نظرية العلاقات الدولية

ما حدود التقارب بين الصين وإسرائيل؟

وجهت الصين، منتصف أغسطس 2022، تحذيراً شديد اللهجة إلى إسرائيل للمرة الأولى من دعم تايوان أو التقارب مع الموقف الأمريكي الداعم للجزيرة في ظل التوتر الحالي بين بكين من جهة وواشنطن وتايبيه من جهة أخرى، ويتزامن هذا مع احتفال بكين وتل أبيب بمرور 30 عاماً على تطبيع العلاقات بينهما تمكَّنا خلالها من الحفاظ على تعاونهما الوثيق رغم الخلافات الجلية بين المواقف الصينية من قضايا الشرق الأوسط، كالتعاون مع إيران وسوريا، ودعم القضية الفلسطينية، وهو ما تتحفظ عليه إسرائيل. وهذا يؤكد أن بكين وتل أبيب تحرصان على التوافق والتقارب لتحقيق مصالحهما الاستراتيجية التي يتقدمها استمرار التعاون التكنولوجي والعسكري بين الدولتين، وهو ما حذرت منه واشنطن تل أبيب؛ الأمر الذي سيعزز الضغوط على إسرائيل مستقبلاً؛ لأنها ستكون مطالبة بالحفاظ على حساسية التوازن في تعاونها مع بكين وواشنطن.

علاقات متميزة

جرى تطبيع العلاقات بين الصين وإسرائيل في يناير 1992. وفي عام 2000 أجرى الرئيس الصيني أول زيارة تاريخية إلى تل أبيب، ثم عام 2013 زار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “بنيامين نتنياهو” بكين، وأعلن أن “إسرائيل تعلق أهمية استراتيجية بعيدة المدى على الصين وتعمل لإقامة شراكة مثالية معها”. وخلال العقود الثلاثة الماضية لم تحدث أزمات كبرى بين الدولتين حتى 17 مايو 2020؛ عندما عُثر على جثة السفير الصيني بتل أبيب “دو وي” بمنزله. ورغم التشكيك في طبيعة الوفاة، فإن بكين احتوت الأزمة. وقد اتخذ التعاون بين الدولتين عدة صور؛ منها:

1–دعم الشراكة التكنولوجية بين الدولتين: تسعى إسرائيل لتصبح مركزاً إقليمياً للبحث التقني والتكنولوجي والتطوير في مجال أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية التي تحتكر تايوان تصنيعها. وتعمل الصين على الاستفادة من كافة تلك الطموحات الإسرائيلية؛ ففي مايو 2014 أُنشئت لجنة مشتركة للتعاون الابتكاري تضمنت خطة لتبادل الباحثين والعلماء التكنولوجيين وإنشاء المختبرات المشتركة بينهما، ثم في عام 2017 وُقِّعت بينهما وثيقة “شراكة الابتكار”، وأنشئت مراكز نقل التكنولوجيا الدولية.

وخلال العقدين الماضيين، عقدت الصين وإسرائيل 507 صفقات اقتصادية؛ منها 492 في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء  الاصطناعي، وعام 2019 افتتحت شركة “هواوي” الصينية أفرعاً في حيفا وهود هشارون يعمل بها نحو 500 باحث؛ وذلك رغم تصنيفها من قِبل وزارة التجارة الأمريكية على القائمة السوداء. وفي عام 2020 اشترت شركة استثمار حكومية صينية شركة إسرائيلية تصنع مكونات بصرية وفق تقنيات الجيل الخامس (5G)، كما تُصدِّر إسرائيل سنوياً بمليارات الدولارات من الرقائق الإلكترونية إلى الصين من شركات متعددة الجنسيات مثل (Intel)؛ ما يمثل أبواباً خلفية للصين للتعرف على التكنولوجيا الأمريكية.

2– زيادة معدلات التعاون العسكري: بدأ التعاون العسكري بين الصين وإسرائيل في ستينيات القرن الماضي قبل التطبيع بين الطرفين، وأطلق عليه “دبلوماسية السلاح”؛ حيث صدرت تل أبيب الأسلحة السوفييتية والتكنولوجيا الدفاعية الإسرائيلية إلى الصين؛ ما ساهم في تحديث الجيش الصيني، وفي عام 1989 صدَّرت لها أسلحة عبر الالتفاف على العقوبات العسكرية الأمريكية والأوروبية المفروضة على بكين بعد أحداث “الميدان السماوي”. وقد بلغ إجمالي الصادرات الدفاعية الإسرائيلية للصين خلال الفترة (1980–2000) نحو مليارَي دولار أمريكي. ومكَّنت تلك الصفقات الصين من تحديث مقاتلاتها ودباباتها، وتطوير طائرات المراقبة الصينية، واكتساب تكنولوجيا أنظمة الرؤية الليلية، وخبرة أنظمة الحرب الإلكترونية التي تفوقت فيها الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً. وفي عام 2005 وقَّعت إسرائيل صفقة جديدة مع الصين، يتم بمقتضاها بيع عدد من الطائرات المسيرة المتطورة “هاربي” وطائرات الإنذار المبكر من طراز “فالكون” الهجومية الأمريكية المطورة، وهو ما اعترضت عليه واشنطن فألغت إسرائيل بعض تلك الصفقات.

3– المساهمة الصينية في تطوير البنية التحتية بإسرائيل: سعت الصين إلى الاستثمار في تطوير البنية التحتية بإسرائيل بغية ضمها إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وتعزيز نفوذ بكين في الشرق الأوسط وإنشاء منفذ لها على البحرين الأحمر والمتوسط. وفي عام 2015 وقَّعت سلطات الموانئ الإسرائيلية مع شركة “شنجهاي الدولية للموانئ” (SIPG) المملوكة للدولة عقداً لتطوير ميناء “حيفا” لمدة 25 عاماً باستثمارات تبلغ نحو مليارَي دولار على مرحلتين، وافتُتح في 2021. وبنت بكين ميناء “أشدود” بتكلفة 3 مليارات دولار؛ ما أثار قلق واشنطن من قرب الوجود الصيني من أماكن تردد سفن الأسطول السادس الأمريكي بالبحر المتوسط.

4– تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي: خلال العقد الأول من التطبيع الصيني الإسرائيلي، بلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين 10 مليارات دولار، وتم توقيع اتفاقيات للتعاون في مجالات التنمية الصناعية والزراعية. وخلال الفترة  (2005–2016)  ضخَّت الصين ما يقرب من 13.5 مليار دولار للاستثمار بقطاعات الزراعة والتكنولوجيا الفائقة بإسرائيل. وفي عام 2016 بدأت الدولتان التفاوض بشأن إقامة منطقة تجارة حرة بينهما. وسجَّل عام 2018 تطوراً جديداً؛ حيث استوردت إسرائيل معظم البضائع من الصين بنحو (10.4 مليار دولار) لتصبح ثاني أكبر وجهة تصدير لإسرائيل. وفي عام 2019 بلغ حجم التجارة الثنائية بين الصين وإسرائيل (14.767) مليار دولار أمريكي، كما أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في قارة آسيا، وثالث أكبر شريك تجاري في العالم، ثم أصبحت الصين ثالث أكبر شريك تجاري لإسرائيل عام 2021، وبلغ التبادل التجاري بينهما عام 2022 نحو (10.68) مليار دولار،  بينما بلغ التبادل التجاري بين واشنطن وتل أبيب عام 2022 نحو ( 10.71 ) مليار دولار؛ ما يُنذر بأن بكين يمكن أن تصبح الشريك التجاري الأول لإسرائيل متفوقةً على واشنطن لأول مرة. وعلى الصعيد الثقافي تم تبادل الطلبة بين الدولتين، وتم تدريس اللغة الصينية في إسرائيل.

إشكاليات متعددة

ثمة إشكاليات بين الصين وإسرائيل؛ أبزرها أن العلاقات بينهما ثلاثية الأبعاد؛ حيث تعترض واشنطن على التعاون العسكري الصيني الإسرائيلي، بينما تعترض بكين على التقارب بين تايوان وإسرائيل. وعليه، يمكن الإشارة إلى أن أبرز إشكاليات العلاقات الصينية الإسرائيلية تتمثل فيما يأتي:

1–تصاعد التحذيرات الأمريكية لإسرائيل: حذرت واشنطن أكثر من مرة إسرائيل من مخاطر التعاون العسكري والتكنولوجي مع الصين؛ لأن هذا سيؤدي إلى نقل التقنيات الأمريكية الحديثة لبكين التي ستطورها بعد ذلك. واعترضت واشنطن عامي 2000 و2005 على بيع صفقات أسلحة متطورة من تل أبيب لبكين.

وفي عام 2018، اتهم وزير الخارجية الأمريكي السابق “مايك بومبيو” علنًا الحزب الشيوعي الصيني بالسعي للوصول إلى البنية التحتية التكنولوجية وشبكات الاتصالات بإسرائيل؛ ما يهدد التعاون بين واشنطن وتل أبيب، كما اعترض على الاستثمارات الصينية في البنية التحتية بإسرائيل، لا سيما تطوير ميناءي (حيفا وأشدود) وأوضح أن “أي استثمار صيني في إسرائيل خطر أمني”؛ ما دفع تل أبيب إلى إلغاء عقد تحلية مياه البحر لمحطة “سوريك 2” مع الصين. وخلال زيارة “بومبيو” إلى إسرائيل في 13 مايو2020، جدد قلق واشنطن من تنامي الاستثمارات الاستراتيجية الصينية في إسرائيل؛ ما دفع إسرائيل إلى إنشاء لجنة مراقبة الاستثمار الأجنبي عام 2020. ومؤخرًا حذر خبراء أمنيون إسرائيليون من سعي الصين بالفعل إلى التجسس على التقنيات العسكرية والتكنولوجية بإسرائيل من خلال إنشاء شركات مدنية “وهمية” صينية تهدف إلى نقل تقنيات الدفاع الإسرائيلية إلى بكين.

2– رفض صيني للتقارب بين إسرائيل وتايوان: هددت بكين تل أبيب بإعادة النظر في علاقاتها بها بنهاية مايو 2022 إثر نشر صحيفة إسرائيلية مقابلة أجرتها مع وزير الخارجية التايواني وطالبت بحذفها. وفي 18 أغسطس 2022 حذرت بكين تل أبيب من التماهي مع الموقف الأمريكي تجاه تايوان؛ ما سيؤدي إلى الإضرار بالعلاقات الصينية الإسرائيلية؛ حيث قام رئيس قسم العلاقات الدولية بالحزب الشيوعي الصيني الحاكم “ليو جينشاو” بتسليم السفيرة الإسرائيلية ببكين “إيريت بن آبا” رسالة تحذيرية شديدة اللهجة من تبعات تقديم أي دعم إسرائيلي لتايوان؛ ما يؤكد أن بكين لن تقبل أي تهاون مع أي دولة تقدم دعماً لتايبيه، ويهدد بحدوث أزمة دبلوماسية بين بكين وتل أبيب إذا تجاهلت تلك الحقيقة.   

3– تضارب المصالح في سوريا: انتقدت بكين مؤخراً التصعيد العسكري الإسرائيلي في سوريا، خشية استهداف مصالحها هناك؛ حيث يوجد عشرات الخبراء والآلاف العمال الصينيين بمنشآت عسكرية سورية لإعادة إعمارها، وقدمت بكين مساعدات عدة لدمشق بغية تحسين البنى التحتية للاتصالات؛ ما يثير المخاوف من استخدامها بعمليات تجسس ضد تل أبيب، كما تخشى الأخيرة من تحسين القدرات الاقتصادية والعسكرية السورية؛ ما يمثل تهديداً طويل الأمد لها؛ هذا فضلاً عن مخاوف من شراء سوريا المنظومات الدفاعية الصينية المتطورة التي ستعمل على رفع كفاءة قوات الدفاع الجوي السوري لصد أي اعتداءات إسرائيلية مستقبلاً.

وقد حذر الرئيس الأسبق للموساد “داني ياتوم” من أي خطأ إسرائيلي يضرب عمالاً صينيين في سوريا؛ ما سيؤدي إلى أزمة في العلاقات بين بكين وتل أبيب، كما تتخوف الأخيرة من طبيعة الاستثمارات والمشاريع التجارية الصينية بسوريا التي ربما تكون “غطاء” لمشاريع عسكرية استخباراتية ستمثل قيوداً على التعامل الإسرائيلي مع الملف السوري، لا سيما أن بكين ساعدت دمشق للحصول على برنامج الصواريخ الباليستية، وبرنامج الأسلحة الكيمياوية السوري.

4– تحفُّظ إسرائيلي على التعاون الصيني الإيراني: أجرى الرئيس الإسرائيلي “يتسحاق هرتسوج” اتصالاً هاتفياً بنظيره الصيني “شي جين بينج” عام 2021 في أول مكالمة هاتفية بينهما، وأبدى الأول قلقه لبكين من تداعيات امتلاك إيران برنامجاً نووياً، بينما دعا بعض الخبراء بتل أبيب إلى إقناع بكين بالضغط على طهران لتعديل البرنامج النووي وسياستها الخارجية المزعزعة للاستقرار بالشرق الأوسط؛ هذا فضلاً عن قلق تل أبيب من التعاون الوثيق بين إيران والصين، لا سيما بعد توقيع الاتفاق الاستراتيجي عام 2021 بين بكين وطهران الذي يتم بموجبه ضخ استثمارات صينية بقيمة 400 مليار دولار في إيران لمدة 25 عاماً مقابل وجود أمني صيني بإيران؛ الأمر الذي سيمثل تعزيزاً للاقتصاد الإيراني ومنفذاً لها للتغلب على العقوبات الدولية، كما حذر خبراء أمنيون من مخاطر وجود شركات صينية تعمل بمشاريع البناء والبنية التحتية في كل من إيران وإسرائيل معاً؛ ما يعرض تل أبيب لعمليات تجسس ومخاطر أمنية عدة.

5– الدعم الصيني للقضية الفلسطينية: دعمت الصين تاريخياً القضية الفلسطينية، وصوتت على كافة القرارات الأممية المؤيدة لها، وتقدم دعماً ثابتاً لوكالة “الأونروا”، كما ألقى الرئيس الصيني “شي جين بينج” خطاباً هاماً أمام جامعة الدول العربية عام 2016 دعا فيه إلى إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وفي عام 2017 طرحت بكين مبادرة لحل القضية تقوم على أساس حل الدولتين، والتنفيذ السريع لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334، والوقف الفوري لإنشاء المستوطنات، كما أدانت بكين كل العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة والضفة الغربية. وفي 28 يونيو 2022 حث مندوب الصين بالأمم المتحدة “قنج شوانج” إسرائيل على وقف جميع الأنشطة الاستيطانية، والإيفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي لحماية المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

6– التنافس بين الدولتين لبسط النفوذ الإقليمي: تتقاطع المصالح الصينية والإسرائيلية في عدة أقاليم؛ منها القارة الأفريقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز؛ حيث تسعى كل من بكين وتل أبيب إلى الاستثمار في تلك المناطق وبيع أسلحة متطورة لدولها والحصول على المواد الخام النادرة منها، كما تمثل العلاقات المتميزة بين إسرائيل وكوريا الجنوبية واليابان – وهم خصوم محتملون لبكين – مصدر تنافس بين الأخيرة وبين تل أبيب.

خلاصة القول: يمكن القول إن العلاقات الصينية الإسرائيلية، رغم حداثتها، حققت طفرات في مجالات عدة، كالتعاون التكنولوجي والعسكري، وهذا ما جعلها دوماً علاقات ثلاثية الأبعاد؛ فثمة اعتراض أمريكي مستمر على ذلك التعاون، فضلاً عن الرفض الصيني للتقارب الإسرائيلي التايواني؛ ما ينذر بفترات توتر مقبلة في العلاقات بين تل أبيب وبكين، نظراً إلى كثرة الملفات الخلافية بينهما؛ ولذا على إسرائيل الحفاظ على التوازن بين تعاونها الوثيق مع الصين وتحالفها الاستراتيجي مع واشنطن. ويمكن القول إن واشنطن ترغب في الضغط على إسرائيل للإضرار بعلاقاتها مع الصين وروسيا، مقابل تخفيف الضغط الإسرائيلي على واشنطن قبل إبرام الاتفاق النووي الإيراني؛ أي إشغال إسرائيل بخلافات خارجية وتشتيتها، ثم تخيير إسرائيل في علاقاتها بين المحور الغربي بقيادة واشنطن أو المحور الشرقي بقيادة روسيا والصين.

المصدر: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

1/5 - (1 صوت واحد)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى