اصدارات الكتب

عرض كتاب سيكولوجية السياسة العربية العرب والمستقبليات

علم المستقبليات من أحدث العلوم الإنسانية وهو مرتبط مباشرة بالعلوم النفسية. فالتعرف إلى نمط سلوك فرد أو جماعة معينة من شأنه أن يساعدنا على توقع ردود الفعل المحتملة لصاحب هذا السلوك.بهذا تتبين لنا العلاقة الوثيقة والعضوية بين السيكولوجية وبين المستقبليات. لكن هذه الأخيرة لم تظهر إلى حيز الوجود إلا بدعم من السياسة وتحديداً بسبب حاجة السياسة إلى علم ضابط ومعياري للاقتراحات الاستراتيجية المبنية على قواعد التحليل الذاتي للعاملين في مجالها. وبما أن السياسة لا تتحمل الأخطاء الاستراتيجية فقد كان من الطبيعي أن تسعى جاهدة للبحث عن وسائل قياس وحكم موضوعيين للطروحات الاستراتيجية.
وإذا ما استثنينا بعض الترجمات العربية لعدد محدود من كتب المستقبليات (مثل تحول السلطة وصدام الحضارات .. الخ) يمكننا القول بأن المكتبة العربية خلو من هذه الدراسات والكتب. ونحن نرى في المقابل اكتظاظ هذه المكتبة بمئات الكتب التي تناقش العولمة وتتوزع مواقف قبولها ورفضها ثم الإقبال عليها بشروط .. الخ.

أمام هذه الوقائع رأينا لكتاب “سيكولوجية السياسة العربية – العرب والمستقبليات” أهمية فائقة. خصوصاً وأن مؤلفة الدكتور محمد أحمد النابلسي هو أحد أهم الأطباء النفسيين العرب وأكثرهم اهتماماً بفرع الطب النفسي – الاجتماعي بمتفرعاته بما فيها الطب النفسي السياسي.

أصبح استخدام العلوم النفسية في الميدان السياسي كظاهرة متفشياً على مستوى الدول العظمى منذ أمد ليس بالقصير. فقد جرى التركيز الإعلامي المكثف خلال عقود على إساءة استخدام العلم النفسية (الطب النفسي خاصة) في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية سابقاً، حيث كان المعارضون السياسيون يُحوَّلون إلى المصحات العقلية وهنالك توضع لهم التشخيصات المناسبة لبقائهم في هذه المصحات حتى أدى هذا التركيز إلى رفض عضوية الاتحاد السوفييتي في الجمعية العالمية للطب النفسي (قبلت عودته إليها في مؤتمر أثينا العام 1989).
في المقابل فقد تكتمت الولايات المتحدة وعدة دول غربية أخرى على إساءة استخدامها لهذه العلوم بدءاً من استخدام مخدر L.S.D في التحقيقات (مما أدى إلى انتشاره في ما بعد كمخدر) ووصولاً إلى الجراحة الدماغية مروراً باستخدام السيكولوجيا الجماعية وتسخيرها في خلق الإيحاءات التي تدفع الجمهور بالاتجاه المناسب للسياسة الأميركية. وهذا ما دفع المفكر الأميركي نعوم تشومسكي لتخصيص فصل خاص في كتابه “قراصنة وأباطرة” للمقارنة بين التجاوزات الأميركية (التي جعلتها القوة والسيكولوجيا مباحة) وبين الإدانة الجماهيرية (الرأي العام الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة) للتجاوزات السوفيتية الأقل حجماً ووقاحة كما يقول تشومسكي. لكن نقطة ضعف السيكولوجيا السياسية هي أنها تعطي مفعولاً قابلاً للارتداد. فهذه الإيحاءات (المواجهة للجمهور الواسع) هي كناية عن تنويم مغناطيسي جماعي لكنه مؤقت. على أية حال فإن أصعب أزمات علم السياسة هي تطور فروعه على حسابه كأصل. إذ أن علم السياسة التقليدي خسر مكانته تدريجياً بسبب السرية المحاطة به والتي حاولت تكريسه كموهبة غير قابلة للتدريس. في حين تمكنت العديد من الفروع المنتمية أصلاً إلى علم السياسة من تكريس أكاديميتها وقابليتها للتدريس وللقياس العلمي.
وهكذا تطورت علوم من نوع علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والاقتصاد والإحصاء وحتى المستقبليات على حساب علم السياسة. الأمر الذي أدى إلى تراجع المفهوم الشمولي لعلم السياسة وحوّله إلى مجموعة غير متماسكة تدعى بالعلوم السياسية. ومن هنا القول أن التعمق في دراسة أي موضوع سياسي يقود للاستعانة بعلوم أخرى حتى تبدو السياسة وكأنها منساقة قسراً لهذه العلوم. هذا الانسياق يبرر تنوع وتقرع التطبيقات التي أوردها المؤلف في هذا الكتاب، كما يشرح العلاقة التبادلية المعقدة بين السياسة وعلم النفس ويفسر وجود علوم وسيطة بينهما والغاية فهم الظاهرة السياسية من خلال التعرف على جذورها النفسية في التكوين الجماعي أو الفردي.

بداية يقوم النابلسي بتعريف القارئ العربي بقائمة من أهم وأشهر كتب المستقبليات. فيعرض لها ولأفكارها الأساسية ولمنطلقاتـها النظرية. ثم ينتقل لإبداء رأيه بهذه المنطلقات. السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ” هل يمكن للمؤلف أن يختصر مثل هذه الكتب في عدة صفحات بالرغم من حداثة طروحاتها وصعوبتها؟ .
ونجد الجواب في مجلة ” شؤون خارجية” وتحديداً في مقالة نشرتها المجلة في أربعة صفحات فقط. وكانت بعنوان ” صدام الحضارات” لصموئيل هنتنغتون. وكانت هذه الصفحات كافية لتلخيص الرؤية المستقبلية للمؤلف، وعندما وسعها المؤلف وأصدرها في كتاب فإنه لم يضف إضافات أساسية هذه المقالة. لكنه استغل مساحة الكتاب للدخول في شروحات تفصيلية. وبهذا تتأكد لنا امكانية اختصار هذه الكتب وعرضها في صفحات قليلة على غرار ما فعله المؤلف الذي يعرض للكتب التالية: “تحول السلطة” و “على طريق حضارة عالمية جديدة” و ” صدام الحضارات” و “تآكل المصالح الأميركية” و ” الألفية الجديدة” و ” خرافة المواجهة” و” نهاية العلم” و ” الصراع الداخلي” و “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” و “مثلث الشؤم” و ” قراصنة وأباطرة” و “الأنظمة العالمية – قديمها وحديثها” و ” إله المعارك – الحروب المقدسة” و ” العولمة” و” النظر غير المتساوي”.
بعد هذا العرض الشامل لأهم النظريات المستقبلية ينتقل المؤلف لعرض الراهن السياسي العالمي الذي تنطلق منه هذه الدراسات المستقبلية. حيث يعتمد هذا الراهن على عنصرين أساسيين هما:

1- المعلوماتية وثورة الاتصالات.

2- العولمة بوجوهها المختلفة والاقتصادي منها خصوصاً.

فيتطرق إلى مناقشة سيكولوجية للمعلومات ولإمكانية توظيفها في اتجاهات خاطئة وبالتالي إمكانية إساءة استخدامها. ثم يربط النابلسي بين المعلوماتية وبين العولمة فيرى أن مزيجهما يمكنه أن يكون قاتلاً. ويمكن تبسيط وجهة نظره بالقول بأن عولمة المعلومات المختصة ببيئة معينة يمكنه أن يجلب الأذى إلى البيئات الأخرى المتعولمة. والمؤلف يناقش هذه المواضيع على صعيد نظري-اختصاصي لكنه صعيد لا يقبل الفصل عن الصعيد السياسي.
ويأتي الكتاب إلى محاولة تطبيق هذه المعطيات المتحكمة بالسياسة العالمية في مجال الصراع العربي – الإسرائيلي. فنراه يناقش مواضيع: سيكولوجيا الأسطورة في الإرهاب الصهيوني والأساطير الإسرائيلية المؤسسة للقرار 425. كما يتطرق لمناقشة أزمة الانتماء لدى اليهود الإسرائيليين والقوة النووية الإسرائيلية كما عرض هذا الفصل لمشروع المؤرخين الإسرائيليين الجدد بوصفه مشروعاً لما بعد الصهيونية. وقضية الصراع بين العرب وإسرائيل تعيد طرح أزمة الاتصال بين العرب والنظام العالمي الجديد وإشكاليات هذا التواصل. حيث يرى المؤلف عبثية الخطاب العربي العاجز عن التوجه في زمان العولمة. ويشير إلى أزمات الخطاب السيكولوجي العربي.

وذلك انطلاقاً من قناعة المؤلف بأن البراغماتية هي من نتاج الفكر السيكولوجي. وبالتالي فإن النابلسي يعطي للسيكولوجيا دور البديل العملي للإيديولوجيات. وهذا البديل وإن كان قاصراً ولكنه سائد وصالح للاستخدام في زمن العولمة. ومن هنا أهمية مناقشة أزمات الخطاب السيكولوجي العربي. وعلى الطرف الآخر يجهد المؤلف لتقديم صورة موحية وموضوعية عن واقع الولايات المتحدة. فهو يرى أن استيعاب هذا الواقع ضروري لإقامة علاقة حد أدنى مع القطب الأوحد. لذلك نراه يتطرق لمواضيع من نوع: انحرافات الرؤساء الأميركيين والميليشيات الأميركية البيضاء (العنصرية) والقوة اليهودية في أميركا ومن ثم فهو يقدم تحليلاً نفسياً لشخصية الرئيس كلينتون. لينهي فصله بمناقشة التهمة الملصقة بالعرب وهي تهمة “الإرهاب”. وهو موضوع لا يزال مثار نقاشات على أكثر من صعيد.

الفصل السادس يخصصه المؤلف لدراسة سيكولوجية للكوارث العربية متخذاً من الكوارث اللبنانية نموذجاً لدراسته. ويليه فصل سابع بعنوان : ” الشخصية العربية في عالم متغير” وثامن بعنوان “سيكولوجية الشائعات”. أما الفصل العاشر والأخير فيحمل عنوان ” السيكولوجيا في مجال التجسس” .

والكتاب يعتمد منهجية مخالفة بعض الشيء وهو يخرج على مألوف ما يسمى بكتب المقالات المجمعة. حتى يبدو أن هذا الطراز من الكتب سيكون غالباً خلال الفترة القادمة. فالمؤلف يعرض لثلاثين كتاباً من أهم كتب الفكر السياسي المعاصر ويقدم رأيه في طروحاته. ولم يكن المؤلف ليواجه صعوبة تذكر لو أنه حاول صياغة هذه العروض بحيث يحول آراءه وانتقاداته إلى محور ويحول الكتاب المعني إلى مرجع. إلا أن هذه الحيلة قد لا تكون نافعة في عصر الاتصالات. ولعل المؤلف أراد إبقاء المقالات على الحال التي نشرت فيه، مع ذكر مكان النشر وتاريخه، للحفاظ على أسبقيته في نشر بعض التوقعات المستقبلية والآراء المعارضة لطروحات سائدة. مثال ذلك تساؤله عما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تصر على العولمة أن هي رأت فيها أضراراً بالمصالح الأميركية؟ وأيضاً تساؤله هل يتخلى كلينتون عن سياسة ” الاحتواء المزدوج” ليبدلها ب ” سياسة التفتيت العنقودي؟ وهو تفتيت تتبدى علائمه حالياً في يوغوسلافيا وإندونيسيا والقوقاز .. الخ.

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى