دراسات سياسية

سلطةُ الرأي العام الإلكتروني

بقلم: الحُسَيِنْ بن خَلِيِل

تتجه السلطات العالمية لمتابعة مستمرة للرأي العام، وتعطيه اهتماماً بالغاً من خلال المعاهد الإحصائية لرأي الجماهير في القضايا الحساسة والمصيرية لكل بلد، لتقوم بعدها بفلترة هذه الإحصائيات واستخلاص النتائج مع الأخذ بنظر الاعتبار نوعية الجمهور المستهدف، وبالتالي أما أنْ تذعن وتتعامل بإيجابية مع هذه الآراء وتقوم في بعض الأحيان بإطاحة الكثير من الحكومات، خاصة في البلدان المستقرة من الناحية التنظيمية والتي تمارس السلطة دورها كراعٍ حقيقيٍ لمصالح الأفراد, أو تتجه حكومات أخرى إلى رفض الرأي العام جملةً وتفصيلاً والعمل على تجفيف منابعه ومتابعة مثيريه لإيقاف تدفق هذه الأفكار حتى وإنْ تتطلب اعتقالهم.

الرأي في مجمله كأفكار مجتمعة لعدد من الأشخاص تتوحد فيما بينهم المشتركات الاجتماعية أخذ يتخذ صوراً مختلفة لتصديره وإعطاءه صبغة مجتمعية عامة مؤثرة في قضايا مختلفة، فكان فيما سبق تتبلور أفكار الكتاب والمنظرين وأيضاً الشخصيات العامة في أروقة الصحف والمنابر المحلية ومن ثم تتسع الدائرة، لتشمل الرقع الجغرافية القريبة، إلى أنْ تصبح هذه الأفكار رأياً شعبياً قد ينتهي إلى تظاهرة أو انتفاضة مطالبة بحقوق معينة؛ فيما بعد تطور مفهوم الرأي العام على مر السنين ليصبح أداة مهمة في عملية تواصلية بين مكونات المجتمع من جهة وأطراف السلطة من جهة أخرى، ليبرز التدخل المباشر في تحريك الجمهور نحو قضيةٍ ما، ضمن ما يسمى بالرأي العام الموجه، خاصة في العراق بعد تغيير النظام وبعد بروز المجتمعات المصغرة المنصهرة في إطار مكون الحزب؛ الأمر الذي جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه لتعدد مصادر الرأي العام في البلد، لتتضارب فيما بعد الأهداف والمصالح؛ و بالتالي يكون الأمر برمته مشوهاً وغير مركزاً، وهذا الأمر ألقى بظلاله على إمكانية التأثير والضغط على أصحاب القرار، بعد الثورة الإلكترونية وظهور مواقع التواصل الاجتماعي بشكلٍ هستيري في حياة شخصية الفرد العراقي وتطورت بشكلٍ مغايرٍ بعد ثورة يناير في مصر والتي قلبت الوضع السياسي رأساً على عقب.

استطاع الكثير من المدونين استنساخ التجربة المصرية في محاولة لتحريك الرأي العام الداخلي وتشكيل قوة ضغط على السلطات العراقية في بدايات عام (٢٠١١) ليكون بعدها الرأي العام على الأغلب إلكترونياً من خلال توجيه الأفكار الشخصية ضمن مجموعات إلكترونية على شكل شبكة تتشارك في تبني المعلومة ومن ثم تنميتها وتصديرها إلكترونياً والدفاع عنها، وفي العودة إلى التجربة المصرية فإنَّ الرأي العام الإلكتروني تمخضت عنه ثورة من خلال تعبئة الجماهير إلكترونياً، ومن ثم زجها في الشارع بطريقة سلسة في عملية إحلال منظمة، لذلك نجد المدون العراقي لجأ إلى تلك المواقع للترويج عن أفكاره لعوامل عديدة منها: السهولة، وعدم خضوعها للتقييد وملاحقات السلطة، لكن الأمر بدا خجولاً في بدايته؛ كون العقل الجمعي العراقي لم يتحرر بعد من مفهوم القائد السياسي والمرجع الديني الذي يجب الركون إليه في كل مرة يحاول المطالبة بحقوقه وأستمر هذا القصور حتى يومنا هذا من خلال بقاء الفرد باسطاً ذهنه إلى خطبة الجمعة ينتظر أمراً مرجعياً للقيام بثورة مجتمعية، على الرغم من إنَّ الأمر تحقق ضمناً، إلّا أنّ عملية ربط الرأي العام الإلكتروني بالواقع في العراق واجهت صعوبة شديدة ولم يتحقق التحريك الجماعي للشارع لعدم بروز القائد المجتمعي الذي يثق به الرعيّة، والمشكلة الأكبر هي إلصاق تهمة الوصولية بالكثير من المدونين والناشطين المجتمعيين الذين برزوا محركين للرأي العام على مواقع التواصل الاجتماعي، والمصيبة الأعظم هي حدوث ذلك الأمر مع شخصيات شبابية مؤثرة، وتم إسكاتهم فعلاً بالأموال أو التعيينات إلى آخره من المغريات.

وهنا وبمرور الوقت أصبح الرأي العام إلكترونياً بحتاً، ليس له جناح على أرض الواقع ليأخذ على عاتقه إخافة السلطة لتحقيق مكاسب مجتمعية، وحتى التظاهرات التي شهدها الشارع العراقي لا تعدو كونها حالات منفردة كانت الدعوة إليها من قبل شخصيات سياسية فغلب عليها طابع فئوي سلبها الصبغة الشعبية، وبالتالي كانت منقوصة من القوة والزخم المجتمعي الذي يعطيه الرأي العام.

في الآونة الأخيرة تطور الأمر بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي لتختفي عفوية مصادر التحريك للرأي العام الإلكتروني عندما أصبحت الأحزاب السياسية توجه الشارع من خلال مدونيها وصفحاتها الممولة في عملية خطيرة قيدت الرأي الحر لكثير من الأصوات الوطنية، وبالتالي أصبح لدينا طريقة قمع جديدة ومغايرة، وهي منافسة مصادر تلقيم الرأي ليتعقد المشهد، ويطفو على سطح الساحة السياسية آراء عامة متعددة، وليس رأي عام واحد، وهنا أصبحت الاستجابة من قبل السلطة غير مضمونة لعدم وجود سلوك واضح ومطالب جماهيرية محددة، كون الأمر تعدى المصلحة العامة إلى المصالح الحزبية فيما يسمى الضرب تحت الحزام ومحاولة كسب الجمهور بأي طريقة ممكنة وأتضح ذلك في الدورات الانتخابية، وما رافقها من تداعيات لتحريك الجمهور، واتخاذه وسيلة ضغط فشلت في الكثير من الأحيان بمحاولتها تغيير مسار الكثير من المشاريع السياسية التي نظرت لها القوى السياسية.

مما سبق نستطيع أن نقول قيام السلطة بأرشفة الرأي الشعبي ووضعه على رفوف منسية دون دراسة وتحليل، ولن تأبه لما يريده الرأي العام الإلكتروني الذي طغى على الرأي العام الواقعي؛ وبالتالي أصبح تغييب دور المجتمع في إدارة الدولة بديهي بسبب غياب وسائل الضغط، وخلو التظاهرات من مخالب خادشة لوجه السلطة. هذه العشوائية في مصدر المحركات التي تدفع بتصدير الأفكار للشارع الإلكتروني جعلت الكثير من الشباب الواعي يتجه لخلق تيار فكري مغاير، يحاول تصحيح صياغة الأفكار وصبها في قالب خاص لتشذيب الشوائب التي ضختها الأحزاب السياسية في الرأي العام الإلكتروني وبرز ذلك من خلال إنشاء الكثير من المجموعات والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تحاول وضع بصمتها، ولا ينقصها سوى ثقة العامة التي بدأت تتزايد شيئاً فشيئاً وإلّا فإن السلطة ماضية بتحييد الرأي العام الإلكتروني وبالتالي وأد كل محاولة لتوجيه المجتمع لإصلاح ما يمكن إصلاحه.

#ببليوثيرابيا_Bibliotherapy

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى