دراسات قانونية

بحث حول التدخل الدولي الإنساني

لا يعد موضوع التدخل الدولي بشكلٍ عام بالظاهرة الجديدة في ميدان العلاقات الدولية، فكما أشرنا بمقال التدخل الدولي السابق؛ أنه قد برزت عمليات التدخل الدولي مع نهايات القرن السابع عشر، حيث تدخلت كلاً من روسيا والدنمارك وبريطانيا لحماية الرعايا الأرثوذوكسيون في بولونيا، وطالبت ملكها ستانيسلو اوغست الثاني Stanislaw II August Poniatowski الكاثوليكي الذي كان يضطهد رعاياه من الأرثوذوكس والبروتستانت بالكف عن الاضطهاد، وكان ذلك عن طريق رسالة وجهتها قيصر روسيا كاترينا الثاني KatrinaII إلى ملك بولونيا في أيلول/1766م كان مضمونها: “أن حرية العبادة هي من ضمن الحقوق المستمدة من الحق الإلهي، وواجب الحكومة المستنيرة مساعدة رعاياها على التعبد بالعبادات التي تروقهم، وأنه لا يسعها النظر إلى الاضطهاد الذي يعانيه فريق كبير من أهل بولونيا، ولذلك طلبت منه أن يرد إلى رعاياه حقوقهم، ما دامت بولونيا دولة حرة وعضواً في مجتمع دولي. وقد كان الموقف المتعصب لملك بولونيا واستمرار اضطهاده لرعاياه، السبب في الاطاحه بدولته وتقسيمها عن طريق الدول المذكوره بعد ست سنوات من تاريخ المذكرة”.

تلت هذه الحادثة عدّة تدخلات نذكر منها تدخلات روسيا القيصرية في شؤون الدولة العثمانية وحق حماية روسيا القيصرية لرعاياها في شبه جزيرة القرم، وحصولها على معاهدة كينارجي التي تنص على حق حماية الأخيرة للأرثودوكس، وكذلك الامر بالنسبة لفرنسا التي حصلت على معاهدة (1604م) التي تنص على حق حماية فرنسا للكاثوليك.

وبناءاً على ذلك من الممكن القول بأن موضوع التدخل لأسباب إنسانية لا يعد بالظاهرة الجديدة في ميدان العلاقات الدولية، فقد تطورت أشكاله و استخداماته عبر القرون الماضية.

وعلى الرغم من قِدم استخدام هذا المفهوم وشيوعه، إلاّ أن الغموض وعدم الدّقة في تحليل هذا المفهوم ما زالا يحيطان به، ولعل تصادم مفهوم التدخل الإنساني مع المصالح الدولية والعوامل السياسية أدى إلى إزدياد هذا الغموض، كما تتضارب أراء الفقهاء حول تحديد مشروعية هذا التدخل ومعارضته مع مفهوم السيادة، وإذ وصف عمل كهذا بالشرعية هل يعتبر التدخل لأسباب إنسانية حق على المجتمع الدولي أم واجب عليه؟

لقد عَرِفَ المجتمع الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة سلسلة من التطورات في الأسس و المفاهيم التي تقوم عليها العلاقات الدولية خاصـة مع تطور المهام و المسؤوليات الموكلة للأمم المتحدة، حيث ازداد اهتمامهـا بحمايـة الحقوق والحريات الأساسية التي تتعرض لإنتهاكات فادحـة و جسـيمة، وهذا ما أدى إلى انتشار مفهوم التدخل الدولي الإنساني، خاصة أن قضية حقوق الإنسان لم تعد قضية داخلية بحتة تخص السلطات الداخلية فقط، إنما هي قضـية ذات أبعاد دولية تتمتع بآليات الحماية الدولية ويعدّ التدخل الدولي من إحدى أدواتها.

تعريف التدخل الدولي الإنساني

كانت فكرة حماية الإنسان من الويلات والآفات والأعمال غير الإنسانية موجودة لدى جميع الشعوب منذ العصورالقديمة، إلا أن صبغ النزاعات المسلحة بالإنسانية لم يكن بالقضية البارزة حتى نهاية القرن السادس عشر، كما أن تطور المهام و المسؤوليات الموكلة للأمم المتحدة زاد من أهمية حماية الحقوق والحريات الأساسية للإنسان. وقد انتقلت فكرة التدخل الإنساني من المرحلة التقليدية التي كانت تعتبر أن الدولة هي الشخص الوحيد في القانون الدولي، إلى المرحلة المعاصرة التي تعتبر أن أشخاص القانون الدولي لا تقتصر على الدول فقط بل والمنظمات الدولية الذي أصبح لها دور فاعل في التدخل الإنساني على اختلاف أنواعه وأشكاله، وكان ذلك بفضل التطور الحديث الذي عرفه القانون الدولي.

أما من حيث الأشخاص الذين يتم التدخل لحمايتهم، فلم يعد التدخل مقصوراً على طائفة من الأشخاص الذين تربطهم بالدولة المتدخلة خصائص مشتركة أو علاقة قرابة، إنما امتدت لتشمل كل فرد بوصفه إنسان دون أي إعتبار بسبب العرق أو الجنس أو الدين… .

ومن ناحية أخرى رغم اقتصار الفقه على جملة من الحقوق البالغة الأهمية بالنسبة للكائن الحي، كالحق في الحياة والحرية والمساواة، إلا أن ميثاق الأمم دعا في المادة 55 (الخامسة والخمسين) منه إلى ضرورة إشاعة احترام حقوق الإنسان جميعاً والسعي من أجل تعزيزها، فأضيفت إلى الحقوق المذكورة طائفة الحقوق السياسية والإقتصادية والثقافية، وهذا ما أكد عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أرسى بدوره نظاماً عالمياً لحقوق الإنسان يتيح لكل فرد في ظله حق التمتع بكافة حقوقة والسعي من أجل تحقيق الضمانات الجديرة باحترامها، وفي حال إنتهاكها فإن القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني يرصد لإعادة الوضع إلى نصابه.

ولعل السؤال الذي يتبادر أذهاننا عندما نلاحظ هذا التطور هو: هل حماية الإنسان و الإنسانية هي القصد من هذا التدخل؟ أم أن التدخل الانساني هو أحد الصور الجديدة التي تضفي الشرعية الدولية على هذا التدخل؟

ولتفسير ذلك لا بد من أن نوضح مفهوم التدخل الإنساني ونقارنه بين النظرية والواقع العملي.

يعرف لاس أوبنهايم (Las Oppenheim) التدخل الإنساني بأنه التدخل “الذي يستخدم القوة باسم الإنسانية لوقف ما درجت عليه دولة ما من اضطهاد لرعاياها وارتكابها لأعمال وحشية وقاسية ضدهم يهتز لها ضمير البشرية، الأمر الذي يسوّغ التدخل قانونياً لوقف تلك الأعمال.”

كما يقدم توماس فرانك (Thomas Frank) تعريفه للتدخل الإنساني بأنه “يقوم على استخدام القوة المسلحة أو التهديد باستخدامها من قبل دولة أو مجموعة من الدول بمعرفة هيئة دولية بغرض حماية حقوق الإنسان من الإنتهاكات الصارخة التي تقوم بها دولة ما ضد مواطنيها بطريقة فيها إنكار لحقوقهم بشكل يصدم الإنسانية”.

وقد نظرت إليزا بيريز فيرا (Elisa Perez Vera) إلى التدخل الإنساني على أنه “كل ضغط تمارسه حكومة دولة على حكومة دولة أخرى من أجل أن يكون تصرف الأخيرة مطابقاً للقوانين الإنسانية، من خلال احترام الحقوق الأساسية للفرد – على الأقل – مهما كانت جنسيته ما دام بشراً”.

وينظر ماريو بيتاتي (Mario Bettati) إلى التدخل الإنساني على أنه قيام دولة بتنفيذ عمليات عسكرية مسلحة لإنقاذ مواطنيها على أرض دولة ثانية، نتيجة قيام خطر مؤكد و مباشر تتسبب فيه سلطات الدولة الثانية أو جهات أخرى.

وقد اعتمدت وحدة التفتيش المشتركة التابعة للأمم المتحدة مفهوماً للتدخل الدولي الإنساني وهو: تقديم المساعدات الإنسانية الى ضحايا الكوارث الطبيعية والكوارث التي هي من صنع الإنسان، بما في ذلك حالات الطوارئ المعقدة، على اساس قصير الأجل واساس طويل الأجل.

كما وقد عَرَّفَ المؤتمر الدولي المعني بالمنح الإنسانية العلمية المعقود لعام 2003 التدخل الدولي بأنه: كافة المساعدات الإنسانية التي تعنى بإنقاذ الارواح والتخفيف من المعاناة والحفاظ على الكرامة الإنسانية اثناء الأزمات التي هي من صنع الإنسان والكوارث الطبيعية في أعقابها، فضلاً عن منع حدوث مثل هذه الحالات وتعزيز التأهب لحدوثها.

وبالنظر إلى ما تقدم من تعاريف حول مفهوم التدخل الإنساني ،نجد أنه بالرغم من توافق معظم الاخصائيين باعتبار العامل الإنساني هو الاساس في التدخل الإنساني، إلا أنهم اختلفوا في تحديد الفئة المستهدفة، فمنهم من حصر مفهوم التدخل الإنساني على الإنتهاكات التي تحدث من قبل الحكومة على رعاياها أو رعايا دولة اجنبية على أراضيها، بما يمس حقوقهم وكرامتهم الإنسانية، و آخرون شملوا حماية جميع الذات الإنسانية جمعاء من أي خطر يصيبها سواء كان من صنع الإنسان أو من صنع الطبيعة، كما اختلف الفقهاء في تحديد طرق التدخل فقد حصر الجانب الأول التدخل لحماية الإنسان بالتدخل العسكري، بينما وسعه آخرون ليشمل كافة المساعدات باختلاف أشكالها سواء كانت اقتصادية لوجستية أو عسكرية.

ومن خلال التعاريف السابقة لمفهوم التدخل الانساني، يمكن استخلاص التعريف الآتي: التدخل الإنساني هو عمل إرادي ومنظم تقوم به وحدة سياسية دولية – دولة، منظمة دولية، أو مجموع ما ذكر– لتقديم المساعدات الإنسانية الى ضحايا الكوارث الطبيعية والكوارث التي هي من صنع الإنسان، بما في ذلك حالات الطوارئ المعقدة، على اساس قصير الأجل واساس طويل الأجل بما في ذلك وسائل الإكراه السياسية بدءاً من ابسط اشكال الحرب، كالحرب النفسية مروراً بالدبلوماسية فالاقتصادية ونهاية بالعسكرية، بقصد إنقاذ الارواح والتخفيف من المعاناة والحفاظ على الكرامة الإنسانية.

ويشير هذا التعريف إلى أن للتدخل أشكالاً مختلفة يبدأ من أبسط أشكاله بالخطابات والمساعدات انتهاءاً بالتدخلات العسكرية.

كما يمكن ملاحظة سماح العرف الدولي بالتدخل العسكري من جانب إحدى الدول أو عدد منها في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، إذ ما هدف إلى حماية حقوق الجنس البشري والقواعد الإنسانية، أو ما يعبر عنه بلغة العصر “حقوق الإنسان”. وقد سُوِّغَ هذا التدخل من خلال قواعد الأخلاق والاستجابة الانفعالية للرأي العام العالمي فضلاً عن تحرك الدول العظمى لحماية مصالحها الوطنية. والحقيقة أن هذا العرف قد وُجِدَ في ظل سيادة مفهوم القوة في العلاقات الدولية وغياب الرادع التنظيمي الدولي آنذاك. ولذا اِعْتَبَرَ الفقه الدولي التقليدي أن التدخل الإنساني حقاً يَفْرِضْ على الدولة المتحضرة وقف الإعتداء على الإنسانية برغم اختلاف الفقهاء على تحديد المقصود به، فبعضهم حدده بتخليص شعب مظلوم من قبل شعب آخر، وبعضهم الآخر حدد الغرض منه وقف أعمال القتل والاضطهاد ضد مواطني الدولة المتدخلة، ومنهم من قصره على وضع حد للإضطهاد الديني، ومنهم من رآها أنه تدخل غير مشروع في الشؤون الداخلية.

المصادر:

دايفيد فورسايت، المجلة الدولية للصليب الأحمر، اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمساعدة الإنسانية، العدد 47، 1996.

عبد القادر بوراس، التدخل الإنساني الدولي وتراجع مبدأ السيادة الوطنية، دار الجامعة الجديد، 2009،

محمد يعقوب عبد الرحمن، ، التدخل الإنساني في العلاقات الدولية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتجية، الطبعة الاولى 2004،

ماريو بيتاتي، (هل يعتبر العمل الإنساني الخيري تدخلاً أم مساعدة) في عبد الهادي بو طالب ،هل يعطي حق التدخل شرعية جديدة للاستعمار؟، الرباط، مطبوعات اكاديمية المملكة المغربية، 1992

تقرير وحدة التفتيش المشتركة “حول تمويل العمليات الإنسانية”في منظومة الأمم المتحدة، إعداد تادانوري انيوماتا/،Jiu/Rep/2012 الأمم المتحدة

Buzzle, History and Timeline of Russian Czars

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى