قراءة حول عسكرة ترامب للفضاء الخارجي

أثار أمر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في الثامن عشر من يونيو الماضي، خلال اجتماع مع مجلس الفضاء الوطني، بتشكيل فرع سادس للجيش الأمريكي يركز على الفضاء، ويُحقق هيمنة الولايات المتحدة عليه، موجة من الجدل داخل الأوساط السياسية والعسكرية الأمريكية بين مؤيد ومعارض لتلك الفكرة.
تقوم الاستراتيجية الأمنية للرئيس ترامب على أن الفضاء منطقة قتال، شأنها في ذلك شأن البر، والجو، والبحر، وأن أعداء الولايات المتحدة والقوى المنافسة لها يحققون تفوقا على واشنطن في الفضاء الخارجي، مما يمثل تهديدا للقوة العسكرية الأمريكية. ويؤيد نائب الرئيس، رئيس المجلس الوطني للفضاء، مايك بينس، الهيمنة الأمريكية في الفضاء الخارجي، كما تهيمن على الأرض.
إن فكرة إنشاء قوة الفضاء ليست بجديدة، حيث اقترحت لجنة بقيادة دونالد رامسفيلد، قبل أن يتولى منصب وزير الدفاع في إدارة جورج دبليو بوش، لتقديم مقترحات لإصلاح القوة العسكرية الأمريكية في عام ٢٠٠٠، إنشاء قوة مهمتها تعزيز الهيمنة الأمريكية على الفضاء الخارجي، لكن الفكرة لم تنل نصيبها من المناقشة لتعرض الولايات المتحدة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وخوضها حربي أفغانستان ٢٠٠١ والعراق ٢٠٠٣. وفي يوليو من العام الماضي، أقر مجلس النواب الأمريكي تشريعا قدمه كل من النائبين مايك روجرز وجيم كوبر لإنشاء “فيلق فضائي” كخدمة عسكرية جديدة داخل القوات الجوية. لكن البنتاجون عارض تلك الفكرة في حينها. والجديد في إعلان ترامب لإنشاء قوة عسكرية فضائية أنها تكون منفصلة عن القوات الجوية، ومتساوية معها في الوقت ذاته.
حجج المؤيدين 
يؤيد عديد من السياسيين الأمريكيين والمشرعين بمجلسي الكونجرس الأمريكي (النواب والشيوخ) خطوة الرئيس ترامب لإنشاء قوة الفضاء لتراجع القوة الأمريكية الهجومية والدفاعية في الفضاء الخارجي أمام تزايد قوتي الصين وروسيا في السيطرة عليه، مما يمثل تهديدا للهيمنة والتفرد العسكري الأمريكي عالميا.
في هذا السياق، أشار نائب الرئيس، بينس، إلى أن أعداء الولايات المتحدة يعملون سرا على تعزيز قدراتهم العسكرية الفضائية، ويعملون على تطوير قدرات التشويش والقرصنة التي قد تشل المراقبة العسكرية وأنظمة الملاحة وشبكات الاتصالات الأمريكية.
ويري عدد من المشرعين الأمريكيين، مثل النائب الجمهوري مايك روجرز، والديمقراطي جيم كوبر، اللذين يؤديان فكرة إنشاء قوة فضائية داخل الكونجرس، أن هناك حاجة إلى فرع عسكري جديد، لأن القوة الجوية لا تولي اهتماما كافيا للفضاء الخارجي. وتتزايد أهيمتها، من وجهة نظرهما، مع تزايد الجهود الصينية والروسية لتطوير أسلحة فضائية يمكن أن تعرقل الأقمار الصناعية الأمريكية، وهو الأمر الذي يعرض الولايات المتحدة لمخاطر تهدد قوتها ومكانتها كقوة عظمى في النظام الدولي.
ويستند داعمو ضرورة إنشاء قوة عسكرية مستقلة متخصصة في الفضاء إلى تقييمات لوزارة الدفاع الأمريكية بأن التهديد الصيني والروسي للأقمار الصناعية الأمريكية حقيقي، وإلى تقييمات استخباراتية تؤكد قدرة موسكو وبكين على إسقاط الأقمار الصناعية الأمريكية في غضون عامين أو ثلاثة أعوام، الأمر الذي يعرض الأقمار الصناعية العسكرية والمدنية، وأقمار التجسس الأمريكية للخطر. فتلك الأقمار تستخدم في توجيه حاملات الطائرات في المياه الدولية، والطائرات بدون طيار. كما أن القوات البرية الأمريكية في مناطق الصراع تستخدمها لتنظيم تحركاتها، فضلا عن أهميتها في عمليات التجسس وجمع المعلومات عن أعداء وخصوم الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم. ولذا، فإن استهدافها سيؤثر بصورة جلية فى الأمن القومي الأمريكي.
ويربط بعض مؤيدي إنشاء فرع جديد بالقوات المسلحة الأمريكية والفوائد الاقتصادية المترتبة عليها، حيث يرون أن إنشاء قوة فضائية سيتيح اقتصادا يفوق تريليون دولار في الفضاء الخارجي، لأن هذا الفرع سيزيد من الإنفاق على التقنيات المهمة، والحفاظ على سلامة الفضاء، مما يضمن استمرار تطويرها التجاري دون عائق. ويضيفون: كما أن قوة الضربات النووية ردعت الحرب العالمية الثالثة لعقود، فإن قوة الفضاء سوف تتأكد من أن حرب الفضاء لن تحدث أبدا.
معارضة داخل البنتاجون 
يعارض العديد من المسئولين العسكريين قرار الرئيس الأمريكي بإنشاء فرع سادس للجيش الأمريكي يضاف إلى قوات المشاة، والقوات الجوية، والبحرية، والمارينز (مشاة البحرية)، وخفر السواحل. ومن أبرزهم وزير الدفاع، جيمس ماتيس، حيث أعرب عن رفضه إنشاء قوة فضائية منفصلة عن أفرع القوات المسلحة الأمريكية الحالية للتكلفة الباهظة لإنشاء قوة منفصلة تخصص في الفضاء، حيث أشار إلى أنها  تزيد من الإنفاق العسكري الأمريكي، والهدر في الميزانية المخصصة للدفاع، فضلا عما يرتبط بها من ازدواجية في البيروقراطية التي تنظم عمل المؤسسات العسكرية الأمريكية في وقت تسعي فيه الولايات المتحدة إلى تقليص النفقات العامة.
ويعارض ماتيس فكرة سلاح الفضاء، لأنها تتناقض مع مساعيه الرامية إلى تجميع المهام القتالية في وزارة الدفاع بدلاً من تشتيتها أكثر مما هي عليه الآن. وفي سياق متصل، رأت قائدة سلاح الجو، هيذر ويلسون، أن تشكيل قوة فضائية مستقلة سيجعل الجيش الأمريكي يسير في الاتجاه الخاطئ، لا سيما مع تأكيد الكثير من مسئولي وزارة الدفاع أن القوة الجوية وغيرها من الخدمات العسكرية الأمريكية يمكنها حماية الفضاء الخارجي والأقمار الصناعية العسكرية الأمريكية.
ويري منتقدو فكرة تأسيس قوة عسكرية جديدة خاصة بالفضاء أن دعوة الرئيس ترامب تفتقر إلى التخطيط التفصيلي لتنفيذها، فضلا عن أنها ستفجر سباق تسلح خطيرا في الفضاء، حيث يكشف إنشاء الولايات المتحدة قوة عسكرية خاصة بالفضاء عن تبنيها موقفا عسكريا أكثر نشاطا في الفضاء الخارجي، وهو الأمر الذي يثير المخاوف من حرب باردة في الفضاء الخارجي، مع سعي منافسيها إلى زيادة مخصصاتهم المالية لتعزيز قوتهم في الفضاء الخارجي، وكذلك دراسة كيفية إسقاط الأقمار الصناعية أو المركبات الفضائية الأمريكية أو اختراقها.
ومنذ خمسينيات القرن المنصرم، يتولى سلاح الجو الإشراف على العمليات العسكرية المتعلقة بالفضاء، لكن الرئيس لم يحدد ما إذا كانت القوة الفضائية ستواصل أنشطة القوات الجوية، أم أنه سيكون لها مهام عسكرية أخرى، مثل تطوير قدرات عسكرية هجومية أو دفاعية، وتطوير منصات الدفاع الصاروخية التي سيتم نشرها في الفضاء.
وتتعارض فكرة إنشاء قوة الفضاء مع سعي الرئيس ترامب إلى إلغاء التدريبات العسكرية مع حلفاء الولايات المتحدة، حيث تم إلغاء التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الشمالية على سبيل المثال، لأنها مكلفة، لكن تكلفة مثل تلك التدريبات منخفضة مقارنة بتكلفة البنية التحتية لفرع سادس من القوات العسكرية الأمريكية. فإنشاء قوة عسكرية جديدة يحتاج إلى مقر جديد، ومئات الموظفين الإضافيين بوزارة الدفاع، ورواتب ومزايا لقادة تلك القوة الجديدة.

 فعلى رغم تداول فكرة عسكرة الفضاء على مستوى أدب ودراما الخيال العلمي خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن طروحات من هذا القبيل بدأت تعرف طريقها إلى التطبيق العملي أواسط حقبة الحرب الباردة في ستينات ذلك القرن مع بزوغ إرهاصات الجدل الاستراتيجي في شأن عسكرة الفضاء في أعقاب إسقاط السوفيات طائرة التجسس الأميركية من طراز «يو-2»، مطلع أيار (مايو) 1960، والتي كان الأميركيون يباهون بها الأمم في حينها ويطلقون عليها اسم «سيدة التنين»، إذ تمكّنت طيلة سنوات من التحايل على وسائط الدفاع الجوي والطائرات المقاتلة في الاتحاد السوفياتي السابق. فبعدما انطلقت الطائرة من قاعدة بيشاور العسكرية في باكستان في مهمة تجسس على المواقع الاستراتيجية داخل الاتحاد السوفياتي السابق، نجحت صواريخ «إس – 75 « الروسية في إسقاطها، وأوقفت السلطات الروسية قائدها وحصلت منه على معلومات ثرية تتجاوز تلك المتعلقة بأسرار الطائرة «يو -2»، وهي الحادثة التي شكلت نقطة تحوّل مفصلية في مسيرة واشنطن لعسكرة الفضاء.

وجاءت الأزمة الكوبية في 1962 لتنعش ذلك الجدل الاستراتيجي، حين انطلقت في أعقابها محادثات أميركية – سوفياتية بغية الاتفاق على استعمال أقمار اصطناعية لأغراض الرقابة من أجل تعزيز الأمن الدولي وتقليص أخطار الحروب النووية العرضية والضربات الاستباقية. ثم ظهر مصطلح «حرب النجوم» لما يعرف بـ»مبادرة الدفاع الاستراتيجي» SDI، التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان في 23 آذار (مارس) 1983، بمشاركة دول حليفة لواشنطن مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسرائيل، بهدف استخدام أنظمة دفاعية مثبتة في الأرض والفضاء لحماية الأراضي والأجواء الأميركية من أي هجمات محتملة من الاتحاد السوفياتي تستخدم فيها الصواريخ الباليستية النووية العابرة للقارات‏.

وفي العام ‏1993 ، تغيّر اسم تلك المبادرة ‏ إلى «منظمة الدفاع الصاروخي الباليستي» ‏BMDO، ثم جاءت إدارة جورج بوش الابن وتابعت العمل في المشروع سراً تحت مسمى جديد هو «الدفاع الصاروخي الوطني»‏. ‏وفي مسعى منها للتحايل على انتهاك المشروع معاهدة الحد من انتشار الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ‏ABM‏ المبرمة في العام ‏1972، انسحبت إدارة بوش الابن من هذه المعاهدة في العام 2002، كما أجهضت واشنطن مساعي روسيا والصين ودول أخرى لتمرير مبادرة صارمة عبر الأمم المتحدة تحول دون اندلاع سباق تسلّح في الفضاء، لتتخذ الصراعات في هذا الصدد بعدها سمتاً دولياً، بعدما أجرت واشنطن وموسكو تدريبات استخدمت خلالها أسلحة نووية وتقليدية، فضلاً عن تجارب إطلاق لصواريخ مضادة للأقمار الاصطناعية وعمليات تسيير الأقمار نفسها في المدار، فيما بدأت قوى أخرى كالصين والهند وكوريا الجنوبية وإسرائيل تلحق بهما على هذا الدرب. وجاءت خطوة ترامب لعسكرة الفضاء ضمن سياق توجه عام ومتواصل لعسكرة السياسة الأميركية. فمن جهة الإنفاق العسكري، رفعت إدارة ترامب النفقات العسكرية السنوية من 612 بليون دولار عام 2018 إلى 686 بليون دولار عام 2019، ما يمثل زيادة بنسبة 10 في المئة في موازنة البنتاغون عن العام الماضي. ويلاحظ أن ترامب دأب على الترويج لصفقات التسلّح خلال لقاءاته مع القادة الدوليين، فيما تؤكد دراسات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن صادرات الولايات المتحدة من السلاح شكّلت من 34 إلى 50 في المئة من إجمالي صادرات السلاح العالمية خلال الفترة من 2013 إلى 2017، بينما بلغت ذروتها عند 70 في المئة تقريباً على مستوى الأسلحة كافة التي تم بيعها في العام 2011. وتوسعت صادرات الأسلحة الأميركية عموماً بنسبة 25 في المئة ما بين عامي 2013 و2017 مقارنة بالسنوات الأربع التي سبقت تلك الفترة، إذ زوّدت واشنطن 98 دولة بالأسلحة، التي توجهت 49 في المئة منها إلى دول الشرق الأوسط.

وبرّر ترامب إصراره على عسكرة الفضاء بالرغبة في استعادة هيبة الولايات المتحدة وتقوية مؤسساتها العسكرية والاقتصادية لاستبقاء التفوق العسكري الأميركي، خصوصاً في مواجهة روسيا والصين، إذ تسعى واشنطن إلى إعادة صوغ عقيدتها العسكرية بما يتيح لها تحقيق السيادة التامة على الفضاء، ومراقبة البرامج الفضائية لروسيا والصين والحيلولة دون تمكين الخصوم من استعمال مكتسباتهم في الفضاء بما يهدد الأمن الأميركي، فضلاً عن استخدام رادع الفضاء النووي كخيار تدمير شامل حال اندلاع حرب عالمية، علاوة على تأمين الأقمار الاصطناعية الأميركية وحرية التحرك الأميركي لاستخدام الفضاء.

وفي مسعى منه لشرعنة عسكرة الفضاء، حاول ترامب تفسير الفصل 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على أنه «يمكن الدولة استخدام القوة العسكرية لحماية نفسها من الأعمال العدائية»، وكذا الفصل الثالث من معاهدة الفضاء الخارجي الذي ينص على «أن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يتيحان استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه»، بما يبرر مساعي أية دولة لتطبيق القوة الفضائية لحماية أمنها ومصالحها. وبينما يصر ترامب على إجهاض أية محاولات لبلورة آليات قانونية تحظر عسكرة الفضاء، فإن التوجه المحموم الهادف إلى تأبيد الهيمنة العسكرية الأميركية على العالم قد يزج به نحو مزيد من العسكرة Militarization، بما يقوض الاتجاه الرامي إلى تفعيل آليات التسوية السلمية للنزاعات والأزمات الدولية المتفاقمة De militarization، الأمر الذي من شأنه أن يصيب البشرية بانتكاسة كفيلة بأن تضعها على شفا حقبة أشد سخونة من تاريخها المفعم بالصراعات الممتدة والمواجهات الدامية.

خلاصة القول: إن الحشد العسكري الأمريكي في الفضاء سيكون له تأثير مزعزع للاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي. فبمجرد إرسال الولايات المتحدة أسلحة إلى الفضاء الخارجي، فإن كثيرا من القوى المنافسة للولايات المتحدة وكذلك خصومها ستتبعها في ذلك، لاسيما مع تطويرها صواريخ مضادة للأقمار الصناعية، الأمر الذي ينسف القواعد التقليدية لسلامة الفضاء الخارجي، وتحويله إلى ساحة للمعارك المحتملة، وتحويله إلى مكان خطير. ومن شأن إنشاء فرع جديد بالجيش الأمريكي خلق مسئوليات بيروقراطية لا داعي لها في وقت الجيش الأمريكي مثقل فيه بالنزاعات الخارجية.
  • بقلم عمرو عبد العاطي

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button