دراسات سوسيولوجيةدراسات شرق أوسطية

علل الثقافة السياسية وبؤس الأمن المجتمعي العربي

يمكن التعريف الثقافة السياسية في علاقتها بالأمن المجتمعي بأنها فن إدارة الخلاف السياسي وقضايا التنوع بطريقة سلمية؛ وفي بعدها الوظيفي، تعرف بأنها فن إدارة المساومات بين المكونات المجتمعية المختلفة على مسرح المجتمع الواسع، وذلك اقتباسا من فهم الوظيفيين السوسوليوجيين للمجتمع الوظيفي. في كلا المفهمتين، تؤدي الثقافة السياسية تدريجيا نحو الأمن المجتمعي وتثبيت الاستقرار الأمني داخل المجتمعات؛ والأعمق من ذلك، توجيه الجماعات والأفراد نحو الغايات الجوهرية ذات المضامين الوظيفية والحقيقية التي تتخطى آثارها أو مخرجاتها لكل القطاعات المجتمعية والأنشطة الاقتصادية المختلفة.

عند إسقاط هذا المضمون للثقافة السياسية على المجتمعات العربية، نجد أنها تعاني من علل كثيرة ومتنامية عبر الزمن، بسبب غياب فن إدارة الخلافات السياسية والمجتمعية وفي نفس الوقت انحراف المجتمعات عن الغايات الوظيفية واستبدالها بنظريتها العيوب الوظيفية. على اعتبار أننا إذا قمنا بشخّصين المصادر الرئيسية للأزمات الأمنية وعدم الاستقرار المجتمعي الذي يجتاح المنطقة العربية، وانهيار عمليات التحول الديمقراطي على عكس المناطق الأخرى من العالم الثالث، نجد أنها ترجع إلى غياب فن إدارة الخلافات السياسية من قبل النخب السياسية، سواء في المعارضة أو الحاكمة؛ واستبداله بثقافة الإقصاء، وإلغاء الآخر.

ترجع الأزمة السورية في عمقها إلى عدم قدرة الحكومة والمعارضة على تطوير آليات إدارة الخلاف السياسي واللجوء بدلا من ذلك إلى العنف المسلح واستخدام القوة العسكرية التي لم تمكّن أي طرف من تحقيق نصر حاسم على الآخر. ونفس الحكم ينسحب على الأزمة الأمنية في العراق، القائمة على الإدراكات السياسية الضيقة الرافضة للآخر تحت مسميات مختلفة: المذهبية، البعثية، الإرهاب، الوهابية.. ونفس الشيء بالنسبة للأزمة الأمنية-السياسية في مصر منذ عام 2013، عندما رفضت المعارضة حكم النخبة التي كانت بالأمس القريب في صف المعارضة؛ واستبدلت بمقاربة ملأ السجون، وإلقاء وصف الإرهاب، العنف ضد الأقباط، مكافحة التطرف، تصدير الأزمة إلى غرب السودان وأخيرا إلى ليبيا.

الأسوأ من ذلك، أن علل الثقافة السياسية تموّل بواسطة المال الخليجي (دولة الإمارات العربية على وجه التحديد) من أجل فقط إثبات أن المنطقة العربية ليست راشدة لتحمّل مسئولية التحول الديمقراطي، وأن الديمقراطية تعني انهيار الأمن؛ ومن ثم لابد من محاربة وملاحقة وسجن وشنق وتشويه كل من يطالب بالتحول الديمقراطي في هذه المنطقة البائسة من العالم.
لا تتوقف علل الثقافة السياسية عند ضعف النخب في إدارة الخلافات السياسية والمجتمعية، وإنما تمتد لتشمل عدم قدرة المجتمعات على تحمل أعباء التحول الديمقراطي والصبر على الفترة الانتقالية، بحيث ساد اعتقاد عام منذ 2013 بأن صعود الحكومات الجديدة يعني آليا اختفاء كل الأزمات والمشاكل دفعة واحدة، واختصار مفهوم الديمقراطية الشعبية في الخروج المتكرر إلى الشوارع والضغط على الحكومات الجديدة من أجل تحقيق السريع للمطالب، دون أخذ بعين الاعتبار قلة الخبرة في السياسة وندرة الموارد وأعباء تركة النظام السابق، خاصة وأن الأنظمة السابقة لم تسمح للنخب السياسية المشاركة التدريجية في الحكم من اجل التعلم والتدريب على إدارة الدولة.

هناك عدة أمثلة للحالة الأخيرة، آخرها الإضرابات والاحتجاجات الشعبية في تونس، والاحتجاجات الشعبية الأخيرة الجارية في المغرب. الجانب الخطير في المثال المغربي، أن الصحافة العربية انساقت وراء الصحافة الفرنسية في تأجيج الاحتجاجات في الحسيمة التي تحمل في مضامينها اعتبارات اثنية واضحة، وبالتالي فهي تلعب بالنار؛ لأنه من الممكن أن تمتد الصراعات الاثنية عبر المغرب العربي وتمزق المنطقة على شاكلة النموذج الكردي في الشرق الأوسط. يضاف إلى الحالة المغربية، الأزمة الليبية التي تتجه تدريجيا نحو الحرب الأهلية بدفع وتحريض من مصر والإمارات العربية المتحدة، تحت مناخ الانقسام الدولي الواضح حول قضايا السياسة الدولية. إنها علل الثقافة السياسية الموّلدة لبؤس الأمن المجتمعي العربي.

د/عامر مصباح جامعة الجزائر 3

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى