دراسات سوسيولوجيةقضايا فلسفية

قراءة في كتاب تفكيك العقل الاصولي: النزعات الجهادية في الديانات الثلاث الابراهيمية – وليد عبد الحي

تنتمي هذه الدراسة التي كتبها الدكتور صلاح سالم (من مصر) لعلم الاجتماع السياسي الديني ، وتتركز في اشكالية محددة هي العلاقة بين العنف والتطرف والعنصرية –كأبعاد سياسية اجتماعية- وبين تطور الفهم للنص الديني في الأديان الابراهيمية(المسيحية والاسلام واليهودية) دون اغفال الإطلال بين الحين والآخر على أدبيات الأديان الأخرى لا سيما في آسيا(الهندوسية والبوذية والكنفوشية) والميثولوجيا الغربية بخاصة اليونانية منها. وكشأن أي “فكر”، فإن الأديان سادت في مراحل تاريخية معينة وضمن سياقات اجتماعية معينة، لكنها –كأي فكر- واجهت مزاحمة من الفكر والحضارة الجديدين، وهو ما ضيق نطاق وجودها ليحصرها في البعد الوجداني، لكنها –أي الاديان- تحتفظ –كأي فكر – بملامح جوهرية تأبى ان تتوارى من المنظومة المعرفية بخاصة السياسية لمعتنقي كل منها، فاليهودية تشبثت بفكرة الشعب المختار،وهناك تيار في المسيحية يرى في العنف مؤشرا على قرب عودة المسيح، بينما تشبث المسلمون بنموذج الحكم في مرحلة من تاريخهم باعتباره ” الاساس الصالح”.

لكن الباحث يميز بين ردود الفعل للأصولية الدينية- لكل من هذه الأديان الثلاثة- وبين المواجهة فيما بينها او مع الحضارة الجديدة بسبب تباين السياق التاريخي والاجتماعي لكل منها، فاليهودية تفتقر للتجربة التاريخية السياسية(رغم فترة قصيرة لدول لها لم تعمر طويلا) ناهيك عن ان تيارا في اليهودية يعتبر العودة لهذه الخبرات هو من ” عمل ابليس”،اما المسيحية فقد عرفت الصراع بشكل عام بين السلطتين الزمنية(الامبراطور) والدينية (البابا) او الدولة في مواجهة الكنيسة،لكن الحروب الصليبية شكلت انعطافا في المسيحية التي لعب القديس بولس دورا في تكريس بعدها الانساني. وفي التجربة الاسلامية نجد نموذجا للسلطة عرفتة بخبرتها الاولى(مرحلة النبوة والراشدين)، ثم لديها تحديد لهوية ولدت مكتملة. 


ولكن ما علاقة كل ما سبق بالعنف والتطرف والعنصرية؟ تتوالى أبواب الدراسة في متابعة الفكرة المركزية لكل دين في سياق تطوره التاريخي لترى ان المسيحية- بخاصة الاوروبية دون الامريكية- انتهت لعلمانية سياسية تقود تدريجيا لمجتمع استهلاكي يذيب في باطنه البعد الانساني مما يؤسس لولادة قطاعات العنف والعنصرية ونزعة التفوق، وفي اليهودية تبدأ المشكلة في ان الدين اليهودي دين مغلق وعنصري بحكم تأسيسه على قاعدتي العرق والإثنية( كل من هو من ام يهودية فقط)، ومع ان ظهور المسيحية أوقف مساهمة اليهود كمجتمع في الحضارة الانسانية وحصرت دورهم في المساهمة الفردية، ثم جاءت حركة التنوير اليهودية(الهكسالا) لتعزز نزعة الاندماج في المجتمعات الأخرى، لكن بروز الصهيونية أحيا نزعة الشعب المختار من ناحية وحال دون استمرار الاندماج مع المجتمعات الاخرى فترتب على ذلك عودة تيار العزلة بينهم(الجيتو) وتكرست لديهم فكرة التميز، مما فتح الباب ثانية للتعصب. ويربط الباحث في التجربة الاسلامية بين الانفتاح الاسلامي ولحظة تقدم المسلمين وبين تعصبهم ولحظة تخلفهم، مما يجعلهم يظنون ان الشجاعة الفردية(التضحية البدنية) هي الفعل المؤثر في التاريخ كما كان الامر في بداية الدعوة الاسلامية، واعتبروا ان آلية” الشهيد” تختزل كل آليات النهوض، مما افقد الاصولية الاسلامية ” الذكاء التاريخي”. وهكذا توصل الباحث إلى ان الأديان الثلاثة تطورت فكرتها المركزية لاسباب تاريخية اجتماعية نحو وضعيات بنيوية تفتق العنف والعنصرية من جوانبها المختلفة رغم جهود فكرية تنويرية رافقت هذه المسيرة. 


ارى ان البحث يشتمل على إضاءات عديدة تستحق التقدير، وتشكل بعضها اضافات جديدة لأدبيات علم الاجتماع السياسي من زاويته الدينية، كما ان الباحث قدم صورة متكاملة لكل دين ولتأثير كل دين على الإثنين الآخرين من زاوية التاثير المتبادل لا سيما بين المسيحية واليهودية.وارى ان تتبعه التاريخي لكيفية التفاعل بين البيئة الاجتماعية والسياسية وبين النص الديني وما افرزه هذا التفاعل من تغير في ـتأويل وفهم النصوص باتجاه نزعة عنف وعنصرية كان مقنعا رغم الغرق احيانا في بعض التفاصيل. 


قسم الباحث دراسته لثلاثة ابواب( تسعة فصول، 21 مبحثا ، مقدمة وخاتمة في 479 صفحة). تناول في الباب الأول(الحكم الفردوسي:حول المقدس والمدنس)، وبدأ بعرض العلاقة بين رجل الدين والحاكم وتوظيف كل منهما للآخر، ويستعرض في الفصل الاول(النموذج التأسيسي:صراع السياسة مع القداسة اليهودية)،ويستعرض الكاتب العلاقة بين رجل الدين والحكام في الحضارات القديمة( السومريون جمعوا سلطة الملك ورجل الدين) وفي الحضارة الفرعونية كانت المسافة بين الآلهة والملك قصيرة )، ويفسر الطغيان السياسي بأنه انعكاس لما كان في الحضارات القديمة من سيطرة إله قوي على بقية الآلهة (الفترة السرجونية) ،ثم يقوم هذا الإله بتفويض سلطته لحاكم(فحمورابي يقول بان الإله ناداه لكي ينشر العدالة)، بينما الملك والإله في الحضارة الفارسية ” توأمان “، وتنفرد الكونفوشية بفكرة الثقة بين الحاكم والمحكوم دون ربط ذلك بالآلهة،وهي اقرب للحضارة اليونانية التي ” أنسنت الإله”(ص.34-40)، ويمثل التراث اليهودي نقطة التحول من طاعة الحاكم إلى طاعة الإله لكن ذلك اصابه تغيرا في دور رجال الدين(الأحبار) الذين اصبحوا اكثر خضوعا “للعرش”، وهو ما افرز ثنائية بين من يرى شرعية الدولة وبين من يرفضها(ص 45-62).

اما في النموذج المسيحي (الفصل الثاني:النموذج المعياري:صراع السلطة الزمنية مع الكنيسة المسيحية) فتدور المناقشة حول انفصال تاريخي(الدولة) عن الروحي(الدين) كامتداد لفكرة الثنائية (الروح والجسد) ومنها ولدت “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، ويستعرض الباحث مواقف الفلاسفة الدينيين من هذه الثنائية مثل أمبروز و أوغسطين والبابا أنوسنت الثالث،لينتهي للفلاسفة غير الدينيين ممثلين في جان بودان ونظرية السيادة (خضوع الكنيسة لسلطة الدولة) معتبرا ذلك امتدادا لآثار الاصلاح الديني(ص 75-83)، وساهمت البروتسنتنية في تعميق هذا التحول الذي شكل مقدمة لزرع بذور الدولة القومية(ص.86-88) التي اصبح “العقد الاجتماعي ” هو اساس شرعيتها بينما كانت نظريات غروشيوس اساسا لشرعية علاقات الدولة بغيرها من الدول(92-96).وعند الانتقال للنموذج الاسلامي(الفصل الثالث) يستعرض الباحث مواقف تيارين هما السني(الغزالي والماوردي..الخ) والشيعي(محمد الباقر وجعفر الصادق ، ثم يناقش نظرية(الحاكمية السنية) ونظرية ولاية الفقيه(الشيعية) وربطهما بموضوع الإمامة والخلافة واسس شرعيتهما مفسرا مضمونها بطبيعة السياق التاريخي والاجتماعي الذي رافقهما(113-124)، ليصل لنتيجة محددة هي ان الامة في النظريتين السنية والشيعية غائبة عن اختيار الحاكم، وكان دور رجال الدين “وسطاء” بين السلطة والرعية.

كما ان التراث الاسلامي تغيب فيه ” النظرية السياسية”(يعود لتأكيدها صفحة 183)،لتنتهي بنقل النموذج الساساني في الحكم. في الباب الثاني(الهوية الاقنومية-جدل الانا والآخر). بعد أن يفترض الباحث الربط بين قوة الدولة و” تسامحها” من ناحية ،وبين تخلفها و ” عدم تسامحها” من ناحية أخرى ، يحاول اثبات هذه الفكرة من خلال متابعة الخبرات الثلاث المسيحية واليهودية والاسلامية(كما اشرت في البند الأول من هذا التقييم)،وينتقل في الباب الثالث(النزعة الجهادية-جدل الحداثة والاصولية)، يرى الكاتب ان لكل دين فكرته المركزية(الجوهر)،ففي اليهودية تبرز فكرة الشعب المختار، وعودة المسيح في المسيحية، والحاكمية السنية والإمامة الشيعية في الإسلام، ويحاول ان يحدد جذور وتطور نزعة العنف في كل من هذه الأديان الثلاثة استنادا لنظريته(العلاقة بين نزعة العنف وبين التخلف والضعف من ناحية والتقدم والقوة من ناحية أخرى )، فاليهودية عرفته وبعد صراع بين تيارات الحريديم والعلمانيين نتج عنه ضعف التيار الاول(صفحة 359) مما دفعها نحو العنف( حركات كاخ، اغوش أمونيم، وصولا لاغتيال اسحق رابين..الخ).

وفي المسيحية يميز الباحث بين الخبرة التاريخية لأوروبا وبين الخبرة الأمريكية في نمو الاصولية الدينية،ويربط الكاتب الموضوع بموقف كل من الكاثوليكية والبروتستنتينية وفكرة عودة المسيح، ففي الخبرة الامريكية نزع الدستور الامريكي الدين من الدستور ونص على المساواة بين الرجل والمراة..مما خلق رد فعل بتجذر الدين وظهور الاصولية الانجيلية (المحافظون الجدد) بينما المسار العلماني في اوروبا كان هو المسيطر.

وفي الخبرة الاسلامية يميز الباحث بين فكرة الفتح وفكرة التوسع، ثم يذهب الباحث لدراسة اتجاهات ثلاثة(السلفية والعلموية والتوفيقية) في الخبرة العربية المعاصرة، لينتهي في خاتمته بعرض نظرية “هابرماس” وفكرة ” التسامح.


لقد بنى الباحث دراسته عبر خطوات ثلاث:
أ‌- تحديد الفكرة المركزية في كل من الأديان الثلاثة بخاصة ذات الصلة بين الدين والسياسة والمجتمع
ب‌- تحديد العلاقة بين تطور الفكرة المركزية في السياق التاريخي والاجتماعي وبين نزعة العنف والعنصرية في كل دين من الثلاث
ت‌- استنتاجات لمواجهة “ظاهرة الارهاب”(كما ورد في الخاتمة) على اساس الدعوة لأخلاقية كونية ولتنوير متصالح مع الإيمان الروحي وتعزيز ثقافة المجتمع العالمي.
ومن الواضح أن الباحث اقرب للتيار الذي يريد التصالح بين العلمانية والإيمان الروحي، وقد نجح في تقديم رأيه بشكل محكم،وإنْ بدا أحيانا انتقائيا في اختيار النصوص الدينية او الوقائع التاريخية التي تعزز رأيه، لكن ذلك لم يضعف من اتساق منهجية الربط بين الفكرة المركزية لكل دين ونزعة العنف فيه.
إن الموضوع المطروح فيه من التعقيد الكثير،لكن تقسيم الباحث لدراسته لأبواب وفصول ومباحث جعلها أقرب لقناطر متصلة بجسر يقام عليها، فقد حدد الفكرة المركزية في الأديان الثلاثة، ثم حدد العلاقة بين الفكرة المركزية ونزعة العنف-وهو الجانب الأكثر تعقيدا في الدراسة- ليصل لاستنتاجاته، وهو ما يسر لي القراءة رغم التعقيدات في متابعة الدراسة بخاصة في الباب الثاني.

وليد عبد الحي

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى