دراسات سياسية

عن انقلاب عزيز الأحدب العسكري في لبنان 1976

د.محمد عبدالرحمن عريف

  هو انقلاب الأحدب أو الانقلاب التفزيوني هو انقلاب أبيض قام به العميد (عزيز الأحدب) قائد المنطقة العسكرية في بيروت مساء 11 آذار/ مارس 1976، واصفاً حركته بالإصلاحية وترمي لإنقاذ الجيش والطلب من رئيس الجمهورية (سليمان فرنجية) الاستقالة تمهيداً لانتخاب رئيس جديد. فعلى اثر الحرب الاهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 تفكك الجيش اللبناني وسقطت الثكنات العسكرية في العديد من المناطق.

مقدمات أحداث وتوابع الحرب الأهلية 1975

  جاءت البداية مع شهر مارس/ آذار من عام 1976، وكان لبنان دخل السنة الثانية من الحرب الأهلية، التي بدأت يوم الأحد 13 أبريل/ نيسان 1975، ذلك عندما تم إطلاق النار من مسيحيين مسلحين في حي مسيحي اسمه «عين الرمانة» على «أوتوبيس» كان يقل فلسطينيين عائدين من مشاركتهم في مسيرة نظَّمتْها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة» التي يتزعمها أحمد جبريل بمناسبة الذكرى الأولى لعملية فدائية عُرفت «عملية الخالصة». وتسبب إطلاق النار بغزارة في مقتل 26 شخصًا. وكانت تلك الحادثة بمثابة شرارة أو عود كبريت رُمي على حقل مليء ببراميل النفط. اندلعت المواجهات وانقسم البلد شر انقسام سياسي وحزبي وطائفي. لكن الأكثر خطورة كان انقسام الجيش اللبناني جيشيْن ثم «جيوشًا» صغيرة إلى جانب «جيش لبنان العربي»، وبذلك لم يعد هناك مَن هو قادر على محاصرة الانقسامات التي بدأت تهدد الكيان ومطالبة رئيس الجمهورية بالاستقالة.

   وسط هذه الفوضى الشاملة لبنان من أقصاه إلى أقصاه، واتساع القلق الشعبي على الحياة وعلى الكيان وعدم تجاوب رئيس الجمهورية مع المطالب بالاستقالة، فضلاً عن قصف مقر رئاسة الجمهورية بقذائف صاروخية، وذلك لإجبار الرئيس فرنجية على الرحيل، فوجئ اللبنانيون الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر النشرة الإخبارية من التلفزيون في الثامنة والنصف مساء، علَّها تحمل إليهم ما يهدئ روعهم، بالمذيع ينفي ما أُشيع عن الاستقالات الثلاث (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، ووزير الداخلية) ويعرض مشاهد لخروج أعضاء وفد سوري برئاسة عبد الحليم خدَّام بعد اجتماع في القصر مع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الرافض الاستقالة.

انقلاب عزيز الأحدب عبر شاشات التلفزيون

  فجأة يظهر على الشاشة دون سابق إشارة ضابط بزيه العسكري وكامل أوسمته وبدأ بعد ثوان من الارتباك يتلو بيانًا كان أشبه بدوي قنبلة. كان هذا الضابط هو العميد أول الركن عزيز الأحدب ابن مدينة طرابلس ومن عائلة معروفة تجاريًا وسياسيا. وصل مباغتًا إلى مبنى محطة التلفزيون توقيتًا مع نشرة الأخبار. قرأ البيان الذي أعاد إلى الأذهان صيغة «البلاغ رقم واحد» للانقلابات العسكرية التي ازدهرت في الخمسينات والستينات في سوريا وكان آخرها الانقلاب الذي قام به داخل حزب «البعث» اللواء حافظ الأسد الذي بات بعد ذلك برتبة فريق.

   لقد لاقت حركته (الإصلاحية), وإن كانت انقلابية، تأييداً من أوساط سياسية ومن عدد من الضباط في أيامها الأولى، في حين التزم قائد الجيش حنا سعيد بالصمت. لم يحظَ الانقلاب بتأييد القطع العسكرية المقاتلة التي انضم أكثرها إلى أحمد الخطيب. بالمقابل قامت ميليشيات الجبهة اللبنانية باحتلال ثكنة الفياضية يوم 12 آذار/ مارس 1976، فيما أعلن العقيد انطوان بركات ابن زغرتا ولاءه للرئيس سليمان فرنجية منذ 12 آذار/ مارس وأعلن تأسيس ما سمي بـ”جيش الشرعية” ومقره ثكنة الفياضية.

   في وسط هذه الأحداث تم تشكيل تجمع عسكريي ثكنة صربا بقيادة العقيد أنطوان لحد، الذي ترك قيادة البقاع لينضم إلى رفاقه في المناطق المسيحية، وتجمع عسكريي مسيحي زحلة الذي كان بقيادة المقدم إبراهيم طنوس (قائد الجيش فيما بعد) والرائد طارق نجيم، والملازم أول يوسف الطحان. وجاء البلاغ رقم واحد للعميد عزيز الأحدب انقاذاً لوحدة الجيش، وإعادة اللحمة إلى العسكريين، وإنقاذاً للوضع المتدهور في البلاد، ولما كانت التحذيرات المتواصلة قد ذهبت أدراج الرياح، وحفاظاً على المصلحة اللبنانية العليا، وإعادة اللحمة إلى الشعب اللبناني الكريم، وبوحي من ضميري، وأصالتي العسكرية، وانطلاقاً من مسؤوليتي أمام الله والتاريخ، أقرر ما يأتي.

   جاء البيان الذي تلاه العميد أول الركن عزيز الأحدب وبتوقيعه «قائد منطقة بيروت والحاكم العسكري المؤقت» في ثلاثة عشر بندًا أولها الطلب من الحكومة (التي يترأسها ابن طرابلس أيضًا رشيد كرامي) تقديم استقالتها خلال 24 ساعة وإلا اعتبرت بحكْم المستقيلة، وثانيها الطلب نفسه من رئيس الجمهورية، وثالثها الطلب من جميع القطاعات المدنية والعسكرية تأييد حركته الإصلاحية، ورابعها إعلان حالة الطوارئ في البلاد ومنْع التجول في بيروت حتى إشعار آخر، وخامسها دعوة مجلس النواب خلال سبعة أيام إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد. وبعد أن يؤيد العميد أول عزيز الأحدب المبادرة السورية والالتزام بالاتفاقيات السابقة المعقودة «بين السلطة اللبنانية وإخواننا الفلسطينيين» وأن الجيش «سيلتزم بحماية الرئيس سليمان فرنجية مدى الحياة» يختم «البلاغ رقم واحد» بعبارة تضمنت مفردات سبق التزام مماثل بها في التوجه من جانب المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان ببضع سنوات. والعبارة هي: «أُعلن منذ الآن أنني لست طامعًا بالحُكْم ولا أؤمن بالحُكْم العسكري إلا كوسيلة لإنقاذ حُكْم متدهور. لذلك قررتُ الاحتفاظ بمركزي الطبيعي كقائد لمنطقة بيروت وسأسلم أمانة الحُكْم إلى أصحابها فور انتخاب الرئيس الجديد..».

   لمجرد انتهاء العميد أول عزيز الأحدب من إلقاء بيانه لعلع الرصاص ابتهاجًا بالمباغتة التي قام بها. وكان واضحًا أنه انتظر مغادرة عبد الحليم خدام بيروت عائدًا إلى دمشق لكي يعلن خطوته. وبطبيعة الحال لم يرتح رموز العمل السياسي إلى ما فعله العميد أول عزيز الأحدب، كما أن النظام السوري الذي يضمر احتواء لبنان ووضْع اليد على إرادته وقراره لم يرحب هو الآخر. في المقابل كان الترحيب من جانب الناس والفعاليات الاقتصادية ملحوظًا. بعد ثلاثة أيام وفيما الجدل الناشئ عن حركة الأحدب يزداد أعلن مجموعة من الضباط المسيحيين الموارنة تأييدهم لحركة زميلهم العميد أول عزيز الأحدب وبذلك اكتسبت الحركة صفة التنوع الطائفي وتراجعت بعض الشيء التحفظات حول أن الأحدب من السنة.

   خطوة خطوة كان الدخول السوري إلى الحالة اللبنانية التي ازدادت تشققًا. وشيئًا فشيئًا بدأ الأمل المعقود على الحركة التي قادها العميد أول عزيز الأحدب يتراجع. جاء صقر وخطف طريدة على قد الحال. بل جاء الأسد وافترس الصيغة الأحدبية التي كان التحسر من جانب الناس على انطفائها شاملاً.

شهادة العقيد انطوان بركات

  القصة السابقة هي أن اللواء عزيز الأحدب ذهب الى تلفزيون لبنان وقرأ البلاغ رقم واحد وتوجه من “تلّة الخياط” إلى اذاعة لبنان وتلا البيان الذي قرأه في تلفزيون لبنان. كنت الوحيد في الإذاعة مسؤولاً وقادراً على الإتصال باستديو رقم واحد، وفي جوار مكتب المدير العام لوزراة الإعلام رامز خازن، فسارعت الى نقل وقائع ما حدث. وفجأة اختفى المدير العام، وعرفت لاحقاً انه غادر مكاتبه، ولبى دعوة الأستاذ غسان تويني في الطبقة التاسعة من جريدة “النهار” في البناية المحاذية لمقر وزارتي السياحة والإعلام. وتوجه في اليوم التالي الى مقر “اذاعة عمشيت” التي أصبحت فيما بعد مقر الإذاعة الرسمية، وبقيت اذاعة الصنائع مكاناً رسمياً لوزراة الإعلام. وهكذا تجمع الموظفون المسيحيون غالباً الى جانب المدير العام لوزارة الإعلام، وبقي الآخرون في اذاعة الصنائع. وحده المسؤول الأول في مكتب المدير العام الأستاذ جاك واكيم بقي يدير المكاتب، مع مجموعة قليلة من العاملين معه. كان خط الهاتف بين مكتبي والإستديو رقم واحد، هو الخط الوحيد المتاح من خلاله الإتصال بين قائد الجيش العماد حنا سعيد وقائد الإنقلاب، وفجأة رن الهتاف وأصبحت أنقل وحدي الحوار. وقال العماد سعيد للواء الأحدب: ما كان هيك الإتفاق، كنا جميعاً متفقين على التحرك ضد الجميع ولا يقف أحد منفرداً. ورد العميد أول بأنه هو القائد الآن، ولا مجال للعودة الى الوراء. وأخذت الإتصالات تتزايد على اللواء الأحدب، وفي احداها بادره أديب لبناني الإتجاه، بأنه فعل عملاً عظيماً وانه الآن أصبح مثل الأمير فخر الدين. وحضر ضابط لبناني برتية عقيد، وسألني عما أفعل بعد الإنقلاب، ورددت عليه بأنني سأتوجه الى الشمال وجاء الزميل كمال فضل الله وتولى نقلي في اليوم التالي الى المتحف، لأذهب من هناك الى منزلي في بلدة أنفة الكورة، وكان يومئذ يرئس تحرير جريدة الوكالة الوطنية للإعلام. وتولى الزميل الكبير حسان فيكتور الخوري الإشراف على تحرير كتاب اللواء بركات لاحقاً.

   يبدو أن انقلاب اللواء عزيز الأحدب عاش ثلاثة أيام ثم أخذ يتلاشى إلا أن نفوذ الملازم أحمد الخطيب قائد جيش لبنان العربي” أخذ يقوى على حسابه. وفي تلك الحقبة سافر الرئيس سليمان فرنجية بالطائرة إلى دمشق يرافقه رئيس الحكومة رشيد كرامي ووزير الخارجية في حكومة العسكريين برئاسة نور الدين الرفاعي، ووقعوا في العاصمة السورية “الوثيقة الدستورية” التي كانت تنطوي على اصلاحات سياسية في الدستور اللبناني إلا أن الوثيقة ظلت في الأرشيف ولم تبصر النور. بعد اذاعة البيان رقم 1، ثابرت اذاعة عمشيت على بث نداءات التأييد للرئيس فرنجية.  

 على أثر ندائي بثت إذاعة الصنائع برقية من قائد المدرسة الحربية الركن فرنسوا جينادري يعلن فيها أنه باقٍ في المدرسة مع الضباط والأفراد، ولأنهم لن ينضموا إلى حركة العقيد بركات. لكن سرعان ما انكشفت حركة الأحدب برعايتها الخارجية ، فتراجع العديد من مؤيديها، كما أطلق عليها نعت “الحركة التلفزيونية”. وبثّت إذاعة عمشيت أن القاعدة البحرية في جونية غصّت بالضباط والعناصر المؤيدين الشرعية، فردّ- عليها اذاعة لبنان (الصنائع) بأن ضباط القاعدة وثكنة صربا قد أعلنوا تأييدهم لحركة الأحدب.

   يقول العميد بركات أن ما بثّته إذاعة الصنائع عن ثكنة صربا لم يكن صحيحاً، لأن عناصرها، ضباطاً ورتباء وأفراداً، ظلّوا إلى جانب الشرعية المتمثلة برئيس الجمهورية. وفي 15 آذار/ مارس اتصل العماد سعيد باللواء بركات هاتفياً وبادره/ هل عرفت ان أحد الضباط قد أبلغهم أن منطقة ضهر البيدر والمديرج قد سقطت. وأجاب بركات العماد سعيد: “بعد يومين أو ثلاثة تصل “الجماعة” إلى عالية. وفي عاليه تنتهي المنطقة اللبنانية التي تقطنها أكثرية إسلامية، وفيها ستبدأ المعركة الحاسمة. فمنها تتفرّع خمسة محاور، وأيّ محور يسقط يشكّل خطراً على عدة مواقع كالقصر الجمهوري ووزارة الدفاع وذخيرة اللويزة وثكنة الفياضيّة، علاوة على تشريد حوالي ثلاثمئة أو أربعمئة ألف مسيحي. ولن يكتفي الفلسطينيون ومن معهم عندئذ بذلك، بل سيكملون الزحف إلى بيروت فتسقط الأشرفية وعين الرمّانة.

 لقد ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لمراسلها في بيروت هنري تامز في 29 آذار/ مارس 1976: إذا تمكّن التحالف الإسلامي – اليساري من الإستيلاء على الكحالة، فتحت أمامه الطريق إلى بعبدا مقر رئاسة الجمهورية، وإلى الحازمية- الضاحية الجنوبية المسيحية في بيروت التي تقطع الطريق إلى الأشرفية، وهي نواة المنطقة المسيحية في بيروت، وأضافت: إن سقوط الكحالة يمنح التحالف سيطرة كاملة على طريق الشام، وهناك صلة بين تقدّم المسلمين في منطقة الفنادق والهجوم ضد الكحّالة أذ يشكلان فكيّ كماشة للإنقضاض على الأشرفية التي تعتبر نواة المنطقة المسيحية في بيروت.

   كما يقول روبرت فريدمان في كتابه “السياسة السوفياتية تجاه الشرق الأوسط منذ 1970” إن التحالف اليساري- الإسلامي واصل اندفاعه في المناطق الجبلية اللبنانية بهدف الإلتحام مع بقية القرى المسيحية ذات التوجهات اليسارية، والسيطرة على طريق الشام. وتقدّم المراسلة الصحافية طابيتا بدران التي أمضت قرابة عشرين عاماً في لبنان في كتابها “الصراع على لبنان” وصفاً دقيقاً لما جرى بقولها: خلال الأسبوع الأخير من آذار، حصلت أكثر المعارك ضراوة واستولى تحالف الفلسطينيين والحركة الوطنية على التوالي بسرعة على مباني ”الهوليدي إن” والبرلمان وستاركو وفندق النورماندي ومبنى الهيلتون الذي لم يتم انجازه بعد، وكلاهما حيويان لدفاع الكتائب عن منطقة المرفأ ومداخل الأشرفية، ثم انطلق هذا الهجوم نحو الأسواق التجارية خلف البحرية. وتابعت ”الذراع الأخيرة للهجوم ضد الأشرفية، ثم انطلق هذا الهجوم نحو الأسواق التجارية خلف البحرية. وتابعت” الذراع الأخيرة للهجوم ضد الأشرفية بدأت من عاليه في السفوح فوق بيروت باتجاه الكحالة، مروراً بطريق الشام التي يتولّى الدفاع عنها الكتائب ووحدات الجيش التابعة للعقيد أنطوان بركات. وأن الإستيلاء على الكحالة كان يعني سقوط الطريق بكاملها في أيدي الفلسطينيين والحركة الوطنية. وعلى خط موازٍ نجح هجوم في الجبل من عاليه في الإستيلاء على مجموعة من الأبنية في 2 نيسان/ أبريل، ما وضع القوات المشتركة للحركة الوطنية والفلسطينيين على مشارف الأشرفية والتلال المطلّة على العمق الماروني.  

  يتابع بركات: واتصلت بالرائد نهرا الشالوحي لتحضير الحرس الجمهوري، فأبدى ممانعة في بادئ الأمر رافضاً مساندتي بحجة أنه مكلّف حماية القصر فحسب. إزاء هذه السلبية طلبت الملازم أوّل لوسيان المكاري في القصر الجمهوري وقلت له: “إني أخاطبك الآن كزغرتاوي.. كن مستعد اًللإنطلاق… جبهة الكحّالة على شفير السقوط. حضّر أربع دبابات ك 42، ومدفعين من عيار 106 ملم وحاملة الجند التي أعطيتكم إياها مليئة بالذخائر، وتوجّه فوراً إلى الكحّالة. وإذا اعترض الشالوحي “قوّصو…” فأجابني الملازم الأول المكاري: ”بأمرك سيدنا”. ثم اتصلت بالرئيس سليمان فرنجية في مقرّه في الكفور، فردّت كريمته السيدة لميا الدحداح قائلة: “الرئيس نائم. ماذا جرى”. فقلت: “اسرعي وايقظي الرئيس.. فالكحّالة تكاد أن تسقط، والرائد الشالوحي يرفض المساعدة بحجّة الدفاع عن القصر”. فأجابتني: ”سأخبر الرئيس فوراً. إنتظر…” إنتظرت لحظة، وإذا بالرئيس يقول لي: ”إنتبه جيداً فأنت المسؤول عن الكحّالة. والشالوحي سيلبيّك فوراً”. وكرّر ذلك بصوت عالٍ وبانفعال. ما إن وضعت سماعة الهاتف، حتى طلبني الرائد الشالوحي، فقلت له على الفور: “اسرع”. واتصلت بالرائد غبريال قرصوني وطلبت منه أن تتوقّف كلّ المدفعيات الثقيلة التابعة له عن القيام بأيّة مهمة أخرى خارج جبهة عاليه، وأن تكون مهمتها الوحيدة الرمي بغزارة على طريق عاليه ما بين المستديرة وقصر الأمير مجيد. واجتمع لاحقاً ببشير وداني شمعون في جونية حيث امتدح القائدان العسكريان للكتائب والوطنيين الأحرار بركات للدور الذي اضطلع به من أجل ”القضية المسيحية في لبنان”. ونسب إليّ قولي بإنها كانت أكثر لحظات حياتي فخراً، ثم يقول إنني دعمت الكتائب والأحرار بـ(300) جندي.

   في النهاية نكرر ما قاله البعض (دائماً أن الانقلاب العسكري في لبنان مستحيل). وثبت ذلك يوم تحوّلت دول عربية شقيقة عدّة له إلى الحكم العسكري بفعل الانقلابات التي سُمّي بعضها ثورات نسِّبت إلى إيديولوجيات معينة قومية وأممية. ويوم فشلت محاولة الانقلاب التي قام بها في أوائل ستينات القرن الماضي الحزب السوري القومي الاجتماعي رغم جدّيتها. ويوم فشل انقلابان حرّض عليهما الوجود الخارجي المسلّح قام بأحدهم العميد الركن عبد العزيز الأحدب، وُوصف في حينه بـ”التلفزيوني” لأنه لم يكن يمتلك من الأدوات الانقلابيّة إلا الإعلان على شاشة التلفزيون.

  لقد ثبت القول المشار إليه أيضاً بفشل الحكم المخابراتي في لبنان مرتين. الأولى يوم شوّه تدخّل العسكر والأجهزة في الحكم أيام فؤاد شهاب المحاولة الجدية والوحيدة التي قام بها لبناء دولة مؤسسات، إذ استعمل قسم من اللبنانيين الانتخابات النيابية عام 1968 للتخلص من “الشعبة الثانية” وتحكّمها بالسياسة في البلاد. ونجحوا في ذلك. لكنهم بالغوا إلى درجة جعل البلاد “بلا عيون” في وقت كان يسرح فيها ويمرح مسلحون مدعومون من دول عدة عربية وغير عربية، وكان قسم مهم من أبنائها يخضع لاغراء التعاون مع هؤلاء أولاً بداعي الأخوة القومية، وثانياً بداعي إزالة الغبن اللاحق به في الدولة اللبنانية.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى