دراسات سياسية

شقوق في الجدار الغربي – وليد عبد الحي

عندما وضع المنشق السوفييتي “أندريه امالريك” عام 1976 كتابه المشهور ” هل سيبقى الاتحاد السوفييتي حتى عام 1984″ بدا للكثيرين وكأنه منشور دعائي لكنه تحقق لاحقا، وعندما وضع بول كينيدي في منتصف الثمانينات كتابه المشهور ” صعود وهبوط القوى العظمى” مؤكدا ان الولايات المتحدة ستبدأ بالتراجع مع القرن الواحد والعشرين بدا الامر وكأنه ” مبالغة” ثم تبين ان نظرية التمدد الزائد (Overstretch) مبنية بمنهج علمي صارم ، وعندما طرح الوظيفيون “الجدد والقدامى” في أوروبا بان الاتحاد الأوروبي يسير نحو قدر كبير من الفيدرالية فاجأتهم لندن بالخروج من الاتحاد واستيقظت 69 حركة سياسية للأقليات الأوروبية (أغلبها كاثوليكية) تطالب بالانفصال همسا او صراخا في اسكتلندا وكاتالونيا والجنوب الايطالي وكورسيكا والباسك…الخ.
هذه البيئة والتي تتسم أيضا بتحول جذري في الصين عبر مشروعات ثلاثة هي برنامج التحديثات الاربعة(1978)، ونظرية الصعود السلمي (نظرية بيجيان منذ الثمانينات) ومشروع الطريق والحزام منذ 2013، وبتحول جذري في روسيا من النمط الامبراطوري الذي يرضع من آيديولوجيا عابرة للحدود القومية كانت تواقة لرسم خريطة للعالم على اسس اجتماعية طبقية الى دولة رضعت من حس قومي نشأ في احضان جمعيات فكرية مثل جمعية باميات وشحنها جيرنوفسكي ودوغين وبوتين ومدفيديف…كل ذلك غير من قواعد اللعبة، وأسس لتغيرات عميقة في خريطة العلاقات الدولية تمهد لظاهرة جديدة نراها ستتجسد في اتساع الشقوق بين جناحي الأطلسي الاوروبي(بخبرتة العميقة) والامريكي( بثقافة القوة الخشنة والناعمة) ، وهو ما يتضح في الظواهر التالية:
1- الخلاف على الاتفاق النووي الايراني: من الملاحظ ان اوروبا تبدي حرصا على الالتزام بالاتفاق النووي مع ايران نظرا لان الخروج عليه يعني فتح الباب امام فقه قانوي دولي جديد لا يقوم على الارث الأوروبي منذ تأسيسه بطروحات غروشيوس بل على أدبيات مورغانثو ونيبور وكينيث والتز، وتجاوز القانون الدولي يجعل من العالم مسرحا لممثلين في مسرحية لا نص لها.
2- الخلاف على اتفاقية المناخ : لم يبد ترامب خلال اعلانه عن موقف سلبي من هذه الاتفاقية ( التي تقوم على ” الحس المشترك” بالخطر البيئي المشترك ) أي قدر من المسؤولية الدولية واراد فرض ارادته بقدر من الرعونة على اوروبا وغيرها.
3- مساهمات الدول الاعضاء في موازنة الناتو: لقد عبر ترامب عن جزع امريكي من أعباء القيادة للحلف الاطلسي لا سيما المساهمة الامريكية التي تصل الى 3,57% من اجمالي الناتج المحلي الامريكي مقارنة بأكثر قليلا من 2% لبعض الدول الوروبية ، بينما البعض الاخر لم يبلغ 1%، فالقوى الأوروبية الكبرى ( فرنسا وبريطانيا والمانيا ) تنفق مجتمعة على الميدان الدفاعي حوالي 146 مليار ونصف مقارنة بالولايات المتحدة التي انفقت عام 2017 ما قيمته 685,9 مليار دولار، وهو ما يعني ان نفقات اوروبا تراجعت من 3% عام 1989 الى 1,95% من الناتج المحلي ، وهو ما يعني ان الولايات المتحدة تشعر بالغبن من حيث العبء بينما تشعر أوروبا بأن الخطر “السوفييتي” انحسر ليحل محله خطر روسي لكنه لا يرقى لدرجة التهديد ذاتها، وهو ما يوحي بنزعة استقلالية اوروبية تتجلي في نصوص اتفاقية ماستريخت التي تنص في مادتها الرابعة على تاسيس قوة دفاعية منفصلة، وهو أمر يطرح تساؤلا :منفصلة عن من؟ فليس هناك اطار عسكري يجمع اوروبا مع دولة خارجها الا الناتو.
4- الموقف من خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ، رغم الصدمة التي احدثتها بريطانيا في استراتيجية الاتحاد الاوروبي ، فإن خروج بريطانيا عزز مسألتين هما : ان بريطانيا كانت تمثل كعب أخيل في أي نزاع بين الاتحاد والولايات المتحدة ،وثانيهما ان درجة التناغم بين السياسة الامريكية والسياسة البريطانية تفوق أي درجة تناغم بين واشنطن واي من العواصم الاوروبية المركزية(برلين وباريس)، وقد تجلت هاتان المسألتان في التهليل الامريكي والدعم الواضح لخطوة الانسحاب البريطاني من قبل ترامب ووعوده لها بصفقة تجارية كبيرة.
5- حدود المناورة في العلاقة مع روسيا : يشكل اعتماد اوروبا على النفط والغاز الروسي نسبة عالية ، ففي عام 2016 كان 70% من الصادرات الروسية من النفط تذهب لأوروبا(رغم الميل لزيادة التصدير للصين في العام الماضي)، وهو امر ترى فيه الوليات المتحدة ارتهانا طاقويا اوربيا لروسيا، ناهيك عن عدم الارتياح الامريكي لمستوى ردة الفعل الاوروبية لا سيما الالمانية للأزمة الاوكرانية مع روسيا.
6- الموقف من موضوع القدس ونقل السفارات الأوروبية ، تبدو الدول الاوروبية أقل حماسا لخطوة ترامب بخصوص موضوع القدس ، وهو امر عبر عنه الاوروبيون في مواقف عدة.
7- الشعور – الى حد ما – بتراجع الحاجة الأوروبية للمظلة الدفاعية الامريكية بعد انحسار الامبراطورية السوفييتية، ورغم ان الازمة الأوكرانية ايقظت بعض الهواجس الاوروبية من روسيا ذات الخلفية القيصرية، إلا ان مستوى القلق الاوروبي من روسيا لا يقارن بمستواه من الاتحاد السوفييتي ، وهو ما جعل “الاستثمار الامريكي” لهذه الهواجس اقل جدوى.
8- مشكلة التوفيق بين “التحالف السياسي العسكري” الأوروبي الامريكي من ناحية وبين التنافس الاقتصادي بينهما من ناحية أخرى.فبالعودة لسجلات منظمة التجارة الدولية يتبين ان 30% من النزاعات التجارية التي تعرض على المنظمة هي بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي(أي حوالي ثلث النزاعات التجارية في العالم)، كما ان اوروبا لا تتوافق مع النظرة الامريكية تجاه السياسات التجارية الصينية، وتجاه قضايا الملكية الفكرية، وتجاه العلاقات التجارية مع ايران لا سيما بعد الاتفاق النووي…الخ.
إن هذه الشقوق ستتسع باتجاه غير خطي ، لكنها ستكشف عن تحول جذري في بنية العلاقات الدولية خلال العقدين القادمين أي حتى عام 2040 ، وهو ما يجعلني ارى أن الولايات المتحدة ستيمم أكثر فأكثر شطر حوض الباسيفيكي، بينما تبدو اوروبا مشدودة نحو “أوراسيا بمدلولها الجيوسياسي والجيواستراتيجي” وهو ما سيجعل هذه المنطقة هي الاقليم المركز(core region) وسترسم السياسات الاستراتيجية على هذا الاساس، وهنا سيجد العالم العربي نفسه تحت إبط هذا الإقليم……ربما.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى