قضايا فلسفية

هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

إن الإنسان مفطور بفضوله على البحث عن الحقيقة، ورغم أنه ليس من السهل تعريف الحقيقة لاختلاف معناها من تصور فلسفي إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، إلا أن مشكلة الحقيقة تعد من أبرز المشكلات والمواضيع التي أثارها الفلاسفة والمفكرين قديما وحديثا، ما جعلها تتخذ وجهات نظر متعددة، فلقد ثار جدال ونقاش في الأوساط الفكرية والفلسفية حول طبيعة الحقيقة، حيث ذهب البعض إلى اعتبار الحقيقة مطلقة وهي واحدة وثابتة، بينما يرى آخرون نقيض ذلك تماما ويؤكدون بأنها نسبية متغيرة. من هنا حق لنا أن نتساءل: هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

 

الموقف الاول
للإجابة عن التساؤلات السابقة أكد بعض العلماء وكذا الفلاسفة من ذوي النزعة العقلية والمثالية ومن أبرزهم أفلاطون وديكارت، على أن الحقيقة تمتاز بالمطلقية والثبات. فالحقيقة المطلقة هي المعرفة الشاملة والكاملة بالواقع، ولما كانت مرادفة لما هو ثابت ومستقر أصبحت تتصف بأنها مطلقة، وهي أقصى ما يطمح الوصول إليه الفيلسوف، وأبلغ ما يستطيع بلوغه عن طريق العقل أو الحدس، وهنا نجد “أفلاطون” قديما يميز أنطولوجيا (وجوديا) بين عالمين، عالم الأشياء وعالم المثل.

فالأول يمثل العالم المادي المحسوس والمتغير، وموجوداته هي بمثابة ظلال وأشباح لعالم المثل، هذا الأخير أي عالم ما وراء الأشياء ندركه بعقولنا وهو عالم الحقيقة (الخير المطلق، الجمال المطلق،..)، يمتاز بكونه عالما معقولا وثابتا وكاملا وفيه توجد النماذج العليا لكل الموجودات كما أنه خاص بالموهوبين ولا تدركه الأبصار، وفيه يعاين الفيلسوف سلسلة من المثل كالخير والجمال المطلقين، لهذا كانت الحقيقة المطلقة مجسدة في عالم المثل، المعرفة الحقة هي إدراك عالم المثل في صورته المطلقة بواسطة الجدل الصاعد، أي ذلك المجهود الفكري الذي ينتقل بنا من الأدنى إلى الأعلى أو من الحسي إلى المجرد، وقد جاء “أفلاطون” بنظرية المثل التي تحدد المعيار الذي يجب أن يسير عليه الفرد، وهي عامة ومشتركة لدى الجميع، معقولة لا حسية، تطبق في كل زمان ومكان لأنها لا تتأثر بالظروف والتجربة أو الحس، وهذا دليل على أن الحقيقة لا توجد في الواقع المحسوس والمتغير. وفي السياق نفسه نجد “أرسطو” يؤكد على صفة المطلقية بالنسبة للحقيقة، إلا انه يختلف مع أستاذه أفلاطون في الاعتقاد بوجود حقيقة ثابتة مفارقة لهذا العالم، فكل شيء فيه عبارة عن جوهر وماهية وصورة، والجوهر هو الحقيقة الثابتة التي يجب على المفكر أن يصل إليها وان يدركها في شكلها المطلق، لأنه حقيقة لا حقيقة فوقها، فلكي يوجد الشيء لا بد له من جوهر كنقطة بداية، فهذا الشيء الجزئي المفرد الموجود خارج العقل وله صفة مادية لا بد أن توجد له صورة. فالراشد مثلا هو الصورة التي كان الصبي مادة لها والصبي هو الصورة التي كان الجنين مادة لها والجنين هو الصورة التي كانت البويضة مادة لها. فالله عند أرسطو هو الموجود الأتم صورة وكلما قارب الشيء من كمال الصورة كان أقرب إلى الحقيقة.

هذا بالنسبة للنظرة الكلاسيكية لمشكلة الحقيقة، أما إذا نظرنا إلى صفة الحقيقة في الفلسفة الحديثة فإننا نجد “ديكارت” لا يعترف بقيمة المعرفة الحسية وجعل الشك الطريق الأساسي لبلوغ الحقيقة، ووسيلة ذلك هي العقل نفسه، فالحقيقة عنده هي ما ينتهي إليه الشك، وعلى هذا الأساس لا يكون الحقيقي إلا ما هو واضح وبديهي، ما يعني أن معيار الحقيقة هو البداهة والوضوح وفي هذا يقول “ديكارت”: “لا تصدق إلا ما هو بديهي”.

وهذا ما ذهب إليه “سبينوزا” الذي يرى بأنه ليس هناك معيار للحقيقة خارج عن الحقيقة في قوله: “هل يمكن أن يكون هناك شيء أكثر وضوحا ويقينا من الفكرة الصادقة يصلح أن يكون معيارا للحقيقة؟ فكما أن النور يوضح نفسه بنفسه ويوضح معه الظلام، كذلك الصدق هو معيار نفسه ومعيارا للكذب”.
وفي هذا السياق نجد المتصوفة يعتبرون أن الحقيقة المطلقة هي الحقيقة الصوفية باعتبارها شعورا يستولي على المتصوف عند بلوغ الحقيقة الربانية المطلقة عن طريق الحدس، ويصل المتصوف إلى هذه الحقيقة بعدة طرق، فقد تكون من خلال الاتحاد بالله عن طريق الفناء كما يؤكد ذلك أبو يزيد البسطامي، أو عن طريق حلول الله في مخلوقاته فيما يذهب إليه الحلاج، أما الطريق الثالث فيجسد التقاء وجود الخالق ووجود المخلوق إثباتا لوحدة الوجود كما يقول ابن عربي، ولا يتم له ذلك إلا بمجاهدة النفس.

وفي السياق نفسه وبعيدا عن النظرة الصوفية نجد ابن رشد يرى أن الحقيقة الدينية واحدة ولكن طرق تبليغها متعددة بتعدد طبائع الناس ومستويات إدراكهم العقلي، ويؤكد ابن رشد أن الحقيقة الفلسفية لا تتعارض مع الحقيقة الدينية، لأن كليهما مطلقتان ومتوافقتان، لأن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
إذن يتضح لنا مما سبق أن الحقيقة حسب ما أكد عليه العقليون وحسب النظرة الصوفية تتصف بالمطلقية.

 

النقد
لكن ورغم ما قدمه أنصار المطلقية من أدلة وحجج لتبرير موقفهم، إلا أننا بالنظر إلى هذا التصور من زاوية تطور التفكير وخاصة التفكير العلمي، فإننا نجد النسبية خاصية أساسية من خصائصه، وما الأزمات التي عاشتها المعارف المتوصل إليها من طرف العلماء قديما وحديثا وتغيرها إلا دليل على ذلك، ومن جهة أخرى بماذا نفسر تحول النظام الثابت الذي تخضع له الظواهر الطبيعية؟ حيث أصبح في العصر الحديث والمعاصر ينطبق على بعض الظواهر فقط لهذا فإن الحقيقة نسبية وليست مطلقة.
كما أن القول بإرجاع الحقيقة كلها إلى الوضوح، يجعلنا نلجأ إلى معيار ذاتي للحقيقة لأن الاعتبارات الذاتية تتدخل في معيار الوضوح، وهذا ما يؤدي إلى اختلاف الوضوح من شخص إلى آخر، أي تدخل الميول والرغبات، هو الذي يجعل الفكرة واضحة، وبالتالي صحيحة بدليل أن قضية دوران الأرض حول الشمس والتي هي قضية واضحة بالنسبة إلينا اليوم، في حين أن ثباتها كانت فكرة واضحة وضوحا تاما لدى خصوم “غاليلي” والتي هي فكرة خاطئة، فالشعور بالبداهة والوضوح لا يمكن أن يكون مقياسا صحيحا للحقيقة.

لهذا ونتيجة للانتقادات والسلبيات التي حوتها النظرة السابقة أقرت الاتجاهات العلمية والعملية أن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية،فلقد كان لانتشار مختلف النظريات العلمية والفلسفية في مختلف المجالات المعرفية تأثير في جعل الحقائق العلمية تقريبية، خاصة مع ظهور النظرية النسبية لآينشتاين متجاوزة بذلك اليقين والمطلقية اللتين امتاز بهما التصور النيوتني لنظام الطبيعة، متجاوزة بذلك المفاهيم الأساسية كمفهوم الزمان والمكان المطلق والحركة المطلقة، وقوانين تركيب السرعة، وحفظ الطاقة…إلخ.

ففي مسألة المادة والمجال مثلا نجد آينشتاين يحاول إرجاع قوانين الفيزياء كلها إلى قوانين المجال على غرار الفيزياء الكلاسيكية التي تفسر الحوادث الطبيعية كلها بالمادة والحركة يقول “آينشتاين”: إننا قبل اكتشاف نظرية النسبية كنا نميز بين المادة والمجال باعتبار أن المادة كتلة وأن المجال لا كتلة له، وبعبارة أخرى المادة تمثل كتلة والمجال يمثل طاقة، لكن هذا التصور قد تغير بفضل النظرية النسبية التي كشفت عن الحقيقة التالية: وهي أن المادة عبارة عن خزان هائل من الطاقة، وأن الطاقة عبارة عن مادة، وبالتالي لم يعد في إمكاننا التمييز بين المادة والمجال من ناحية الكيف لأن الاختلاف بينهما لم يعد كيفيا، بل هو اختلاف كمي فقط نظرا لأن كلا منهما عبارة عن طاقة، فما نسميه مادة هو عبارة عن طاقة مركزة ومكثفة في إحدى نقاط المجال.

الموقف الثاني
وحسب هذه النظرة أصبح مبدأ الحتمية الذي يعتبر مبدأ يمكن الذهن من عدم الوقوع في الخطأ نسبيا وليس مطلقا، إذ أنه ينطبق على بعض الظواهر المتناهية في الكبر فقط أو كما يطلق عليها في مجال الفيزياء الماكروفيزيائية، والتي بإمكاننا التجريب عليها والوصول إلى نفس النتيجة، أما الظواهر الدقيقة فإنها تنفلت من قبضة الحتمية إلى الاحتمال أو ما يطلق عليها في مجال الفيزياء بالميكروفيزيائية والتي يستعصى علينا الوصول من خلالها إلى نتيجة ما.
والصورة نفسها التي ميزت الفيزياء تنطبق على الرياضيات باعتبار أنها كانت تجسد مثالا لليقين والدقة، حيث نجد هذا اليقين في العصر المعاصر أصبح نسبيا مع ظهور الهندسة اللاإقليدية مع “لوباتشيفسكي” الروسي و”ريمان” الألماني، فإذا أردنا أن نتساءل أي هذه الهندسات الثلاث صحيحة، فإننا نجد عالم الهندسة القديم يجيب بأن هندسة إقليدس هي الصحيحة، أما عالم الهندسة المعاصرة فإن الأمر عنده يختلف تماما، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الحقائق الرياضية مختلفة من عصر إلى آخر ومن تفكير إلى آخر، وهنا نجد هنري بوانكاري يعتبر هذا السؤال لا معنى له ما دامت كل هندسة صحيحة ضمن سياقها.

وفي بداية القرن 20 استغل أنصار النظرية البراغماتية فكرة النسبية العلمية لبناء مذهبهم، جاعلين المنفعة (النجاح) مقياسا للحقيقة، لان الفكرة الصائبة هي الفكرة التي تؤدي إلى النجاح في الحياة العملية، فأصبحت حقيقة وقيمة الشيء تكمن في كل ما هو نفعي عملي، وفي هذا الإطار يقول “ويليام جيمس”: “يقوم الصدق بكل بساطة فيما هو مفيد لفكرنا والصائب فيما هو مفيد لسلوكنا”، ويقول أيضا: “إن الناس يعتقدون في القرون الماضية أن الأرض مسطحة ونحن نعتقد اليوم أنها مستديرة، إذن الحقيقة تغيرت وأنت ربما تقتنع بهذا القول ويقنع به غيرك”، وبهذا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجيات أخرى. نفس الرأي نجده كذلك عند “بيرس” القائل: “إن الحق يقاس بمعيار العمل المنتج، وليس بمنطق العقل المجرد..”، كما أن تاريخ الفكر البشري يؤكد أن العلم لكي يكون مطلقا أي نهائيا لا بد من أن يكون تاما، إلا أن هذا لن يتحقق، يقول “كلود برنار”: “يجب أن نكون حقيقة مقتنعين بأننا نملك العلاقات الضرورية الموجودة بين الأشياء إلا بوجه تقريبي كثيرا أو قليلا وأن النظريات التي نمتلكها هي أبعد من تمثل حقائق ثابتة..”، إضافة إلى ذلك نجد أن الحقيقة العلمية التي تعتبر النموذج الأعلى لليقين لم تستطع أن تعيش بمعزل عن الأخطاء لهذا قال “غاستون باشلار”: “إن تاريخ العلم هو تصحيح أخطاء العلم..” وهذا ما جعله يتقيد بفكرة القطيعة، الشيء الذي جعل العلم حسب “باشلار” يتصف بالتقريبية وعليه فالحقيقة نسبية وليست مطلقة.

النقد
لكن ورغم ما قدمه أنصار النسبية من أدلة إلا أنهم قد بالغوا كثيرا في ذلك، لأن المعارف السابقة ليست خاطئة كلها وتاريخ العلم يؤكد على أن العلماء توصلوا إلى معارف جديدة، انطلاقا مما هو سائد سابقا، لأن تاريخ العلم حلقات متصلة والعالم لا يمكنه أن ينطلق من العدم، لذا فالحقيقة صادقة في ذاتها متغيرة بالنسبة إلينا.
التركيب
تجاوزا للانتقادات الموجهة لكلا الاتجاهين سواء الذي يعتبر الحقيقة مطلقة أو الذي يعتبرها عكس ذلك يمكننا التوفيق بين الرأيين بالقول أن الحقيقة تكون مطلقة ونسبية في آن واحد، مطلقة لان المعرفة الإنسانية لا تحدها حدود ونسبية من حيث أن هذه المعرفة تتوقف دائما على هذا الكائن الإنساني المتعدد الأبعاد.

الخاتمة
ختاما ومما سبق نستنتج أن مشكلة الحقيقة مرتبطة بالإنسان وفضوله لاكتشاف المجهول، ولا يتبدى لنا من الحقيقة إلا ما يدفعنا إلى البحث عنها، وأنه مهما تعددت المواقف المؤيدة للنسبية فإن الإنسان يطمح دائما إلى بلوغ الحقيقة الأولى مهما كان مفهوم الثبات الذي يصفها به.

 

2.9/5 - (670 صوت)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لا توجد حقيقة مطلقة سوى حقيقة عظمة رب العالمين اجمعين؟لكن مع حاجة الوارث السياسي لمن يشرعن فساده،فهو جعل الكائات الدينية تمتلك الحقيقة المطلقة،لاقناع العباد على ان الحاكم يمتلك حق الالوهية، و ان حاكم ظالم افضل من شعب غاضب،و ما شبه من الخزعبلات التي يتفنن فيها الفكر الديني,,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى