دراسات سياسيةقضايا فلسفية

“رد الاعتبار” لتخصص العلوم الساسية

بقلم الدكتور عبد الله هوادف

عن قضية “رد الاعتبار” لتخصص العلوم الساسية

أحيانا يليق بنا كسر حاجز التحفظ وتسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة، ومن ذلك أنه لا وجود لشيء اسمه السياسة العامة للدولة، وإنما هي توجهات صناع القرار في مؤسسات الدولة، سواء وصلوا إلى أماكن المسؤولية بالاختيار الحر للناخبين أم عن طريق أشكال أخرى من الغلبة السياسية.

وهؤلاء الذين يناط بهم صنع السياسات ورسم الاستراتيجيات وتحديد الاهداف والآليات هم أشخاص نعرفهم من قريب أو بعيد، وكثير منهم حاله كحال أعمى أوكلت له مهام المراقبة، أو أصم كلف بمهمة التنصت. وطرق وصولهم الى مناصب القيادة معروفة للجميع؛ صلات القرابة والولاءات الضيقة والمال الفاسد… أو هكذا فقط، رمية قدر وابتسام حظ.

بالنسبة لسياسة التعليم العالي في بلادنا، الأمر لا يخرج عن النمط العام الموجود في أشكال السياسة العامة الأخرى. فمنذ العام 1999، رفع شعار تطوير الجامعة الجزائرية والرقي بها ودفع عجلة البلابلابلا الى الأمام، وهي شعارات كانت مرفوعة على الدوام بالمناسبة، تماما مثل شعار تنويع الاقتصاد الوطني والتحرر من التبعية للمحروقات. وكان التطوير في العهد الجديد معتمدا على الكم، ولم يكن من شيء يبهج صناع القرار مثل الأرقام.. فمن أربعمائة ألف طالب عام 2000 صرنا الان أكثر من مليون وسبعمائة ألف (أكثر قليلا من فرنسا، مرجعنا الأزلي، والتي تحصي في جامعاتها 1642200 طالب مع عدد سكان يبلغ 67.2 مليون، وأكبر بكثيييير من الجارة المغرب، التي يدرس في جامعاتها تسعمائة ألف طالب) ويتوقع السيد الوزير أن يصل العدد الى مليونين العام القادم.

كيف وصلنا لهذا العدد الضخم؟ .. لا يهم.. “الشعب راه عارف” .. المهم الآن ماذا سيدرس كل هؤلاء الطلبة؟ وأي تكوين يتلقون؟ .. إن كان على الرغبات.. فالجميع يريد أن يصبحوا محرري وصفات طبية أو باعة أدوية.. للأسباب الوجيهة المعروفة. ولكن بسبب اعتبارات كثيرة، على الحاسوب المركزي أن يوجه طلبة للتخصصات الأخرى، لأننا سنكون بحاجة حين نعرض تجربتنا الرائدة في الندوات الدولية للتعليم العالي أن نتبجح بضلوعنا في كل العلوم، حتى وأن لم نستهدف اطلاقا أن يحصل خريجو جامعاتنا على جوائز علمية مرموقة مثل جائزة نوبل، إذ ليس للأمر أي معنى في الواقع.

وهكذا نمت المؤسسات الجامعية كالفطر في كل ربوع البلاد، وتجاوز عددها المائة، وفتحت بها الشعب ووجه لها الطلبة ووظف بها الأساتذة.. ثم نكتشف الآن بفضل حكمة السيد الوزير أن كل ذلك كان مجرد سياسة شعبوية، حتى وإن كانت خلال العهد الزاهر نفسه الذي يحكم فيه الوزير.

لقد بدأت الشعبوية حين صارت شهادة الباكالوريا تمنح كإعانة اجتماعية وهبة سياسوية، ولم تعد وسيلة ترشيح تنتج نخبة حقيقية، ويعلم الأساتذة الممارسون والطلبة الجادون حجم الكوارث التي أنتجتها عملية الضخ الممنهج لخريجي الطور الثانوي الى الجامعة.

ثم جاء الانتقال القسري الى نظام ل .م .د من غير دراسة واعية أو تقييم موضوعي لمسار التكوين الجامعي منذ الاستقلال، وضاعت صيحات التحذير في ضجيج التهليل للإصلاحات المفروضة. وتنامت مظاهر الشعبوية والتسيير الأرعن في كل مناحي العملية التكوينية، إلى الحد الذي فقدت فيه الجامعة كل بريقها السابق، واستحالت صورتها شوهاء باهتة.

ثم يدكر السيد الوزير من بعد أمة أن على وزارته أن ترد الاعتبار لبعض التخصصات كالعلوم السياسية من خلال رفع معدل القبول، وغلق الاقسام التي تزيد عن الحاجة، مستحضرا حجة عزوف الطلبة عن التخصص بسبب شح منافذ التشغيل لحاملي شهادتها… حسن، إن كانت هذه هي الحجة فعلى السيد الوزير أن يعيد الاعتبار لكل التخصصات، وليتقص ان شاء مصير عشرات الآلاف من الطلبة من حاملي شهادات الآداب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية والحقوق والاقتصاد والرياضيات والفيزياء والتكنولوجيا والهندسة. وليتحل بالشجاعة الكافية لإجابتنا عن سؤال إن كان يفترض بالجامعة أن تكون مركزا للتكوين المهني أم فضاء لتقديم المعارف في مختلف حقول العلم، أو أننا نمتلك فعلا اقتصادا نشطا يطلب من الجامعة توفير الاحتياجات التي يريدها سوق العمل؟

وأخيرا وليس آخرا، بعد أسابيع قليلة سيبدأ مهرجان استعراض المنجزات المليونية للعهد الزاهر، ولا يجدر بالسيد الوزير أن ينسى أن بلوغ الرقم 2 مليون قد يحتاج لبعض الطلبة الاضافيين من تخصص العلوم السياسية، وأن القول بأننا انتقلنا من قسمين الى 36 قسما هو أكثر حكمة من القول إننا أغلقنا 13 قسما خلال عام واحد.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى