دراسات افريقيةدراسات سياسية

مذكرات شمس بدران: في خزانة أسرار الناصرية

محمد عبدالرحمن عريف

    شمس الدين بدران من مواليد 1929 وهو وزير الحربية المصري الأسبق في عهد جمال عبدالناصر في الفترة ما بين 1966-1967.. وهي الفترة الحرجة في تاريخ مصر والعالم العربي حيث شهدت حرب حزيران أو الأيام الستة والتي هزم فيها العرب. عرف عن شمس بدران أنه كان قريباً من المشير عبدالحكيم عامر وقريباً أيضاً من الرئيس جمال عبدالناصر حيث أن الأخير لم يتوانَ عن تسميته خليفة له حين أقدم على الإستقالة بعد حرب 67.. وهذا رغم قربه الشديد من المشير عامر والذي تمت شيطنته وسجنه وتصفيته كما يدعي شمس بدران في مذكراته. تم إعتقاله هو وستة ضباط كبار كان عامر من ضمنهم بتهمة الإهمال والتسبب بكارثة حزيران وتمت إدانته والحكم عليه بالأشغال الشاقة وتم سجنه فعلاً.. قبل أن يخرج بصفقة سياسية مع السادات بشرط أن يخرج من مصر ويصمت إلى ما شاء له أن يصمت. يقيم حالياً في مدينة بلايموث البريطانية. 

   حين نقبل على قراءة هذا الكتاب، وكما هي العادة، نبحث عن النسخ المتوفرة، فنجد عدة نسخ؛ منها مجموعة من الحلقات التي نشرتها جريدة السياسة الكويتية عام 2014. وهناك نسخة أخرى، بإمضاء حمدي الحسيني.. وقد وجدت بخصوص هذه الأخيرة مداخلة من شمس بدران شخصياً في برنامج على أحد القنوات المصرية يكذب فيها أن له أي علاقة بهذه المذكرات الخاصة بالحسيني.. ويؤكد أنها مكذوبة وليست على لسانه.. وحتى أنه أقر بكونه لم ينشر مذكراته بعد. وأنه سينشرها عن طريق الأهرام. وأعتقد أن جريدة السياسة الكويتية قد اقتطفت ما نشرته من هذه المذكرات الأصلية.. ولكننا نشك بكونها كاملة فهي لا تتجاوز الخمسين صفحة!.

    شمس وزير الحربية فى قصر الرئاسة ومعه آخرون لتقديم شكرهم إلى الرئيس السادات على قراره بالافراج عنهم فى 23 مايو 1974بعد سنوات قضوها فى السجن بدأت فى آب/ اغسطس 1968 وفى هذه المقابلة انشغل الحاضرون بسؤال ماذا سيفعلون فى المستقبل؟.

    سأله السادات “ماذا ستفعل يا شمس؟”. فرد شمس: سوف اسافر؟ واصل السادات وإلى أين ستسافر؟” فاجاب “إلى باريس”.. ودون تردد قال السادات: سوف امنحك جواز سفر دبلوماسي ليسهل عليك عملية السفر والإنتقال.

   كان “بدران يقضى عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة باعتباره المتهم الأول فى قضية “قلب نظام الحكم. .والاستيلاء على السلطة بالقوة”.. وكان معه فيها عباس رضوان وزير الداخلية وصلاح نصر رئيس جهاز المخابرات وحمزة البسيوني مدير السجن الحربي.. وجلال هريدي مؤسس سلاح الصاعقة (وهؤلاء هم المعرفون برجال المشير عبد الحكيم عامر) وكانوا رأس حربة في قصة الصراع الشهير الذي تفجر بين ناصر وعامر بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967وانتهى بنهاية المشير عامر والقبض على هؤلاء الـ50 وتقديمهم إلى المحاكمة.

   قال وزير الحربية الأسبق شمس بدران، الذى كان يعتبر خزانة أسرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، في مذكراته (إنه بعد مرور كل تلك العقود يفتح خزانة أسراره، ويروي للمرة الأولى بعد صمت طويل ما جرى خلف جدران القصور الرئاسية وفي مقرات مفاصل الدولة المصرية). شمس بدران لا يتحدث فقط في الشأن السياسي، إنما يطل على الجوانب الإجتماعية والنفسية في حياة كل شخص من الذين يروي عنهم،كما يكشف عن نزوات بعضهم.

    نقرأ أيضاً قصة تعيينه لساعات عدة رئيسًا للجمهورية كما يكشف عن الأسباب الحقيقية لهزيمة يونيو 1967 وتآمر الروس والأميركيين على بلاده، ودور أنور السادات في توريط مصر بحرب اليمن وعلاقة عبدالناصر بحمزة بسيونى، بالإضافة إلى العديد من الأسرار عن أهل الفن وعلاقتهم بصناع القرار في مصر فى تلك المرحلة. واللافت أن الرجل احتفظ بأسراره لنفسه إذ لا يعرف حتى أفراد أسرته الكثير عن شخصيته العسكرية ودوره في مصر، ولذلك في إحدى المرات كان قد حذر كاتب “حمدى الحسينى” المذكرات من الاستفاضة بالحديث مع زوجته عن شخصيته العسكرية ولهذا فإن ما يرويه شمس بدران هو في جانب منه سبر أغوار هذه الشخصية التي حاولت لسنوات طويلة الاحتفاظ بأسرارها إلى الأبد، لكن هناك في المنفى حيث يقيم في بريطانيا استطاع فتح هذه الخزانة ربما لأن بدران أيقن بعدما وصل إلى هذه السن ما بعد الـ80 أن من حق المصريين عليه معرفة ما خفي عنهم في تلك المرحلة.

   مما يحكيه أنه في 1980 تعاقد على نشر مذكراته التي أرسلها إلى إبراهيم نافع لتنشرها (الاهرام) وحدث أن قام صلاح منتصر المحرر في جريدة الأهرام بنشر خبر على الصفحة الأولى لأحد المتهمين في قضايا السرقة والتهرب من الجمارك، يقول فيه إن شمس بدران كان يمرر الموتوسيكلات على بطنه والحقيقة هنا أنني لم أر هذا المتهم في حياتي، ولم تكن تلك القضايا تخصني، بل كانت المباحث العسكرية تقوم بالتحقيقات في هذا الموضوع بتكليف من عبدالحكيم عامر.. وبعد نشر تلك المقالة قمت بإرسال خطاب بـ«التليكس» لإبراهيم نافع معتذرًا عن تنفيذ العقد لنشر مذكراتي، ليتاخر الأمر حتى 2016?!.

    باح رجل الصمت وقال (بعد النكسة قاد عملية تنفيذ الانقلاب على عبد الناصر بتنفيذ الخطة “نصر”.. وتقضي كما يذكر هو في مذكراته بنقل عامر من طائرة هليوكبتر إلى وحدات الجيش لحشد الرأى العام فيها ضد عبد الناصر ثم نقله إلى القيادة العامة في حراسة قوات الصاعقة ليعلن فيها مطالبه في مواجهة عبد الناصر التي تتضمن اعادة جميع الضباط المفصولين بعد النكسة إلى الخدمة وعودة المحالين للتقاعد والمعزولين).. ويذكر بدران صراحة (أن هذه الخطة تم نقلها إلى امريكا عبر أحد رجال العاملين المصريين الذين كانوا يعملون جواسيس لصالح السفارة الأمريكية بالقاهرة.

   كان صلاح نصر هو صاحب هذا الاقتراح لمعرفته بهذا الجاسوس من خلال رئاسته لجهاز المخابرات، ولم يذكر بدران من هو هذا الشخص ولكنه يؤكد أنه يعمل فى مجال السياحة ومازال على قيد الحياة).. فشلت الخطة بعد أن تم حصار فيلا المشير عامر بالجيزة فى عملية قادها الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية بعد نكسة 1967 واستسلم الضباط جميعًا الذين يقيمون حول المشير. وجرت محاكمتهم جميعًا في محاكمة عسكرية وكان بدران أول المتهمين وحصل على حكم بالاشغال الشاقة المؤبدة.. حتى قرر السادات الافراج عنه.

    يكشف في مذكراته أنه بعد تولي السادات السلطة بعد وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970.. توسط له عدد من الضباط والأصدقاء المشتركين بينهما للافراج عنه وعن الــ”خمسين ضابطًا” الاخرين الذين تم محاكمتهم عسكريًا. ولكن السادات طلب تاجيل هذه الخطوة وانهمك في التخطيط لحرب اكتوبر ونسي الأمر. ثم تذكره بعد النصر شمل قرار الافراج صلاح نصر وعباس رضوان ويتذكر “بدران “بعدها بأيام ذهبنا للقاء السادات في قصر الرئاسة لتقديم الشكر، ولم يطلب منا السادات سوى شيء واحد هو الابتعاد عن العمل السياسىي، وأنه مستعد لتشجيعهم لعمل أي نشاط تجارى بعيدًا عن السياسة.

   يرفض بدران في مذكراته أي كلام قيل عن صفقة وقعها مع السادات للافراج عنه كما ينفي سماح السادات له بتهريب مبالغ طائلة تصل إلى 6مليون جنيه، ى أنه لم يتنازل عن ثروته التي تصل لـ(6مليون) للدولة.. ولم يسمح له بتهريب مبالغ طائلة تصل إلى 6مليون جنيه.. وسافر شمس بدران إلى بريطانيا ليعيش هناك ويتزوج من بريطانية ويرزق منها بأبناء.. والمثير أن اسرته بما في ذلك زوجته لا يعرفون أي شيء عن ماضيه السياسي في مصر كما أكد هو في مذكراته؟!.

     يقول بدران “في أحد الأيام وجدت مأمور السجن أمام ، وقال لي إنه يرغب بالحديث معي في مكتبه وهناك رن جرس الهاتف وسلمني السماعة وغادر.كان المتحدث عبد الناصر، وبصوت مليء بالحزن لم أعهده فيه من قبل عاتبني عتابًا قاسيًا على موافقتي ومشاركتي في الانقلاب -مع جماعة المشير عامر- وأمور من هذا القبيل، ثم أبلغني أنه في أمس الحاجة لوقوفي إلى جانبه، وأنه يثق أنني من داخلى غير راض عما حدث منذ اللحظة الأولى للخلاف بعدها فاجأني أنه مستعد للإفراج عني شرط أن أقدم اعتذارًا مكتوبًا عن مشاركتي في الانقلاب حتى يتسنى له تبرير قرار الإفراج عني أمام الرأي العام لم أعلق على طلبه وأبلغته أنني سوف أدرس الموقف وأرد عليه وأنا في داخلى كنت رافضًا لهذا التصرف مهما كانت النتائج، لأنني عندما قررت الوقوف إلى جانب المشير لم يجبرني أحد على ذلك، وكنت أعلم أن الأمر ربما ينتهي إلى هذا الوضع”.

   يقول “بناء على رفضي الاستجابة أو الرد على طلب عبد الناصر قدمت للمحاكمة على رأس قائمة تضم 50 متهمًا منهم: عباس رضوان (عباس عبد الوهاب أمين رضوان – 1921 2000-) والذى كان واحدًا من ستة ضباط اقتحموا مقر قيادة الجيش واقتادوا كبار قادة الجيش إلى سجن الكلية الحربية، كان له دور بارز في حل أزمة الفرسان 1954 والتى جعلت عبد الناصر يعينه وزيرا للداخلية) وصلاح نصر، وحمزة البسيوني (اللواء حمزة البسيونى تخرج فى الكلية الحربية، وانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار ليشارك في حركة 23 يوليو 1952 وهو برتبة رائد، وكلف بإدارة السجن الحربى في عهد جمال عبد الناصر قبل أن يطلق أنور السادات سراح المعتقلين)، وجلال هريدى (الفريق فخرى (اللواء) جلال محمود هريدي، أسس أول فرقة صاعقة مصرية عام 1955، وقد نجا من حكمين بالإعدام، أحدهما في سورية عندما كان قائدًا للقوات في محافظة اللاذقية خلال فترة الانفصال عن مصر عام 1961، كما حاكمه عبد الناصر بتهمة محاولة قلب نظام الحكم مع 70 ضابطًا ليحكم عليه بالإعدام، وخفف بعدها الحكم إلى السجن المؤبد).

    يقول لم يتوقع ناصر رفضي لكل عروضه مقابل الإفراج عني، فكانت النتيجة أنني أصبحت المتهم رقم واحد في قضية قلب نظام الحكم، والاستيلاء على السلطة بالقوة، تحملت الاتهامات بكل ما تضمنته من تلفيق، وظل يسيطر علي هاجس أن الشخص الذي ينبغي وقوفه في قفص الاتهام هو عبد الناصرنفسه، لأن سياساته المتهورة وأفكاره الأحادية هي التي أدت بنا إلى هذه الحال المتردية ومع ذلك فإن الواقع فى مصر غالبًا ما يأتى على غير المتوقع، كأن هذا الشعب مكتوب عليه أن يزداد الظالم ظلمًا، والفقير فقرًا، والمريض مرضًا والجاهل جهلاً، فلا أمل حتى في الثورة التي تعلقت آمال وطموحات الناس فيها لتخلصهم من الفساد والظلم والتسلط، فإذا بعبد الناصر ينفرد بالحكم ويحدد بمفرده مصير الأمة، كأننا ندور في حلقة مفرغة، والضحية عادة يكون الشعب المغلوب على أمره!.

    يقول “في السحن وبعد المراجعة وصلت إلى أن ديكتاتورية ناصر كانت سبب كل البلاء، وكل الحروب 56 و67.. يقول “واجهت بشجاعة المحاكمة، وفندت التهم التي وجهتها لي هيئة المحكمة التي رأسها حسين الشافعي وأحد أبرز الضباط الأحرار وشارك بدور كبير في نجاح حركة 23 يوليو 1952) تكررت المشادات الساخنة بيني وبين المنصة حول أكثر من نقطة أو تفصيل، لأن مَن يحاكمونني كانوا بعيدين عن السلطة، ولم يكن لدى غالبيتهم ما توافر لدي من معلومات وحقائق، كانوا غير مطلعين عليها، مما أوقعهم في حرج شديد أمام ممثلي وسائل الإعلام المختلفة. طبعًا لم أكن مقتنعًا بالمحكمة ولا بالمحاكمة، هذا ما يبدو من خلال الصور والتسجيلات، فكان لسان حالي يقول للجميع: نحن أبرياء، وإذا أراد عبد الناصر أن يحكم علينا بالإعدام فعليه أن يعدمنا بعيدًا عن مهزلة المحكمة التي كنتُ أراها صورية، وليس لديه أدلة كافية لإدانتنا.

    لم يكن هذا هو انطباعي وحدي، بل يشاركني فيه جميع المتهمين في القضية، لكن كنتُ أنا وصلاح نصر الأكثر شراسة في التعامل مع هيئة المحكمة، لأننا كنا جزءًا مهمًا من نظام عبد الناصر، ونعرف الكثير عن أسلوبه في إدارة شئون الدولة أكثر مما يعرفه.. لم تصدمني الأحكام، بل على العكس توقعت أن يصدر الحكم بالإعدام، لكننى كنتُ واثقًا من أن عبد الناصر لن يوافق على إعدامنا، ولا أعرف الأسباب بدقة، بل كان مجرد شعور تملكني بعد صدور الحكم?!.

    تكررت محاولات عبد الناصر بالعفو عني، وربما عن صلاح نصر وعباس رضوان، لكن المؤكد أنه كان يأمل في إخراجي من السجن لمساعدته في السيطرة على ملف القوات المسلحة، لأنه لا يأمن لغيري تنفيذ هذه المهمة، وهو واثق ومطمئن. وكما تكرر عرضه بالإفراج عني تكرر أيضاً رفضي تقديم الاعتذار، واستمر الأمل يراود عبد الناصر أن أعتذر وأندم على انضمامي إلى جانب المشير حتى وافته المنية، وبقي كل منا على موقفه، هو أصر على أن يقدمني للمحاكمة، وأنا أنفذ الحكم القاسي، ومن جانبي قررت تحمل تبعات قراري مهما كانت المعاناة.

    لا أعرف على وجه الدقة لماذا اتخذتُ هذا الموقف من جمال عبد الناصر؟. رغم قربي منه، وثقته في، واهتمامه الدائم بي منذ أن تقابلنا للمرة الأولى على أرض فلسطين حتى يوم 7 يونيو 1967 في أعقاب الهزيمة، وتراجعه في آخر لحظة عن ترشيحي رئيسًا للجمهورية بعد مشاوراته مع المشير التي انتهت باستقالتهما وتكليفي إدارة شئون البلاد كرئيس للجمهورية في مرحلة ما بعد الهزيمة.

    الانهيار المفاجئ للثقة بيننا كان بسبب إحساسي أنه يسعى إلى توريط المشير أو أنا أو أي طرف آخر لتحمل مسئولية أكبر هزيمة تتعرض لها مصر في التاريخ المعاصر، رغم أنه صانع القرار الأول في الدولة، وكان الجيش والشعب يسيران خلفه كالعميان، بسبب الثقة المفرطة فيه، كل هذا جعلني أرفض قبول أي مبادرة للإفراج عني وخصوصًا تلك المشروطة بالاعتذار المزعوم، كما أن ذلك الإفراج كان أيضاً يعني العودة إلى التعاون معه وتحمل المسئولية إلى جانبه، وهذا ما كنتُ قد قررت الإقلاع عنه تمامًا، بل وتعمق لدي الابتعاد عن أي عمل عام أو رسمي.

     لقد اعتاد عبد الناصر مساومتي بهذه الطريقة، حيث أذكر أنه في أثناء أزمته الأولى مع عبد الحكيم عامر عندما لوح المشير بالاستقالة في وجه عبد الناصر، وتحالف مع مجموعة من الضباط الأحرار فيما عرف بــ”الانقلاب السلمي” للحد من انفراده بالسلطة المطلقة وحده عام 1962 حاول عبد الناصر وقتها إقناعي ومساومتي أن أكون وزيرًا للحربية بدلًا من عبد الحكيم عامر، على أن يتم ترقيتي بعد ذلك للرتبة المناسبة لأكون قائدًا عاما للقوات المسلحة، وكنت لا أوافق على هذا التفكير لسببين، الأول أنني لم أكن مؤهلًا لهذه القيادة، فقد كنت برتبة ملازم أول عندما تركت الشئون العسكرية وانتهت مؤهلاتي عند التأهيل الأساسي، وهو فرقة قادة الفصائل، وفرقة الأسلحة الصغيرة وفرقة الشئون الإدارية اللازمة للترقية إلى الرتبة التالية، لكن عبد الحكيم عامر قبل أن يصبح قائدًا عامًا كان في رتبة الصاغ (رائد) وكان من خريجي كلية أركان حرب، وهي أعلى المؤهلات العسكرية في ذلك الوقت، والسبب الثاني هو أنني كنت قد قررت الخروج من الجيش مع عبد الحكيم عامر،حتى أنني عندما أقدمت على الزواج عام 1963 كنت قد أخبرت المهندس مصطفى رشدي والد زوجتي المقبلة، وقبل أن تتم الخِطْبة والزواج أنني لن أبقى في منصبي إلا لفترة قصيرة، وقد أحدث ذلك هلعًا في عائلة الزوجة، مما أدى بالمشير عبد الحكيم عامر إلى أن يدعو المهندس مصطفى رشدي إلى منزله ليطمئنه أنني عندما أترك الحكم فلن أكون معاديًا للنظام، وبذلك حدثت الطمأنينة وتم الزواج.

   بالمذكرات “في أحد أيام سبتمبر عام 1970 كنتُ أجلس في فناء سجن طرة إلى جانب سيف الإسلام حسن البنا ابن مؤسس جماعة “الإخوان” حسن البنا، وسمعنا نبأ وفاة عبد الناصر. فجأة شعرت بانقباض شديد، وانتابنى شيء من الألم والحزن العميق، ومر أمامي شريط من الذكريات التي جمعتني بكل من عبد الناصر والمشير من أيام حرب عام 1948 ومعارك الفالوجا، ثم التخطيط للثورة، وما تلاها من أحداث كانت عاصفة… انفصلتُ عن المحيطين بي بعد أن تمنيت أن أطوي كل ما حدث وأشارك في جنازته. لقد اكتشفت تقديري وحبي لناصر رغم ادراكي لعيوبه، ولكن يبقى هو الثورة”.

    يقول “الآن وقبل أن نبدأ في سرد المزيد من قصتي مع الإخوان المسلمين وقبل التطرق إلى وقائع التحقيق في قضية تنظيم الإخوان عام 1965 أحب أن أعرض هنا أمورًا، أرى من الواجب التنويه عنها، أولًا: أحب أن أقول إن جمال عبد الناصر هو الذي صنع «ثورة مصر» التي عجلت بهدم إمبراطوريات راسخة وامتد تأثيرها ليس فقط إلى آسيا وإفريقيا، بل حتى إلى «كوبا» في أمريكا اللاتينية، ومن ينكر ذلك الآن من المتحذلقين والمتفلسفين يكون كمن ينكر شروق الشمس في الصباح، ومن يريد القول الآن بأني كنت أخنق الضحايا بيدي وأقوم بقتلهم، فإني أقول له إنني لست ساديًّا، لكنني أمرت المحققين معي بأن يقوموا بالتحقيق بلا هوادة، فقد حملت مسؤولية لم أسع لها، فتحملتها وأمرت باستخلاص الحقائق، ولم أكن أدافع عن النظام بقدر ما كنت أدافع عن أبرياء سوف يتعرضون للقتل بلا ذنب على يد تنظيم «الإخوان المسلمين» ولقد حققت النتائج التى أدت إلى إنقاذ البلد من دمار وإنقاذ أرواح بريئة لا ذنب لها إلا أنهم كانوا «كفارًا» على حد قول المناوئين من الإخوان، ومن ينكر ذلك الآن يكون كمن يضع رأسه فى التراب.

   يقول بدران لقد أرسلت مذكرة وأنا في المنفى بعد أن خرجت من مصر وابتداء مسلسل الادعاء بقضايا التعذيب إلى المحققين في جرائم التعذيب، أقول فيها إني أنا المسؤول عن جرائم التعذيب، وكنت أنا الآمر بها، وكان المحققون يطيعون أوامري ووثقتها في القنصلية بلندن لأعطي لضباط المباحث الجنائية العسكرية حجة للدفاع عن أنفسهم في أثناء محاكمتهم، لكن المحاكم لم تأخذ بها، وكان ذلك بعد موت عبد الناصر.

   كنت قد طلبت من المباحث الجنائية العسكرية في أثناء التحقيق بأن تقوم بالتفتيش المنظم والتفتيش المفاجئ على الزنازين للتأكد من سلامة معاملة المساجين بعد انتهاء التحقيق معهم، وفي أثناء اتصالاتى بعبد الناصر لإطلاعه على نتائج التحقيق حدث أن قال لى فى إحدى المرات: «لقد سمعت أنك ستفوض المباحث العسكرية للتفتيش على السجن والمعتقلين، وأنا أحب أن أوجه لك نصيحة، وهى أن السجن الحربى هو مملكة حمزة البسيونى، فإذا حاولتم التدخل فى شؤونه فيمكنه إعاقة التحقيق بعمل اتصالات بين المتهمين بعضهم ببعض وخلافه، والأحسن أن تتركوه حرًا فى مملكته» والمشكوك فيه هنا هو أنه كان هناك اتصال مباشر بين حمزة البسيونى وعبد الناصر غالبًا عن طريق سامى شرف، والدليل على ذلك هو أنه بعد الاعتقالات التى أجراها عبد الناصر فى ما عرف بمؤامرة «قضية المشير» (بعد 26 أغسطس 1967) كان حمزة البسيونى هو الوحيد من المعتقلين الذى كان يتمتع بالحرية الكاملة فى معتقل القلعة ويدخن الشيشة والجوزة ويلعب «الطاولة» مع المسجونين، ثم تم الإفراج عنه بهدوء قبل المحاكمة، ولم يتم تقديم أى ادعاء ضده رغم أنه كان من المقيمين فى منزل المشير وحضر بعض الاجتماعات التى تمت فى المنزل للتحضير للانقلاب الذى كان يتم التخطيط له ضد عبد الناصر.

   يقول: “وأنا لا أحاول أن أتنصل فأقول إن عبد الناصر كان هو الآمر بالتعذيب، لكنني أقول إنه كان يعلم ذلك، وكنا نخبره، وأحب أن أكرر أن التعذيب كان هو الروتين العادى الذي يجري في السجن الحربي منذ الحرب العالمية الثانية، ولم أكن أنا مسؤولًا عن ذلك، فالسجن الحربى فى ذلك الوقت كان يتبع وزير الحربية اسمًا «ولم أكن وزيرًا للحربية في ذلك الوقت»، بل كان السجن الحربي في بعض الأحوال يستخدم خارج نطاق وزارة الحربية، ورغم أني لم أكن مسؤولًا عن السجن الحربي فقد كنت أستطيع أن أوقف التعذيب، لكنى لم أفعل. وإني الآن وقد مضت السنون أقول لو أعاد التاريخ نفسه فسوف أفعل ما فعلت، فقد أديت الواجب. ومن اغرب ما جاء في المذكرات في هذا المجال قوله “يتعين لي أن أقول إن عبدالحكيم عامر حاول إقناع عبدالناصر في الستينيات بأن يتحول الحكم إلى ديمقراطية برلمانية، وأن يكون أنور السادات رئيسًا للجمهورية، ويكون عبدالناصر رئيسًا للوزراء، ثم يكون حزبًا ناصريًا تحت قيادته، ليدخل انتخابات حرة، تجعله رئيسًا للوزراء بحكم الشعب،وقد اقتنع عبدالناصر بعض الوقت بهذه الفكرة، ولكن (محمد حسنين هيكل) أعاده مرة أخرى إلى فكرة الأسطورة “وأنه الملهم نصف آله” وأحب أن أقول الآن إنه إذا أعيدت انتخابات رئاسة الجمهورية فسوف أعطي صوتي بلا منازع لأي من أولاد عبدالناصر، لأنهم وقد انتهت فكرة الأسطورة سوف يكونون على أمانة أبيهم وشجاعة أبيهم، الذى مات فقيرا”..

    ما كتبه بدران في مذكراته يدخل في نطاق ما يسميه علماء التاريخ بالشهادات الشفهية من معاصري الأحداث والمشاركين فيها. وهذه الشهادات لابد أن تخضع وفق علم مناهج البحث التاريخي لما يعرف بالنقد الداخلي للرواية أو الشهادة، والنقد الخارجي لها، وهذا النقد هو الأداة المعاصرة المماثلة لعلم الجرح والتعديل الذى اتصل بروايات الحديث النبوي الشريف والذي كان من أهم قواعده أن يكون الراوي للحديث والناقل للرواية شخصاً سويًا، محلاً للثقة ليس في مسلكه ولا عقيدته مثلب من المثالب، وهو الأمر الذي لو طبقناه على البعض لما صلحوا أصلًا للشهادة وقد بدى لي أنها ذكريات لا مذكرات، فلا وثيقة ولا جواب رغم أنه كان من اقرب ما يكون من عبد الناصر وعامر وتولى امور كثيرة بنفسه كأن يكون وزيرًا للحربية.

  صدرت ”مذكراته وصدرت الثلاثة أجزاء الأولى منها في كتب عن دار نشر “الخيال”، بينما صدر الجزء الرابع منها مسلسلاً في مجلة المصور عام 2010، وفي تلك المذكرات شن “صلاح نصر” هجوماً ضارياً على “عبد الناصر” ، ودافع بشدة عن المشير “عبد الحكيم عامر”،

    إنتقل بعدها بدران في الكلام عن بذخ ناصر، ومدى نجاح التوظيف الإعلامي في تمثيل زهد ناصر. وأن ذلك ليس صحيحاً. فناصر كان يوصي على مقتنيات وألعاب من بيروت لأطفاله. ويبرر، أنه من حق ناصر وعائلته الحياة في مستوى رئيس الجمهورية.. لكنه لم يكن كما كان شائعاً يعيش حياة الكفاف! وأن كل ذلك الكلام هو من صنع محمد حسنين هيكل الذي خلق أسطورة ناصر، وهو المسؤول عن كل تلك الأكاذيب حول ناصر وجعلته هو ذاته يصدقها فيتحول إلى نصف إله.

   انتقل الكلام بعدها، إلى التغيرات التي حدثت على شخصية ناصر بعد محاولة إغتياله الفاشلة الأولى عام 1954 وحرب 1956 ومؤامرة إغتياله الفاشلة الثانية عام 1965 والتي أوكل ناصر مهمة التحقيق فيها إلى بدران الذي كشف عن مؤامرة الإخوان المسلمين لاغتيال ناصر. يقول بدران بأنه قد تم إعتقال حوالي خمسة آلاف شخص خلال هذه التحقيقات من ضمنهم سيد قطب والذي حكم عليه فيما بعد بالإعدام. وينكر تماماً أنه قد تعرض إلى سيد قطب بالذات بأي شكل من أشكال التعذيب.. لكنه لم ينكر استخدام التعذيب مع بقية المعتقلين بل وقال أن بعض أوامر التعذيب كانت تأتي مباشرة من عبدالناصر إلى آمر السجن الحربي حمزة البسيوني وأحياناً أخرى منه شخصياً أي بدران. ولكنه ينفي تماماً أن يكون هناك أكثر من عشرة معتقلين فقط من ماتوا في السجون.. وحتى هؤلاء لم يموتوا من التعذيب إنما ماتوا من الصدمة! صدمة اعتقالهم ومواجهتهم بالأدلة الدامغة التي تدينهم. في الواقع، ماتوا من الصدمة؟ إذا كانت المعتقلات المصرية بريئة لهذه الدرجة في العهد الناصري.. لماذا كل ذلك التكتم عليها؟ كان بإمكان الحكومة المصرية أن تظهر أوراق التشريح التي تثبت أسباب الوفاة.. وكان بإمكانها التصريح بعدد الوفيات وغيرها.. ولكن أياً من هذا لم يحصل. لماذا يا ترى؟. 

   من جهة أخرى، كانت شهادة زينب الغزالي والتي كانت في كتابها “أيام من حياتي” قد وصفت اعتقالها وتعذيبها على يد بدران.. مفرطة في المبالغة، فهي أشبه ما تكون بمشهد تعذيب رجل من قريش لفتاة أسلمت حديثاً! قد تكون هناك مبالغات كما يقول بدران في إدعاءات الأخوان لكن هذا لا ينفي وجود التعذيب كما أقر بدران ذاته. وقد أنكر بدران كذلك أنه يعرف أو التقى حتى بزينب على الإطلاق.. وقد أعلن عن دهشته لما تحدثت عنه في كتابها.

   يحمل بدران السادات مسؤولية حرب اليمن نقلاً عن لسان ناصر بأن فكرة التدخل العسكري المصري في اليمن كانت فكرة السادات. لقد كانت حرب اليمن مشكلة حقيقية للجيش المصري.. وقد تم توظيفها سياسياً وإعلامياً بشكل جيد. لكنها أثقلت كاهل مصر عسكرياً ومالياً.. والقول بأن كل ذلك هو بسبب السادات ولأنه كان على علاقة بيمنية هو أمر مخزٍ سواء بحق السادات أو ناصر كرئيس للجمهورية.. او الناقل بدران نفسه.

   عودة إلى حرب حزيران، حيث يشير بدران بالطبع، إلى مسؤولية ناصر الكاملة عن ما حدث. وأن الهزيمة العسكرية كانت بسبب المناورات السياسية الفاشلة التي قام بها ناصر والتي دفعت مصر ثمناً غالياً عنها. ولكنه لم يقل أي شيء يذكر عن زيارته –أي بدران- لموسكو وتأكيداته بأنه لو حدث هناك إعتداء عسكري على مصر فإن الإتحاد السوفييتي بنفسه سيتدخل ويخوض الحرب إلى جوارهم! من غير الممكن بالطبع، تجاهل مسؤولية ناصر الأولى والأخيرة عن قيام الحرب. لكن بدران شخصياً لا يقل عنه مسؤولية.. فهو بتأكيداته تلك أعطى القيادة المصرية الضمانات العسكرية اللازمة مما جعل ناصر جريئاً بما فيه الكفاية للقيام بتلك المناورات السياسية المتهورة. مما لا شك فيه، أن ناصر قد استخدم بدران وعامر وغيرهما كأكباش فداء للهروب من المسؤولية.. ومن قبل ذلك كانت تلك اللعبة المتقنة المتمثلة بالإستقالة ثم الرجوع عنها بعد الرفض الجماهيري لها.. ولكن هذا لا يعني براءة عامر وبدران والقيادة العسكرية المصرية لمسؤولياتها عما حدث. الفكرة هنا، هو أن الجميع كان يتحمل قدراً من المسؤولية.. ونعم، صحيح، أنه من الخطأ تحميل كل الخطأ لطرف دون الآخر.. وإن كانت القيادة المتمثلة برئيس الجمهورية هي من تتحمل المسؤولية الكبرى عما حدث.

 

   الواقع أنه في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967، تلقت مصر زلزالاً مدويًا لعلّها لم تفِق منه حتى الآن. لم يقتصر أثره على ضياع سيناء وتدمير الجيش المصري وحسب، وإنما إلى ما هو أعمق من هذا. هوَت ضربة إسرائيل على نافوخ نظام عبدالناصر الذي كان يسعى لمدِّ سلطانه من المحيط إلى الخليج، فجعلت استمراره داخل قواعده موضع شكٍّ كبير. وبالرغم من المظاهرات العريضة التي خرجت عقب إعلان عبدالناصر التنحي، فإن التصدعات العميقة والجروح الغائرة التي نتجت عن ضياع سيناء ظلّت ماثلة في أركان نظامه، وكشفت للعلن لأول مرة حجم الاستقطاب التي كانت عليها مؤسسات الدولة بينه وبين صديق عمره عبدالحكيم عامر، قائد الجيش الذي فشل في جميع معاركه، ورغم ذلك ظلَّت قيادات المؤسسة العسكرية على ولائها له ورغبتها في استمراره للأبد، وهو ما صار مستحيلًا عقب الهزيمة، مما استلزم مواجهة بين الرجلين استُنفرت فيها أجهزة الدولة الأمنية والسياسية، ولم تعد الساحة تحتمل الاثنين معًا.

    في كتابه «هزيمة الهزيمة»، ينقل مصطفى بكري رواية جمال عبدالناصر لصراعه مع عامر خلال 3 جلسات متتالية عقدها أول مجلس وزراء تم تشكيله عقب الهزيمة برئاسته، خلال أيام 27 أغسطس و3 سبتمبر و17 سبتمبر 1967. ليس مناسبًا للقيادة حكى عبدالناصر أن عبدالحكيم اتصل به يوم 5 يونيو/ حزيران ليؤكد له أن الوضع انتهى وأن «الجيش مش قادر يصمد» وطلب الانسحاب، ثم اقترح إصدار بيان أن أمريكا وبريطانيا شاركتا في الهجوم، وهو ما رفض جمال القيام به، ثم أعلن له رغبته في إعلان تنحيه عن منصبه، وطلب منه ترشيح اسم من يرى أنه يستحق خلافته فأجابه: شمس بدران، وزير الحربية الخاسر معركته للتو! وهو ما اعتبره عبدالناصر اقتراحًا «غير معقول».

    يحكي عبدالناصر أنه خلال مكالمة هاتفية جمعته ببدران يوم 8 يونيو/ حزيران، تحدث فيها بدران عن عبدالحكيم قائلاً: «He is not fit to command» (هو ليس مناسبًا للقيادة). في اليوم التالي، ذهب عبدالناصر ليُعلن تنحيه عن منصبه، وهنا تجلّى أن عزم المشير المهزوم على تعيين صديقه الوفي رئيسًا للجمهورية حاسمًا، فحسبما يروي عبدالناصر أن عامر، خلال إلقاء البيان، وفور كشف عبدالناصر عن نيّته ترْك مقعده لزكريا محيي الدين، أرسل له برقية، وهو لا يزال على الهواء، يطالبه فيها بالتوقف وعدم استكمال حديثه! وعلى الرغم من أن المشير وشمس بدران أعلنا استقالتيهما، فإن عبدالناصر بلغه أن 700 ضابط احتشدوا في مركز قيادة الجيش يوم 11 يونيو/حزيران (عقب التراجع عن التنحي)، ويطالبون بعودة عبدالحكيم للجيش، ووقتها كانت قوة التأمين الشخصي للرئيس محدودة لأنه كان قد أرسل كافة وحدات الحرس الجمهوري إلى الإسماعيلية، وهكذا كان بمقدور أي قوة عسكرية معقولة الحجم تشكيل خطر على سلامته.

    هذا الضعف العسكري الذي بدا عليه جمال في عيون أنصار عبدالحكيم منحهم ثقة مفرطة في التعامل مع الأمر إلى حد الاستهانة به هو شخصيًا. أراد شمس التدليل له على مدى سيطرته على القوات المسلحة، فأكد له أنه لو أراد أن ينقلب عليه سيفعلها من منزله! أرسل الضباط أربعة منهم مندوبين عنهم إلى الرئيس، ومنحوه عريضة تُطالب بعودة عامر إلى القوات المسلحة، وهو ما استشاط له غضبًا. يحكي: 4 ضباط مستعناش أكلمهم ييجي يقدمولي عريضة! هوا أنا الخديو توفيق؟ ولأن «عبدالناصر 67» أزاح فكرة الحلول الوسط من قاموسه بعد أعوام من ممارستها لضبط علاقته برفيق عُمره حتى «خربت البلد» كما أعلن في الاجتماعات، فقد كان عليه ألا يهادن حكيم لأول مرة في حياته، وقرر المضي في قراره بإبعاده عن الجيش إلى الأبد، واستنفر قواه لمواجهته.

   لقد أعاد عبدالناصر الحرس الجمهوري من الإسماعيلية، وحشد قوة دبابات ومدرعات وبعض أفراد الشرطة العسكرية والضباط الموالين له، ثم أصدر قرارًا بتعيين الفريق محمد فوزي قائدًا عامًا للقوات المسلحة، وأعلن تحويل كافة «ضباط العريضة» إلى المعاش، كما أمر باعتقال كافة الضباط المحتشدين في مقر القيادة، وأي قيادة عسكرية أعلنت اتخاذ موقف مؤيد للمشير، وهو ما اعتبره حكيم إعلان حربٍ عليه رفض الاستسلام لها، فردَّ الصاع صاعين.

قلعة الحلمية

 يحكي عبدالناصر أن عددًا من الضباط بدؤوا يتوافدون على منزل المشير بالجيزة، وبعدها بدأ إخوته (بعضهم كانوا نوابًا في مجلس الأمة) في إقناع زملائهم بالمجلس النيابي لزيارته بمنزله حيث بدأ يكلمهم عن الحريات والديمقراطية وغيرها من الأمور «اللي الناس عادة لما بتبقى في السلطة مبتتكلمش فيها». تحولت هذه الزيارات إلى إقامة كاملة لعشرات العسكريين «قادة فرق ولواءات»، كما أرسل عبدالحكيم إلى عددٍ من أقاربه في المنيا ليأتوا إلى داره لدعمه، وتدفقت عليهم أسلحة بلغ حجمها 3 أطنان «حمولة 4 لوري»، علاوة على إنشاء عددٍ من الدشم وتحصينات ضد الدبابات! وبمرور الوقت، تحول المنزل إلى قلعة حصينة، وإلى بؤرة خارجة عن سيطرة الدولة. كانت كل الإشارات تؤكد أن ما يسعى عبدالحكيم لفعله سيكون أكبر بكثير من مجرد غَضْبة اعتاد، خلال السنوات الفائتة، أن يمارسها على صديق عمره لينال بها ما يريد.

   خلال هذه الأحداث، يحكي عبدالناصر أنه قابل شمس بدران، وأكد له الأخير أن الأمور ليست في صالحه «البلد ضدك والجيش ضدك! والبلد مع المشير والجيش مع المشير»، وأوضح جمال أن الثقة المفرطة عند بدران كانت لأنه أنشأ تنظيمًا «في كل مكان» بالجيش من دفعته (رقم 48) يستطيع تحريك القوات المسلحة متى أراد، لهذا أمر عبدالناصر باعتقالهم جميعًا (69 فردًا) وإقالة بدران من منصبه، وتعيين أمين هويدي بدلاً منه. لكن، سريعًا، بدأت المساعي لتدشين تنظيم جديد يستند عليه عامر لتحقيق رغبته في العودة للجيش من جديد. جرت اتصالات حميمة بعددٍ من الضباط في مختلف الوحدات، وتسرّب بعضها بحُكم «السربعة» إلى عبدالناصر عبر مدير مكتبه سامي شرف الذي تدفقت عليه البلاغات بأن المشير يدبّر مؤامرة ضد الرئيس، وهو ما نقله له قائلًا: «يهود مصر بدؤوا يتحركون من الداخل». لكن هذا لم يمنع من توقفها، وبلورتها في محاولة القيام بتحركٍ ما يعيد لأصحابها هيبتهم الجريحة.

العملية نصر

   تحولت مساندات الضباط الحماسية لقائدهم «صاحب الأفضال عليهم» إلى خطة عسكرية سارت على هدْي ما نفذه الضباط الأحرار في 23 يوليو وحملت ذات كلمة السر، فتضمنت الاستيلاء على مقر قيادة القوات المسلحة، وإعلان إعادة المشير لها، وتحريك وحدات برية وجوية إلى القاهرة تسيطر عليها وتعتقل كبار المسؤولين فيها، وعلى رأسهم عبدالناصر، وتغيّر نظام الحكم بالقوة إن تطلب الأمر، وتشكيل مجلس رئاسي يضم: عبدالحكيم عامر وعباس رضوان وشمس بدران وصلاح نصر إلى جانب قادة الأسلحة الرئيسية، مَنَحها المشير والذين معه لقبًا كوديًا لأمر طال انتظاره ولم يأتِ؛ «العملية نصر».

   اعتمدت فلسفة العملية على أن يتحرك المشير إلى أنشاص حيث يقع بها مقر مدرسة الصاعقة التي ستخرج منها قوة تحرسه إلى منطقة القنال حيث يتم الاستيلاء على مقر القيادة الشرقية بالإسماعيلية مع منع دخول أو خروج أي فرد منها، وبث نبأ عودته في أوصال الجيش، ثم إعلان مطالب تتمثل في الآتي: عدم التدخل في شئون الجيش إطلاقًا،حل الاتحاد الاشتراكي، انتخاب مجلس نيابي جديد، الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، إقامة حزب معارض للحكومة، إقامة حياة ديمقراطية يعبّر فيها الشعب عن رأيه بحرية. إن لم يستجب عبدالناصر لتلك المطالب، يتحرك لواء مدرع إلى القاهرة للسيطرة عليها والضغط عليه للرضوخ، وكل هذا وسط تواطؤ شبه تام من كافة أفرع الأجهزة الأمنية.

   يحكي جمال: مجالناش حاجة من المخابرات ولا من البوليس ولا من المخابرات العامة ولا من المخابرات الحربية ولا من المباحث العامة، اللي جالنا ناس جم، قالو إن حصلت الاتصالات دي. تم تحديد 27 أغسطس/ آب موعدًا مبدئيًا، كبديل جاهز للفشل المتوقع الذي كانوا يعلمون أنه سينتج عن جلسة العشاء المرتقبة بين الرجلين، دون أن يعلموا بالطبع أن الأول كان قد انتهى من إعداد عُدة الإجهاز على الثاني، وذلك بناء على خطة أطلق عليها اسم «العملية جونسون» استهدفت تصفية كافة جيوب هذه المؤامرة بمنزل الحلمية ومبنى المخابرات فور دخوله المنزل.

   يوضح ناصر أنه طلب حكيم ليأتيه في منزله يوم الجمعة (25 أغسطس/ آب) بحضور زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات، وواجهه بكل ما لديه، فأنكر بشدة ورفض أي حل وسط للأزمة؛ لا الاستقالة ولا إخلاء بيته ممن فيه ولا حتى منصب نائب رئيس الجمهورية. في ذلك الوقت، كانت هناك قوة مشتركة من الجيش والبوليس تحاصر منزل عامر بقيادة الفريق فوزي، طلبت من المحاصرين الاستسلام، وكانوا بقيادة شمس بدران، فرفضوا، لكن بعض جنود الحرس خافوا من احتدام القتال فاستسلموا وتركوا أماكنهم خالية، وهنا أيقن سُكان المنزل أن المعركة حُسمت فاستسلموا جميعًا وتم إيداعهم في سجن القلعة.

    بلغ مجموع المعتقلين سواء كانوا عسكريين أو مدنيين على ذمة هذه القضية 286 فردًا. في هذه الآونة كان المشير قد أُبلغ بنبأ تحديد إقامته، وهو ما لم يقبله، فسبّ عبد الناصر وبقية الحضور، إلا أن قوة أمنية خاصة أجبرته على التنفيذ، فتم عزله داخل منزله أولاً بعد تصفيته من المؤيدين، وبعدها جرت محاولة لنقله إلى مكان آخر أكثر انعزالاً، هو استراحة المريوطية، وهو الوضع الذي لم يكن حكيم ليحتمله أبدًا. في مساء 14 سبتمبر/ أيلول، ووفق رواية عبد الناصر، باغت عامر طبيبه المرافق وتناول سمًّا سريع المفعول (اكتشف الطب الشرعي لاحقًا أنه مادة الأكونيتين)، وعندما دخل عليه وجد نبضه ضعيفًا وفي حالة غيبوبة كاملة وفارق الحياة، وقالت الإذاعة المصرية: وقع أمس حادث يدعو إلى الأسف والألم، إذ أقدم المشير عبد الحكيم عامر على الانتحار بابتلاع كمية كبيرة من مواد مخدرة وسامة، ورغم كل الإسعافات الطبية العاجلة، فإنه أصيب أمس بانهيار مفاجئ نتج عنه وفاته. ليُسدل الستار إلى الأبد عن واحدة من أعقد الفترات التي مرّت عليها مصر.

   كل الناس اللي اتكلموا في هذا الموضوع اعتقلوا، كل قرايب عبد الحكيم اللي تدخلوا في هذا الموضوع اعتُقلوا، إخواته اعتقلوا، والنواب اعتقلوا. جمال عبد الناصر في يوم 22 أغسطس/ آب 1968، صدّق عبدالناصر على قرار محكمة الثورة برئاسة حسين الشافعي وعضوية الفريق عبد المنعم رياض واللواء سليمان، بحق 55 متهمًا أبرزهم شمس بدران وزير الحربية، وصلاح نصر رئيس المخابرات السابق، وعدد مختلف من ضباط جيش تبعثرت مناصبهم بين الأفرع. أدانت 45 فردًا منهم، عاقبت بعضهم بالأشغال الشاقة المؤبدة فيما تراوحت عقوبات الآخرين بين السجن 15 عامًا وبين الطرد من الخدمة العسكرية.

    يبقى في النهاية أنه عموماً، تمثل مذكرات رجل بحجم بدران وسياق حياته السياسية قدراً كبيراً من الأهمية في محاولة لفهم هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة. لكن المشكلة هنا، هي أنها مجتزأة ومقتطعة، ناهيك عن سرقتها عن طريق أمثال حمدي الحسيني وتوظيفها لأهداف السبق الصحفي مما يفقدها الكثير من المصداقية. بالطبع، يستطيع كل طرف أن يقول ما يشاء عما حصل من وجهة نظره. ولكن الحقيقة غالباً ما تكون في مكان ما وسط ما يقوله الجميع. إنها شيء ما من كل ما قيل.  

حيث شهدت حرب حزيران أو الأيام الستة والتي هزم فيها العرب. عرف عن شمس بدران أنه كان قريباً من المشير عبدالحكيم عامر وقريباً أيضاً من الرئيس جمال عبدالناصر حيث أن الأخير لم يتوانَ عن تسميته خليفة له حين أقدم على الإستقالة بعد حرب 67.. وهذا رغم قربه الشديد من المشير عامر والذي تمت شيطنته وسجنه وتصفيته كما يدعي شمس بدران في مذكراته. تم إعتقاله هو وستة ضباط كبار كان عامر من ضمنهم بتهمة الإهمال والتسبب بكارثة حزيران وتمت إدانته والحكم عليه بالأشغال الشاقة وتم سجنه فعلاً.. قبل أن يخرج بصفقة سياسية مع السادات بشرط أن يخرج من مصر ويصمت إلى ما شاء له أن يصمت. يقيم حالياً في مدينة بلايموث البريطانية. 

   حين نقبل على قراءة هذا الكتاب، وكما هي العادة، نبحث عن النسخ المتوفرة، فنجد عدة نسخ؛ منها مجموعة من الحلقات التي نشرتها جريدة السياسة الكويتية عام 2014. وهناك نسخة أخرى، بإمضاء حمدي الحسيني.. وقد وجدت بخصوص هذه الأخيرة مداخلة من شمس بدران شخصياً في برنامج على أحد القنوات المصرية يكذب فيها أن له أي علاقة بهذه المذكرات الخاصة بالحسيني.. ويؤكد أنها مكذوبة وليست على لسانه.. وحتى أنه أقر بكونه لم ينشر مذكراته بعد. وأنه سينشرها عن طريق الأهرام. وأعتقد أن جريدة السياسة الكويتية قد اقتطفت ما نشرته من هذه المذكرات الأصلية.. ولكننا نشك بكونها كاملة فهي لا تتجاوز الخمسين صفحة!.

    شمس وزير الحربية فى قصر الرئاسة ومعه آخرون لتقديم شكرهم إلى الرئيس السادات على قراره بالافراج عنهم فى 23 مايو 1974بعد سنوات قضوها فى السجن بدأت فى آب/ اغسطس 1968 وفى هذه المقابلة انشغل الحاضرون بسؤال ماذا سيفعلون فى المستقبل؟.

    سأله السادات “ماذا ستفعل يا شمس؟”. فرد شمس: سوف اسافر؟ واصل السادات وإلى أين ستسافر؟” فاجاب “إلى باريس”.. ودون تردد قال السادات: سوف امنحك جواز سفر دبلوماسي ليسهل عليك عملية السفر والإنتقال.

   كان “بدران يقضى عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة باعتباره المتهم الأول فى قضية “قلب نظام الحكم. .والاستيلاء على السلطة بالقوة”.. وكان معه فيها عباس رضوان وزير الداخلية وصلاح نصر رئيس جهاز المخابرات وحمزة البسيوني مدير السجن الحربي.. وجلال هريدي مؤسس سلاح الصاعقة (وهؤلاء هم المعرفون برجال المشير عبد الحكيم عامر) وكانوا رأس حربة في قصة الصراع الشهير الذي تفجر بين ناصر وعامر بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967وانتهى بنهاية المشير عامر والقبض على هؤلاء الـ50 وتقديمهم إلى المحاكمة.

   قال وزير الحربية الأسبق شمس بدران، الذى كان يعتبر خزانة أسرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، في مذكراته (إنه بعد مرور كل تلك العقود يفتح خزانة أسراره، ويروي للمرة الأولى بعد صمت طويل ما جرى خلف جدران القصور الرئاسية وفي مقرات مفاصل الدولة المصرية). شمس بدران لا يتحدث فقط في الشأن السياسي، إنما يطل على الجوانب الإجتماعية والنفسية في حياة كل شخص من الذين يروي عنهم،كما يكشف عن نزوات بعضهم.

    نقرأ أيضاً قصة تعيينه لساعات عدة رئيسًا للجمهورية كما يكشف عن الأسباب الحقيقية لهزيمة يونيو 1967 وتآمر الروس والأميركيين على بلاده، ودور أنور السادات في توريط مصر بحرب اليمن وعلاقة عبدالناصر بحمزة بسيونى، بالإضافة إلى العديد من الأسرار عن أهل الفن وعلاقتهم بصناع القرار في مصر فى تلك المرحلة. واللافت أن الرجل احتفظ بأسراره لنفسه إذ لا يعرف حتى أفراد أسرته الكثير عن شخصيته العسكرية ودوره في مصر، ولذلك في إحدى المرات كان قد حذر كاتب “حمدى الحسينى” المذكرات من الاستفاضة بالحديث مع زوجته عن شخصيته العسكرية ولهذا فإن ما يرويه شمس بدران هو في جانب منه سبر أغوار هذه الشخصية التي حاولت لسنوات طويلة الاحتفاظ بأسرارها إلى الأبد، لكن هناك في المنفى حيث يقيم في بريطانيا استطاع فتح هذه الخزانة ربما لأن بدران أيقن بعدما وصل إلى هذه السن ما بعد الـ80 أن من حق المصريين عليه معرفة ما خفي عنهم في تلك المرحلة.

   مما يحكيه أنه في 1980 تعاقد على نشر مذكراته التي أرسلها إلى إبراهيم نافع لتنشرها (الاهرام) وحدث أن قام صلاح منتصر المحرر في جريدة الأهرام بنشر خبر على الصفحة الأولى لأحد المتهمين في قضايا السرقة والتهرب من الجمارك، يقول فيه إن شمس بدران كان يمرر الموتوسيكلات على بطنه والحقيقة هنا أنني لم أر هذا المتهم في حياتي، ولم تكن تلك القضايا تخصني، بل كانت المباحث العسكرية تقوم بالتحقيقات في هذا الموضوع بتكليف من عبدالحكيم عامر.. وبعد نشر تلك المقالة قمت بإرسال خطاب بـ«التليكس» لإبراهيم نافع معتذرًا عن تنفيذ العقد لنشر مذكراتي، ليتاخر الأمر حتى 2016?!.

    باح رجل الصمت وقال (بعد النكسة قاد عملية تنفيذ الانقلاب على عبد الناصر بتنفيذ الخطة “نصر”.. وتقضي كما يذكر هو في مذكراته بنقل عامر من طائرة هليوكبتر إلى وحدات الجيش لحشد الرأى العام فيها ضد عبد الناصر ثم نقله إلى القيادة العامة في حراسة قوات الصاعقة ليعلن فيها مطالبه في مواجهة عبد الناصر التي تتضمن اعادة جميع الضباط المفصولين بعد النكسة إلى الخدمة وعودة المحالين للتقاعد والمعزولين).. ويذكر بدران صراحة (أن هذه الخطة تم نقلها إلى امريكا عبر أحد رجال العاملين المصريين الذين كانوا يعملون جواسيس لصالح السفارة الأمريكية بالقاهرة.

   كان صلاح نصر هو صاحب هذا الاقتراح لمعرفته بهذا الجاسوس من خلال رئاسته لجهاز المخابرات، ولم يذكر بدران من هو هذا الشخص ولكنه يؤكد أنه يعمل فى مجال السياحة ومازال على قيد الحياة).. فشلت الخطة بعد أن تم حصار فيلا المشير عامر بالجيزة فى عملية قادها الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية بعد نكسة 1967 واستسلم الضباط جميعًا الذين يقيمون حول المشير. وجرت محاكمتهم جميعًا في محاكمة عسكرية وكان بدران أول المتهمين وحصل على حكم بالاشغال الشاقة المؤبدة.. حتى قرر السادات الافراج عنه.

    يكشف في مذكراته أنه بعد تولي السادات السلطة بعد وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970.. توسط له عدد من الضباط والأصدقاء المشتركين بينهما للافراج عنه وعن الــ”خمسين ضابطًا” الاخرين الذين تم محاكمتهم عسكريًا. ولكن السادات طلب تاجيل هذه الخطوة وانهمك في التخطيط لحرب اكتوبر ونسي الأمر. ثم تذكره بعد النصر شمل قرار الافراج صلاح نصر وعباس رضوان ويتذكر “بدران “بعدها بأيام ذهبنا للقاء السادات في قصر الرئاسة لتقديم الشكر، ولم يطلب منا السادات سوى شيء واحد هو الابتعاد عن العمل السياسىي، وأنه مستعد لتشجيعهم لعمل أي نشاط تجارى بعيدًا عن السياسة.

   يرفض بدران في مذكراته أي كلام قيل عن صفقة وقعها مع السادات للافراج عنه كما ينفي سماح السادات له بتهريب مبالغ طائلة تصل إلى 6مليون جنيه، ى أنه لم يتنازل عن ثروته التي تصل لـ(6مليون) للدولة.. ولم يسمح له بتهريب مبالغ طائلة تصل إلى 6مليون جنيه.. وسافر شمس بدران إلى بريطانيا ليعيش هناك ويتزوج من بريطانية ويرزق منها بأبناء.. والمثير أن اسرته بما في ذلك زوجته لا يعرفون أي شيء عن ماضيه السياسي في مصر كما أكد هو في مذكراته؟!.

     يقول بدران “في أحد الأيام وجدت مأمور السجن أمام ، وقال لي إنه يرغب بالحديث معي في مكتبه وهناك رن جرس الهاتف وسلمني السماعة وغادر.كان المتحدث عبد الناصر، وبصوت مليء بالحزن لم أعهده فيه من قبل عاتبني عتابًا قاسيًا على موافقتي ومشاركتي في الانقلاب -مع جماعة المشير عامر- وأمور من هذا القبيل، ثم أبلغني أنه في أمس الحاجة لوقوفي إلى جانبه، وأنه يثق أنني من داخلى غير راض عما حدث منذ اللحظة الأولى للخلاف بعدها فاجأني أنه مستعد للإفراج عني شرط أن أقدم اعتذارًا مكتوبًا عن مشاركتي في الانقلاب حتى يتسنى له تبرير قرار الإفراج عني أمام الرأي العام لم أعلق على طلبه وأبلغته أنني سوف أدرس الموقف وأرد عليه وأنا في داخلى كنت رافضًا لهذا التصرف مهما كانت النتائج، لأنني عندما قررت الوقوف إلى جانب المشير لم يجبرني أحد على ذلك، وكنت أعلم أن الأمر ربما ينتهي إلى هذا الوضع”.

   يقول “بناء على رفضي الاستجابة أو الرد على طلب عبد الناصر قدمت للمحاكمة على رأس قائمة تضم 50 متهمًا منهم: عباس رضوان (عباس عبد الوهاب أمين رضوان – 1921 2000-) والذى كان واحدًا من ستة ضباط اقتحموا مقر قيادة الجيش واقتادوا كبار قادة الجيش إلى سجن الكلية الحربية، كان له دور بارز في حل أزمة الفرسان 1954 والتى جعلت عبد الناصر يعينه وزيرا للداخلية) وصلاح نصر، وحمزة البسيوني (اللواء حمزة البسيونى تخرج فى الكلية الحربية، وانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار ليشارك في حركة 23 يوليو 1952 وهو برتبة رائد، وكلف بإدارة السجن الحربى في عهد جمال عبد الناصر قبل أن يطلق أنور السادات سراح المعتقلين)، وجلال هريدى (الفريق فخرى (اللواء) جلال محمود هريدي، أسس أول فرقة صاعقة مصرية عام 1955، وقد نجا من حكمين بالإعدام، أحدهما في سورية عندما كان قائدًا للقوات في محافظة اللاذقية خلال فترة الانفصال عن مصر عام 1961، كما حاكمه عبد الناصر بتهمة محاولة قلب نظام الحكم مع 70 ضابطًا ليحكم عليه بالإعدام، وخفف بعدها الحكم إلى السجن المؤبد).

    يقول لم يتوقع ناصر رفضي لكل عروضه مقابل الإفراج عني، فكانت النتيجة أنني أصبحت المتهم رقم واحد في قضية قلب نظام الحكم، والاستيلاء على السلطة بالقوة، تحملت الاتهامات بكل ما تضمنته من تلفيق، وظل يسيطر علي هاجس أن الشخص الذي ينبغي وقوفه في قفص الاتهام هو عبد الناصرنفسه، لأن سياساته المتهورة وأفكاره الأحادية هي التي أدت بنا إلى هذه الحال المتردية ومع ذلك فإن الواقع فى مصر غالبًا ما يأتى على غير المتوقع، كأن هذا الشعب مكتوب عليه أن يزداد الظالم ظلمًا، والفقير فقرًا، والمريض مرضًا والجاهل جهلاً، فلا أمل حتى في الثورة التي تعلقت آمال وطموحات الناس فيها لتخلصهم من الفساد والظلم والتسلط، فإذا بعبد الناصر ينفرد بالحكم ويحدد بمفرده مصير الأمة، كأننا ندور في حلقة مفرغة، والضحية عادة يكون الشعب المغلوب على أمره!.

    يقول “في السحن وبعد المراجعة وصلت إلى أن ديكتاتورية ناصر كانت سبب كل البلاء، وكل الحروب 56 و67.. يقول “واجهت بشجاعة المحاكمة، وفندت التهم التي وجهتها لي هيئة المحكمة التي رأسها حسين الشافعي وأحد أبرز الضباط الأحرار وشارك بدور كبير في نجاح حركة 23 يوليو 1952) تكررت المشادات الساخنة بيني وبين المنصة حول أكثر من نقطة أو تفصيل، لأن مَن يحاكمونني كانوا بعيدين عن السلطة، ولم يكن لدى غالبيتهم ما توافر لدي من معلومات وحقائق، كانوا غير مطلعين عليها، مما أوقعهم في حرج شديد أمام ممثلي وسائل الإعلام المختلفة. طبعًا لم أكن مقتنعًا بالمحكمة ولا بالمحاكمة، هذا ما يبدو من خلال الصور والتسجيلات، فكان لسان حالي يقول للجميع: نحن أبرياء، وإذا أراد عبد الناصر أن يحكم علينا بالإعدام فعليه أن يعدمنا بعيدًا عن مهزلة المحكمة التي كنتُ أراها صورية، وليس لديه أدلة كافية لإدانتنا.

    لم يكن هذا هو انطباعي وحدي، بل يشاركني فيه جميع المتهمين في القضية، لكن كنتُ أنا وصلاح نصر الأكثر شراسة في التعامل مع هيئة المحكمة، لأننا كنا جزءًا مهمًا من نظام عبد الناصر، ونعرف الكثير عن أسلوبه في إدارة شئون الدولة أكثر مما يعرفه.. لم تصدمني الأحكام، بل على العكس توقعت أن يصدر الحكم بالإعدام، لكننى كنتُ واثقًا من أن عبد الناصر لن يوافق على إعدامنا، ولا أعرف الأسباب بدقة، بل كان مجرد شعور تملكني بعد صدور الحكم?!.

    تكررت محاولات عبد الناصر بالعفو عني، وربما عن صلاح نصر وعباس رضوان، لكن المؤكد أنه كان يأمل في إخراجي من السجن لمساعدته في السيطرة على ملف القوات المسلحة، لأنه لا يأمن لغيري تنفيذ هذه المهمة، وهو واثق ومطمئن. وكما تكرر عرضه بالإفراج عني تكرر أيضاً رفضي تقديم الاعتذار، واستمر الأمل يراود عبد الناصر أن أعتذر وأندم على انضمامي إلى جانب المشير حتى وافته المنية، وبقي كل منا على موقفه، هو أصر على أن يقدمني للمحاكمة، وأنا أنفذ الحكم القاسي، ومن جانبي قررت تحمل تبعات قراري مهما كانت المعاناة.

    لا أعرف على وجه الدقة لماذا اتخذتُ هذا الموقف من جمال عبد الناصر؟. رغم قربي منه، وثقته في، واهتمامه الدائم بي منذ أن تقابلنا للمرة الأولى على أرض فلسطين حتى يوم 7 يونيو 1967 في أعقاب الهزيمة، وتراجعه في آخر لحظة عن ترشيحي رئيسًا للجمهورية بعد مشاوراته مع المشير التي انتهت باستقالتهما وتكليفي إدارة شئون البلاد كرئيس للجمهورية في مرحلة ما بعد الهزيمة.

    الانهيار المفاجئ للثقة بيننا كان بسبب إحساسي أنه يسعى إلى توريط المشير أو أنا أو أي طرف آخر لتحمل مسئولية أكبر هزيمة تتعرض لها مصر في التاريخ المعاصر، رغم أنه صانع القرار الأول في الدولة، وكان الجيش والشعب يسيران خلفه كالعميان، بسبب الثقة المفرطة فيه، كل هذا جعلني أرفض قبول أي مبادرة للإفراج عني وخصوصًا تلك المشروطة بالاعتذار المزعوم، كما أن ذلك الإفراج كان أيضاً يعني العودة إلى التعاون معه وتحمل المسئولية إلى جانبه، وهذا ما كنتُ قد قررت الإقلاع عنه تمامًا، بل وتعمق لدي الابتعاد عن أي عمل عام أو رسمي.

     لقد اعتاد عبد الناصر مساومتي بهذه الطريقة، حيث أذكر أنه في أثناء أزمته الأولى مع عبد الحكيم عامر عندما لوح المشير بالاستقالة في وجه عبد الناصر، وتحالف مع مجموعة من الضباط الأحرار فيما عرف بــ”الانقلاب السلمي” للحد من انفراده بالسلطة المطلقة وحده عام 1962 حاول عبد الناصر وقتها إقناعي ومساومتي أن أكون وزيرًا للحربية بدلًا من عبد الحكيم عامر، على أن يتم ترقيتي بعد ذلك للرتبة المناسبة لأكون قائدًا عاما للقوات المسلحة، وكنت لا أوافق على هذا التفكير لسببين، الأول أنني لم أكن مؤهلًا لهذه القيادة، فقد كنت برتبة ملازم أول عندما تركت الشئون العسكرية وانتهت مؤهلاتي عند التأهيل الأساسي، وهو فرقة قادة الفصائل، وفرقة الأسلحة الصغيرة وفرقة الشئون الإدارية اللازمة للترقية إلى الرتبة التالية، لكن عبد الحكيم عامر قبل أن يصبح قائدًا عامًا كان في رتبة الصاغ (رائد) وكان من خريجي كلية أركان حرب، وهي أعلى المؤهلات العسكرية في ذلك الوقت، والسبب الثاني هو أنني كنت قد قررت الخروج من الجيش مع عبد الحكيم عامر،حتى أنني عندما أقدمت على الزواج عام 1963 كنت قد أخبرت المهندس مصطفى رشدي والد زوجتي المقبلة، وقبل أن تتم الخِطْبة والزواج أنني لن أبقى في منصبي إلا لفترة قصيرة، وقد أحدث ذلك هلعًا في عائلة الزوجة، مما أدى بالمشير عبد الحكيم عامر إلى أن يدعو المهندس مصطفى رشدي إلى منزله ليطمئنه أنني عندما أترك الحكم فلن أكون معاديًا للنظام، وبذلك حدثت الطمأنينة وتم الزواج.

   بالمذكرات “في أحد أيام سبتمبر عام 1970 كنتُ أجلس في فناء سجن طرة إلى جانب سيف الإسلام حسن البنا ابن مؤسس جماعة “الإخوان” حسن البنا، وسمعنا نبأ وفاة عبد الناصر. فجأة شعرت بانقباض شديد، وانتابنى شيء من الألم والحزن العميق، ومر أمامي شريط من الذكريات التي جمعتني بكل من عبد الناصر والمشير من أيام حرب عام 1948 ومعارك الفالوجا، ثم التخطيط للثورة، وما تلاها من أحداث كانت عاصفة… انفصلتُ عن المحيطين بي بعد أن تمنيت أن أطوي كل ما حدث وأشارك في جنازته. لقد اكتشفت تقديري وحبي لناصر رغم ادراكي لعيوبه، ولكن يبقى هو الثورة”.

    يقول “الآن وقبل أن نبدأ في سرد المزيد من قصتي مع الإخوان المسلمين وقبل التطرق إلى وقائع التحقيق في قضية تنظيم الإخوان عام 1965 أحب أن أعرض هنا أمورًا، أرى من الواجب التنويه عنها، أولًا: أحب أن أقول إن جمال عبد الناصر هو الذي صنع «ثورة مصر» التي عجلت بهدم إمبراطوريات راسخة وامتد تأثيرها ليس فقط إلى آسيا وإفريقيا، بل حتى إلى «كوبا» في أمريكا اللاتينية، ومن ينكر ذلك الآن من المتحذلقين والمتفلسفين يكون كمن ينكر شروق الشمس في الصباح، ومن يريد القول الآن بأني كنت أخنق الضحايا بيدي وأقوم بقتلهم، فإني أقول له إنني لست ساديًّا، لكنني أمرت المحققين معي بأن يقوموا بالتحقيق بلا هوادة، فقد حملت مسؤولية لم أسع لها، فتحملتها وأمرت باستخلاص الحقائق، ولم أكن أدافع عن النظام بقدر ما كنت أدافع عن أبرياء سوف يتعرضون للقتل بلا ذنب على يد تنظيم «الإخوان المسلمين» ولقد حققت النتائج التى أدت إلى إنقاذ البلد من دمار وإنقاذ أرواح بريئة لا ذنب لها إلا أنهم كانوا «كفارًا» على حد قول المناوئين من الإخوان، ومن ينكر ذلك الآن يكون كمن يضع رأسه فى التراب.

   يقول بدران لقد أرسلت مذكرة وأنا في المنفى بعد أن خرجت من مصر وابتداء مسلسل الادعاء بقضايا التعذيب إلى المحققين في جرائم التعذيب، أقول فيها إني أنا المسؤول عن جرائم التعذيب، وكنت أنا الآمر بها، وكان المحققون يطيعون أوامري ووثقتها في القنصلية بلندن لأعطي لضباط المباحث الجنائية العسكرية حجة للدفاع عن أنفسهم في أثناء محاكمتهم، لكن المحاكم لم تأخذ بها، وكان ذلك بعد موت عبد الناصر.

   كنت قد طلبت من المباحث الجنائية العسكرية في أثناء التحقيق بأن تقوم بالتفتيش المنظم والتفتيش المفاجئ على الزنازين للتأكد من سلامة معاملة المساجين بعد انتهاء التحقيق معهم، وفي أثناء اتصالاتى بعبد الناصر لإطلاعه على نتائج التحقيق حدث أن قال لى فى إحدى المرات: «لقد سمعت أنك ستفوض المباحث العسكرية للتفتيش على السجن والمعتقلين، وأنا أحب أن أوجه لك نصيحة، وهى أن السجن الحربى هو مملكة حمزة البسيونى، فإذا حاولتم التدخل فى شؤونه فيمكنه إعاقة التحقيق بعمل اتصالات بين المتهمين بعضهم ببعض وخلافه، والأحسن أن تتركوه حرًا فى مملكته» والمشكوك فيه هنا هو أنه كان هناك اتصال مباشر بين حمزة البسيونى وعبد الناصر غالبًا عن طريق سامى شرف، والدليل على ذلك هو أنه بعد الاعتقالات التى أجراها عبد الناصر فى ما عرف بمؤامرة «قضية المشير» (بعد 26 أغسطس 1967) كان حمزة البسيونى هو الوحيد من المعتقلين الذى كان يتمتع بالحرية الكاملة فى معتقل القلعة ويدخن الشيشة والجوزة ويلعب «الطاولة» مع المسجونين، ثم تم الإفراج عنه بهدوء قبل المحاكمة، ولم يتم تقديم أى ادعاء ضده رغم أنه كان من المقيمين فى منزل المشير وحضر بعض الاجتماعات التى تمت فى المنزل للتحضير للانقلاب الذى كان يتم التخطيط له ضد عبد الناصر.

   يقول: “وأنا لا أحاول أن أتنصل فأقول إن عبد الناصر كان هو الآمر بالتعذيب، لكنني أقول إنه كان يعلم ذلك، وكنا نخبره، وأحب أن أكرر أن التعذيب كان هو الروتين العادى الذي يجري في السجن الحربي منذ الحرب العالمية الثانية، ولم أكن أنا مسؤولًا عن ذلك، فالسجن الحربى فى ذلك الوقت كان يتبع وزير الحربية اسمًا «ولم أكن وزيرًا للحربية في ذلك الوقت»، بل كان السجن الحربي في بعض الأحوال يستخدم خارج نطاق وزارة الحربية، ورغم أني لم أكن مسؤولًا عن السجن الحربي فقد كنت أستطيع أن أوقف التعذيب، لكنى لم أفعل. وإني الآن وقد مضت السنون أقول لو أعاد التاريخ نفسه فسوف أفعل ما فعلت، فقد أديت الواجب. ومن اغرب ما جاء في المذكرات في هذا المجال قوله “يتعين لي أن أقول إن عبدالحكيم عامر حاول إقناع عبدالناصر في الستينيات بأن يتحول الحكم إلى ديمقراطية برلمانية، وأن يكون أنور السادات رئيسًا للجمهورية، ويكون عبدالناصر رئيسًا للوزراء، ثم يكون حزبًا ناصريًا تحت قيادته، ليدخل انتخابات حرة، تجعله رئيسًا للوزراء بحكم الشعب،وقد اقتنع عبدالناصر بعض الوقت بهذه الفكرة، ولكن (محمد حسنين هيكل) أعاده مرة أخرى إلى فكرة الأسطورة “وأنه الملهم نصف آله” وأحب أن أقول الآن إنه إذا أعيدت انتخابات رئاسة الجمهورية فسوف أعطي صوتي بلا منازع لأي من أولاد عبدالناصر، لأنهم وقد انتهت فكرة الأسطورة سوف يكونون على أمانة أبيهم وشجاعة أبيهم، الذى مات فقيرا”..

    ما كتبه بدران في مذكراته يدخل في نطاق ما يسميه علماء التاريخ بالشهادات الشفهية من معاصري الأحداث والمشاركين فيها. وهذه الشهادات لابد أن تخضع وفق علم مناهج البحث التاريخي لما يعرف بالنقد الداخلي للرواية أو الشهادة، والنقد الخارجي لها، وهذا النقد هو الأداة المعاصرة المماثلة لعلم الجرح والتعديل الذى اتصل بروايات الحديث النبوي الشريف والذي كان من أهم قواعده أن يكون الراوي للحديث والناقل للرواية شخصاً سويًا، محلاً للثقة ليس في مسلكه ولا عقيدته مثلب من المثالب، وهو الأمر الذي لو طبقناه على البعض لما صلحوا أصلًا للشهادة وقد بدى لي أنها ذكريات لا مذكرات، فلا وثيقة ولا جواب رغم أنه كان من اقرب ما يكون من عبد الناصر وعامر وتولى امور كثيرة بنفسه كأن يكون وزيرًا للحربية.

  صدرت ”مذكراته وصدرت الثلاثة أجزاء الأولى منها في كتب عن دار نشر “الخيال”، بينما صدر الجزء الرابع منها مسلسلاً في مجلة المصور عام 2010، وفي تلك المذكرات شن “صلاح نصر” هجوماً ضارياً على “عبد الناصر” ، ودافع بشدة عن المشير “عبد الحكيم عامر”،

    إنتقل بعدها بدران في الكلام عن بذخ ناصر، ومدى نجاح التوظيف الإعلامي في تمثيل زهد ناصر. وأن ذلك ليس صحيحاً. فناصر كان يوصي على مقتنيات وألعاب من بيروت لأطفاله. ويبرر، أنه من حق ناصر وعائلته الحياة في مستوى رئيس الجمهورية.. لكنه لم يكن كما كان شائعاً يعيش حياة الكفاف! وأن كل ذلك الكلام هو من صنع محمد حسنين هيكل الذي خلق أسطورة ناصر، وهو المسؤول عن كل تلك الأكاذيب حول ناصر وجعلته هو ذاته يصدقها فيتحول إلى نصف إله.

   انتقل الكلام بعدها، إلى التغيرات التي حدثت على شخصية ناصر بعد محاولة إغتياله الفاشلة الأولى عام 1954 وحرب 1956 ومؤامرة إغتياله الفاشلة الثانية عام 1965 والتي أوكل ناصر مهمة التحقيق فيها إلى بدران الذي كشف عن مؤامرة الإخوان المسلمين لاغتيال ناصر. يقول بدران بأنه قد تم إعتقال حوالي خمسة آلاف شخص خلال هذه التحقيقات من ضمنهم سيد قطب والذي حكم عليه فيما بعد بالإعدام. وينكر تماماً أنه قد تعرض إلى سيد قطب بالذات بأي شكل من أشكال التعذيب.. لكنه لم ينكر استخدام التعذيب مع بقية المعتقلين بل وقال أن بعض أوامر التعذيب كانت تأتي مباشرة من عبدالناصر إلى آمر السجن الحربي حمزة البسيوني وأحياناً أخرى منه شخصياً أي بدران. ولكنه ينفي تماماً أن يكون هناك أكثر من عشرة معتقلين فقط من ماتوا في السجون.. وحتى هؤلاء لم يموتوا من التعذيب إنما ماتوا من الصدمة! صدمة اعتقالهم ومواجهتهم بالأدلة الدامغة التي تدينهم. في الواقع، ماتوا من الصدمة؟ إذا كانت المعتقلات المصرية بريئة لهذه الدرجة في العهد الناصري.. لماذا كل ذلك التكتم عليها؟ كان بإمكان الحكومة المصرية أن تظهر أوراق التشريح التي تثبت أسباب الوفاة.. وكان بإمكانها التصريح بعدد الوفيات وغيرها.. ولكن أياً من هذا لم يحصل. لماذا يا ترى؟. 

   من جهة أخرى، كانت شهادة زينب الغزالي والتي كانت في كتابها “أيام من حياتي” قد وصفت اعتقالها وتعذيبها على يد بدران.. مفرطة في المبالغة، فهي أشبه ما تكون بمشهد تعذيب رجل من قريش لفتاة أسلمت حديثاً! قد تكون هناك مبالغات كما يقول بدران في إدعاءات الأخوان لكن هذا لا ينفي وجود التعذيب كما أقر بدران ذاته. وقد أنكر بدران كذلك أنه يعرف أو التقى حتى بزينب على الإطلاق.. وقد أعلن عن دهشته لما تحدثت عنه في كتابها.

   يحمل بدران السادات مسؤولية حرب اليمن نقلاً عن لسان ناصر بأن فكرة التدخل العسكري المصري في اليمن كانت فكرة السادات. لقد كانت حرب اليمن مشكلة حقيقية للجيش المصري.. وقد تم توظيفها سياسياً وإعلامياً بشكل جيد. لكنها أثقلت كاهل مصر عسكرياً ومالياً.. والقول بأن كل ذلك هو بسبب السادات ولأنه كان على علاقة بيمنية هو أمر مخزٍ سواء بحق السادات أو ناصر كرئيس للجمهورية.. او الناقل بدران نفسه.

   عودة إلى حرب حزيران، حيث يشير بدران بالطبع، إلى مسؤولية ناصر الكاملة عن ما حدث. وأن الهزيمة العسكرية كانت بسبب المناورات السياسية الفاشلة التي قام بها ناصر والتي دفعت مصر ثمناً غالياً عنها. ولكنه لم يقل أي شيء يذكر عن زيارته –أي بدران- لموسكو وتأكيداته بأنه لو حدث هناك إعتداء عسكري على مصر فإن الإتحاد السوفييتي بنفسه سيتدخل ويخوض الحرب إلى جوارهم! من غير الممكن بالطبع، تجاهل مسؤولية ناصر الأولى والأخيرة عن قيام الحرب. لكن بدران شخصياً لا يقل عنه مسؤولية.. فهو بتأكيداته تلك أعطى القيادة المصرية الضمانات العسكرية اللازمة مما جعل ناصر جريئاً بما فيه الكفاية للقيام بتلك المناورات السياسية المتهورة. مما لا شك فيه، أن ناصر قد استخدم بدران وعامر وغيرهما كأكباش فداء للهروب من المسؤولية.. ومن قبل ذلك كانت تلك اللعبة المتقنة المتمثلة بالإستقالة ثم الرجوع عنها بعد الرفض الجماهيري لها.. ولكن هذا لا يعني براءة عامر وبدران والقيادة العسكرية المصرية لمسؤولياتها عما حدث. الفكرة هنا، هو أن الجميع كان يتحمل قدراً من المسؤولية.. ونعم، صحيح، أنه من الخطأ تحميل كل الخطأ لطرف دون الآخر.. وإن كانت القيادة المتمثلة برئيس الجمهورية هي من تتحمل المسؤولية الكبرى عما حدث.

 

   الواقع أنه في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967، تلقت مصر زلزالاً مدويًا لعلّها لم تفِق منه حتى الآن. لم يقتصر أثره على ضياع سيناء وتدمير الجيش المصري وحسب، وإنما إلى ما هو أعمق من هذا. هوَت ضربة إسرائيل على نافوخ نظام عبدالناصر الذي كان يسعى لمدِّ سلطانه من المحيط إلى الخليج، فجعلت استمراره داخل قواعده موضع شكٍّ كبير. وبالرغم من المظاهرات العريضة التي خرجت عقب إعلان عبدالناصر التنحي، فإن التصدعات العميقة والجروح الغائرة التي نتجت عن ضياع سيناء ظلّت ماثلة في أركان نظامه، وكشفت للعلن لأول مرة حجم الاستقطاب التي كانت عليها مؤسسات الدولة بينه وبين صديق عمره عبدالحكيم عامر، قائد الجيش الذي فشل في جميع معاركه، ورغم ذلك ظلَّت قيادات المؤسسة العسكرية على ولائها له ورغبتها في استمراره للأبد، وهو ما صار مستحيلًا عقب الهزيمة، مما استلزم مواجهة بين الرجلين استُنفرت فيها أجهزة الدولة الأمنية والسياسية، ولم تعد الساحة تحتمل الاثنين معًا.

    في كتابه «هزيمة الهزيمة»، ينقل مصطفى بكري رواية جمال عبدالناصر لصراعه مع عامر خلال 3 جلسات متتالية عقدها أول مجلس وزراء تم تشكيله عقب الهزيمة برئاسته، خلال أيام 27 أغسطس و3 سبتمبر و17 سبتمبر 1967. ليس مناسبًا للقيادة حكى عبدالناصر أن عبدالحكيم اتصل به يوم 5 يونيو/ حزيران ليؤكد له أن الوضع انتهى وأن «الجيش مش قادر يصمد» وطلب الانسحاب، ثم اقترح إصدار بيان أن أمريكا وبريطانيا شاركتا في الهجوم، وهو ما رفض جمال القيام به، ثم أعلن له رغبته في إعلان تنحيه عن منصبه، وطلب منه ترشيح اسم من يرى أنه يستحق خلافته فأجابه: شمس بدران، وزير الحربية الخاسر معركته للتو! وهو ما اعتبره عبدالناصر اقتراحًا «غير معقول».

    يحكي عبدالناصر أنه خلال مكالمة هاتفية جمعته ببدران يوم 8 يونيو/ حزيران، تحدث فيها بدران عن عبدالحكيم قائلاً: «He is not fit to command» (هو ليس مناسبًا للقيادة). في اليوم التالي، ذهب عبدالناصر ليُعلن تنحيه عن منصبه، وهنا تجلّى أن عزم المشير المهزوم على تعيين صديقه الوفي رئيسًا للجمهورية حاسمًا، فحسبما يروي عبدالناصر أن عامر، خلال إلقاء البيان، وفور كشف عبدالناصر عن نيّته ترْك مقعده لزكريا محيي الدين، أرسل له برقية، وهو لا يزال على الهواء، يطالبه فيها بالتوقف وعدم استكمال حديثه! وعلى الرغم من أن المشير وشمس بدران أعلنا استقالتيهما، فإن عبدالناصر بلغه أن 700 ضابط احتشدوا في مركز قيادة الجيش يوم 11 يونيو/حزيران (عقب التراجع عن التنحي)، ويطالبون بعودة عبدالحكيم للجيش، ووقتها كانت قوة التأمين الشخصي للرئيس محدودة لأنه كان قد أرسل كافة وحدات الحرس الجمهوري إلى الإسماعيلية، وهكذا كان بمقدور أي قوة عسكرية معقولة الحجم تشكيل خطر على سلامته.

    هذا الضعف العسكري الذي بدا عليه جمال في عيون أنصار عبدالحكيم منحهم ثقة مفرطة في التعامل مع الأمر إلى حد الاستهانة به هو شخصيًا. أراد شمس التدليل له على مدى سيطرته على القوات المسلحة، فأكد له أنه لو أراد أن ينقلب عليه سيفعلها من منزله! أرسل الضباط أربعة منهم مندوبين عنهم إلى الرئيس، ومنحوه عريضة تُطالب بعودة عامر إلى القوات المسلحة، وهو ما استشاط له غضبًا. يحكي: 4 ضباط مستعناش أكلمهم ييجي يقدمولي عريضة! هوا أنا الخديو توفيق؟ ولأن «عبدالناصر 67» أزاح فكرة الحلول الوسط من قاموسه بعد أعوام من ممارستها لضبط علاقته برفيق عُمره حتى «خربت البلد» كما أعلن في الاجتماعات، فقد كان عليه ألا يهادن حكيم لأول مرة في حياته، وقرر المضي في قراره بإبعاده عن الجيش إلى الأبد، واستنفر قواه لمواجهته.

   لقد أعاد عبدالناصر الحرس الجمهوري من الإسماعيلية، وحشد قوة دبابات ومدرعات وبعض أفراد الشرطة العسكرية والضباط الموالين له، ثم أصدر قرارًا بتعيين الفريق محمد فوزي قائدًا عامًا للقوات المسلحة، وأعلن تحويل كافة «ضباط العريضة» إلى المعاش، كما أمر باعتقال كافة الضباط المحتشدين في مقر القيادة، وأي قيادة عسكرية أعلنت اتخاذ موقف مؤيد للمشير، وهو ما اعتبره حكيم إعلان حربٍ عليه رفض الاستسلام لها، فردَّ الصاع صاعين.

قلعة الحلمية

 يحكي عبدالناصر أن عددًا من الضباط بدؤوا يتوافدون على منزل المشير بالجيزة، وبعدها بدأ إخوته (بعضهم كانوا نوابًا في مجلس الأمة) في إقناع زملائهم بالمجلس النيابي لزيارته بمنزله حيث بدأ يكلمهم عن الحريات والديمقراطية وغيرها من الأمور «اللي الناس عادة لما بتبقى في السلطة مبتتكلمش فيها». تحولت هذه الزيارات إلى إقامة كاملة لعشرات العسكريين «قادة فرق ولواءات»، كما أرسل عبدالحكيم إلى عددٍ من أقاربه في المنيا ليأتوا إلى داره لدعمه، وتدفقت عليهم أسلحة بلغ حجمها 3 أطنان «حمولة 4 لوري»، علاوة على إنشاء عددٍ من الدشم وتحصينات ضد الدبابات! وبمرور الوقت، تحول المنزل إلى قلعة حصينة، وإلى بؤرة خارجة عن سيطرة الدولة. كانت كل الإشارات تؤكد أن ما يسعى عبدالحكيم لفعله سيكون أكبر بكثير من مجرد غَضْبة اعتاد، خلال السنوات الفائتة، أن يمارسها على صديق عمره لينال بها ما يريد.

   خلال هذه الأحداث، يحكي عبدالناصر أنه قابل شمس بدران، وأكد له الأخير أن الأمور ليست في صالحه «البلد ضدك والجيش ضدك! والبلد مع المشير والجيش مع المشير»، وأوضح جمال أن الثقة المفرطة عند بدران كانت لأنه أنشأ تنظيمًا «في كل مكان» بالجيش من دفعته (رقم 48) يستطيع تحريك القوات المسلحة متى أراد، لهذا أمر عبدالناصر باعتقالهم جميعًا (69 فردًا) وإقالة بدران من منصبه، وتعيين أمين هويدي بدلاً منه. لكن، سريعًا، بدأت المساعي لتدشين تنظيم جديد يستند عليه عامر لتحقيق رغبته في العودة للجيش من جديد. جرت اتصالات حميمة بعددٍ من الضباط في مختلف الوحدات، وتسرّب بعضها بحُكم «السربعة» إلى عبدالناصر عبر مدير مكتبه سامي شرف الذي تدفقت عليه البلاغات بأن المشير يدبّر مؤامرة ضد الرئيس، وهو ما نقله له قائلًا: «يهود مصر بدؤوا يتحركون من الداخل». لكن هذا لم يمنع من توقفها، وبلورتها في محاولة القيام بتحركٍ ما يعيد لأصحابها هيبتهم الجريحة.

العملية نصر

   تحولت مساندات الضباط الحماسية لقائدهم «صاحب الأفضال عليهم» إلى خطة عسكرية سارت على هدْي ما نفذه الضباط الأحرار في 23 يوليو وحملت ذات كلمة السر، فتضمنت الاستيلاء على مقر قيادة القوات المسلحة، وإعلان إعادة المشير لها، وتحريك وحدات برية وجوية إلى القاهرة تسيطر عليها وتعتقل كبار المسؤولين فيها، وعلى رأسهم عبدالناصر، وتغيّر نظام الحكم بالقوة إن تطلب الأمر، وتشكيل مجلس رئاسي يضم: عبدالحكيم عامر وعباس رضوان وشمس بدران وصلاح نصر إلى جانب قادة الأسلحة الرئيسية، مَنَحها المشير والذين معه لقبًا كوديًا لأمر طال انتظاره ولم يأتِ؛ «العملية نصر».

   اعتمدت فلسفة العملية على أن يتحرك المشير إلى أنشاص حيث يقع بها مقر مدرسة الصاعقة التي ستخرج منها قوة تحرسه إلى منطقة القنال حيث يتم الاستيلاء على مقر القيادة الشرقية بالإسماعيلية مع منع دخول أو خروج أي فرد منها، وبث نبأ عودته في أوصال الجيش، ثم إعلان مطالب تتمثل في الآتي: عدم التدخل في شئون الجيش إطلاقًا،حل الاتحاد الاشتراكي، انتخاب مجلس نيابي جديد، الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، إقامة حزب معارض للحكومة، إقامة حياة ديمقراطية يعبّر فيها الشعب عن رأيه بحرية. إن لم يستجب عبدالناصر لتلك المطالب، يتحرك لواء مدرع إلى القاهرة للسيطرة عليها والضغط عليه للرضوخ، وكل هذا وسط تواطؤ شبه تام من كافة أفرع الأجهزة الأمنية.

   يحكي جمال: مجالناش حاجة من المخابرات ولا من البوليس ولا من المخابرات العامة ولا من المخابرات الحربية ولا من المباحث العامة، اللي جالنا ناس جم، قالو إن حصلت الاتصالات دي. تم تحديد 27 أغسطس/ آب موعدًا مبدئيًا، كبديل جاهز للفشل المتوقع الذي كانوا يعلمون أنه سينتج عن جلسة العشاء المرتقبة بين الرجلين، دون أن يعلموا بالطبع أن الأول كان قد انتهى من إعداد عُدة الإجهاز على الثاني، وذلك بناء على خطة أطلق عليها اسم «العملية جونسون» استهدفت تصفية كافة جيوب هذه المؤامرة بمنزل الحلمية ومبنى المخابرات فور دخوله المنزل.

   يوضح ناصر أنه طلب حكيم ليأتيه في منزله يوم الجمعة (25 أغسطس/ آب) بحضور زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات، وواجهه بكل ما لديه، فأنكر بشدة ورفض أي حل وسط للأزمة؛ لا الاستقالة ولا إخلاء بيته ممن فيه ولا حتى منصب نائب رئيس الجمهورية. في ذلك الوقت، كانت هناك قوة مشتركة من الجيش والبوليس تحاصر منزل عامر بقيادة الفريق فوزي، طلبت من المحاصرين الاستسلام، وكانوا بقيادة شمس بدران، فرفضوا، لكن بعض جنود الحرس خافوا من احتدام القتال فاستسلموا وتركوا أماكنهم خالية، وهنا أيقن سُكان المنزل أن المعركة حُسمت فاستسلموا جميعًا وتم إيداعهم في سجن القلعة.

    بلغ مجموع المعتقلين سواء كانوا عسكريين أو مدنيين على ذمة هذه القضية 286 فردًا. في هذه الآونة كان المشير قد أُبلغ بنبأ تحديد إقامته، وهو ما لم يقبله، فسبّ عبد الناصر وبقية الحضور، إلا أن قوة أمنية خاصة أجبرته على التنفيذ، فتم عزله داخل منزله أولاً بعد تصفيته من المؤيدين، وبعدها جرت محاولة لنقله إلى مكان آخر أكثر انعزالاً، هو استراحة المريوطية، وهو الوضع الذي لم يكن حكيم ليحتمله أبدًا. في مساء 14 سبتمبر/ أيلول، ووفق رواية عبد الناصر، باغت عامر طبيبه المرافق وتناول سمًّا سريع المفعول (اكتشف الطب الشرعي لاحقًا أنه مادة الأكونيتين)، وعندما دخل عليه وجد نبضه ضعيفًا وفي حالة غيبوبة كاملة وفارق الحياة، وقالت الإذاعة المصرية: وقع أمس حادث يدعو إلى الأسف والألم، إذ أقدم المشير عبد الحكيم عامر على الانتحار بابتلاع كمية كبيرة من مواد مخدرة وسامة، ورغم كل الإسعافات الطبية العاجلة، فإنه أصيب أمس بانهيار مفاجئ نتج عنه وفاته. ليُسدل الستار إلى الأبد عن واحدة من أعقد الفترات التي مرّت عليها مصر.

   كل الناس اللي اتكلموا في هذا الموضوع اعتقلوا، كل قرايب عبد الحكيم اللي تدخلوا في هذا الموضوع اعتُقلوا، إخواته اعتقلوا، والنواب اعتقلوا. جمال عبد الناصر في يوم 22 أغسطس/ آب 1968، صدّق عبدالناصر على قرار محكمة الثورة برئاسة حسين الشافعي وعضوية الفريق عبد المنعم رياض واللواء سليمان، بحق 55 متهمًا أبرزهم شمس بدران وزير الحربية، وصلاح نصر رئيس المخابرات السابق، وعدد مختلف من ضباط جيش تبعثرت مناصبهم بين الأفرع. أدانت 45 فردًا منهم، عاقبت بعضهم بالأشغال الشاقة المؤبدة فيما تراوحت عقوبات الآخرين بين السجن 15 عامًا وبين الطرد من الخدمة العسكرية.

    يبقى في النهاية أنه عموماً، تمثل مذكرات رجل بحجم بدران وسياق حياته السياسية قدراً كبيراً من الأهمية في محاولة لفهم هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة. لكن المشكلة هنا، هي أنها مجتزأة ومقتطعة، ناهيك عن سرقتها عن طريق أمثال حمدي الحسيني وتوظيفها لأهداف السبق الصحفي مما يفقدها الكثير من المصداقية. بالطبع، يستطيع كل طرف أن يقول ما يشاء عما حصل من وجهة نظره. ولكن الحقيقة غالباً ما تكون في مكان ما وسط ما يقوله الجميع. إنها شيء ما من كل ما قيل.  

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى