طبيعة التحول في مفهوم القوة في العلاقات الدولية

يعرف هانز مورغانتو القوة بأنها القدرة التي يملكها الإنسان للتحكم في أفكار وسلوكات الآخرين

  • / يعرف بريجنسكي فهو يقدم منظوراً شاملاً لمفهوم القوة العالمية يتحدد بأربعة أبعاد

    الوصول العسكري العالمي

    الدور الإقتصادي العالمي

    الجذب الثقافي –الفكري العالمي

    العضلة السياسية العالمية .

    وعموما يمكن تحديد فرق أساسي بين القوة السلوكية وهي المقدرة على الحصول على النتائج التي تريدها، وقوة الموارد وهي إمتلاك موارد تقترن إقتراناً فعلياً بالمقدرة على الحصول على النتائج التي تريدها

    سيطرت حقائق القوة الأمريكية على مسار النقاش النظري حول طبيعة التحول في مفهوم القوة، حيث تعددت مظاهر هذا التحول الذي إرتبط أساسا بالتغيرات السياسية والإقتصادية والعسكرية والإجتماعية التي أفرزها واقع ما بعد الحرب الباردة من حيث:

    أن حجم التحولات الدولية التي أفرزها واقع ما بعد الحرب الباردة قد أفضى إلى نقاش جدلي مهم حول ” بقاء الدولة ” في ظل التدفق المتزايد للاعبين الدوليين من غير الدول، وهو ما إنعكس بصورة غير مباشرة على أداء الوظيفة الأمنية

    كمحورٍ من محاور السياسة العليا للدولة، وبالتالي حكم هذا التحول إلى درجةٍ كبيرة معادلة القوة في النظام الدولي وأثر بصورة ملموسة على طبيعة مفهوم القوة، وهذا على مستويين

    1- توزيع القوة بين الدولة والفاعلين الآخرين سواء تم ذلك بإرادة الدولة التي لم تعد تملك القوة على الإدارة الأحادية للمشكلات القائمة، أم حصل ذلك بسبب الثقل المتنامي الذي تتوفر عليه هذه الفواعل.

    2- بروز قضايا ووظائف جديدة أكبر من قدرة الدول على التعاطي معها عبر إجراءات قانونية رسمية بما يقلل من قيمة هامش القوة الذي تتوفر عليه الدول في مقابل تعزيز مكانة الأطراف غير الدول في ممارسة القوة والنفوذ.

    والحقيقة أن ضعف إحتكار الدولة القومية التقليدية للقوة ناجم عن ضعف إحتكارها للأصول والطاقات المرتبطة بعمليات وإجراءات أمنية(القديمة منها والجديدة). وقد سعى الفاعلون في شركات القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية وتجمعات المجتمع المدني الأخرى للتأثير على الدولة بطرق يمكن أن تكون مكيفة في علاقات القوة التقليدية بدرجة أكثر أو أقل لكنها تملك اليوم أيضا عناصر قوة مستقلة، وتأثيرا على عمليات مناسبة للأمن

    ولأجل ذلك يرى البعض أن مفهوم القوة مرتبط بالأساس بطبيعة الفواعل المستخدمة لها أو كما قال ريمون آرون إن الخاصية المميزة للعلاقات الدولية هي مدى قانوينة وشرعية إستخدام القوة من قبل الفاعلين

    لقد أصبحت الفواعل الدولية تتمتع بالقوة والنفوذ بمقدار تصورها الذاتي لهما عكس ما كان حاصلا في حقب تاريخية ماضية عندما كانت الدولة تدرك قوتها بشكل إنعكاسي بمقدار قوة الآخرين، ومرد هذا التحول هوالطبيعة الجديدة للنزاعات الدولية. فمنذ المنتصف الثاني من القرن العشرين، بدأ العالم يشهد تراجعا في النزاعات بين الدول في مقابل النزاعات داخل الدول وهو ما قلل من فرص معرفة الدول لبعضها البعض وإختبار قوتها من خلال المواجهة المباشرة أو النزاع المسلح

    وعلى خلفية هذا التأصيل، فإن تصور الدول لقوتها غالبا ما يبتعد عن البيئة الموضوعية. لذلك نجد من جهة بأن بعض الفاعلين الدوليين يظهرون بشكل أقوى من الواقع الفعلي، أما

    من جهة ثانية فهناك لاعبين آخرين يتم التعاطي مع قوتهم بصورة أقل أهمية مماهي عليه في حقيقة الأمر، وكمثال على ذلك شهدنا كيف أن الجماعات والتنظيمات الإرهابية لم تعنى بأهمية معتبرة من قبل أطراف المجتمع الدولي قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، بينما تعاظم الحديث عن قوتها بعد هذا التاريخ بشكل يصل أحيانا إلى حد المبالغة

    توفر القوة العسكرية الثقة والإطمئنان للدولة مما يجعلها تتخذ المواقف الدولية من مركز القوة وعدم خشية خصومها، حيث إن الدولة التي لا تسندها قوة عسكرية لا يمكنها أن تصمد بوجه التهديدات الخارجية وهذا ما يعرضها لإعطاء تنازلات تمس بمصالحه

    من الناحية التقليدية كان إختبار القوة العظمى هو قدرتها على الحرب كما يقول تايلر. أما اليوم، فإن أساس القوة أخذ في الإبتعاد عن التأكيد على القوة العسكرية، ومن المفارقات أن الأسلحة النووية كانت من بين أسباب هذا الإبتعاد، فمن تاريخ الحرب الباردة ثبت أن الأسلحة النووية كانت مدمرة وفتاكة بشكل رهيب إلى درجة أنها صارت جامدة ومكلفة أكثر من اللازم بحيث لا يمكن إستخدامها نظريا إلاّ في الحالات القصوى، أما السبب الآخر فهو صعود التيار القومي الذي جعل من الصعب على الإمبراطوريات أن تحكم الشعوب في ظل زيادة الوعي القومي. كما أن التغير الإجتماعي داخل القوى العظمى مثل سببا اضافيا لهذا الابتعاد، فمجتمعات ما بعد الثورة الصناعية راحت تركز على الرفاه الاجتماعي وليس على المجد وهي تكره إرتفاع عدد ضحاياها وإصاباتها، إلا عندما يكون بقاؤها نفسه معرضا للخطر. وهذا كله لا يوحي بأن القوة العسكرية لم يعد لها دور تؤديه في السياسة الدولية اليوم فلم يتم بعد تحويل الجزء الأكبر من العالم بفعل ثورة تدفق المعلومات، ذلك أن كثيرا من الدول لا تقيد حركتها قوى ديمقراطية أو مجتمعية [6].

    وكنتيجة لتزايد الإدراك بعدم جدوى ترجيح العامل العسكري في وضع الإستراتيجيات المناسبة، طُرح على مستوى بعض الدوائر مفهوم ” الهيمنة الحميدة ”    الذي يرتكز على إمكانية السيطرة بالإقناع وتحجيم  العنف إلى أدنى درجاته وترويج المنطلقات القيمية والمؤسسية للدولة لتوسيع نفوذها العالمي

      كما زادت أهمية القوة الاقتصادية في ظل المتغيرات الدولية الجديدة وأصبحت هدفا تسعى إليه الدول وأساسا تقوم عليه قوتها الراهنة والمستقبلية ومعيارا أساسيا من معايير قياس قوتها وفي الوقت نفسه أداةً من الأدوات التي تملكها الدولة في ممارسة اللعبة الدولية. وهكذا فإن الدول أصبحت تعتمد قدراتها الإقتصادية أكثر من قدراتها العسكرية في لعبة القوة الدولية حيث أصبحت الضغوط الإقتصادية التي تمارسها الدول الكبرى على دول العالم النامي أكثر فاعلية نسبيا من التدخلات العسكرية

     إن القوة الاقتصادية صارت فعلاً أهم مما كانت عليه في الماضي بسبب الزيادة النسبية في تكاليف القوة وبسبب التواجد الكبير للأهداف الإقتصادية في قيم مجتمعات ما بعد التصنيع. وفي عالم من العولمة الإقتصادية، فإن جميع البلدان تعتمد إلى حد ما على قوة سوق خارجة عن سيطرتها المباشرة

    ويقدم جوزيف ناي مثالاً عن أحد مساعدي الرئيس بيل كلينتون الذي قال عندما كان هذا الأخير يعرض الموازنة الإتحادية لعام 1993، بأنه لو قُدر له أن يولد من جديد فإنه يجب أن يعود تحت إسم السوق، لأن من الواضح أن هذا هو أقوى العناصر الفاعلة.

    إنطلاقا من الإعتبار المبني على أساس أن الدول تظل هي الوحدات الأساسية في بناء النظام الدولي وتحديد تفاعلاته، توصف القوة بخاصية التمركز الشديد. ولعلّ المثال الأهم هنا هو القوة الأمريكية، فالتمركز في جانبه العسكري يوحي بأن الإنفاق العسكري الأمريكي هو الأعلى عالميا، بل ويتجاوز الإنفاق الجماعي للدول الاثنتين والثلاثين الأقوى التي تليها من حيث مستوى الإنفاق العسكري والقيمة النوعية للموجودات العسكرية

    أما على الصعيد الاقتصادي، فتمثل الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أعلى درجات تمركز القوة الاقتصادية في العالم مع أعلى ناتج محلي إجمالي قومي في العالم، إذ أنه أكثر من ربع الإجمالي العالمي (حتى وإن تعددت هنا وجهات النظر بخصوص معايير السيطرة الإقتصادية).

    وهناك ثلاثة متغيرات تتمركز فيها القوة عالمياً ويمكن تحديدها في

      شمولية القوة العسكرية

     النزعة الإنفرادية في إستخدام القوة ( بعيدا عن المؤسسات والتنظيمات الدولية )

    3- العامل التقني والتكنولوجي المتطور.

    كنتيجة للإنفصال النسبي بين البعدين العسكري والإقتصادي في مفهوم القوة، حيث لم تعد اليوم بالضرورة الدولة القوية عسكريا قوية إقتصاديا، عكس ما كان حاصلا في فترات تاريخية سابقة، ثم إن هذه الظاهرة قد تتسبب في عجز الدول القوية عن مواجهة أخطار بسيطة مثلما حدث في 11 سبتمبر 2001، عندما فشلت القوة العظمى في حماية مواطنيها من ضربات تنظيم القاعدة رغم أن مستوى قوة هذا الأخير تبدو بسيطة أمام حجم الترسانة الأمريكية أما من جهة أخرى، فإن ظاهرة عدم تحولية القوة تفاقمت بفعل الإنتشار في مجال الأمن الذي يسبب تآكل الحدود بين الشؤون الداخلية والخارجية، والحدود بين الإقتصاد والأمن القومي محدثا نقلة

  • كبيرة، حيث إن تطورا في دائرة ما يؤثر بسرعة على الدوائر الأخرى، وهذا الوضع الجديد يتطلب المزيد من

  • التعاضد والدينامية في تطوير الإقتصاد والأمن وفي سياسات حكومية أخرى

  • كما اثرت  الثورة المعلوماتية في القوة مقاسة بالموارد لا بالسلوك، ففي القرن الثامن عشر كان توازن القوى والأرض والسكان والزراعة يوفر أساس هيمنة سلاح المشاة وكانت فرنسا مستفيدة رئيسية من ذلك، وفي القرن التاسع عشر وفرت القدرة الصناعية الموارد التي مكنت بريطانيا وفيما بعد ألمانيا من السيطرة، وفي منتصف القرن العشرين ساهم العلم وخصوصا الطبيعة النووية في تزويد الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي(سابقا) بالمصادر الأساسية للقوة وفي القرن المقبل من المرجح أن تكون تكنولوجيا المعلومات بمعناها الواسع أهم مصادر القوة[11].

    و يرى جوزيف ناي أن القوة العسكرية والقوة الإقتصادية معا مثالان على القوة الصلبة الآمرة التي يمكن إستخدامها لإقناع الآخرين بتغيير مواقفهم، فالقوة الصلبة يمكن أن تستند إلى محاولات الإقناع (الجزرة) وإلى التهديدات (العصا). غير أن هناك طريقة مباشرة لممارسة القوة، فقد يحصل بلد ما على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية لأن بلدانا أخرى تريد أن تتبعه معجبة بقيمه وتحذو حذوه وتقتدي بمثاله متطلعة إلى مستواه من الإزدهار والإنفتاح. وبهذا المعنى فإن وضع جدول الأعمال في السياسة العالمية وإجتذاب الآخرين إليه، له أهمية تعادل تماما أهمية إجبارهم على التغيير بإستخدام الأسلحة العسكرية أو الإقتصادية أو التهديد بإستخدامها

    وهذا الجانب من القوة هو ما يعبر عنه ناي بـ القوة الناعمة الطرية  التي تشير إلى القدرة على تحقيق النتائج المنشودة لأن الآخرين يريدون ما تريد، وهي القدرة على تحقيق الأهداف عن طريق الإستمالة لا الإكراه. وهي تنجح بإقناع الآخرين بأن يتبعوا القواعد والتقاليد التي تنتج السلوك المنشود أو حملهم على الموافقة عليها، والقوة الناعمة يمكن أن ترتكز على جاذبية أفكار المرء أو ثقافته أو القدرة على تحديد الموضوعات عن طريق المعايير والتقاليد التي يفضلها الآخرون، وهي تتوقف -إلى حد كبير- على قدرة المعلومات المجانية التي يسعى طرف ما إلى بثها على الإقناع، وإذا إستطاعت دولة ما أن تجعلها قوتها أمرا مشروعا في أعين الآخرين، وأن تنشئ تقاليد دولية تشجع الآخرين على تحديد مصالحهم بطرائق مناسبة، فإنها لاتحتاج إلى بذل قدر يعادلها من الموارد الاقتصادية أوالعسكرية التقليدية الباهضة التكاليف

    والحقيقة أنه على مر التاريخ فهم الأكاديميون وحتى القادة السياسيون حقيقة البعد غير المادي في ممارسة القوة، فـ ” أنطونيو جرامشي” على سبيل المثال أدرك قوة الدولة المستمدة من وضع برنامج عمل مشترك مع الأخرين

    وقد إنطلق ناي من مقارنة سلوك الآباء في تربية أبنائهم فهو يفرق بين الأب الذي يقوم بتنشئة أطفاله وفقا لقيم ومعتقدات صحيحة، وبين الذي يعتمد على الضرب في التربية. ونتيجة ذلك أن قوة الأول ستستمر لأنها بنيت على الترغيب، بينما يولد سلوك الأب الثاني ردات فعل عدوانية بسبب العنف في التنشئة.

    إذن القدرة على تكوين تفضيلات الآخرين تميل إلى الإرتباط بمصادر القوة غير الملموسة مثل جاذبية الثقافة وإيديولوجية المؤسسات، فلوكان بمقدوري أن أجعلك تفعل ما أرغب فيه أنا حينئذ لا أكون مضطراً إلى إجبارك على عمل شيء لا تريده أنت. فلو مثلت الولايات المتحدة القيم التي يرغب الآخرون في إتباعها، فإن هذا سيكلفها القليل في القيادة. وعليه فالقوة الرخوة ليست مماثلة للنفوذ لذلك فهي تصبح مصدرا من مصادر النفوذ

    لقد اتفق ناي مع صاموئيل هنتنغتون بخصوص درجة الإرتباط والتلازم بين القوة الصلبة والقوة الناعمة، عندما قال بأن النجاح المادي يجعل من الثقافة والقيم والمؤسسات تحمل جاذبية أكبر، أما الفشل الإقتصادي والعجز العسكري فهو يؤدي إلى عدم الثقة بالنفس وأزمة على مستوى هوية الدولة، لكن هذا لم يمنعه من الإختلاف مع هنتغتون في زعمه أن القوة الرخوة تستند دائما إلى أساس من السلطة الصلبة، وقد دلّل ناي فكرته بمثال عن بعض الدول كالسويد وكندا والتي لها تأثير أكبر من تأثير دول أخرى لها قدرات عسكرية وإقتصادية مماثلة، ونفس الشيء ينطبق على الفاتيكان الذي لم يفقد قوته اللينة رغم أن حجم الدول التابعة له قد تضاءل فقد كشفت نهاية الحرب الباردة عن طريقة غير مباشرة لممارسة القوة والنفوذ، فيمكن لدولة ما أن تحصل على النتائج المرغوبة في السياسة العالمية لأن هناك دولاً أخرى ترغب في إتباعها إعجاباً بقيمها ومحاكاةً لنموذجها وإستلهاماً لمستوى رخائها الإقتصادي وإنفتاحها السياسي

    بقلم

    Dr. HAKIM GHERIEB

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button