شارل ديغول: بين سطور مذكراته.. كيف حضر الجنرال منذ تأسيس “فرنسا الحرة” إلى استقلال الجزائر؟

محمد عبدالرحمن عريف

         هو شارل ديغول (بالفرنسية: Charles de Gaulle)‏ (1890 – 1970) جنرال ورجل سياسة فرنسي ولد في مدينة ليل الفرنسية، تخرج في مدرسة سان سير العسكرية عام 1912 من سلاح المشاة. ألف عدة كتب حول موضوع الإستراتيجية والتصور السياسي والعسكري. عين جنرال فرقة، ونائبًا لكاتب الدولة للدفاع الوطني في كانون الثاني/ يناير 1940 قاد مقاومة بلاده في الحرب العالمية الثانية وترأس حكومة فرنسا الحرة في لندن في 18 يناير. وفي سنة 1943 ترأس اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني والتي أصبحت في حزيران (جوان) 1944 تسمى بالحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية. أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة، عرف بمناوراته الاستعمارية تجاه الجزائر، منها مشروع قسنطينة، القوة الثالثة، الجزائر جزائرية، مشروع فصل الصحراء الجزائرية سلم الشجعان. توفي في كولمبي لدو إغلييز عام 1970 . لم يشفع التاريخ المشرف للرئيس الأسبق والأب الروحي شارل ديجول لدى الشعب الفرنسي الذي خرج في مظاهرات مناوئة له عام 1968 ، واستجابة لمطالب المتظاهرين الذين شكل الطلاب والعمال الغالبية بينهم قرر ديجول أن يجري استفتاء حول تطبيق المزيد من اللامركزية في فرنسا، وتعهد قبل إجراء الاستفتاء بالتنحي عن منصبه في حال لم توافق نسبة كبيرة من الفرنسيين على تطبيق اللامركزية في البلاد. وفي مساء يوم 28 نيسان/ أبريل عام 1969 أعلن ديجول تنحيه عن منصبه بعد أن حققت الموافقة على تطبيق اللامركزية نسبة أقل قليلا من النسبة التي حددها سلفًا.

نشأته

طفولته وأصوله

    وُلد ديغول في المنطقة الصناعية من مدينة ليل في إقليم نور، وهو الثالث بين خمسة أطفال. نشأ في أسرة كاثوليكية تقليدية متدينة. عمل والده هنري ديغول أستاذًا للتاريخ والأدب في كلية يسوعية وأنشأ مدرسته الخاصة لاحقًا. وينحدر هنري ديغول من سلالة عريقة من النبلاء البرلمانيين القادمين من منطقتي نورماندي وبرغونية. يُعتقد أن الاسم هولندي الأصل، وقد يكون مُشتقًا من منطقة فان دير فال («بمعنى السور، أي الجدار الدفاعي»). تنحدر والدة ديغول، جين (ميلوت قبل الزواج)، من عائلة من رجال الأعمال الأثرياء بمدينة ليل. تمتلك أيضًا أصول فرنسية وأيرلندية وإسكتلندية وألمانية.

       شجع والد ديغول الحوار التاريخي والفلسفي بين أبنائه أثناء أوقات تناول الطعام، ومن خلال تشجيع والده له، أصبح ديغول على دراية بالتاريخ الفرنسي منذ أوائل عمره. ذُهل برواية والدته حول صراخها وهي طفلة عندما علمت بالاستسلام الفرنسي للألمان في معركة سيدان عام 1870، ونجح في تطوير اهتمام شديد بالاستراتيجية العسكرية. تأثر أيضًا بعمه، المدعو شارل ديغول أيضًا، الذي كان مؤرخًا شغوفًا بالدراسات الكلتية وألّف كتبًا ومنشورات تدعو إلى اتحاد الويلزيين والاسكتلنديين والأيرلنديين والبريطون في شعب واحد. كان جده جوليان فيليب مؤرخًا أيضًا، وألّفت جدته جوزفين ماري قصائد كانت ذات أثر على عقيدته المسيحية.

التعليم والتأثيرات الفكرية

    عندما بلغ ديغول العاشرة من عمره، كان قد قرأ عن تاريخ العصور الوسطى. بدأ ديغول الكتابة في بداية مراهقته، ولا سيما الشعر، دفعت عائلته لاحقًا مقابل أن تنشر الجهات الخاصة أحد مؤلفاته، والتي كانت مسرحية ذات مشهد واحد تروي قصة مسافر. عُرف بأنه قارئ نهم، وفضّل المجلدات الفلسفية التي ألّفها كُتاب أمثال برجسون وبيغوي وباري. فضلًا عن قراءة أعمال الفلاسفة الألمان كنيتشه وكانط وغوته، قرأ أعمال الإغريق القدامى (ولا سيما أفلاطون) ونثر الشاعر الرومانسي دوشاتوبريان.

    تلقى ديغول تعليمه في كلية ستانيسلاس في باريس ودرس لفترة وجيزة في بلجيكا حيث واصل إظهار اهتمامه بقراءة التاريخ ودراسته وشارك العديد من مواطني دولته الاعتزاز العظيم الذي شعروا به تجاه إنجازات أمتهم. عندما بلغ الخامسة عشر من عمره، كتب ديغول مقالًا يتصور فيه «الجنرال ديغول» قائدًا للجيش الفرنسي نحو الانتصار على ألمانيا في عام 1930، كتب لاحقًا أنه تطلع في شبابه نحو توقع ساذج بأن تندلع حرب حتمية مستقبلًا انتقامًا للهزيمة الفرنسية على يد الألمان في عام 1870.

    لقد كانت فرنسا مجتمعًا منقسمًا أثناء سنوات مراهقة ديغول، ولم تكن العديد من التطورات في موضع ترحيب من جانب أسرته، من ضمن تلك التطورات ظهور الاشتراكية والنقابية، والفصل القانوني بين الكنيسة والدولة في عام 1905، وتخفيض مدة الخدمة العسكرية إلى عامين في نفس العام. كان ذلك بنفس القدر من عدم الترحيب الذي حظي به الاتفاق الودي مع بريطانيا والأزمة المغربية الأولى ولا سيما قضية دريفوس. أيد هنري ديغول دريفوس، ولكنه لم يولِ براءته أي اهتمام مقابل العار الذي جلبه الجيش على نفسه. شهدت نفس الفترة عودة الكاثوليكية الإنجيلية، وتدشين كنيسة الساكري كور في مونمارتر بباريس وظهور طائفة جان دارك.

     لم يكن ديغول تلميذًا متميزًا حتى منتصف سن المراهقة، ولكنه عمل بجد أكثر في المدرسة منذ يوليو 1906 وركز على الفوز بمكان في أكاديمية سان سير العسكرية ليتلقى تدريبًا بصفة ضابط في الجيش. يشير لاكوتور إلى أن ديغول انضم إلى الجيش، على الرغم من أنه ملائمته لوظيفة كاتب ومؤرخ، ويُعزى ذلك جزئيًا لرغبته بإرضاء والده ولأنه كان من القوى التوحيدية القليلة التي مثلت المجتمع الفرنسي بأسره. كتب في وقت لاحق «كان انضمامي للجيش من أعظم الأشياء التي حدثت لي»، وهو ادعاء يشير لاكوتور إلى ضرورة توخي الحيطة عند التعامل معه؛ إذ كانت سمعة الجيش في انخفاض في أوائل القرن العشرين بعد قضية دريفوس. وكثر استخدامه لوقف الإضرابات وكان عدد المتقدمين في سان سير أقل من 700 شخص في عام 1908، أي أقل من 2000 شخص في نهاية القرن.

بداية مسيرته المهنية

ضابط متدرب وملازم

     فاز ديغول بمكانٍ في سانت سير في عام 1909. وكان ترتيب صفه دون المتوسط (119من 221 مشاركًا)، ولكنه كان صغيرًا مقارنة بالبقية وكانت تلك أول محاولة له في الاختبار. بموجب قانون 21 مارس 1905، كان مطلوبًا من ضباط الجيش الطامحين أن يخدموا سنة في الرتب، بما في ذلك الوقت الذي يشمل عملهم بصفتهم موظفين في القطاع الخاص وضباط صف، قبل الالتحاق بالأكاديمية. بناء على ذلك، في أكتوبر 1909، جُنّد ديغول (لمدة أربع سنوات، حسب الحاجة، عوضًا عن فترة السنتين العادية للمجندين) في كتيبة المشاة الـ 33 التابعة للجيش الفرنسي، ومقرها أراس. كانت هذه الكتيبة تاريخية إذ ضمّت أوسترليتز وواغرام وبورودينو ضمن المعارك التي خاضتها. في أبريل 1910، جرت ترقيته إلى رتبة عريف. رفض قائد سريته ترقيته لرتبة رقيب، وهي الرتبة المعتادة لضابط محتمل، معلقًا بأن الشاب شعر بوضوح أن ما لا يقل عن رتبة شرطي فرنسي سيكون جيدًا ما فيه الكفاية بالنسبة له. جرت ترقيته لرتبة رقيب في سبتمبر 1910.

     حصل ديغول على مكانه في مدرسة سانت سير في أكتوبر 1910. ارتقى إلى المركز الخامس والأربعين في نهاية عامه الأول. في سانت سير، اشتهر ديغول بلقب «الهليون العظيم» وذلك بسبب طوله الذي يبلغ 196 سم (6 أقدام و5 بوصات)، وجبهته وأنفه المرتفعين. كان حسن الأداء في الأكاديمية، وتلقى الثناء على سلوكه وتصرفاته وذكائه وشخصيته وروحه العسكرية ومقاومته للإرهاق. في عام 1912، تخرج في المرتبة الثالثة عشر من صفه وأشار تقرير تخرجه أنه كان ضابطًا متدربًا ذو موهبة ستجعل منه بلا شك ضابطًا متميزًا. تخرج المارشال ألفونس جوين بالمرتبة الأولى على صفه، رغم أنه لم يبدُ أن الاثنين كانا صديقين مقربين في ذلك الوقت.

ديغول بين سطور مذكراته

      “طوال حياتي كانت لدي فكرة معينة عن فرنسا، مثل أميرة القصص الخيالية أو مادونا في اللوحات الجدارية على الجدران، محكومٌ عليها بمصير بارز واستثنائي، أشعر غريزيًا أن العناية الإلهية خلقتها لتحقيق نجاحات كاملة أو مصائب نموذجية”، بهذه الكلمات وصف الجنرال الفرنسي شارل ديغول فرنسا.

     وأضاف في مذكراته أنه على الرغم من ذلك، “إذا حدث وأشارت العلامات المتوسطة إلى أفعالها وإيماءاتها فإنني أشعر بشذوذ سخيف، يعزى إلى أخطاء الفرنسيين وليس إلى عبقرية الوطن الأم”. ففي أواخر عام 1946، أقام شارل ديغول في قرية صغيرة بمقاطعة كولومبي ليدوكس شمال شرقي فرنسا معتزلًا العمل السياسي حيث تفرغ لكتابة مذكراته.

      وعلى طريقة القادة الكبار الذين شاركوا في الحرب العامية الثانية مثل تشرشل وأيزنهاور ومونتغمري، خطّ ديغول فصول مذكراته عن سنوات الحرب ولم يكن يعرف وقتها أن دوره السياسي لم ينته كما خيل له. إذ سيعود الجنرال مرة أخرى للسياسة التي قرر اعتزالها ليؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، وليكمل فصول مذكراته لما بعد الحرب العالمية الثانية.

     هي المذكرات التي صدرت في أربعة أجزاء هي (النفير، والوحدة، والخلاص، والأمل) وفيها تظهر شخصية ديغول الذي أحب فرنسا حبًا صوفيًا امتزاج بوجدانه واعتبرها جزءًا من روحه، فخصها بأول جملة من سيرته وأطلق مقولته الشهيرة “أنا فرنسا وفرنسا أنا”.

أكثر من مذكرات

     يرى المؤرخ الفرنسي هنري لورنس أن كتابات ديغول ليست مجرد مذكرات تروي الأحداث، إذ عمل الجنرال على صياغة مذكراته مرفقة بمستندات ومراسلات “وهنا تكمن قيمتها علاوةً على قيمتها الأدبية المتجلية بمشاعره وخوفه”. ويردف لورنس أن المذكرات “تقدم نظرةً ثاقبةً حول الأشياء و منظورًا للأحداث وهو ما يشكل مساهمةً كبيرةً للتاريخ”. ويستبعد أن يكون الجنرال ديغول قد تحدث في كتاباته عن كل شيء، معتبرًا أنه لم يتطرق إلى الجرائم المقترفة من طرف فرنسا خاصة في الجزائر عام 1945 حين قتلت القوات الفرنسية 45 ألف جزائري أعزل بأوامر منه، فضلًا عن الجرائم التي ارتكبت تحت سلطته بين أعوام 1958 و1962.

انكسار الجيوش الفرنسية

     أما قصة ديغول وفرنسا فتبدأ مع انكسار الجيوش الفرنسية أمام الهجوم الألماني يوم التاسع من مايو/ أيار عام 1940، حيث كان الهجوم خاطفًا وغير متوقعًا فأربك كل الحسابات العسكرية الفرنسية التي كانت تعتقد أن الهجوم سيبدأ من جهتها الشرقية حيث حدودها مع ألمانيا. وكانت فرنسا قد أنشأت وقتها خط دفاع قوي عرف بخط ماجينو نسبة لوزير الدفاع الفرنسي آنذاك، وكان سدًا حصينًا مدعومًا بالمدافع ومرابض الدبابات ومخزونٍ كبير من الأسلحة والذخائر. إلا أن الهجوم الألماني بدأ من الشمال عن طريق بلجيكا وهولندا، وهو ما سبب إرباكًا كبيرًا للقوات الفرنسية لتصبح المدرعات الألمانية في غضون أيام قليلة تسابق بعضها في شمال وغرب فرنسا، مندفعةً إلى قلبها. ودخلت القوات الألمانية باريس يوم 14 يونيو/ حزيران عام 1940، حيث وقع المارشال فيليب بيتان وثيقة استسلام فرنسا. لكن شخصًا واحدًا رفض هذا الاتفاق، وكان الجنرال شارل ديغول نائب وزير الدفاع في وزارة بول رينو ومنسق العمليات على جبهة النورمندي بين الجيوش الفرنسية والجيوش البريطانية.

     يقول المؤرخ الفرنسي جيل مانسرون إن “ديغول عارض فكرة الهدنة مع الألمان وقبول الهزيمة. وعلى الرغم من أنه كان ينتمي لدائرة الجنرال بيتان لكنه اختار مسارًا مختلفًا عنه ففرّ من فرنسا إلى إنجلترا”.

“فرنسا الحرة”

    في خطاب إذاعي بثته الـ”بي بي سي” يوم 18 يونيو 1940 قال ديغول في رسالة جريئة: “للفرنسيين الذين يريدون البقاء أحرارًا للإصغاء إلي واتباعي.. عاشت فرنسا حرة بشرف واستقلال”، ومن لندن قاد العماد الفرنسي حركة “فرنسا الحرة”.

     عن هذا اليوم كتب ديغول في مذكراته: “هل قلنا كلمتنا الأخيرة؟ هل علينا أن نفقد الأمل؟ هل الهزيمة نهائية؟ لا! فرنسا ليست وحدها هناك إمبراطورية شاسعة تدعمها ويمكن أن تتشارك قضيتها مع الإمبراطورية الفرنسية مهما حدث، لا ولن تنطفئ شعلة المقاومة الفرنسية”.

       يقول خيرالدين سعيدي الباحث في التاريخ بجامعة سطيف- الجزائر، إن ديغول أراد إظهار حكومة فيشي على أنها حكومة غير شرعية لاعتقاده بأن هذه الحكومة ستحاول إظهاره بمظهر الجندي العاصي.

     كان ديغول يبحث عن نقطة انطلاق لمشروعه نحو تحرير فرنسا، من خلال قوة عسكرية ولو محدودة ستفرض أمرًا واقعًا على الاحتلال النازي وتعيد لفرنسا هيبتها التي تراجعت بعد الهزيمة. لذلك، طلب الجنرال ديغول من الفرنسيين التطوع في جيشه، فيما لمّح رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل إلى أن هذا الفرنسي ينبغي أن يتحول إلى رمز للمقاومة. فقد كان تشرشل بحاجة إلى رجل فرنسي قادر على طمأنة البريطانيين إلى أنهم ليسوا معزولين كما يشعرون.

    حول ذلك، يلفت لورنس في حديثه ضمن برنامج “مذكرات” إلى أن ديغول كان كما عبر دائمًا في مذكراته يحمل فكرة معينة عن فرنسا، والتي صورها كفردٍ هزم في سن الأربعين ولم يتقبل ذلك. ويردف: “بالإضافة إلى ذلك كان لديه منظور عالمي عن الحرب، أي أنها لم تكن مجرد صراع فرنسي ألماني، بل انضمت بريطانيا العظمى ثم تبعتها دول أخرى تدريجيًا مما تسبب بتحول كبير في ميزان القوى”. لكن في البدايات وتحديدًا عندما أسس “فرنسا الحرة” في لندن، لم يكن لها تأثير يذكر بحسب المؤرخ الفرنسي. لذلك عمل ديغول على بناء “فرنسا الحرة” تدريجيًا مستغلًا الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا والتي شكلت مصلحة عسكرية للبريطانيين.

توتر العلاقة بين ديغول وتشرتشل

     هكذا التقت مصالح الرجلين ديغول وتشرتشل لكن علاقتهما لم تخل من التوتر والشك، وعلى الرغم من أن ديغول عاش تحت حماية الإنجليز في سنوات الحرب العالمية الثانية إلا أنه لم يخف كراهيته لهم، لدرجة أن زوجة رئيس الوزراء البريطاني قالت له ذات يوم: “عزيزي الجنرال خفف من كراهيتك لأصدقائك”. وبعد شهرٍ على خروجه من فرنسا، وجّه ديغول نداء إلى كل حكام المستعمرات الفرنسية للقبول بحركته، فاستجاب له الحكام العسكريون في تشاد، والكونغو الفرنسية، والكاميرون، ليقرر الجنرال الفرنسي زيارة هذه المستعمرات الثلاث.

     يذكر ديغول في مذكراته: “لم تعد فرنسا الحرة حين اقتربت من عامها الثاني في نظر العالم تلك الزمرة المثيرة للدهشة التي قوبلت أو أمرها بالسخرية والشفقة.. الآن أصبح الناس في كل مكان يواجهون واقعها السياسي والحربي ومجالات أراضيها”. وتابع: “أصبح لزامًا عليها انطلاقًا من ذلك الواقع أن تنفذ إلى الصعيد الدبلوماسي وتحتل مكانتها بين الحلفاء، وتظهر فيها كفرنسا المحاربة ذات السيادة”. لكن تشرشل كان قلقًا مما يفعله ديغول، إذ رأى أن “فرنسا الحرة” تحارب في معركة التحرير بعيدًا عن الميدان العسكري. وفي مناقشة جرت بينهما في أكتوبر عام 1940، عبّر رئيس وزراء بريطانيا عن غضبه موجهًا حديثه لديغول قائلًا: “أنت تترك ميدان الحرب الحقيقي في أوروبا وفرنسا وتذهب إلى إفريقيا”. فردّ عليه الجنرال: “الذهاب إلى إفريقيا رسالة سوف تفهمها فرنسا.. إن فرنسا الحرة لا تعض صديقًا لكنها لا تمانع أن يفهم من يهمه الأمر أن فرنسا ما زالت لها أسنان!”.

توسع الخلاف حول الشرق

      في خضم ذلك، ظهرت مساحة جديدة في سوريا ولبنان قد تعرض قوات الحلفاء للخطر، وذلك عندما عرض المندوب السامي الفرنسي دانتس الموالي للنازية على القوات الألمانية استخدام القواعد الجوية السورية في مايو/ أيار عام 1941. وهنا تنبّهت بريطانيا للخطر سريعًا، حيث حذّرت مذكرة سرية بريطانية من أنه لن يكون من الممكن الدفاع عن مواقع بريطانيا في الشرق الأوسط، ما لم تخضع سوريا ولبنان لوصاية من دولة صديقة، أو مباشرة من بريطانيا. وزادت الحاجة للسيطرة على تلك المناطق مع انقلاب رشيد عالي الكيلاني على السلطة في بغداد وميله إلى صف ألمانيا، وتقدم النازيين على الساحل الليبي. فبدأ البريطانيون باحتلال سوريا ولبنان خلال شهري يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز عام 1941 متحالفين مع قوات “فرنسا الحرة” المعادية لنظام فيشي. لكن الوجود البريطاني في سوريا ولبنان شهد نزاعًا عميقًا بين بريطانيا وديغول الذي كان مقتنعًا أن لندن تطمع بسوريا ولبنان، مستغلين السياسيين العرب الطامحين للاستقلال لتنفيذ مخططهم. فاعتبر ديغول نفسه ممثل فرنسا الشرعي في سوريا ولبنان، لكنه في نفسه كان يتذرع أمام البريطانيين بأنه لا يملك شرعية اتخاذ قرار إلغاء الانتداب. لكن في النهاية خرجت فرنسا من لبنان بعد ربع قرن، وبذلك يكون ديغول الذي وعد باستقلال لبنان قد أخر هدفه إلى سنة 1946.

هزيمة الألمان وعودة ديغول

      أما عام 1944، فكان عامًا حاسمًا بعدما بدأت قوات الحلفاء سلسلة معارك بهدف استعادة فرنسا من يد الألمان، انتهت بهزيمة هيتلر وتراجع قواته، ودخول ديغول باريس المحررة بحراب الإنكليز والأميركيين في 25 أغسطس/ آب. فتولى الجنرال الفرنسي رئاسة الحكومة المؤقتة التي شرعت في إجراء انتخابات، لتشكيل جمعية وطنية لوضع دستور جديد للبلاد.

التغافل عن مذابح الجزائر

    لكن على الجانب الآخر كان الفرنسيون يرتكبون مجازر مروعة في الجزائر، بدأت يوم 8 مايو/ أيار 1945. فقد قصف الطيران الفرنسي عددًا من القرى الجزائرية مسقطًا آلاف الضحايا، لكن ديغول لم يتطرق إلى هذه الفظائع في مذكراته التي لم يعطها فيها اهتمامًا يذكر. وبعد اشتعال الثورة في الجزائر عام 1954، تحولت سريعًا إلى أزمة في السياسة الفرنسية مع تزايد تكاليف قمع الثورة، ووسط ترويج مسؤولين لفكرة وجوب تكليف ديغول بالسلطة لإنقاذ فرنسا، بعد اعتزال هذا الأخير السياسة. فيذكر ديغول في كتاباته: “لم نكن هنا أمام وضع يقتضي حلًا وديًا إنما كنا أمام مأساة كاملة، لقد كانت الجزائر تحتل في حياتنا القومية أهمية لا مجال للموازنة بينها وبين بقية البلاد التي كانت تابعةً لنا”. ومع تسلمه الرئاسة الفرنسية وبداية الجمهورية الخامسة، كان ديغول مقتنعًا أن الاحتفاظ بالسيادة الفرنسية على الجزائر بات رهانًا لم يبق لباريس فيه أي مكسب، فقال للجزائريين “أنا أتفهمكم”. وحملت سياسة ديغول قدرًا من التناقض عما جاء في مذكراته، فرغم حديثه عن الخروج إلا أنه كان في نفس الوقت يخطط لإبقاء الجزائر تحت السيطرة الفرنسية تحت أي ثمن. ويوم 18 مارس/ آذار 1962 عام وقع ديغول اتفاقية إيفان، التي نصّت على وقف إطلاق النار ووحدة الأرض الجزائري، وتنظيم استفتاء لتقرير المصير، قبل أن يعلن يوم 3 يوليو/ تموز استقلال الجزائر.

سطور في حياة ديغول والشعب الفرنسي

      ينظر الفرنسيون إلى شارل ديغول إلى أنه الأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، ويرجع الكثير من الفرنسيين الفضل إلى الجنرال ديغول في استقلال بلادهم من الجيوش النازية أثناء الحرب العالمية الثانية إذ لم يتوقف وهو في لندن من إطلاق الشعارات التي كانت تلهب قلوب الفرنسيين وتدفعهم إلى المقاومة، ومن أشهر نداءاتة «أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة لكننا لم نخسر الحرب وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نير الاحتلال الجاثم على صدره».

     «هذه الحرب لا تقتصر على خسارة إقليم في بلادنا، هذه الحرب لم تنته بخسارة معركة فرنسا، هذه الحرب هي حرب عالمية واسعة….. أياً كان ما سيحدث، فإن شعلة المقاومة الفرنسية لا يجب أن تنطفئ، ولن تنطفئ» – شارل ديغول، خطاب 18 يونيو 1940. وينعكس تقدير هذا الرجل بشكل واضح في العاصمة باريس إذ تم تسميه العديد من المرافق الحيوية باسم الجنرال مثل(المطار، الشوارع،المتاحف ومحطات القطارات).

مؤلفاته:

-حد السيف (Le fil de l’épée)، نشر عام 1932.

-نحو جيش الاحتراف (Vers l’armée de métier)، نشر عام 1934.

-فرنسا وجيشها (La France et son armée).

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14637

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *