قراءة في أسباب الصراع المسلح في ليبيا ومساراته المحتملة

د. محمد عاشور  مهدي – أستاذ العلوم السياسية المساعد – معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة.

مقدمة:

حينما هبت رياح التغيير والثورة على كل من تونس ومصر، أكد المراقبون والمحللون السياسيون أن ثروات ليبيا كفيلة بألا تجعل الشعب الليبي يثور، غير أن الليبيين أنفسهم كان لهم رأي آخر!.

حيث تصاعدت الاحتجاجات ضد النظام السياسي، وتحوّلت الاحتجاجات السلمية في ليبيا منتصف (فبراير) 2011 إلى مواجهات دموية بين النظام والثوار، على عدة جبهات ما بين الشرق والغرب، كاشفة الستار عن أسباب أخرى كانت تحت الرماد دفعت الليبيين لاختيار الثورة رغم الثروة، أبرزها الفساد في كافة المناحي، وعدم العدالة في توزيع الثروات، وحالة التخلف الذي تعيش فيه ليبيا رغم ثرائها بالنفط، وغياب المعارضة الحقيقية، وانسداد قنوات التواصل، فضلا عن “القمع الأمني” عبر اللجان الثورية، والذي امتدت أذرع قمعه إلى الخارج لتلاحق كل من يختلفون مع النظام، إلى الحد الذي دفع إلى وصف النظام الليبي بأنه نظام قمعي بامتياز داخليا وإرهابي خارجيا(1).

وتفاعلاً مع الأزمة، صدر القراران الدوليان رقما 1970 و1973، والذي تضمن أولهما إقرار عقوبات دبلوماسية ومالية على النظام، وفرض الثاني حظر طيران فوق ليبيا وأكد على حماية المدنيين بكل الوسائل اللازمة، وهو الأمر الذي حد كثيرا من قدرات النظام الليبي في استخدام قواته الجوية، وحرم قواته البرية من غطائها الجوي. رغم ذلك، لم تنجح قوات المعارضة في حسم الصراع لصالحها في ظل افتقارها للجنود المدربين والعتاد مقارنة بقوات النظام، حيث جرى التذرّع ابتداءً بنص القرار 1970 لمنع توريد السلاح إليهم في مساواة نظرية بينهم وبين النظام، كما تمسّكَ حلف شمالي الأطلسي “الناتو” بالتطبيق الحرفي للقرار 1973، والذي لا يسمح بأكثر من حماية المدنيين، مع محاولة إنهاء الصراع بتسوية سياسية معينة. وفي ظل ذلك التوازن وصلت المسألة إلى ما يشبه حالة الجمود في أرض الواقع.

وتهدف تلك الدراسة إلى عرض ملامح التشابه والاختلاف بين تطورات الأحداث في ليبيا مقارنة مع نظيرتها في كل من تونس ومصر، ثم تناول أهم أسباب حركة التمرد الليبية التي تصاعدت إلى حرب أهلية، وعوامل وصول الحالة إلى ما يشبه الجمود، ثم السيناريوهات المحتملة لمسار الأحداث مستقبلاً.

أحداث ليبيا والثورات العربية: ملامح التشابه والاختلاف

يمكن القول أن مختلف الثورات والحركات الاحتجاجية التي شهدتها المنطقة العربية في الأشهر الأخيرة من عام2010م ومطلع عام 2011 قد تشابهت في مجموعة من الخصائص والسمات يمكن إجمالها فيما يلي:

–   أنها في مجملها كانت ثورات واحتجاجات من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أكثر منها من أجل لقمة العيش والخبز، وإن مثل الأخير وقودا رافدا لمزيد من المشاركة من جانب فئات الشعب المختلفة في مرحلة تالية من اندلاع حركات الثورة والاحتجاج.

–   أن مطالب تلك الحركات جميعها قد ركزت على الإصلاحات الداخلية بالأساس، ولم يكن للسياسات الخارجية موقعا يذكر فيما يتصل بمطالب تلك الجماعات الاحتجاجية في بدء الأمر.

–   تشابهت جميع تلك الحركات أنها بدأت سلمية الطابع، رغم كافة محاولات النظم لوصمها بالتمرد والعنف وجرها إلى مواجهات تبرر للنظم تصعيد استخدام آلة القمع في كبح جماح تلك الحركات السلمية والقضاء عليها.

–   مثل الشباب والطبقة الوسطى الوقود الأساسي لاندلاع حركات التمرد والثورة، وذلك على عكس كثير من التوقعات والصور الذهنية عن هاتين الفئتين (الشباب، الطبقة الوسطى)، حيث ساد الاعتقاد بأن الثورات إن قامت ستكون ثورة الغوغاء والجياع، وأن الشباب بانشغاله بتافه الأمور من أنشطة يومية وإعلام وفراغ ثقافي وعلمي غير قادر على استيعاب الواقع ناهيك عن تغييره، والاعتقاد بأن الطبقة الوسطى لم يعد لها وجود في ظل انشغالها بكيفية الصعود للطبقة الراقية، ومخاوفها من السقوط إلى الطبقة الدنيا.

–   لعبت التكنولوجيا وثورة الاتصالات دورا أسياسيا في عملية التعبئة والتحضير للثورات ومسيرات الاحتجاج التي شهدتها البلدان العربية المختلفة، كما لعبت المساجد ودور العبادة دورا مماثلا كأطر للحشد وملتقيات للتجمع يصعب على النظم المختلفة إغلاقها ومنع الناس من ارتيادها، خاصة مع كسر حاجز خوف كثير من أئمة تلك الدور من مساجد وكنائس وخروجهم عن التعليمات بالخطابة والعظة في اتجاه بعينه.

–   يلاحظ أن جميع الثورات والحركات الاحتجاجية في تيارها العام نظرت للخلاف والصراع على أنه صراع ذا محتوى وطني غير إقصائي على الصعيد الاجتماعي بالمعنى الواسع ولا انقسامي بالمعنى الإقليمي.

–   تشاركت كافة الحالات التي شهدتها دول الشمال الأفريقي في انتشار مخاوف فئات نخبوية داخلية وقوى خارجية من هيمنة الإسلاميين على المشهد السياسي في مرحلة التحول وسقوط النظم القديمة، على تفاوت بين تلك الأنظمة من مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي بصفة عامة والسلطة بصفة خاصة.

–   أن التأخر والتردد في إحداث إصلاح سياسي حقيقي من جانب النظم السياسية بفعل الصراع بين المؤيدين والمعارضين لهذه الإصلاحات قاد من بين أشياء أخرى إلى التمرد والثورة على النظام ككل لتعاظم الشعور بعدم جدية الإصلاح. 

وعلاوة على العوامل السابقة تميزت التجربة الليبية بعدة سمات تفردت بها عن التحولات في كل من تونس ومصر يمكن إجمالها بدورها فيما يلي:

–   إفتقرت حركة الاحتجاج الليبية إلى مؤسسات مجتمع مدني تتبناها وتدعمها في ظل عدم وجود مثل تلك المؤسسات على الساحة الليبية وعدم مشروعيتها.

–   أنه منذ البداية فُرض على حركة التغيير والاحتجاج التحول السريع عن المسار السلمي إلى حمل السلاح لتدخل مباشرة إلى صراع مسلح مفتوح بين الطرفين (النظام والمعارضة).

–   أن طرفي الصراع قد عمدا إلى الاستعانة بأطراف خارجية (المرتزقة، الناتو)، في سعي كل طرف لحسم الصراع لصالحه.

–   أنه على عكس الحالتين التونسية والمصرية التي أسفرت عن تداعي رموز النظام والدخول في مرحلة البحث عن صيغة جديدة لمرحلة ما بعد النظم التي كانت قائمة شهدت الحالة الليبية جمودا في أرض الواقع في ظل عجز كل طرف عن حسم الموقف لصالحة.

–   أنه على حين اتسم الحوار على شبكة المعلومات في التجربتين التونسية والمصرية بالجدل النظري والنقاش الفكري(لم يخل من تبادل السباب والشتائم بأقذع الألفاظ) فإن الحالة الليبية شهدت غلبة لغة التهديد بالقتل والتصفية في الحوارات التي دارت بين مؤيدي ومعارضي النظام على شاشات الفيس بوك، ومواقع التواصل الاجتماعي، على نحو يبدو معه أن المعركة الدموية قد بدأت على شاشات شبكة المعلومات قبل أن تنتقل إلى أرض الواقع، كما تشير من طرف إلى درجة المفاصلة بين أطراف الصراع، الأمر الذي ستكون له انعكاساته على مساعي التسوية والحل فيما بعد في ظل تعقد أسباب الصراع.

الأسباب الاقتصادية والاجتماعية

على عكس ما يرى البعض، تكشف مؤشرات تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة عن أن ليبيا تعتبر من الدول العربية التي أحرزت تقدما في دليل التنمية  البشرية, فبعد أن كانت تحتل المرتبة رقم (64) على المستوى العالمي في التنمية البشرية سنة2000م، تقـدمت إلى المركز رقم (61) في تقرير سنة2001، ثم المركز (55) في تقرير عام 2009م،  فالمركز (52) في تقرير عام 2010م، مع احتفاظها عبر السنوات الثلاث الأخيرة بالمركز الأول على المستوى الأفريقي في التنمية البشرية.

 فمن ناحية ارتفع العمر المتوقع عند الميلاد للذكور من 46 سنة في عام1970 م إلى 77 سنة في العام 2001م وارتفع عند الإناث من 48 ســنة إلى 80 سنة عن نفــس الفترة(2). وبلغ معدل نصيب الفرد من الدخل القومي عام 2007 نحو 7290 دولارا أمريكيا(3).

وعلى الصعيد التعليمي بلغت نسب من يعرف القراءة والكتابة من البالغين (15 سنة فأكثر) نحو 88.31% كما ارتفعت نسبة استيعاب الطلاب الليبيين في المراحل التعليمية المختلفة. وكذلك وجود 15 جامعة منتشرة في أنحاء البلاد (مع مراعاة أن الخدمات التعليمية المقدمة بتلك الجامعات أقل بكثير من البنية التحتية المــتوفرة بها)(4).

وعلى صعيد الأمن الاجتماعي تمتعت ليبيا بدرجة كبيرة من الأمن الاجتماعي، بفضل سياسات الدعم السلعي والتأمين الصحي، وكذا الأمن الجنائي في ظل القبضة الأمنية للنظام، وذلك رغم تنامي معدلات الجريمة في العقدين الأخيرين، وهو ما عزاه البعض لتدفق المهاجرين الأفارقة على ليبيا تمهيدا للهجرة إلى أوروبا أو للاستقرار فيها(5). 

وفي تقرير نُشر في عام  2007م، أشاد صندوق النقد الدولي بالسلطات الليبية لإنجازاتها في مجال التنويع الاقتصادي, مشيرا الى النمو السريع في النشاط غير النفطي (7.5٪) والنمو القوي في انتاج النفط (4.7٪) في عام 2006. وفي المقابل ارتفعت معدلات التضخم السنوي إلى حد كبير من مستويات متدنية في النصف الأول من عام 2007 إلى حوالي 11٪ في الربع الثالث من هذا العام بسبب الزيادة في الأجور العامة وكنتاج لزيادة أسعار الواردات لاســيما الأغذية(6).

 وعلى الرغم من تلك المؤشرات، فإن الكثيرين من داخل ليبيا وخارجها يرون أنه منذ استيلاء معمر القذافي على السلطة بانقلاب عسكري ضد الملك إدريس عام 1969، فقدت ليبيا فرصا عديدة لنهضة شعبها وتقدمه. فالحكم الشخصي الذي اعتمد على عائلة القذافي ودائرة ضيقة من المقربين والأتباع، أدى  إلى حرمان الجماهير العريضة من عوائد الثروة في بلادهم.بل واستخدام تلك الثروة في شراء الأنصار، وترويض المعارضة أو قمعها(7).

فرغم الثراء النسبي للشعب الليبي مقارنة بشعوب عربية أخرى، (تقدر أرصدة النظام الليبي بما يزيد عن 200 مليار دولار من الفوائض المالية النفطية، علاوة على خمسين مليار دولار تدخل الخزينة الليبية سنويا)، فإنه توجد حالات تفاوت كبير في توزيع الثروة، فبدلا من التوزيع العادل لمليارات الدولارات من العوائد النفطية على الشعب الليبي، استأثرت بها دائرة ضيقة تلتف حول القذافي وعائلته. ويبدو أن الوصف الدقيق لهذه العقود الأربعة التي هيمن عليها “الأخ العقيد” هو: تبديد أرصدة الثروة والقوة في المجتمع الليبي(8). علاوة على ما بدده “القذافي” وأولاده من ثروة المجتمع الليبي على شراء الأسلحة، وتكديس ثرواتهم المالية في الغرب. مستفيدين في ذلك من الحصار الذي فُرض على ليبيا لعقود طويلة استطاع النظام خلالها تبرير إخفاقاته بذلك الحصار، وقد شهدت الفترة ذاتها تنامي شبكات التهريب وغسيل الأموال التي تورط فيها بعض كبار موظفي الدولة(9).

 ويمكن القول، أن الانفتاح على الغرب وتدفق الاستثمارات والشركات الأجنبية منذ عام 2003م للمشاركة في مشروعات البنية التحتية الطموحة للنظام، والتي قٌدرت تكلفتها ببلايين الدولارات (150 بليون دولار)، لم يحمل كثير تغيير في معادلة السلطة والثروة والفساد، بل زاد من تفاقم الوضع ما تزامن مع ذلك الانفتاح من حديث عن مشروعات لبيع الممتلكات العامة للقطاع الخاص، حمل معه مخاوف كثيرة للطبقات العمالية والفئات الاجتماعية المتوسطة والدنيا، بفعل تسارع وتيرة الانفتاح وتفشي الغلاء على الرغم من محاولات النظام ملاحقه الغلاء بزيادة الرواتب والأجور، إلا أن ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد حال دون نجاح تلك الزيادات، أو الوعود بتوزيع عوائد البترول على الشعب، في الحد من آثار السياسات الاقتصادية الرأسمالية السلبية على قطاعات عريضة من المجتمع(10).

 وهو ما دفع الليبيين للخروج في عمليات احتجاجية تفاوتت قوة وضعفا عبر الزمن وصولا إلى الصدام المفتوح مع النظام وأنصاره في منتصف فبراير 2011م، بفعل شعورهم بعدم العدالة في توزيع الثروات، وأن خيرات بلادهم يتم نهبها دون أن يحصلوا منها إلا على الفتات.  تلك الاحتجاجات إضافة إلى تعارض برامج الإصلاح التي قادها رئيس الوزراء شكري غانم (2003-2006) مدعومة من سيف القذافي، مع مصالح بعض قيادات الحرس القديم من اللجان الثورية، ورجال الأعمال الذين تضررت مصالحهم بفك الحصار عن ليبيا والانفتاح على الغرب، قادت إلى استقالة شكري غانم وتولي نائبه البغدادي المحمودي ذي التوجه المحافظ(11).

علاوة على ما سبق يمكن الإشارة إلى عامل آخر ساهم في تصاعد الاحتجاجات ضد النظام وهو التغير الديموجرافي وازدياد شريحة الشباب العمرية، وانفتاحهم على العالم الخارجي، فالشباب الليبي الذي يشكل حوالي 52% من مجموع السكان (تحت سن 25 عاما) لم يكن مستعدا أن يقبل التناقضات بين  الشعارات والسياسات التي تربى عليها ونشأ في إطارها والتي تؤكد على قيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وملكية الشعب وبين واقع يناقض ذلك تماما في ظل سياسات الانفتاح والخصخصة، التي هددت قطاعات كبيرة من هؤلاء الشباب، بل وهددت مصالح بعض أنصار النظام، الأمر الذي خلق شعورا بعدم الرضا تجاه تلك السياسات(12). 

وقد عبرت مجموعات ليبية على شاشات الـ “فيس بوك” عن أن “بلادهم رغم أنها تأتي في مقدمة البلاد العربية الغنية بالنفط، فإنها تأتي في مؤخرة البلاد العربية تقدما وتطورا”، بل إنها “تبدو مثل دول العالم الثالث الفقيرة، بل والفقيرة جداً”..

وعلى صعيد البعد القبلي يمكن القول إن العقيد القذافي وإن كان -في بداية حكمه- قد جعل إلغاء نظام القبلية واحدًا من المبادئ الأساسية لثورته، إلا أنه بعد نحو ربع قرن من الحكم وتحديدا في عام 1994م، ورغبة في ضخ مزيد من الحيوية والمشاركة الشعبية في مؤسساته الشعبية، قام بإنشاء لجان شعبية للقيادات الاجتماعية، قوامها الأساسي القيادات القبلية. وهو ما ترسخ وازداد وضوحا عام 1997م مع توقيع قادة القبائل على ما عرف بـ”وثيقة الشرف” التي تعهدوا بمقتضاها بالولاء للنظام الثوري، والتكاتف ضد أي عشيرة أو قبيلة تقوم بأي معارضـة مسلحة للنظام(13).  أكثر من ذلك  فإنه كثيرًا ما استغل الخصومات الداخلية بين القبائل من أجل إحكام قبضته على السلطة. و طوال فترة حكمه الاثنين وأربعين عامًا كوّن العقيد “القذافي” شبكة من المؤسسات المتناحرة، يتلاعب بهم في مقابل بعضهم البعض لمنع ظهور أي منافس له(14).

الأسباب التاريخية السياسية

علاوة على الأسباب الاقتصادية الاجتماعية  فإن الثورة القائمة في ليبيا تعود لاعتبارات وعوامل تاريخية وسياسية أيضا.

فتاريخيا كان هناك تنافس ضمني بين ولايات شرق ليبيا وغربها على المكانة والسيادة, واقتصاراً على حقبة حكم العقيد القذافي، يمكن القول أنه وإن كانت الولايات الشرقية وبخاصة بنغازي أكثر المدن الليبية التي ساندت حركة الانقلاب التي قادها “القذافي” عام 1969 في سنواتها الأولى ضد  النظام الملكي، فإن تحول تلك المدن إلى معقل للمعارضة الإسلامية وغير الإسلامية، ومصدراً للاضطرابات والمحاولات الانقلابية ضد نظام “القذافي” منذ السبعينيات من القرن العشرين وما بعدها، قاد إلى  مواجهات عنيفة بين الطرفين وموجة من هجرة الكفاءات والمهنيين إلى الخارج قدرها البعض في الثمانينيات بنحو ثلاثين ألف مهاجر اتجه معظمهم إلى أوروبا وهو ما رسخ حالة القطيعة بين “القذافي” ونظامه وتلك المدن، في ظـل فجـوة عــدم الثقة بين الطرفين(15)، ومحدثا حلقة مفرغة عناصرها: الإقصاء والقمع الذي يقود إلى الاحتجاج والتمرد، فيقود بدوره لمزيد من القمع والإقصاء وهكذا. 

وعلى الصعيد السياسي، يمكن القول إنه عبر عقود حكم القذافي تآكلت أسس شرعية النظام الليبي، والتي تمثلت في أربع ركائز أساسية، أولها:الثورية القومية، وثانيها: المساواة والعدالة الاجتماعية، والركيزة الثالثة: شرعية الكرامة والهوية الوطنية، وأخيرا القيمة الرمزية للقذافي كمناضل ضد (الإمبريالية الدولية).

فمن المعلوم أن أحد الركائز الأساسية للنظام الليبي والتي أكد عليها مرارا العقيد القذافي، هي أنه يمثل امتدادا للثورة الناصرية المصرية، وأنه أمين الوحدة العربية بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وهو أمر كانت له انعكاساته على التوجهات الداخلية والخارجية للسياسة الليبية، أدت بدورها إلى سلسلة من المغامرات على الساحتين الإقليمية العربية والأفريقية وعلى الساحة الدولية(16). قبل عودة النظام لمحاولة التكيف مع متغيرات ما بعد الحرب الباردة، وما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م والتي قادت من بين ما قادت إلى تخلي ليبيا عما لديها من أسلحة أو مشروعات أسلحة دمار شامل وقبولها دفع تعويضات باهظة لضحايا حادثتي “لوكيربي”، والطائرة الفرنسية(17).

فتقلبات السياسة الخارجية الليبية بين السعي للوحدة العربية تارة، والأفريقية تارة أخرى، وما بين مشاريع وحدوية ثنائية حينا، ومشروعات اتحادية جماعية حينا آخر، ومغامرات النظام في دعم ومساندة العديد من منظمات وحركات التمرد في أركــان المعمورة المختلفة(18), رسخت شعورا بالمرارة لدى قطاعات كبيرة من المواطنين الليبيين بسبب تبديد ثروات بلادهم في تلك المغامرات والسياسات والتعويضات(19) في حين يعاني الكثيرون منهم من الفقر والحرمان النسبي في مجالات التعليم والصحة والمرافق العامة والبنية التحتية، على الرغم من ثراء بلدهم(20).

وعليه فإنه، مثلما كانت حركة ضباط يوليو 1952م ملهمة لانقلاب 1969م في ليبيا، كانت ثورة 25 يناير2011م، في مصر، ملهمة لشباب 17 فبراير في ليبيا، بالثورة والتمرد على النظام الليبي. وعليه فليس غريبا أن تنطلق الشرارة الأولى للانتفاضة الليبية من مدينة بنغازي، التي تأثرت على مر العصور بما يجري في مصر، وكانت الأقرب لها، وأبناؤها الأكثر قومية وتأثراً بالثقافة والسياسة المصريتين.

وعلى الصعيد الداخلي، يمكن القول أن “القذافي” استطاع طويلا الحفاظ على سلطته ونظامه، عبر سياسة فرق تسد، والتبشير بمجموعة الأفكار شديدة العمومية التي ضمنها كتابه “الكتاب الأخضر”،  وما عرف بالنظرية العالمية الثالثة، والتي استمدها من الإيديولوجيات المختلفة (عروبية، إسلامية، اشتراكية..)(21), ومن القيم الأساسية للثقافة الليبية، من مثالها “شركاء لا أجراء”، “البيت لساكنه”،”الأرض ليست ملكاً لأحد”…والتي استطاع تأطيرها في مجموعة من المؤسسات ممثلة في المؤتمرات واللجان الشعبية، أضفت قدرا من الشرعية المؤسسية structural legitimacy  وقدرة على الضبط والسيطرة، علاوة على استخدام النظام قدراته الاقتصادية التي توفرت له من عوائد النفط في نشر أفكاره وإيديولوجيته إلى مدى أبعد بكثير من قيمتها ومضمونها(22). وممارسة القمع الشديد ضد كافة صور ورموز المعارضة داخل وخارج البلاد، والذي بلغ قمته في التسعينيات من القرن العشرين، مستغلا في ذلك، الحظر المفروض على التعامل مع النظام الليبي والذي حال دون تكشف تلك الممارسات(23).

ورغم كافة الشعارات الخاصة بحكم الجماهير والشعب، ورغم التنظيمات والهياكل الشعبية الهادفة إلى ترجمة فلسفة الكتاب الأخضر بشأن حكم الشعب نفسه بنفسه، والمتمثلة في المؤتمرات الشعبية بمستوياتها المختلفة وفي قمتها مؤتمر الشعب العام، والتي هي بمثابة السلطة التشريعية، واللجان الشعبية (السلطة التنفيذية).  فإن الواقع العملي يشير إلى أن السلطة تركزت بيد اللجان الثورية، والتي تتكون من مجموعة من الشباب المتحمسين الذين أعلنوا التزامهم وإيمانهم بأفكار العقيد القذافي وأطروحات الكتاب الأخضر، والتي أنشئت في  عام  1979م. وهو ذات العام الذي استقال العقيد “القذافي” وبقية زملائه من الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام. حيث أكد العقيد “القذافي” – آنذاك- أنه بذلك قد تم فصل السلطة عن الثورة، وأن السلطة أصبحت بيد الجماهير، وأن الحكومة بأشكالها التقليدية قد انتهت، مؤكداً أن قيادة الثورة بجب ألا تتولى أي منصب سياسي أو إداري، وأن تتفرغ لتحقيق غايات الثورة وتصحيحها، ومنذ ذلك الحين أصبح يطلق على العقيد “القذافي” لقب “قائد الثورة”(24), وأصبح المنصب الرسمي الوحيد للعقيد القذافي في الهيكلية الرسمية للدولة الليبية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة منذ ذلك التاريخ(25).

 ولقد لعبت اللجان الثورية دوراً مهماً في العمليات السياسية في ليبيا خلال العقود الماضية، حيث أصبح هناك خطان متوازيان للسلطة في ليبيا. الأول هو سلطة الشعب الممثلة في المؤتمرات الشعبية الأساسية واللجان الشعبية ومؤتمر الشعب العام, ويقع ضمن اختصاصها تسيير أمور الدولة الإدارية والسياسية المعتادة. والثاني هو سلطة الثورة التي يبدأ تسلسلها القيادي من العقيد “القذافي” والأعضاء الباقين من مجلس قيادة الثورة إلى اللجان الثورية، التي تقوم بمهمة مراقبة اللجان الشعبية ولها سلطات أوسع وأقوى. واستطاعت في كثير من الأحيان أن تستغل المواجهات مع القوى الخارجية – وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية- للحصول على المزيد من السلطة والنفوذ داخليا وخارجيا(26).

وقد حالت صورية المؤسسات وتسلط اللجان الثورية، دون مشاركة شعبية حقيقة في شؤون الحكم(27). حيث قدرت إحدى الدراسات حجم العزوف الشعبي عن المشاركة بما يتراوح من 50-80% ممن لهم حق المشاركة(28). كما نشأت طبقة من المستفيدين والمحتكرين للسلطة والثروة يصعب التغلب عليها، في ظل مناخ الفساد والإفساد الذي ضرب كافة جوانب المجتمع بما في ذلك أعلى مستويات النظام(29)، خاصة مع عدم وجود مؤسسات مجتمع مدني حقيقي مستقلة عن النظام(30).

وقد تواترت انتقادات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية للممارسات القمعية للنظام الليبي، فقد أعربت الأولى عن قلقها إزاء العدد الكبير المزعوم لحالات الاختفاء القسري وحالات الإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسفاً”(31). وجاء في تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2010 م أنه “ظلت حرية التعبير وحرية التجمع وتكوين الجمعيات تخضع لقيود مشددة، ولم تظهر السلطات قدراً يُذكر من التسامح إزاء المعارضة. وعُوقب بعض منتقدي سجل الحكومة في مجال حقوق الإنسان. واستمر احتجاز معتقلين سابقين في معتقل خليج جوانتنامو، كانت السلطات الأمريكية قد أعادتهم إلى ليبيا، وقُبض على بعض أهالي الضحايا الذين كانوا يسعون لمعرفة الحقيقة. ولم يتضح مصير مئات من حالات الاختفاء القسري وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتُكبت في عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وظل جهاز الأمن الداخلي، الذي كان ضالعاً في هذه الانتهاكات، يمارس عمله وهو بمنأى عن المساءلة والعقاب”(32).

ورغم الآمال التي علقها البعض على المشروع الإصلاحي لسيف الإسلام القذافي(33) – نجل العقيد القذافي- ومحاولته تقليص نفوذ اللجان الثورية فيما وُصف – في بعض الأحيان- بأنه صراع بين الإصلاحيين والمحافظين(34)؛ فإن ذلك المشروع واقعيا كان أداة في إطار الصراع من أجل السيطرة على السلطة والنفوذ بين النخب داخل النظام ونظر له كثير من الليبيين نظرة توجس وارتياب بفعل ميراث الفساد والاستبداد الذي عانوا منه جراء ثورة الفاتح وحقبة الحصار الدولي(35). يؤكد ذلك أن اللجنة الأساسية لمكافحة الفساد التي شكلها “القذافي”، فشلت في تحقيق غايتها وكانت انتقائية في أداء مهامها، على نحو جعل منها أداة لفرض الوصاية والسيطرة على الكيانات الاقتصادية والمالية المتعاملة مع الشركات الأجنبية، وخضوعها لإشراف الموالين للنظام(36).

وهكذا فإنه برغم – وربما بسبب- ما شهدته ليبيا من انفتاح اقتصادي منذ رفع العقوبات عنها عام 1999م من جانب الأمم المتحدة، والذى تسارعت وتيرته منذ عام 2003م،  ولم يتزامن معه إصلاح سياسي ملائم، بفعل تردد القيادة السياسية في اتخاذ قرار التحول، في ظل ضغوط وصراعات القوى بين المؤيدين والمعارضين للمشروع الإصلاحي، تصاعدت حدة  التوترات الداخلية، وتنامت قوى المعارضة للنظام، إلا أنها لم تكن قادرة وحدها على إزاحتة، في ذات الوقت لم تكن القوى الخارجية تثق في قدرة معارضة الداخل ولا الخارج الليبية على القيام بهذا الدور بفعل تشرذمها، وغموض غاياتها وأهدافها(37)، لذا كان التعويل على التغيير من داخل النظام ممثلا في المشروع الإصلاحي لسيف القذافي.

 إلا أن قيام ثورتي تونس ومصر غّير الموازين، في ظل تشابه النظم الثلاث من زاوية: عدم الاعتقاد بقدرة المعارضة على الإطاحة بها. فقد أدت الثورات الشعبية المصرية والتونسية إلى تقويض الصورة النمطية عن أجهزة القمع العربية وقدراتها الفائقة على التنبوء بالأحــداث وقدراتها الدائمة على ســحق التمردات والقضاء عليها.وكانت ثورة مصر بمثابة الشـــرارة التي أطلقت عنان الثـــورة الليبية، خاصة في شرق البلاد.

 وفي المقابل كشفت ردة فعل سيف الإسلام القذافي تجاه الأحداث عن هشاشة مشروعه الإصلاحي في ظل انحيازه التام إلى سياسات والده القمعية في مواجهة المتظاهرين السلميين الأمر الذي توارت معه ثقة العالم الغربي في مصداقيتة بشأن الإصلاح السياسي في البلاد. في ذات الوقت الذي مثلت فيه حركة الاحتجاجات الليبية فرصة تاريخية للتخلص من نظام العقيد القذافي، الذي كان بمثابة شوكة في حلق كثير من النظم ليست الدولية فقط، بل والإقليمية العربية منها، والأفريقية.

عوامل استمرار الأزمة في ليبيا 

مع عجز الثوار عن تحقيق تقدم عسكري يسمح بافتراض إن نظام القذافي سيسقط قريباً، ومع عجز قوات العقيد القذافي عن إزاحتهم عن المواقع التي حرروها. وصلت الأمور إلى  “حال الجمود”، وهو ما يدفع للبحث عن أسباب ذلك الجمود.

الطبيعة الشخصية للعقيد معمر القذافي

العقيد القذافي شخص يتسم بالعناد والتصلب في مواقفه، والتهور في ردود فعله، ومن غير المتوقع أن يتنازل بسهولة لمطالب المنتفضين، فهو لم يتنازل لمطالب زملائه في مجلس قيادة الثورة، وتعامل مع معارضيه بقسوة غير معهودة، ولم يبق إلى جانبه من أعضاء المجلس المذكور إلا بضعة أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، مثل مصطفى الخروبي، وأبو بكر يونس والخويلدي الحميدي (على علاقة نسب مع العقيد حيث تزوج ابنه الساعدي من كريمة الأخير).

عدم وجود مؤسسة عسكرية وجيش وطني

يمكن القول بعدم وجود جيش قوي في ليبيا على غرار مصر وتونس. وهو ما كان يقصده القذافي بدقة، فالعقيد  الليبي كان يخشى الجيش، ولا يثق به، ويعتبره خطراً على نظامه، ولهذا قرر حله تحت مسمى “الشعب المسلح” كبديل(38), حيث يتم تدريب الشعب على استخدام السلاح ولكن يظل السلاح “بلغت قيمته نحو 13 مليار دولار, بما يفوق حاجة جيش قوامه 55 ألف جنــدي في تلك الفترة(39)”، ومخازنه تحت سيطرة وهيمنة النظام, وحراسة الموالين له من الميليشيات وقوات الأمن الخاصة التي يرأسها أبناؤه أو أفراد قبيلته، على حساب الجيش الرسمي للبلاد. ويعود ذلك إلى محاولة الانقلاب الأولى التي قام بها عمر عبد الله المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة.

 إن ما ترتب على هذا الهيكل العشوائي المتداخل هو أنه بعكس مصر أو تونس، ليس هناك أية جهة لديها السلطة والموارد التي تمكنها من الإطاحة بالديكتاتور، لذا  فإنه من المستبعد أن يلعب الجيش دوراً كبيراً في حسم الأوضاع لهذا الطرف أو ذاك.

كما أن النظام الليبي تعلم من تجربتي تونس في الغرب ومصر في الشرق، وهو يعتقد أن تردد النظامين فيهما في ارتكاب مجازر دموية ضد المتظاهرين هو الذي أدى إلى سقوطهما، ولذلك حشد كل ما في جعبته من وسائل قمعية لإخماد الانتفاضة الشعبية.

ضبابية الموقف الغربي وانقسام القوى الكبرى

رغم استخدامه كل ما لديه من أوراق، سواء الأمنية منها أو الدعائية، بما في ذلك تسريب أنباء عن قيام دولة إمارة إسلامية في شرق ليبيا بعد سقوط المنطقة بالكامل في يد المتظاهرين والتحذير من تداعيات انهيار النظام على مسألة الهجرة باتجاه أوروبا، وقفت الدول الغربية في معظمها موقفا عدائيا تجاه النظام الليبي، وفي المقابل، وبسبب افتقار العالم الغربي لمعلومات واضحة عن تشكيل ومكونات قوى المعارضة، وتوجهاتها الفكرية، والسياسية، والاقتصادية(40), والخوف من مرحلة ما بعد القذافي(41), اتسم الموقف الغربي بدرجة من التردد والضبابية، ما بين الإقدام على مساعدة قوى المعارضة مالياً وإنسانياً وفرض حظر جوي وتوجيه ضربات جوية لقوات العقيد القذافي ومنشآته العسكرية لحماية المدنيين، والامتناع عن إمداد قوى المعارضة بالعتاد والتسليح اللازم لتمكينهم من مواجهة قوى النظام التي تفوقهم تسليحا، وكذا الامتناع عن إرسال قوات برية لحسم النزاع لصالح المعارضة. الأمر الذي أضفي درجة من الجمود على أرض الواقع لعدم قدرة أي من طرفي الصراع على حسم النزاع عسكريا لصالحه(42).

ويبدو أن حالة الجمود العسكري والسياسي التي تشهدها الأزمة الليبية إنما تعكس في جوهرها طبيعة التناقض وتعقد المصالح وتشابكها في النظام الدولي الراهن بعد نهاية الحرب الباردة. فعلى حين أكدت دول مجموعة البركس BRICS (روسيا، الصين، الهند، البرازيل, جنوب أفريقيا) في اجتماعها السنوي الثالث في 14 أبريل 2011 على ضرورة التسوية السلمية للأزمة الليبية، ورفض التدخل العسكري لحلف شمال الأطلنطي في ليبيا. سارعت فرنسا منذ البداية إلى الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، ودفعت باتجاه التدخل العسكري في الأزمة الليبية. وفي حين وقفت الولايات المتحدة موقفاً متردداً في البداية، حاولت بريطانيا اللحاق بركب التدافع الدولي على ليبيا في موقف وسط بين الموقفين الفرنسي والأمريكي. ولم يخل موقف بعض الدول الأوروبية أعضاء حلف شمال الأطلنطي مثل إيطاليا وتركيا وألمانيا واليونان من التردد والغموض، في ظل تضارب المصـــالح وتعقد الحسابات(43).

وبالنسبة للموقف الأمريكي فإنه يقع أسير اتجاهات ثلاثة تسود المؤسسات والمصالح الأمريكية(44). أول هذه المواقف تعبر عنه الشركات النفطية الأمريكية التي ترغب في الوصول إلى النفط الليبي حتى لو كان الثمن تقسيم ليبيا. الموقف الأمريكي الثاني تعبر عنه وزارة الدفاع الأمريكية التي لا تريد أن تخوض حرباً لمصلحة الشركات النفطية. ويرتبط الموقف الأمريكي الثالث من الحرب في ليبيا بصقور الإدارة الأمريكية أمثال سوزان رايس وهيلاري كلينتون. ويميل إليه الرئيس أوباما ومؤداه ضرورة رحيل القذافي(45).

وإذا كان يمكن تفهم الامتناع عن إرسال قوات برية؛ لما يمكن أن يحدثه ذلك من انشقاق داخلي وإقليمي، على الصعيدين العربي والغربي حول دور تلك القوات ومهمتها، فإن التخوف من مرحلة ما بعد القذافي هو ما يفسر تردد العالم الغربي في إمداد قوى المعارضة بالتسليح الكافي لحسم الصراع، وهو ما ينقلنا لمناقشة احتمالات المستقبل.

خيارات المستقبل

يمكن القول أن ليبيا أمام عدة خيارات:

السيناريو الأول:

 ومن بين أسوأ السيناريوهات المحتملة لليبيا هو تقسيمها إلى مناطق شرقية وغربية؛ فالواقع الجغرافي لليبيا الذي أتاح في الماضي – وطيلة قرون طويلة – قيام ثنائية إقليميْ برقة وطرابلس، مع بروز إقليم فزان في الجنوب أحياناً. والذي على أساسه نشأت ليبيا الحديثة بعد الاستقلال كدولة اتحادية فدرالية قبل التوحّد في دولة مركزية. قد يجعل ليبيا أمام احتمال جدّي للانقسام السياسي, أو لقيام دولة هشة تتعدّد فيها مراكز القوى السياسية والجغرافية، ففي ظل تواصل القتال دون وجود ضربة حاسمة لصالح أي من الأطراف. يمكن تصور أن ينفرط عقد الوحدة الليبية إلى دولتين أو ثلاث، بحيث يبقى النظام في إحداها. وستكون النتيجة هي المزيد من المعاناة والخسائر في الأرواح، حيث ستسعى القبائل من كلا الجانبين إلى الانتقام لنفسها من أعدائها، وهو ما يهدد بتكرار نموذج العراق أوالصومال أوأفغانستان(46).

السيناريو الثاني:

فهو ســقوط حكومة العقيد “القذافي”(47)، وسيطرة قوى المعارضة على كامل أقاليم البلاد، وهو الأقرب للتحقق -من وجهة نظرنا- حال تقديم الدعم للثوار، أو زيادة الضغط على النظام ومحاصرته بما قد يدفع إلى انهياره من الداخل.ولعل سعي المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية لاستصدار مذكرة اعتقال للقذافي وابنه سيف الإسلام تأتي في هذا السياق.

 على أن ذلك السيناريو يحتمل داخله عدة سيناريوهات فرعية يمكن إجمالها في أربعة سيناريوهات محتملة على النحو التالي:

1-   سقوط الدولة وانقسامها: وذلك بفعل صراعات داخلية بين رفقاء الأمس- الذين سيتحولون إلى فرقاء الغد- حول مغانم مرحلة ما بعد القذافي، وهو ما قد يقود بدوره إلى انقسام إقليمي في أرض الواقع بين دويلات شرق وغرب وربما جنوب البلاد، خاصة وأن التركيبة السياسية والقبلية والاجتماعية للمجلس الانتقالي تضم خليطا من القوى لا يجمعه -من وجهة نظري- سوى هدف إسقاط القذافي دونما رؤية واضحة لمرحلة ما بعد نظام القذافي. وهذا السيناريو سيقود حتما لمزيد من الفوضى الداخلية والإقليمية. لذا سيظل سيناريو الانقسام واردا وقد يتطلب تدخلا دوليا في صورة إرسال قوات حفظ سلام أجنبية، أو شيئًا أكثر فاعلية إلى ليبيا لتوفير الأمن. وهو ما سيثير الكثير من المخاوف والتساؤلات حول من الذي سيقوم بتوفير القوات أو يقبل بتحمل التكاليف(48).

2-   التحول الديمقراطي: ومؤدى هذا السيناريو قدرة المجلس الانتقالي على دعم نظام التعددية الحزبية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تشارك فيها كافة القوى السياسية على قدم المساواة، وهو ما يقود إلى حكومة ديمقراطية واستقرار داخلي وإقليمي، على أنه يحول دون ذلك السيناريو ميراث وتراكمات نظام العقيد القذافي المعادي لكل ما هو غربي من نظم وفكر، وهو الميراث الذي تشكلت حوله مجموعات لا يستهان بها من المستفيدين وأصحاب المصالح الذين لن يسلموا هم ولا فئاتهم الاجتماعية وأنصارهم القبليين بسهولة بمعطيات ذلك التحول.

3-   النموذج اليعقوبي: حيث تسعى قوى المعارضة إلى القطيعة مع كل ما هو قديم من نظم وتشكيلات اجتماعية واقتصادية وسياسية والتغيير الجذري لكل هذه التشكيلات، وإقصائها من الساحة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي سيقود حتما إلى توترات وصراعات داخلية وإقليمية طويلة المدى.

4-  اختطاف النظام (الدولة): ويفترض هذا المسار سيطرة إحدى القوى (قبلية، عسكرية، إسلامية،……)، على السلطة واستئثارها بها، مقصية كافة القوى الأخرى من الساحة ترغيبا وترهيبا، بما يسفر في النهاية عن نموذج استبدادي جديد للسلطة والحكم في البلاد.

 السيناريو الثالث:

مؤداه قدرة النظام الليبي على التغلب على كل التحديات والتحالفات التي تواجهه استنادا إلى تحالفاته القبلية والإقليمية العربية والأفريقية، وأرصدته المالية،  واستعادته السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، ورغم ضعف ذلك الاحتمال في ضوء المعطيات الآنية على أرض الواقع السياسي والعسكري، فإنه حال حدوثه سيؤدي إلى كثير من التعقيدات الإقليمية والدولية سيتعين معها غالبا الإطاحة بالنظام من خلال العمل السري وفرض العقوبات أو تعديل سلوكه فحسب من خلال التدابير الاقتصادية وغيرها. وهذا، على أي حال، هو المنحى الذي سبق وأقنع القذافي من قبل بالتخلي عن أســلحة الدمار الشامل(49).

خلاصة القول

إن هناك العديد من الأطراف الفاعلة والمتغيرات فيما يتعلق بالأزمة الليبية، حتى إنه لا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحدث لاحقًا، على أن المؤكد، إنه أي كان ما ستسفر عنه الأحداث فإنه سيكون له تداعيات داخلية وإقليمية ودولية، فليبيا ما بعد القذافي لن تكون بحال هي ليبيا القذافي.

فمن الواضح إنه، كما ذهبت إحدى الدراسات بحق، كلما زاد أمد بقاء النظم المستبدة في الحكم، كلما زادت احتمالات عدم الاستقرار بعد زوالهم من السلطة، خاصة إذا جاءت الإطاحة بهم عبر عمل قسري، الأمر الذي يفرض بقوة ضرورة قيام نظم تؤمن بتداول سلمي للسلطة بصورة سلمية ودورية على نحو يحول دون قيام نظم مستبدة طويلة الأمد بالمنطقة(50). 

الهوامش

Corri Zoli, Sahar Azar, and Shani Ross, Patterns of Conduct: Libyan Regime Support for and Involvement in Acts of Terroris, New York: institute for National Security and counter terrorism studies , Syracuse University. 2010, Pp5-17 Bruce W. Jentleson and Christopher A. Wrytock, ”Who “won” Libya?”., International security, vol 30,no.3, Winter 2005-2006). P.56

 منى محمد الحسيني عمار, مؤشرات التنمية البشرية في مصر: دراسة مقارنة مع بعض الدول العربية، على الرابط التالي: cpsfiles.imamu.edu.sa/ar/documents

  Bertelsmann Stiftung, BTI 2010 — Libya Country Report. Gütersloh: Bertelsmann Stiftung, 2009, p.5. at: http://www.bertelsmann-transformation-index.de/fileadmin/pdf/Gutachten_BTI2010/MENA/Libya.pdf, Accessed: 2011/5/17 7:03

  Bertelsmann Stiftung, op.cit, p.18

  Ibid.,, p.5.

  Ibid, pp13-14

  Bruce W. Jentleson and Christopher A. op.cit. and Martin Asser,  “the Mummar Gaddafi story”., At: http://www.bbc.co.uk/news/world-africa-12688033 Accessed: 15/05/2011 12

حمدي عبد الرحمن،” ليبيا التحرر الثاني”، At: http://www.hounaloubnan.com/news/29653 Accessed at 16-5-2020

Lisa Anderson, Rogue Libya’s Long RoadAuthor(s): Middle East Report, No. 241, Iran: Looking Ahead (Winter, 2006), p45. Published by: Middle East Research and Information, http://www.jstor.org/stable/25164764.Accessed: 13/05/2011 14:03

  Bertelsmann Stiftung, op.cit., pp11-12

  Ibid., p12

  Ibid, p 22

  Ibid, pp.9-1I

  Tripoli witness: tribalism and threat of conscription, http://www.bbc.co.uk/news/world-africa-13380525 Accessed: 15/05/2011 11:39

  Oye Ogunbadejo, “Qaddafi’s North African Design”.,  International Security, Vol. 8, No. 1 (Summer, 1983), p. 159The MIT Press Stable URL: http://www.jstor.org/stable/2538490.Accessed: 13/05/2011 11:57

  Corri Zoli, Sahar Azar, and Shani Ross, op.cit, Pp, 5-17

Schwartz, Jonathan B., “Dealing with a ‘rogue state’: the Libya precedent”., THE AMERICAN JOURNAL OF INTERNATIONAL LAW , Vol. 101,  2007, P 55, PP577-580

Corri Zoli, Sahar Azar, and Shani Ross, op.cit, Pp, 5-17 Mahmood MamdanI, “ Libya after Nato invasion”. At: http://english.aljazeera.net/indepth/opinion/2011/04/201148174154213745.html

Oye Ogunbadejo., op.cit., pp 159-160

  Bertelsmann Stiftung, Op.cit.,pp21-22

Ronald Bruce St., John, “The Ideology of Muammar Al-Qadhafi: theory and practice”., international journal of Middle East Studies, VOL., 15.,1983, P.471,   Oye Ogunbadejo., op.cit., p 155

  Ronald Bruce St., John, op.cit., PP.471-490,

  Lisa Anderson, Op.cit., p45.

  THE POLITICAL TRANSFORMATION OF LIBYA UNDER QADHAFI, AFRIKA FOCUS, Vol.4, Nr.3-4, pp. 159-160.  at:http://www.gap.ugent.be/africafocus/pdf/88-4-34-Haghebaert.pdf

  THE POLITICAL TRANSFORMATION OF LIBYA UNDER QADHAFI, AFRIKA FOCUS, Vol.4, Nr.3-4, pp. 153-168.  at:http://www.gap.ugent.be/africafocus/pdf/88-4-34-Haghebaert.pdf

  Bruce W. Jentleson and Christopher A. Wrytock, op.cit., p61

 Martin Asser,  “op.cit 

Bertelsmann Stiftung, op.cit., p9

Ibid, p8

Ibid, p19

http://www.achr.nu/art299.htm

أنظر تقرير منظمة العفو الدولية بشأن ليبيا : http://www.amnesty.org/ar/region/libya/report-2010, وانظر كذلك:Bertelsmann Stiftung, Op.cit., pp7-8.

  Lisa Anderson, Op.cit., p45

  Bertelsmann Stiftung, Op.cit.,p17, p.23

  Lisa Anderson, Op.cit., p.47

  Bertelsmann Stiftung, Op.cit.,p22

  Ibid.,25

  POLITICAL TRANSFORMATION OF LIBYA UNDER QADHAFI, AFRIKA FOCUS, Vol.4, Nr.3-4, pp. 160.

  Oye Ogunbadejo., op.cit., p 156

  David Gritten, key figures in libya’s rebel councel, At: http://www.bbc.co.uk/news/world-africa-12698562 Accessed: 15/05/2011 12:06

  Lisa Anderson, Op.cit., p45, Bruce W. Jentleson and Christopher A. op.cit. Pp.57-58

Jonathan Marcus ,Libya stalemate leaves Nato without “plan B”. At: http://www.bbc.co.uk/news/world-africa-13358885. Accessed: 15/05/2011 12:06

     حمدي عبد الرحمن، “التنافس الدولي وأثره في الثورة الليبية”، At: http://www.aleqt.com/2011/04/22/article_529746.html accessed at 16-5-2011

Walter Pincus, how do we end libya stalemate? remove Gaddafi,At: http://www.ongo.com/v/728000/-1/5151CA0775BAA543/how-to-end-libya-stalemate-remove-gaddafi Accessed: 13/05/2011 12:21

المرجع السابق،

Mahmood Mamdani, op.cit.

Walter Pincus, op.cit.

Jonathan Marcus, “Libya: a new phase in the conflict” At:  http://www.bbc.co.uk/news/uk-13112559 Accessed: 15/05/2011 12:57

Bruce W. Jentleson and Christopher A. Wrytock, op.cit.,

Richard K. Betts and Samuel P. Huntington, Dead Dictators and Rioting Mobs: Does the Demise of Authoritarian Rulers Lead to Political Instability?”.,International Security, Vol. 10, No. 3 (Winter, 1985-1986), pp. 112-146, URL: http://www.jstor.org/stable/2538944.Accessed: 13/05/2011 11:59

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button