
والحق أن “الحرب ضد الإرهاب” قد أصبحت هي العامل الأساسي في صياغة التفاعلات السياسية الدولية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وفي بناء تحالفات جديدة على حساب غيرها من العوامل. أو إن شئت فقل إنها أصبحت المبرر لسياسة خارجية توسعية أمريكية تهدف إلى إعادة رسم الخريطة العالمية من الناحية الإستراتيجية. وبغض النظر عن مشروعية الغاية، التي أعلنت من أجلها هذه الحرب، فإن الطريقة التي أديرت بها لم تؤد إلى استئصال خطر الإرهاب، بل هددت- على العكس- بتعاظم مخاطره وتوسيع نطاقه من خلال تغذية التربة السياسية والثقافية الحاضنة له بشرايين جديدة، وبسبب تدني ثقة الشعوب والأفراد بقواعد القانون الدولي ومؤسساته وعلي رأسها الأمم المتحدة، وهي ترى- أي هذه الشعوب والأفراد- الدولة الكبرى التي يفترض فيها قيادة النظام الدولي والعمل على إنفاذ قواعد القانون الدولي الحاكمة له، هي أول من يضرب بهذه القواعد والمؤسسات الراعية لها والمعبرة عنها عرض الحائط، وبحيث بات ازدواج المعايير والكيل بمكيالين والخلط في المفاهيم القانونية هو الأصل في محاولات الولايات المتحدة الأمريكية فرض سطوتها ومعاييرها ومفاهيمها على عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. وما الحرب ضد الإرهاب، في حقيقتها، إلا ذريعة جديدة حتى تتمكن الدولة العظمي صاحبة القوة من التدخل في الشئون الداخلية للدول، وإحداث تغييرات جذرية فيها تتناسب ومصالحها، وإن كان هذا التدخل قد أخذ مسميات جديدة كالتدخل الإنساني. وفي هذا المجال يبدو أن التبرير للتدخل الإنساني الذي تستخدمه هذه القوة العظمى من شأنه تقويض ما تبقي من النظام الهش للشرعية الدولية، وبذلك يكون حكم القانون الدولي قد استبدل بحكم الأقوى أو قانون القوة الذي يقرر – في الوقت ذاته – شرعية هذا النهج من العلاقات الدولية ويحدد الإطار لممارسة القوة.
حاصل القول؛ إن عالم ما بعد زوال القطبية الثنائية وغياب التوازن الدولي أصبح محكومًا بالتصورات الأمريكية لما هو مسموح به وما هو محظور، فهي التي تصف المقاومة المشروعة بالإرهاب، وتسمي إرهاب الدولة دفاعًا مشروعًا عن النفس. وهي التي تملك الحق في أن تصف امتلاك دولة بعينها كالعراق وكوريا الشمالية مثلًا، لأسلحة الدمار الشامل، حتى ولو لم تكن تملكها بالفعل، على أنه يمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وأن تعتبر- في الوقت نفسه- ما تملكه دولة أخرى بالفعل منها- كإسرائيل – أمرًا مشروعًا وضروريًا لمتطلبات أمنها، على نحو ما أعلن وزير الدفاع الأمريكي غير مرة في معرض تبريره للصمت الأمريكي عن امتلاك إسرائيل لهذا النوع من الأسلحة.
*الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

أهم المراجع:

([1]) Danile J. Hickman, Terrorism as Violation of the ” Law of Nation “: Finally Overcoming the Definitional Problem, Wisconsin International Law Journal, Vol. 29, Issue 3, 2012, pp. 451 – 455.

(2)

A.       K. Cronin, Behind the Curve: Globalization and International Terrorism, International Security, Vol. 27, No. 3, Winter 2002 – 2003, pp. 55 – 59.

(3) راجع في هذا الصدد، د. محمد شوقي عبد العال، نحو إستراتيجية دولية لمكافحة الإرهاب، في، د. يسري العزباوي ( محرر )، داعش: دراسات في بنية التنظيم، المركز العربي للبحوث والدراسات، القاهرة، 2015، ص ص 159 – 173.

(4) لمزيد من التفاصيل راجع، محمد عبد العزيز سهل، مرجع سابق، ص 487 – 490.

(5) راجع، المحكمة الجنائية الدولية، جمعية الدول الأطراف، الوثيقة:

ICC-ASP/8/20. pp. 78 – 80.

(6) راجع تفاصيل هذا المعني في، د. محمد صافي يوسف، مدي مشروعية لجوء الدول إلى التدابير العسكرية لمكافحة الإرهاب الدولي ” مع إشارة خاصة للاستخدام الأمريكي للقوة المسلحة ضد أفغانستان في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 “، دار النهضة العربية، القاهرة، 2005، ص ص 5 – 6.

(7) أنظر تفاصيل ذلك في، هيثم موسي حسن، التفرقة بين الإرهاب الدولي ومقاومة الاحتلال في العلاقات الدولية، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، 1999، ص 677 وما بعدها؛ وكذلك د. أحمد أبو الوفا، ظاهرة الإرهاب الدولي، السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 161، يوليو 2005، ص ص 160 – 162.

(8) راجع، د. محمد شوقي عبد العال، موقف مصر من قضية “الحرب الدولية ضد الإرهاب”، في د. نادية مصطفى ود. زينب عبد العظيم (محرران)، الدور الإقليمي لمصر في مواجهة التحديات الراهنة، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة 2003، ص 479 وما بعدها.

(9) فريد زكريا، عالم ما بعد أمريكا، ترجمة بسام شيحا، الطبعة الأولى، الدار العربية للعلوم ” ناشرون “، بيروت، 2009، ص 228 – 229.

(10) د. محمد نور فرحات، حقوق الإنسان في عصر الهيمنة: قراءة لبعض تداعيات حقوق الإنسان في الوطن العربي بعد أحداث سبتمبر 2001، مجلة قضايا فكرية، الكتاب الحادي والعشرون، يناير 2005، ص ص 196 – 197.

(11) د. أمل يازجي ود. محمد عزيز شكري، الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن، الطبعة الأولي، دار الفكر، دمشق، 2002، ص ص 95-96. 

(12) راجع في هذا المعني، جورج عرموني، محاولة لتعريف الإرهاب وتحديد الوسيلة لمحاربته، شئون الأوسط، العدد 71، إبريل 1998، ص113-114.

(13) د. خليفة عبد السلام خليفة الشاوش، الإرهاب والعلاقات العربية – الغربية، دار جرير للنشر والتوزيع، عمان، 2008، ص ص 220 – 222.

(14) راجع التفاصيل في، فتوح أبو دهب صادق هيكل، انعكاسات السلوك الدولي في مجال مكافحة الإرهاب على مبدأ السيادة الوطنية: دراسة حالة الحرب على أفغانستان والعراق، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2010، ص ص 55 – 58.

(15) راجع على سبيل المثال، د. عصام صادق رمضان، الأبعاد القانونية للإرهاب الدولي، السياسة الدولية، العدد 85، يوليو 1986، ص 8 – 36؛ وكذلك، د. إسماعيل غزال، الإرهاب والقانون الدولي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1990؛ وكذلك، أ. د. عبد العزيز مخيمر عبد الهادي، الإرهاب الدولي مع دراسة للاتفاقيات الدولية والقرارات الصادرة عن المنظمات الدولية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1986، ص 24 وما بعدها.

1.    راجع تفاصيل ذلك في، د. عبد العزيز سرحان، حول تعريف الإرهاب الدولي وتحديد مضمونه من واقع قواعد القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية، المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد 29، 1973، ص ص 173 – 176؛ وكذلك، د. نبيل أحمد حلمي، الإرهاب الدولي وفقًا لقواعد القانون الدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 1988، ص ص 27 – 33.
2.    د. أحمد أبو الوفا، تعريف الإرهاب الدولي والجهود الدولية لقمعه ومكافحته، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص 9 – 12.
3.    راجع تفاصيل ذلك في، د. صلاح الدين عامر، المقاومة الشعبية المسلحة في القانون الدولي العام: مع إشارة خاصة إلى أسس الشرعية الدولية للمقاومة الفلسطينية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1976، ص 485 – 492.
4.    د. عبد العزيز سرحان، مرجع سابق، ص173 وما بعدها. 
5.    حول مفهوم إرهاب الدولة ومظاهره راجع، أسعد يونس، ظاهرة الإرهاب الدولي في ظل القانون الدولي المعاصر مع دراسة خاصة لأسس التمييز بينه وبين الحق المشروع في المقاومة، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير، معهد البحوث والدراسات العربية، 2004، ص 45 وما بعدها.
6.    راجع لمزيد من التفاصيل، د. عادل عبد اللـه المسدي، الحرب ضد الإرهاب والدفاع الشرعي في ضوء أحكام القانون الدولي مع دراسة لمدي مشروعية استخدام القوة المسلحة من جانب الولايات المتحدة ردًا على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، القاهرة، 2006، ص 36 – 39.
7.    د. عادل عبد اللـه، مرجع سابق، ص ص 109 – 110.
8.    راجع على سبيل المثال، د. محمد خلف، حق الدفاع  الشرعي في القانون الدولي الجنائي: دراسة تأصيلية تحليلية مقارنة، الطبعة الثانية مطابع دار الحقيقة، بني غازي، ص ص485-497. 
9.    د. عادل عبد اللـه، مرجع سابق، ص 127 – 128.
10.    راجع في هذا المعنى بصدد ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، نعوم تشومسكي، الحرب الوقائية أو ” الجريمة المطلقة”: العراق – الغزو الذي سيلازمه العار، مجلة المستقبل العربي، العدد 297، نوفمبر 2003، ص38.
11.    د. محمد صافي، مرجع سابق، ص 45 – 46.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button