القاموس السياسيدراسات سياسية

في مفهوم “اليسار الليبرالي”

حسام الدين درويش – مركز أسبار
يبدو مفهوم/ مصطلح “اليسار الليبرالي” إشكاليًّا، على الأقل، ومتناقضًا ذاتيًّا، وخاليًّا من المعنى، المتسق ذاتيًّا، على الأكثر. وتتأتى إشكالية المفهوم/ المصطلح من مفهوم “اليسار”، بالدرجة الأولى، ومن السمة “الليبرالية” لهذا اليسار، بالدرجة الثانية. فمن ناحيةٍ أولى، ما عاد الانقسام “يمين/ يسار” واضح المعالم والمضامين، ولا مهيمنًا على مستوى الممارسات الأيديولوجية والتصنيفات النظرية، كما كان الحال في القرن المنصرم، فافتقد مفهوم “اليسار” لإحالة واضحة على الواقع، ولقدرةٍ على تشكيل رؤيتنا له وشرحه أو تفسيره، كما افتقر إلى مضمونٍ دلاليٍّ واضحٍ يحدد أبعاد معناه ودلالاته بالنسبة إلى (بعض) أهم القضايا الأساسية الراهنة: قضية الديمقراطية، مثلًا وخصوصًا. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يبدو الجمع بين اليسارية والليبرالية غريبًا على أقل تقدير، لتمايز الطرفين تاريخيًّا في الفكر والممارسة، تمايزً كبيرًا. وسأشرح فيما يلي بشرح بعض جوانب هذا التمايز، ثم سأحاول تحديد ماهية مفهوم “اليسار الليبرالي”، ومدى معقوليته، في الفكر والممارسة. وككل حديثٍ عن الماهيات، فإن حديثي عن ماهية المفهوم لن يقتصر على ما هو كائنٌ، فحسب بل سيتضمن، أيضًا وبالضرورة، ما ينبغي أن يكون.
القيمة الأساسية التي يتبناها عموم اليسار هي قيمة المساواة/ العدالة الاجتماعية، في حين أن الحرية أو الحريات هي القيمة الأساسية لدى الليبراليين. لا يولي اليسار أهمية (كبيرة) للفرد بوصفه فردًا، وإنما يحصر كل اهتمامه تقريبًا بالجماعات (الاقتصادية)، ممثلةً بمفهوم الطبقة، بالدرجة الأولى؛ في المقابل، الحريات التي يتأسس عليها الفكر الليبرالي هي، بالدرجة الأولى، حريات الأفراد. وينظر اليسار إلى السياسة من منظور الاقتصاد، بالدرجة الأولى، فيما يمكن لليبراليين أن يقولوا بوجود استقلال، جزئيٍّ ونسبيٍّ، لكن أساسيٍّ، بين الميدانين. وحتى حين يقولان بتلازمهما، يبدو الاقتصاد متأسِّسًا على السياسة (ديمقراطية النظام السياسي)، وليس العكس. في المقابل، يبدو الفكر اليساري كونيًّا/ عالميًّا، وهنا تحديدًا تكمن إحدى أهم نقاط قوته وضعفه، في الوقت نفسه، فمن جهةٍ أولى، يبدو أنه يملك رؤيةً أساسيةً لا تتغير بتغيُّر السياقات المحلية، فهو، في كل الأحوال، منشغلٌ، انشغالًا حصريًّا أو خاصًّا، بمناهضة الامبريالية (العالمية) والنظام الرأسمالي (العالمي) واستغلاله الاقتصادي وهيمنته … إلخ. لكن عدم حساسية اليسار للخصوصيات المحلية واختلاف السياقات المحلية، وخصوصيتها، وتمايز أوضاعها ومشاكلها يجعله مغتربًا عن الواقع الذي يشرحه، وعن الناس الذين يُفترض به التعبير عن عمومهم وتطلعاتهم والدفاع عنها، في التنظير و/ أو الممارسة الفكرية السياسية. في المقابل، يبدو أن كونية الفكر الليبرالي تتحلى غالبًا بمرونة أكبر للتفاعل تفاعلًا مناسبًا مع اختلاف السياقات وخصوصياتها المتمايزة، لكن هذه المرونة ليست كافية عمومًا لأن تأخذ بعين الاعتبار أهمية البعد الاقتصادي (الكوني) ومسائل العدالة الاجتماعية، لأن هذه المسائل لا تدخل في اهتمام الليبراليين، أو هي ليست من ضمن أولوياتهم “أصلًا”.
استنادًا إلى ما سبق، يمكن التشديد مبدئيًّا على أمرين: من جهةٍ أولى،  إن الفكر اليساري، مثله مثل فكر الليبرالية السياسية، أفقر من أن يمتلك رؤية شاملةً أو كافيةً تتناول كل، أو حتى أهم، المشكلات العملية، والإشكالات النظرية، المرتبطة بالواقع السياسي المعاصر. فالاهتمام الليبرالي بالفرد يتم على حساب إهمال الجماعات الاقتصادية أو غير الاقتصادية، والنظرة اليسارية الاقتصادية تتجاهل الخصوصيات السياسية المحلية وأولوية الديمقراطية والحريات الفردية، والاهتمام الليبرالي بالحريات يترافق غالبًا مع تجاهل مسألة العدالة الاجتماعية،… إلخ. ومن جهةٍ ثانيةٍ، يبدو تمايز اليسار والليبرالية كبيرًا، إلى درجةٍ يمكن الحديث معها عن كون كلٍّ منهما نقيضًا للآخر. لكن على العكس مما يبدو لوهلةٍ او اكثر، فإن هذا التناقض لا يعني عدم إمكانية تكاملهما في رؤيةٍ جدليةٍ بناءةٍ، فالتناقض هو شرطٌ لأي تكاملٍ، وليس نفيًا ضروريًّا له. وتتعزز هذه الإمكانية النظرية المبدئية للتكامل بين الطرفين/ النقيضين، إذا أخذنا في الحسبان افتقار كل فكرٍ للفكر الآخر، وحاجته إليه، معرفيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا. فعلى سبيل المثال، لا ينبغي لنا أن نكون مضطرين للاختيار بين الحريات الليبرالية والعدالة الاجتماعية اليسارية، أو بين الفردية الليبرالية والانتماءات الليبرالية، الجماعية أو حتى الجماعاتية. وفي العقود القليلة الماضية، ازداد إدراك كثير من المنظرين والسياسيين لزيف مثل تلك التخييرات، وظهرت نسخٌ مختلفةٌ من “اليسار الليبرالي” أو “الليبرالية اليسارية”، بتسمياتٍ ومضامين مختلفةٍ، تبعًا ﻟ “درجة” ليبراليتها أو يساريتها، ونوعها، ووفقًا للسياقات المحلية لتبنيها و/ أو تطبيقها، والمشكلات العملية و/ أو الإشكاليات النظرية التي تتصدى لها.
يبدو ارتباط اليسارية بالليبرالية، وإقامة جدلٍ منتجٍ بينهما، ممكنًا بقدر إمكانية الفصل الجزئي والنسبي بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية، في صيغها النيو ليبرالية الأكثر “تطرفًا”، على الأقل. فالارتباط بين الليبراليتين هو رباطٌ تاريخيٌ وسياقيٌّ، أكثر من كونه رباطًا ماهويًّا و”طبيعيًّا”. والجدل بين اليسارية والليبرالية يعني إقامة جدلٍ بين التحرر اليساري والحريات الليبرالية. فالتنظير للعدالة الاجتماعية وللتحرر من الاستغلال الاقتصادي أو غير الاقتصادي، أو السعي العملي إلى تحقيق هذا التحرُّر، ينبغي أن يفضي إلى، أو يتأسس على، أو يترافق مع، إقرارٍ، أخلاقيٍّ وسياسيٍّ، بأولوية الأفراد وحرياتهم الأساسية، المدنية والسياسية، وتلك التي تتضمنها منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. في المقابل، وانطلاقًا من تمييز “إشعيا برلين” المهم، بين “الحرية السلبية أو حرية عدم تدخل الآخرين” و”الحرية الإيجابية”، يمكن القول إن تطعيم الليبرالية باليسارية يساعد على أن تكون الحريات التي تتبناها الليبرالية هي حريات إيجابية وفعلية، وليست مجرد حرياتٍ سلبيةٍ وشكليةٍ. فاليسار يشدَّد على أهمية القدرة على ممارسة الحريات، وإلا لكانت تلك الحرية سلبيةً، منطقيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا. فالتحرر/ التحرير ينبغي ان يهدف إلى تمتع الناس بكل حرياتهم الممكنة، وبدون ذلك، لن يكون التحرر إلا انتقالًا من طغيانٍ أو استبدادٍ إلى طغيانٍ أو استبدادٍ آخر. وقد حصل ذلك بالفعل في كثير من الدول والمنظمات والتنظيرات اليسارية.
هذا الجدل المنتج الممكن/ والمطلوب، بين الليبرالية واليسارية، هو جدلٌ منتجٌ أو إيجابيٌّ بين التحرر الاقتصادي- السياسي والحريات السياسية؛ وهو أيضًا جدلٌ منتجٌ أو إيجابيٌّ بين تحرر/ حريات الأفراد وتحرر/ حريات الجماعات الاقتصادية أو السياسية أو العضوية. فالإنسان ليس مجرد ذرةٍ معزولةٍ، وإنما هو كائنٌ ينتمي بالنسب و/ أو الانتساب، وبالوعي و/ أو بحكم الأمر الواقع، إلى جماعاتٍ مختلفةٍ. والتنظير لحريته وتحرره، والسعي إليهما ينبغي أن يأخذ في الحسبان هذا الجانب المزدوج المحايث لماهية الإنسان وتاريخيته. واتسام اليسار بالليبرالية يجعله منتبهًا، بل ومتنبهًا، إلى فردية الإنسان وحرياته الفردية، أما التبني الليبرالي لليسارية فيجعلها واعية بأهمية انتماءات الإنسان الجماعية- الاقتصادية. والتفاعل الإيجابي بين اليسار والليبرالية يسمح لكليهما بتضمين حريات وتحرر الجماعات العضوية والهوياتية في برامجهما، من دون إنكار أولوية حقوق الإنسان/ الفرد الأساسية، وبدون الانزلاق إلى سياسات الهوية التي تحاول أن تجعل سياسات الاعتراف الهوياتية بديلًا عن مطلب التوزيع العادل للثروة، كما تحاول اختزال الإنسان في انتماءات قائمةٍ على النسب اللاإرادي، متجاهلةً، في الوقت نفسه، انتساباته الإرادية، وفرديته المتمايزة عن الجماعات التي ينتمي إليها، وعن الفرديات الأخرى التي تشاركه هذا الانتماء أو ذاك.
يسمح مفهوم “اليسار الليبرالي”، وما يوازيه أو يشبهه، بإقامة تلازمٍ ضروريٍّ بين العدالة الاجتماعية والحريات، بين النضال من أجل التحرر، في المستوى العالمي، من الهيمنة الاستغلالية للإمبريالية والرأسمالية العالمية، والنضال من أجل التحرر المحلي، من الاستغلال والاستبداد والتضييق على الحريات. وإذا كانت الديمقراطية “الجديرة” بهذا الاسم، في عالمنا المعاصر، هي ديمقراطيةٌ ليبراليةٌ بالضرورة، لكونها ترى في الحريات الفردية (أحد) أهم أسسها، فإن إهمال النظام الديمقراطي لمسألة العدالة الاجتماعية وعدم اتسامه، أو اتسام المجتمع، بها، هو طعنٌ في ديمقراطيته وانتقاصٌ منها بالتأكيد. فالتفاوت الهائل في الثروات وتركزها في أيادي فئةٍ/ فئاتٍ قليلةٍ من الناس، يجعل حريات الأغلبية الساحقة/ “المسحوقة” منهم مجرد حرياتٍ سلبيةٍ وشكليةٍ، بحيث لا يكون هؤلاء الناس قادرين فعلًا على ممارسة معظم الحريات التي يتمتعون بها نظريًّا، بل يكونون غالبًا منفعلين ومضطرين، أكثر من كونهم فاعلين ومختارين، ومحكومين من قبل غيرهم، وخاضعين او مذعنين لهم، أكثر من كونهم “أسيادًا لأنفسهم”.
نخلص إلى القول بالمعقولية والمرغوبية، الجزئية والنسبية، لمفهوم “اليسار الليبرالي”، وبإمكانيو تضمنه جدلًا إيجابيًّا ومنتجًا بين الحرية والتحرر والتنافس والمساواة والعدالة الاجتماعية، بين فردية الفرد وانتماءاته الجماعية، بين الحريات السياسية والحريات الاقتصادية، بين الرؤية النظرية والممارسة العملية في الصعيدين المحلي والعالمي. لكن هذا لا يعني بالتأكيد، نفي إمكانية وفعلية وجود جدلٍ سلبيٍّ، وتناقضٍ لا يمكن تجاوزه والبناء عليه في مضمون/ مضامين هذا المفهوم أحيانًا. فالجدل الذي يتضمنه هذا المفهوم ليس بالضرورة جدلًا إيجابيًّا منتجًا. فليس نادرًا أن يتضمن التنظير لهذا المفهوم تناقضاتٍ لا تسمح بجدلٍ/ تركيبٍ إيجابيٍّ بين قطبيها، وفي مثل هذه الحالة وذلك السياق، يصبح التوفيق تلفيقًا، والجدل جدالًا، والجدل الهيغلي الإيجابي جدلًا أدورنيًّا ودريديًّا سلبيًّا.

نسخة PDF
 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى