دراسات سياسية

قراءة في العوائق الإبستيمولوجية للعلوم السياسية المعاصرة

أحدثت ثورة العلوم الإجتماعية و إنتقالها من المنهج الميتافيزيقي الفلسفي إلى المنهج الوضعي الذي أسس لظهور علم الإجتماع على يد أوغست كونت ثورة علمية في هذا الميدان حيث ظهرت بعد ذلك عدة علوم فرعية في مجال   العلوم الاجتماعية على غرار علم الإقتصاد و السياسة هذا الأخير الذي يندرج مقالنا اليوم حوله و قد قامت جامعة كولومبيا بتعريف علم السياسة بأنه العلم الذي يقوم بدراسة الحكومات والمؤسسات، وعددٍ من السلوكيّات والممارسات التي  يقوم بها السياسيون. يعني هذا التعريف أن هذا العلم يهتم بدراسة آلية الحكم والمؤسسات السياسيّة بكلتا نوعيها (التشريعيّة والتنفيذيّة)، وبعض التنظيمات غير الرسميّة كجماعات الرأي العام والأحزاب، كما أن هذا العلم يعنى بدراسة جميع النشاطات السياسيّة للأفراد، كعمليات الاقتراع والتصويت في الانتخابات وغيرها

و في البداية للإجابة على تساؤلنا لا بد من تزويد القارئ ببعض المفاهيم حول الإبستيمولوجيا و منهجية البحث العلمي

تعرف الإبستيمولوجيا في الأصل بأنها مأخوذة من كلمتين يونانيتين إبيستيم Epistem ومعناها علم و لوجسLogos ومن معانيها نقد أو دراسة و تدل هذه الكلمة على فلسفة العلوم إذن هي الدراسة النقدية لمبادئ مختلف العلوم وفرضياتها و نتائجها الرامية إلى تحديد أصلها المنطقي قيمتها و مداها الموضوعي. أما المنهجية البحثية فهي مجموع الخطوات و المراحل التي يحذوها الباحث أثنا تقصيه و بحثه للوصول إلى المعرفة العلمية

     إذن ومن الجلي في التعريف السابق لعلم السياسة أن هذا العلم المنبثق عن العلوم الإجتماعية يدرس و يعنى بكافة الظواهر السياسية المتشعبة و المتداخلة مع عدة ظواهر أخرى فما يجب الإشارة إليه هنا أنه و رغم إستقلالية علم السياسة إلا أن تشعب الظواهر و التداخل بين ما هو سياسي بما هو إقتصادي بما هو نفسي …الخ يفرض على الباحث في علم السياسة الإلمام بجميع هذه المعطيات و من هنا جاءنا تساؤل جد مهم حول العوائق الإبستيمولوجية و المنهجية التي تفرضها طبيعة الظواهر السياسية على الباحث السياسي؟

الظاهرة السياسية و هي الواقع السياسي المتعلق بالسلطة وابعادها وخصائصها وعلاقاتها بالمجتمع والمؤسسات السياسية الداخلية والخارجية،وغالبا ما تعبر الظاهرة السياسية عن بروز حالة من الحالات السياسية المحلية او الدولية في ظرف معين ومكان معين ، تتطلب الدراسة والبحث لمعرفة اسبابها وواقعها ونتائجها ومعالجتها ، كظاهرة الارهاب الدولي .

و تتميز الظاهرة السياسية  مع غيرها بنوع من التعقيد ،كما تتميز بالمعيارية بحيث تبقى الظاهرة السياسية غير قابلة للقياس كما أنها ذات طابع مرن و غير قابل للملاحظة ، و لها إمتدادات متداخلة يصعب فصل بعضها عن بعض ، فلا يمكن عزل ما هو سياسي عن ما هو نفسي عن ما هو إجتماعي و العكس صحيح،و يظهر تعقيد الظواهر السياسية أكثر في عدم الثبات و الإستقرار ، إذ أن التغير صغة ملازمة للظاهرة السياسية و هو ما يعتبر عائقاو تحديا في ذات الوقت للباحث السياسي حيث أن الظاهرة السياسية تتغير حسب الزمان و المكان فمثلا التحول الديمقراطي في دول الشمال مختلف في في دول الجنوب خاصة من ناحية الظروف المحيطة مثل الثقافة السياسية للمواطنين و دور النخبة و غيرها أما من ناحية الزمان فظاهرة

و لعل من أكبر العقبات الابستيمولوجية التي تعترض عملية البحوث و الدراسات السياسية هي الباحث السياسي نفسه و ارتباطاته القوية مع أواصر الذاتية ، المعايير القيمية و الإيديولوجيا فهذه الصفات الثلاث من أكبر المعوقات التي تكبل علماء السياسة و تجعلهم عاجزين أمام إنجاز دراسات تتوخى الطرح العلمي .

فالذاتية التي هي نقيض الموضوعية هي مايتعلق بذات الباحث و صلتها بموضوع البحث ،فإذا كان موضوع موضوع البحث العلمي يقوم على استقلال الذات عن الموضوع ،فإن هذا المبدأ لا يمكن تحقيقه بنفس الكيفية التي تتحقق بها في العلوم الطبيعية ، و ذلك لأن الباحث في الظواهر السياسية لا يتستطيع أن يتجرد من ميوله و رغباته و آرائه الخاصة أثناء عملية البحث حتى و إن أراد ذلك بحيث أن عناصر الذاتية تتسرب إلى بحثه لا إراديا فمن الصعب عليه أن يفهم الظواهر السياسية التي يدرسها دون أن يتأثر في ذلك بآرائه الخاصة عنها ،بل إن بعض المناهج في العلوم السياسية ذاتية و أكثر منها متحيزة عرقيا كما هو حال بعض الدراسات التي تتبنى منهج المقارنة و تدعي العلمية و لا تغدو نتائجها أكثر من رؤية تنتصر للعرق ،فكثير من الدراسات تجعل من النموذج الغربي الليبرالي الديمقراطي كمرجع وحيد لمدى تطور الأنظمة السياسية و إعتبار الأنظمة السياسية الغربية اللبرالية أنظمة مثالية فالباحث السياسي في هذا المنهج يدرس غيره و باقي المواضيع من منطلق ذاتي ، و بالتالي يستحيل التمييز في هذا المنهج بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي .

و الظواهر السياسية لا تنقلب إلى وقائع علمية من تلقاء ذاتها، بمعنى أن الملاحظة أو حتى إخضاعها لبعض مبادئ التجربة العلمية لا تكفي لتحويلها إلى وقائع علمية ، فلا بد أن يعتمد العلماء في ذلك على تصورات و مفاهيم قبلية و بالتالي على معايير قيمية و الدليل على ذلك هو عدم وجود اتفاق بين علماء السياسة حول الأسس التي تبنى عليها الوقائع السياسية ، ومن ثمة إختلفوا في تمييزها و تحديدها ، فمثلا نجد أن موضوع شروط التحول الديمقراطي يحددها بعض علما السياسة بتوفر حد معين من التمية الإقتصادية أو السياسية و بعض الدراسات ترجعها إلى تحديات إجتماعية و سياسية و إقتنصادية معا، و يرجعها البعض إلى الترسيخ عن طريق الإنتخابات و إلى غير ذلك من أسباب و شروط و مراحل التحول إلى الديمقراطية ، و نفس الأمر بالنسبة لباقي مواضيع الظواهر السياسية .

كما تلعب الإيديولوجيا دورا قويا و تأثيرا مباشرا على دراسة الظواهر السياسية و يقصد بالإيديولوجيا تلط المنظومة من الأفكار و المعتقدات التي تعكس أو تعبر عن مصلحة المجتمع ، و تأثيرها غالبا ما يتسلل خفية و يتستر تحت غطاء بعض المفاهيم و المصطلحات العلمية الجذابة.

أما العقبات التي تكون من جهة موضوع الدراسة فمن المحتمل أن يصطدم كذلك تطبيق المنهج العلمي بخصائص الظواهر السياسية و يخلق مشكلة أخرى و هي مشكلة تعدد المناهج في العلوم السياسية أو حتى في فروعها ، و تاريخ هذه العلوم شاهد على ذلك ففي حقل السياسة المقارنة نجد المنهج الفلسفي بداية تلاه المنهج القانوني و المؤسساتي ثم المنهج العقلاني الرشيدي بعدها البنيوي الوظيفي ، وتوالت مناهج البحث الواحدة تلو الأخرى و في كل مرحلة يظهر منهج جديد ، و اختلطت مناهج البحث بين منهج إحصائي و منهج دراسة الحالة ، وبين منهج تجريبي تارة و منهج مقارن تارة أخرى ، و هو تقريبا نفس الأمر لباقي فروع العلوم السياسية.

   و في الأخير نصل إلى أن تحديد العقبات و العراقيل الابستيمولوجية هو مكسب للحقل المعرفي لعلم السياسة و هذا لتجاوز هذه التحديات و محاولة استمالتها بأقصى قدر ممكن  كما أن هذا الجدل القائم حول هذه العقبات ليس بجدل عقيم بل على العكس من ذلك فهو جدل سخي و صحي يساهم في تطور الحقل من وجهات نظر مختلفة إضافة إلى أن تعدد المناهج بقدر إعتباره كعائق فهو في نفس الوقت يمثل ميزة بحكم خصوصية الظاهرة الإجتماعية و السياسية التي تستدعي معالجتها و دراستها الإستعانة بمقاربة كلية و من زوايا ووجهات نظر مختلفة

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى